في كتابه “بومة منيرفا” يسترجع رمز الطائر الحكيم الذي لا يُحلّق إلا في الليل

في كتابه الجديد “بومة منيرفا” (دار الآن – ناشرون)، الذي يضم عدداً من المقالات تنوّعت مضامينها، وتعدّدت اهتماماتها، واختلفت طرائق القول فيها، يسعى الشاعر العماني سيف الرحبي إلى استقراء الواقع العربي، ورصد تحولاته، مستأنساً بالفلسفة والتاريخ والفنون. الجزء الأول من الكتاب كان وصفاً للرحلات التي قام بها الشاعر إلى المغرب وبريطانيا وفرنسا، وهذه النصوص التي جمعت بين صيرورة القص، وكينونة الشعر، تخلّلتها تأمّلات وقصائد وشواهد مُقتطفة من كتب فكرية شتى. فالرحلة، عند سيف، ليست رحلة في الخارج بقدر ما هي سياحة في الداخل، أي في دهاليز النفس وأروقتها المظلمة.

أما الجزء الثاني من الكتاب فقد جمع بعض الافتتاحيات التي كتبها الشاعر في مجلة “نزوى“، وأثار من خلالها عدداً من الأسئلة الاجتماعية والسياسية والفكرية الحارقة.

فصول الكتاب، على تعدّد أجناسها، واختلاف مضامينها، وتنوّع أساليب الكتابة فيها، يجمعها سلك واحد، هو تأمل الواقع العربي من خلال تحولاته المستمرة.

إن الكتابة سليلة الحياة، هذا ما يقوله سيف الرحبي، ولكون الكتابة سليلة الحياة، فهذا يعني أن الكتابة تسهم في تحرير هذه الحياة، في نقلها من مجال الضرورة إلى مجال الحرية.

“بومة منيرفا”

والواقع أن الشاعر سيف الرحبي ظل شديد الانهماك في الواقع، والكتابة عنده ليست تعبيراً عن حقائق النفس فحسب، بل هي تعبير عن حقائق الواقع، وقد امتزجت بحقائق النفس. فالإحساس بالخلل ينتاب كل شيء، لهذا تتحول الكتابة إلى طريقة نقد للحياة، محاولة لتقويم ما اختل من أمرها، وهذا هو المعنى العميق لعنوان الكتاب “بومة منيرفا”، فهذه العبارة المستلهمة من الفيلسوف الألماني هيغل، تحيل على البومة، في منظومة الرموز الغربية، بوصفها رمزاً للحكمة والفلسفة، وذلك بسبب ميلها إلى العزلة والبعد عن دنيا الناس، للحياة في أماكن خربة، لأن البعد عن الحياة والنفور من الضجيج، والميل إلى التفكير الهادئ من شيم الحكماء وحدهم. أما منيرفا فهي إلهة العقل والحكمة، وربّة جميع المهارات والفنون عند قدماء اليونان. وأما عبارة “بومة منيرفا” فهي اصطلاح خاص عند هيغل يرمز به إلى الفلسفة بصفة عامة.

كتاب الرحلات (دار الآن)

يستخدم هيغل هذه العبارة الشهيرة ليشير إلى أن الفلسفة “بومة منيرفا”، لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يرخي الليل سُدوله! وكذلك الفلسفة لا تبدأ عملها إلا بعد أن يكون الواقع السياسي قد تم بناؤه، أي إن الفلسفة لا تأتي إلا لفهم الحالة التاريخية بمجرد انقضائها، الفلسفة لا تظهر، حسب هيغل، إلا بعد اكتمال الواقعية لأنها تأتي لتفهم ما قد جرى.

وهذا ما سعى إليه سيف الرحبي، لكن عن طريق الأدب، الأدب بوصفه طريقة لإدراك الواقع والاستدراك عليه في آنٍ.

في معنى الكتابة

من جديد، يجد الرحبي نفسه، كعديد من الأدباء، يطرح سؤال الكتابة، وسؤال وظيفتها في عالم عربي لم يتمكن بعد من إنجاز حداثته. وبسبب من هذا يعود إلى استعارة “بومة منيرفا” التي تفرد جناحيها كلما تقدم الليل. الطائر الليلي هنا ليس الفلسفة، وإنما كل أصناف القول التي تنبثق، حسب عبارة سيف الرحبي، من رحم المعاناة والضعف الإنساني. الكتابة هي احتجاج على الليل، توق إلى ما بعده.

يسرح الرحبي عينيه في العالم العربي، ويصف بحس درامي، انقساماته وصراعاته واستشراء الإرهاب فيه. الإحساس بالذعر، من هذه الحال، يتلامح في كل فصول الكتاب. ولعل أكثر الأشياء التي تثير الذعر في نظر الرحبي هيمنة “الصورة” التي محت الفروق بين الوقائع الدامية على الأرض وبين خيال الأفلام والمسلسلات الفانتازية. صار تفجر الدم البشري في ساحات الحروب، نوعاً من فرجة لا تختلف غريزياً عن مشاهدة حفلات المصارعة وألعاب الفيديو. وتفقد إبادات البشر وقتل الأطفال والإجهاز على الجرحى والعزل بعدها الإنساني البديهي، ويفقد الموت جلاله، وهيبته الأزلية.

تلك جناية الصورة على الإنسان، فقد عودته على استهلاك المشاهد الدموية دون تحفظ، بل ربما محت الفوارق بينها وبين لعب الفيديو والصور المتحركة بحيث أصبح استهلاكها أمراً مألوفاً لا يثير حفيظة أي أحد.

الشعر جنس الأجناس

إزاء هذا “الهول القيامي” على حد عبارة الرحبي، يلجأ الرحبي إلى الشعر ليقول من خلاله عواطفه ومواقفه في آنٍ.

والواقع أن هذا الكتاب يتخلله عدد من القصائد، إذا جمعناها ألّفت ديواناً، لكن الرحبي أوردها مُنجّمة في كل فصول الكتاب، تتحاور مع النصوص النثرية دون أن تذوب فيها.

وإذا كان لنا أن نبحث عن خيط ينتظم كل قصائد سيف التي ضمها هذا الكتاب وجدناها تنطوي، على اختلافها، على نبرة رفض وتمرد. هذه النبرة ليست بالضرورة في مقول القول، أعني المضامين والدلالات، وإنما قد تكون في طرائق القول، أي في الأساليب والبناء. فالأدب هو الخروج من الربوع الآهلة، والدخول في الربوع الخالية.

الشعر والمعرفة

إن الشعر لدى الرحبي ليس انفلاتاً للعواطف، وإنما هو في المقام الأول استرفاد المعرفة الإنسانية يغتذي من مجالاتها المختلفة. سيف قارئ نهم لا تقتصر قراءاته على الشعر، بل تتجاوزه إلى حقول معرفية كثيرة مثل الفلسفة والرواية والأنثروبولوجيا وأدب الرحلة والسياسة… فهو أنموذج الشاعر الحديث الذي حوّل الكتابة، حسب عبارة عزرا باوند، إلى حلول في أرواح الأسلاف “الذين كوّنوه ودرّبوه”، من “كاتبي الحوليات والمترجمين المجهولين والمعلمين المنكفئين إلى الظل والمنسيين والمهملين”، يستحضرهم، ويحتفي بمنجزاتهم.

هؤلاء الكتاب والفلاسفة والحكماء تركوا ظلالهم واضحة على قصائده وصوره ورموزه. فالشعر منذ المدرسة الرمزية لا ينبجس من الانفعال بقدر ما ينبجس من الثقافة، من الذاكرة التاريخية، “فربّات الشعر هن بنات الذاكرة”. يقول عزرا باوند فإذا احتفى الشعر بالثقافة يكون قد احتفى بجوهره العميق.

ولا شك في أن الرحبي قد أفاد كثيراً من أليوت الذي أقر في كل آثاره النقدية بقيمة التراث في الكتابة الشعرية، بل جعله مصدر تجربة الشاعر، ومعينها الذي لا ينضب. فالأدب، في نظر الشاعر الإنجليزي ينحدر من الأدب، لا من الحياة، والشاعر لا يستلهم الواقع، وإنما يستلهم الشعر، ونحن لو أنعمنا النظر في أكثر الشعراء أصالةً لوجدنا “أن خير ما لديه، بل إن النواحي المتفردة في نتاجه، إنما هي التي ترك عليها أسلافه الموتى من الشعراء طابع خلودهم بأسطع الألوان. وتأتي هذه القصائد لتكشف، من ناحية، عن استرفاده للثقافة الإنسانية، وتكشف، من ناحية أخرى، عن تجربته الشعرية في تنوعها وتعددها وتطورها. لا شك في أن هناك عناصر ثابتة انتظمت هذه القصائد، وجعلتها متقاربة على تباعدها، متجانسة على تنوعها، لكن هذا التجانس، وذلك التقارب، لم يُطمسا، مع ذلك، اختلاف بعضها عن بعض، فهذه القصائد تنوّعت بتنوع المراحل التي كتبت فيها، وتلوّنت بتلون الظروف التي صدرت عنها.

تجربة الرحبي ظلت تجربة نامية، متطورة، لهذا لم تكن العلائق التي انعقدت بين هذه المجموعات علائق توافق وانسجام بقدر ما كانت علائق تجاوز واختلاف. كل مجموعة من مجاميع الشاعر لم تكن إلا مختبراً شعرياً عمل من خلاله على تطوير خطابه الشعري وارتياد آفاق جمالية جديدة.

إن قصيدة الرحبي هي سليلة القصيدة الحديثة التي تنكّبت عن شعر الاعتراف والبوح، وأقبلت على شعر يستضيء بنور الإدراك العاقل والخبرة المعرفية الناقدة، قصيدة لا تغني بقدر ما تتأمل وتستبصر، ولا تنشد بقدر ما تفكر وتستقصي.

الشاعر والمكان

يذهب الشاعر سعدي يوسف إلى أن ديوان “الجبال” لسيف الرحبي يشكل الانعطافة الصعبة في مسيرة الشاعر الذي ظل يحاول الإمساك بناصية المكان، أعني أرضه عمان. ثمة عاملان اثنان يسوغان، في نظر سعدي يوسف، اعتبار هذا الديوان منعطفاً: أولاً أن قصائد هذه المجموعة كانت مكرسة لمشاهد بلاده (عمان)، ومن هنا كان الحضور الكثيف للطبيعة. ثانياً أن هذا الديوان أصل القصيدة العمانية في أديم تراثها، والحال أن هذه القصيدة في نظر سعدي يوسف كانت قبل هذا الديوان تفتقد إلى مرجعية، من داخل الوطن، تستند إليها.

ونحن إذ نقر بأن ديوان “الجبال” يمثل، فعلاً، منعطفاً مهماً في تجربة سيف الرحبي، إلا أننا نتأول هذا الانعطاف تأويلاً جمالياً لا تأويلاً دلالياً. فأهم خصيصة يتميز بها شعر سيف الرحبي، افتتانه بالمكان. فمنذ ديوانه الأول شغل المكان حيزاً مهماً في قصائده، بل بات، في نظرنا، الرحم التي منها تحدّرت هذه القصائد انحدار الوليد من الوالدة.

الفارق بين هذا الديوان/ المنعطف والدواوين السابقة يتمثل في طريقة التعامل مع المكان، في طرائق تصويره، وأساليب تشكيله. فقبل ديوان “الجبال” كان حضور المكان باهتاً في قصائد الشاعر، يتجلى في بعض الصور والرموز، يشعّ في مقطع أو مقطعين، ثم يختفي، أما في الدواوين اللاحقة، وبدءاً من ديوان “الجبال”، فقد تحوّل المكان إلى صورة كلية واستعارة كبرى تعم كامل القصيدة، وربما كامل الديوان. هكذا، وجدنا عدداً من دواوين الشاعر تدور حول أمكنة بعينها، منها يستلهم الشاعر صوره ورموزه.

في قصائد هذا الكتاب “بومة منيرفا” لم يسترفد الرحبي المكان فحسب، بل استرفد أساطيره، وتشرّب رموزه، وسعى إلى كتابة تاريخه الروحي العميق، لكن هذا لا يعني أن سيف الرحبي اكتفى بترديد أساطير جاهزة أو استحضار تاريخ منجز، كلا فالرحبي، مثل كل الشعراء، واضع أساطير، وخالق رموز.

كل قصائد الرحبي تنطوي على حوار يعقده الشاعر مع أسلافه الموتى من شعراء وصناع أساطير ورجال حكمة. وخلال هذا الحوار لا يشحن الشاعر قصيدته بقوة الماضي فحسب، وإنما يشحن ذلك التراث بطاقة الحاضر، فيبرزه على هيئة جديدة. فكل كتابة إنما هي إحياء لآثار سابقة، إيقاظ للأرواح النائمة فيها، تحرير لطاقاتها الرمزية والتخييلية.

المؤكد أن هذا التصور لفعل الكتابة يجعل هذا الكتاب أفقاً مفتوحاً على شتى الأجناس الأدبية والألوان الفنية، فيها تتضامّ أمشاج من السرد والسيرة وفن الرحلة لتشيّد كلها هذا البناء وفق نظرة جديدة لا تلقي بالاً للحدود من الأجناس والأنواع، وتسعى إلى كتابة نص جديد بلا ضفاف.