لا فريسة في الأفق

العقبان تسطعُ في الظهيرة

كأنما تسبح في ظلام خاص

بعيون مغمضة قليلا وناعسة.

روحُها القلقة تحلّق فوق المدن

التي بُنيت على عجلٍ.

من رفات حطّابين وجماجم قتلى.

أحيانا تخبط الهواءَ الراكد

كأنما تنقضُ على فريسة

لكن لا فريسة في الأفق

ربما الخواء اللامع بمعادنه الثقيلة

التي تغطس في القلب

ربما الظهيرة

تقرع بعصا الأعمى

أبواب الحنين

ربما الحياة التي تتوارى في فم ذئب.

أحذية الجند

هذه الأرضُ

التي تئن تحت أحذية الجُند

وثقل الصيارفة،

قد مشى عليها ذات يوم

شعراء مرهفون

وملائكةٌ خُضْر.

مشت عليها النسوة الوثنيات

والرجال البدائيون

محمولين على النيازك والبغال

فوق جزر تتنزه أمطارها

في النومِ

ومشى على بطنها النشيدُ

في فجره الندي.

رومانسيّة

ظلُّ امرأة وحيدة

في زاوية مقهى.

ظل نمرٍ جريح

بحرُ غواية.

يقظة النازع الوحشيّ إلى حديقة الجنس

كما لو أن ناراً لطيفةً تنبعثُ

من الزاوية

ناراً مخمليّة آسرة.

قبل قليل ودّعت صويحباتها

وبقيتْ تدخن محدقة في ألبوم صورٍ أمامها

وثعالب مخبولة تتقافز في كهوف قريبة،

بينما الخرافُ تلعق الماء الآسن في البحيرة.

ظلّ امرأة وحيدة

أكثر حناناً من أمومة

امرأة وحيدة

في زاوية مقهى يضجّ بالأشباح.

لمسة من يدكِ

هذا المساء

البحرُ مضطربٌ مثل أعماقكِ

ألقي جسدي فيه

يسبقني عويل السنوات

وحنيني إلى لمسة من يدكِ

المباركة.

تحت سقف الصباحات

صراخي ما زال مزهراً

تحت سقف الصباحات.

لم تستطع مدينتكم أن تخنقه.

صراخي الذي بنيتُ العشب

على صقيعه

الناهب الأعمى لميراث السكون.

صراخُ الرعاة حين يجفلُ القطيع

أمام حيوانٍ كاسر

صراخ القديّسين والأبالسة

على حافة القيامة.

حملتْه من مدينة إلى أخرى

مثلما تحمل لأم رضيعَها

والعشيرة نبتَ السلالة.

دليلي الوحيد إلى مواطن النبعِ

في الظلمة الكفيفةِ

وفي أزمنة النسيان

صراخي تحت سقف الصّـباحات

والليالي

شاهدَ صمتي

شاهد الجنون واللذة.

لن تأخذوه مني

مهما كبرت الأظافر والأسلحة.

يمامة

أيتها اليمامة

التي تلجأ إلى نافذتي

من قيظ الصّحراء وعصور الذرّة

ترفقي بصوتك

الذي لا أكاد ألمحُه

إلا كشبحٍ جريح.

ترفقي به

كي لا تنهارُ السماءُ

على ذروة الجبل.

صبيحة يوم عيد

أرواح الغائبين التي تخفق دائماً

أجنحتها تجرف المسافة

ما بين البندر والقرية

أمضي صبيحة العيد

تحفّني أرواح وغيابات

أحدّق في الأطواد الهرِمة

(لغزها الأصمُ ما زال يبطش بي)

التي شهدت ميلادي قبل قرون

وتلك الحفرة التي خلّفها غضب الثورات

صبيحة يوم مضى

حيث شاحنة بركابها

تغرقُ في لجّة الانفجار.

حيارى ننظر

في قلب دوارٍ أحمر

كأنما الأرض انشقتْ عن

بيضة بركان.

صبيحة يوم عيد

لا أرى أحفاد المسرّات

الأوائل.

لقد رحلوا خلف بروقٍ بعيدةٍ.

عَبَدَةُ الحصان

هذا عشبٌ محروقٌ

وتلك ثعابينُ الصيّف تختبئُ في الكهف

منتشيةً في حلمٍ

وهذا الجرادُ، جرادُ المقبرةِ

ذلك الذي تعرفه الأقوامُ السحيقةُ

عَبَدَةُ الحصان؛

يفزُّ من شاهدة إلى أخرى

محمولا على كتف المغيب.

الصّفرد*

ينزلق العدمُ من صوتك

كأقوامٍ غابرةٍ

أبواقهُم تهمّ بالرحيل .

 لكنك الأكثر بهجةً بيننا

تسْرح بين الأخاديد والأكمات

قبسا من تراب

كأنك التميمة المُوثقةُ على عنق الأرضِ

النأمةُ الأخيرة .

في مساءاتك المأهولة بالحُور العِين

وعلى مقرُبة من بحر عُمان

 تسّاقط شُهُبٌ وحيتان

 حيث كنّا نصطاد الأهلّة

ونشتاقُ للرجوع:

إنه الفضاء يقرعُ صنوجه في

صوتك الغريب .

__________________

*هامش: (ويسمى أيضا الديك الوحشي)

غياب

مشينا إثركم

ومشينا في الحقول

قطعنا أودية وشعابا

وفيافي ضاع القمر في تخومها

ضاع الفلكيون

ونجمة الصباح

لا شيء يدل عليكم

لا شاهدة قبر

ولا علامة.

أخذكم الهوى

نمتم في رأس موجة عاصفة.

عرين سماء مقفرة

تلك النظرة في سمائها الشاسعة

النظرة الوحيدة

العالقة في أهداب القمر

تلك النظرة التي تحرث سماءها

من حطب البراكين

براكين البارحة

رغم ما مر عليها من جحافل السنوات.

* * *

سحب طالعة من أعتى القمم

أرمقها من النافذة

طالعة ببطء تجتر جثة أجيال كئيبة

تتجمد وتتلاشى

كأنما لم تكن أبداً

وسط عرين تلك السماء المقفرة.

* * *

أحيانا تشرئب بأعناقها الثكلى

تحدجني بغضب

كأنما تطالب بديْن السنوات التي

أرحت وجودي عن رؤيتها

ديْن الغياب

كأي عاشقة شرسة.

* * *

السحب من وراء الجبال البركانية

تبدو كضباع تتقافز بكسل أمام الفرائس

التي يهيئها السحرة في مأتم

ليل باذخ.

* * *

تلك الأيام، تلك الأيام

حين كانوا أطفالا

يتحلّقون في سفينة الجبل الكبير

والأيام كانت مندسة في الكهوف.

* * *

يطلع لسان سحابة

كجناح مكسور

يجثم على الجبل

التي تستقبله بوله العاشقين.

* * *

كلُ خيمة سحابة

وكلُ سحابة مدرار في رحم الخلاء

الشاسع:

هكذا يحلم البدو في ليل الجفاف.

* * *

سحابة تسوق قطيعَ جبالٍ أمامها

وتحلم بالربع الخالي

أخرى تسوق قطيعَ أفراسٍ

هاذية بالبحر.

* * *

يحفر الحفارون قبور القتلى

وينسحبون إلى مخادعهم السعفية

حالمين بقبور أخرى.

* * *

الظهيرة بعضلاتها الدموية

تستفز القيامة بشكل مبكر.

* * *

كلُ هذه الأشباح والمجازر

كلُ هذه الكوابيس والصحارى

كلُ هذه الأرواح المحطمة

كلّها من وحي أفكاري التي نسجتها الحمى والمتاهة.

غفوة الضحى

الرياح في المنحدرات المدارية

نائمة على أسرَّتها

لم يوقظها الإعصار بعد

لم توقظها صيحت البحارة والمستكشفين

في المحيط

أنت الأكثر شبها بقسماتها في الأثير

وهي نائمة

كعروس، فاجأها النعاس بمخدر.

غفوة الضحى

والأحلام تتطاير عبر الجزر التي

لم تطأها أقدام البشر.

مقهى القصبة

سعيد بيأسي

أجلس قرب النافذة

بمقهى القصبة*

أحدق في الميناء الصغير

إلى القوارب والمارة والعربات

أراقب الطيور بأنواعها، تتقافز

فوق غدران أشجار هرمة.

* * *

يخاطب أشباحه

ملائكة العتمة

يتعهد لها بالوفاء والمحبة

والعيش المشترك.

* * *

كم من الأزمان مرت كجبال على

رؤوسنا

منذ أن بدأنا هذه الرحلة

الغربان التي شاخت فوق أشجار السِدر

وغارت دول وبحار وأساطيل.

وحبنا باق

وحده الباقي

زهرة عاتية

حبنا العدمي الكبير.

______________

* مقهى بمدينة أصيلة- المغرب

كيف تصنع بقفر حديقة

بعد حلاقة الذقن

وردم الفجوات التي خلفتها

أسفار الليل

وبعد صرختين أو عشر نوقظ الموتى

من أجداثهم

أنزل

بين جثث العمال الآسيويين المشبوحين

في السلالم

والقطط التي تعبت من النواح والمضاجعة

القي نظرة على الشطوط التي كانت

ممتدة

إلى الجبال

وإلى حديقة جارنا المكسيكي بالدور الأرضي.

الذي استطاع أن يخلق في رئة الصحراء حديقة، تغني فيها

عصافيرٌ وتسقعُ ديكة.

كلّ صباح أقف أمامها، مستحضرا

روح أسلافه، المايا الأزتيك

قبل أن تداهمهم فيالق القتلة.

ربما القتلة أنفسهم علّموا هذا الطباخ

العجوز: كيف يصنع بقفر حديقة.