عبداللطيف الوراري

قلةٌ من شعراء العربية في وقتنا الراهن من ارتفع بتجربة المحلي إلى سؤال الكونية؛ بما يعنيه المحلي من شرائط نوعية؛ بيئية وثقافية ووجدانية، تبدع من داخل مفرداتها الخاصة رؤيتها للعالم، بل ـ نتيجة ذلك- تضيف إلى السجل الإنساني وتوسع مداه النفسي والعاطفي، بمنأى عن كل مركزية عرقية متعالية.
الشاعر سيف الرحبي (1956) واحدٌ من هذه القلة الهائلة؛ فعلى امتداد أربعة عقود، ظل ينسج، شعراً ونثراً، علاقة فريدة وممتدة مع موجودات بيئته المحلية وكائناتها المتنوعة، وهي تجد طريقها إلى كتابةٍ شذريةٍ تتوسل مناخات شبه ملحمية، فيما هي تتوتر بين الشعري والسردي وتستدعي السؤال الفلسفي الذي ينفعل بمصائر الذات المتكلمة إلى مآزق وجود هش ومتداعٍ وصائر إلى الاندثار، على نحو لا يحجب السمت الفجائعي والموحش والمنذر لتلك الكتابة.
ولئن كان هذا الشاعر العماني ينتسب كتابياً إلى قصيدة النثر داخل شعرنا المعاصر، إلا أنه من الصعب تأطير ما يكتبه داخل جماليات هذه القصيدة؛ فما يكتبه يفيض عنها، ويحمل تاريخيته وصيرورته كمعنى – أثر، ويتسع لأشكال وأجناس ومناخات متباعدة، لا يجمع بينها إلا خيالٌ خصيب ومتسامح ينحدر من شجرة نسب عريقة، وينقاد لسلالة حية ومنبوذة تشق في عتمات الذات وأسئلة الوجود الملغزة طريقاً في طريق، ونشيداً عقب آخر، وبالتالي يبتكر شهواته الخاصة ويجعل المعرفة المتساندة معه تنعم بالندرة، التي لا يهمها قول «الحقيقة» بل عَنْيها، أي تكون دالةً إليها/ عليها عبر إعادة التسمية في نشيد مُتموج، ومتصاعد، ولانهائي يؤذي كينونتنا المتخمة في الصميم.
لا تؤمن كتابة سيف الرحبي بـ«وهم القطيعة» مثلما لا تطمئن إلى لغة قارة وقطعية، أو يتذرع جسدها المادي بقواعد وأعراف مُجمع عليها؛ فهي تستثمر أشكالاً لا حصر لها من «التدليل» الذي يقود الفن بشروطه الأرضية المتاحة والصعبة إلى خيار المواجهة كمشروع سياسي وجمالي في آن. فميدان هذه الكتابة كُلي الحضور ومترامي السدم والأطراف (الجبل- البحر- الصحراء) تتلاقى داخله معاني الصراع الأكثر رفعةً وإيلاماً، ويشف امتلاؤها الضاج والمتشبع بعناصر الحياة عن فراغ مهول: «هذه الطبيعة المحتشدة بالهوام والذئاب وبنات آوى ـ يقول الشاعر- أراجيح طفولتنا البعيدة، والمحتشدة بالحنين. هذه الطبيعة اليتيمة التي قُدّت من براثن بركان، على صفحتها وُلدت وتفتحت أسئلتنا الأولى، دهشتنا وهواجسنا كمشروع وجود صعب وممكن».
هي كتابة الذاتي بقدر الجمعي، لا تذكر ما مضى وانقطع في لحظة من الزمن، ولا تتوقف عند الحنين إلى الماضي والتأسي عليه كيفما اتفق، لكن لا يعنيها حافز الذاكرة إلا لغاية البحث عن معنى آخر لفعل التذكر وشكل حضوره نصياً عبر فاعلية الخيال.

جبل التيه والمعرفة

يمكن أن نستدل على مثل هذه الكتابة الرحبة بـ«الصعود إلى الجبل الأخضر» العمل المقذوف به خارج أي تجنيس يُؤطره، والمحايث لتجربةَ الصعود بما هو سمو وتأمل واختلاء بالذات، من أجل تعرفها وكتابة سيرتها من جديد. عمل سردي يستضيء بخيال العبارة الشعرية، وشعري يستند إلى سيمياء السرد بما هو مزيج من الذكريات الشخصية والعواطف واليوميات والخواطر الفلسفية والأماثيل المحلية؛ بل هو استعارة كبرى تتموج مع منعرجات الجبل الأخضر وتتصادى مع جلبته الداخلية. لكنه في المجموع، كتاب سيرذاتي مفرد ونفيس، يصل الـ(أنا) بالـ(نحن) ولا يغلقه على مرجع قار أو تقاطب مكاني.
يحكي أنا السارد سيرة (الجبل الأخضر) بقدر ما يحكي سيرته هو نفسه، لارتباطه بطفولته وانتماء عوالمها إليه، وهي ليست أي سيرة، إنها سيرة لمكانٍ مفارق ومُتعالٍ يتطلب حكْيُه الصعود إليه، بما يعنيه من مفارقة الأرضي والعادي والرتيب. فالصاعد إليه ليس بوسعه سوى «أن يتسلق جسده المتموج بالفضاءات والسدُم الطالعة من المحيطات» كما ليس بوسعه أن يرى خضرته إلا من أعلى القمة التي تسرح به في «النعمة المحلوم بها» حيث الكل في متناول اليد: الضباب، الغيوم، زرقة السماء، عناقيد العنب والنجوم، تدرجات الفصول، الصخور المرجانية. ومن ثمة تأتي ملفوظات الحكي السردي والسيرذاتي محفوزةً بالشعر الذي يتلبس متوالياته الحكائية ويطلقها من أي ترتيب كرونولوجي وتعاقب حدثي، مما جعل بنياتها المعجمية والتركيبية والدلالية يُداخِلها الاستعارة والمجاز والتشبيه والتمثيل الكنائي، ويخلخل نسقها الوظيفي.
إذا كان الجبل يرتبط بمرجعٍ مكاني، إذ هو جزء من سلسلة جبال الحجر يقع في سلطنة عمان في ولاية نزوى، ويبلغ ارتفاعه نحو ثلاثة آلاف متر، إلا أن السارد يرتقي به إلى مصاف الرمز والأسطورة، ويجعله موطن الغموض والسر والاحتمالات. فابتداءً من مفتتح العمل يطالعنا الوعي الشعري لأنا السارد عندما يُكني عن الجبل الأخضر بـ«سفينة أسطورية تشق عباب الطوفان والزمن وغبار الصحراء». ويسند مناط تلفظه على المرجعي لتوكيد أسطوريته، سواء في ما يتعلق بتاريخ الخرافة وقصص البطولة والقتال وملاحم الماضي، أو بصفات المقدس التي خُلعت عليه. وبالتالي، فهو يتكئ على المرجعي، الشفاهي في معظمه، لتظليل متواليات الحدث بـ«أثر الواقعي» الذي يوهم القارئ بماجرياته، قبل أن يحمله على تصديق رواية «الجبل الأخضر» ويشبع صورته الخارقة عنه، التي بدت كأنها «في حضرة الأبد وخارج إعصار الزمن». وعندما ترد النصوص الشعرية في متن العمل، تكون بنية تلقيها من لدن القارئ مهيأة لتمثلها وتأويلها ضمن منحنيات تلك الصورة نفسيا وتخييليا.

يحاول المتخيل النصي أن يواسي الذاكرة ويطهرها من متاه الصور المتضاربة بين ماضٍ مشرق وحاضر بائس، بين روح الاكتشاف الأول والشعور بأنباء الفجيعة، عبر استدراج التاريخ إلى مسرح اللعب باللغة حيث الواقعة المؤرشفة والجامدة تتحول إلى استعارات تغتسل في قعرها من درن الواقعي، وحيث مشاهد الذاكرة – بناءً على الأدوار التي أنيطت إليها- تعيد تسمية ما تتوارى خلفه وترتعب منه.

محكي الطفولة

يزداد هذه الإيحاء تكثيفاً عندما يربط أنا السارد ملفوظاته الإحالية بطفولته البعيدة التي لا تتحدد بزمن ما، بل بزمن آخر، هلامي ورخو: «لم يكن الجبل الأخضر في مرايا خيال الطفولة التي كناها في ذلك الصقْع النائي الذي كان نأيه مضرب الأمثال والركبان، ومنتهى الصورة الشعرية ونزوعها، لم يكن ذلك الجبل الواقعي الرابض على مقربة من قرى طفولتنا، إلا أسطورة». يبدو أنا السارد وكأنه يعيد بناء صورته في المرآة من خيال طفولته وهو يستذكر علاقته الوجدانية والغامضة بـ«الجبل الأخضر»؛ غير أن ذاكرة الطفل لا تستعاد، وإنما يعاد بناؤها انطلاقاً مما ترسب فيها من «خيال البدايات الأولى» – كما يسميها بنفسه – لعناصر الذات والوجود والعالم، حتى إن إعادة البناء أو «الاستعادة في الكتابة» نفسها لن تكون «إلا ناقصة نقصانا فادحا، في محاولة القبض على بعض من تلك الروح الطازجة الحرة، كأفراخ الصقور وهي تُحلق طليقةً على مهاوي وقرى الجبل الأخضر». وبهذا المعنى، يصير الخيال، خيال الذاكرة، مثل «الكنز المنهوب» الذي لن تقوى الكتابة، ولا الذات الكاتبة نفسها، أن تستعيد إيقاعه ثانية. وبدلًا من شَخْصنة الجبل والصعود إليه، كما أول مرة، ولاستحالة الصعود إلى خيال الطفل الذي كأنه واستغوار لاشعوره البدئي، ونزوعات فطرته، يستعيض أنا السارد بذاكرته القريبة التي تعود إلى مطلع التسعينيات من القرن الفائت فصاعدا؛ فيستذكر بعضا من ملحمة الجبل ويرصد عناصره الموحية (الشعاب، البرك، الأغوار، الأودية، الأخاديد، الحيوانات) في مشاهداته وإحالاته (السياب، جبران، روسو، نيتشه، ريتسوس) وقصائده السيرذاتية بمزيج من الدهشة والتأمل والتخيل، لكن ما يستذكره بدا كأنه يقيده في (دليلٍ سياحي) وبدت تقييداته مثل «ذكريات المحارب مُحاولا أن يستعيد الوقائع العصية، وهي تهرب منه في أعماق الأخاديد المليئة بالظلمة وأزيز الزواحف والحشرات».
من ثمة يمكن التكنية عن استحالة صعود الجبل باستعادة خيال الطفل، وعن أعماق الأخاديد والسراديب بعيدة الغور بلاوعي الطفل، ومرايا عقله الباطن. لقد ضاع خيال الطفل وجبله الأخضر إلى الأبد، فلم يعد إلا حلما في الكرى من جنس خيال النائم ورغباته وتبرمه من واقع الرعب والدمار الذي يسود العالم ويمتهن كينونة الإنسان بكابوسيته الضاغطة؛ ولم يعد الصعود إلى الجبل كما صعوده الأول، صعود الأبطال الخرافيين والرواة والمؤرخين والرحالة، الذين تضاربت رواياتهم حوله «تحت الغبار الكثيف لزوابع التاريخ والحجر» فقد نزل الجبل نفسه من عليائه بسبب المَحْل، ورأسمالية التسييح الجشع وغزو قيم الوعي (الـمُعَوْلم) التدميري، وصار «عموميا» وشاهدا على أحوال الناس والوطن، ومهازل الموت الجماعي وانهيار القيم وأسباب الحضارة.

عزاء الصور

يحاول المتخيل النصي أن يواسي الذاكرة ويطهرها من متاه الصور المتضاربة بين ماضٍ مشرق وحاضر بائس، بين روح الاكتشاف الأول والشعور بأنباء الفجيعة، عبر استدراج التاريخ إلى مسرح اللعب باللغة حيث الواقعة المؤرشفة والجامدة تتحول إلى استعارات تغتسل في قعرها من درن الواقعي، وحيث مشاهد الذاكرة – بناءً على الأدوار التي أنيطت إليها- تعيد تسمية ما تتوارى خلفه وترتعب منه. يبدو «الصعود إلى الجبل الأخضر» الذي جاء مثل نص طويل بأنفاس مُتقطعة، صُعوداً بالفعل، لكن بمقاييس جديدة يمليها ذلك المتخيل على النص وأجروميات بنائه؛ ليس صعوداً من تحت إلى أعلى (سفح/ قمة) كما دائماً، لكن ـ وهذا هو شغل اللغة الإبداعية- من السطح إلى القعر؛ صُعوداً شاقاً، وتطهيرياً، ومرآوياً، ومُظفراً يشبه نشيداً شبه ملحمي، تخترقه جوقات النادبات التي تتجاوب مع غنائية أسيانة، هي يأس الأنا من مشاهدات الحاضر ومآلاته. لا يصطنع بلاغة «الأمل الكذوب» بقدر الذي لا يخفي لهجة التشاؤم التي تلتمع بين الصور حيناً وتتخافت حيناً آخر.
يصعد الشاعر كما لو كان يتعقبُ، عبر سلسلة من الصور الطالعة للتو، ضوءاً ما زال يلتمع من خبايا اللاوعي، وبخاراً كثيفاً يعطي للغة معنى المغامرة وللجبل اسم المتاهة الكبرى؛ متاهة الذات والذاكرة والحواس والجمال العابر والآني. لا تحيل الصور ـ هنا- على مراجع ثابتة وإحالية قارة، بل تنشط من عقالها وسط فيض من الاحتمالات لا حصر له، ما يجعل الدلالة بدورها غير قطعيةٍ وهي تنزلق من دال إلى دال أكبر يتماهي مع الأسطورة، وكأن قصد الشاعر من مغامرة صعود الجبل بغموضه وأسراره، ومشاهداته، ونباتاته، وحيواناته، وأفلاجه، ومن مغامرة الاحتفاء به طوبوغرافياً؛ أي على امتداد صفحة الكتابة، هو المصالحة مع الطفل الذي كانه، ومع الوعد باستئناف المجهول، ثُم مقاومة مجرى الزمن الجارف الذي يمسخ الكائنات ويتلف قرائن «الحقيقة الأصل».
صعود الجبل هو صعودٌ إلى الذات وفيها، وصعودٌ لامتحان اللغة والرؤية والإحساس. صعود محايث ومتزامن، يتم دفعةً واحدةً، أو لا يكون. ليس الجبل سوى ذريعة لإنعاش الحواس وإقدارها على المقاومة بالترقي والشعور بما ينبض حولها، وتخييل فن الوجود الممكن باللغة التي تسمو بالذات، ولا تزل بها إلى الحضيض. بهذا المعنى، لا يصف الشاعر سيف الرحبي سردية الجبل الأخضر كما هو، بل يبتكر جبله هو؛ الجبل الذي يضم خضرة المرئي والكائن والمعيش، إلى الزرقة اللامتناهية للاوعي والمجهول في مغامرة اللغة وعبرها.
إن الكتابة عن الجبل بوصفه فضاءً مُفارقا مشحونا بالأساطير وصمت الأوابد، وبمشاعر الأنا الشخصية بما هو كناية عن ملاذ الروح، تحتاج إلى تخييلٍ مُوازٍ قادر على تجسيد أبعاد مفارقته واستيحاشه السيميائي عبر رؤية فنية، وهو ما يحاوله الشاعر سيف الرحبي ليس في هذا العمل وحسب، بل في معظم أشعاره وسروده التخييلية، منذ أن كتب ديوانه «الجبل الأخضر» قبل نحو ثلاثين عاما. وهو كُلما استعاد الجبل، ملعب خياله وعهد طفولتنا البعيدة، إلا حاول «تسلق الجبل الأخضر كتابيا» بما يعني ذلك من استدعاء الـمُخيلة في مرايا الطفولة، وهيهات الوصول:
«أيها الجبل الأخضر
يا جبل الكور وجبل شمس
ويا جبال ظفار الشماء (…)
منذ أزمان وأزمان
ونحن نصعد إليك
لكننا لا نصل!».