دارين حوماني

تقول الأسطورة إن ارتباط الغربان بالنبوءات ينعكس في المصطلح “عش الغراب” والذي يعني برج المراقبة قرب قمة سارية السفينة، ويعود المصطلح جزئيًا إلى عادة الغراب بناء عشه قرب قمة الشجرة، وعلى اعتبار أن البحار المناوب في عش الغراب يسعى لرؤية الأرض أو السفن البعيدة، فهو يشبه المستبصر “الغراب”، أما الرومانيون فقد فهموا نداء الغربان على أنه كلمة “كراس Crass ” والتي تعني “الغد”، وأصبح هذا النداء يُفهم على أنه تذكير بالموت قرب نهاية العصور الوسطى. وفي كتابه الصادر مؤخرًا عن منشورات الجمل “في النور المنبعث من نبوءة الغراب” سيكون سيف الرحبي بحارًا يرى الأرض والغد وهشيم العالم من بعيد، وسيكون الكتاب بمثابة نداء لتذكير العالم بخرابه وموته “كأنما تلك الأوبئة، ربما المقدّمات الضرورية، الإنذار المبكر لانفجار الخوف والموت على هذا النحو من الشمول الكوكبي المروّع الذي أعاد الحياة إلى نقطة الصفر في بحثها البدائي عن خلاص فيما يشبه الأسلاف السحيقين في الزمان والأعماق المظلمة”، وبمفردات تتوالف مع القلق النفسي المشبع بالخوف واليأس، وبتناوب للصور المتخيّلة، يوقظنا الرحبي للبحث عن معنى الوجود الإنساني في ظل وباء لا يقترح على البشرية إلا السواد الكليّ، “أسرّح نظري من بعيد/ لا أرى إلا ما رأيته سابقًا/ برية من العدم/ غراب وحيد ينعق فوق شجرة البيذام/ كأنما يستغيث/ نعيقه المفعم بالرؤى والسواد/ في هذه الظهيرة الثكلى/ سأمضي بكل هذه العزيمة الجريحة/ ميممًا شطر جزيرة القرش/ في النور المنبعث من نبوءة الغراب..”.


“بمفردات تتوالف مع القلق النفسي المشبع بالخوف واليأس، وبتناوب للصور المتخيّلة، يوقظنا الرحبي للبحث عن معنى الوجود الإنساني في ظل وباء لا يقترح على البشرية إلا السواد الكليّ”


شقاء الإنسان في غربته ومنفاه

عام 1981 أصدر الشاعر العربي العماني سيف الرحبي مجموعتيه الأوليين في دمشق: “نورسة الجنون” و”الجبل الأخضر”، ومنذ ذلك الوقت لم تكن الكتابة بالنسبة إليه سوى تعبير عن روح العالم، وها هو يكمل سيره في مزيج سردي وجداني يتداخل فيه الزمان بالمكان، زمان الوباء مع جغرافيا عمانية مفصّلة على توقيت الفقد، ببحرها وبرّها، محبطة ومرعوبة من وباء يتجدّد ويتناسل ويرفع منسوب عزلتنا إلى عزلة قلقة تشتِّت توقيت الكتابة، ليذكّرنا هذا الوباء بقول المتنبي “على قلق كأن الريح تحتي”. وكانت مسيرة الشاعر العابرة للقارات من عمان إلى مصر منذ الطفولة فسورية فأوروبا قبل أن يعود نهائيًا إلى عمان في تسعينيات القرن الماضي قد شكّلت المواد الخام لكتبه الشعرية والنثرية، منها “رأس المسافر”، و”مدينة واحدة لا تكفي لذبح عصفور”، و”مقاطع من سيرة طفل عماني”، و”بومة مينرفا”، و”في النور المنبعث من نبوءة الغراب” الذي ليس العمل الأول الواقع في مقام السيرذاتي للرحبي، فقد انطلق في عدد من نصوصه السابقة في سردية تأويلية في مواجهة موت العالم لتكون مثل رسائل صوتية مشحونة بتساؤلات كونية نشعر معها بالاغتراب ليس فقط عن البلد الأم بل عن هذا العالم كله، وفي هذا نستعيد قول الشاعر يوسف الخال قبل أربعين عامًا: “إن حداثة سيف الرحبي ليست حداثة افتعال، ولو كانت كذلك فلا تستحق دمعة حبر واحدة، إنها انفجار الوعي والحساسية الجديدة في تعبيرها عن شقاء الإنسان في غربته ومنفاه، نقرأ ذلك في لغة شعرية متميزة وسط فوضى الهويات الشعرية السائدة”.


“يكمل الرحبي سيره في مزيج سردي وجداني يتداخل فيه الزمان بالمكان، زمان الوباء مع جغرافيا عمانية مفصّلة على توقيت الفقد، ببحرها وبرّها، محبطة ومرعوبة من وباء يتجدّد ويتناسل ويرفع منسوب عزلتنا إلى عزلة قلقة تشتِّت توقيت الكتابة”

بلغة تعبيرية تصوّر علاقة الأحاسيس بالأشياء والأمكنة يكتب سيف الرحبي عن العزلة التي فرضتها جائحة كورونا وشكّلت الحياة معها رحلة سيزيفية له فدوّن مشاعره منذ اللحظة الأولى التي شعر فيها فعلًا باقتراب هذا الوباء وكان في العاصمة التايلاندية مع زوجته ليقطع فترة إقامته ويقدّم موعد عودته إلى عمان. هي يوميات الشاعر، فلغة الرحبي السردية ترتبط مباشرة بتجربة حياتية متوترة رغم هدوئها، وأليمة رغم ابتعاد الوباء عن الشاعر، “اليوم وقد مضى ما يناهز الثلاثة أشهر لم أخرج من المنزل أبعد من الفناء.. خرس أصاب العالم، صمت مطبق، وسكون جنائزي”. ثمة مشهديات يمرّرها لندخل معه كليًّا في النسخة الوثائقية لحياته تحت وطأة الوباء “المدينة أعرفها ولا أعرفها في ظل هذا الفراغ الرهيب كأنما أحد الشخوص السينمائية يعود بعد غياب ويمضي في مدينته التي تغيرت ويبدأ في استعادة الملامح والمعالم والطرقات التي انفصل عنها زمنًا طويلًا”، وإذ به يعود لينسحب بذاته إلى داخله وتصبح لغته الأداة الوحيدة في صراعه مع تشوهات العالم العربي “بعض الأنظمة العربية تستثمر الجائحة لإحكام قبضة الأمن والقمع التي هي في الأساس لها اليد الطولى فيها ولا تبرَع في أي مجال غيره”.




وتتكشف يوميات صاحب “كتاب حياة على عجل” عن شذرات وجودية بإيقاع متواتر على خلفية مشاهد شديدة العتمة خلال مرورنا في عالم موبوء على قاعدة إميل سيوران “كل شيء من سيئ إلى أسوأ، لا رجاء، لا رجاء”، يرى الرحبي أنه سيأتي وقت على المرء يتجاوز فيه مرحلة الانتحار وقتل النفس للدخول في العالم الكاسر كخلاص، ستكون هذه المرحلة متخلفة وغير ذات قيمة وأهمية، ولا تخطر كثيرًا ولا تلح كما في الماضي، فكيف تخطر على بال الناجي من مذابح وأوبئة لا تحصى فكرة الانتحار، ألا تكون نوعًا من ترف ذهني لا ينسجم في هذا السياق، وهل هاجس الانتحار يصير مرحلة من الماضي، الرومانسي ربما، أمام احتدام وجود أكثر خطورة وجفافًا، ثم يحكي عن مستقبل الروبوتات وحوش المال والتكنولوجيا مقرونًا بغياب القيمة والمعنى، بغياب الروح، الضحية الكبرى لهذا المسار الحتمي للتقدم الأعمى. ومن مكان لآخر يقدّم الرحبي رؤيته عن ضجيج هذا العالم وكابوس الوباء و”توليتارية يقودها الحزب الشيوعي في الصين كلافتة لكنها الأكثر ضراوة ووحشية ولا إنسانية في تاريخ النظم جمعاء، فهي أشبه بإله مقدس لا يطاله الشك والنقد بأطرها الأيقونية في مقابل الإمبرياليات الرأسمالية الغربية بنفاياتها ذات التاريخ الاستعماري الشرس والطويل- شراسة الدهاء والتصفيات المباشرة”. أما الكون الذي وصفه المتصوفة بالإنسان الكبير فلم يعد جسدًا واحدًا يتداعى بكامل أطرافه إذا تداعى جزء واحد، فالحروب والقمع الوحشي والمجازر هي عناوين روتينية تمر مثلها مثل أخبار الأزياء وكرة القدم، “وهو ما يفصح عن علة بنيوية عميقة في هذا الجسد المتخم أيضًا بالأنانية الوحشية وغض الطرف عن الآلام الرهيبة التي تنزل نوازلها بالآخرين في “الأسرة البشرية” النازعة إلى الهيمنة والاستحواذ والتفوق”.


“يرى الرحبي أنه سيأتي وقت على المرء يتجاوز فيه مرحلة الانتحار وقتل النفس للدخول في العالم الكاسر كخلاص، ستكون هذه المرحلة متخلفة وغير ذات قيمة وأهمية، ولا تخطر كثيرًا ولا تلح كما في الماضي، فكيف تخطر على بال الناجي من مذابح وأوبئة لا تحصى فكرة الانتحار”



صداقات واستدعاءات

في عزلته يستذكر مؤسس “مجلة نزوى” ورئيس تحريرها صداقاته “في هذا الكون الفائض بالوحشة والعزلات” مع عبد اللطيف اللعبي وأمين الزاوي وربيعة الجلطي وآخرين، ويعود إلى قراءة الملحمة الشعرية المفتوحة على خطر المحيط والاحتمالات “موبي ديك” لهرمان ملفيل و”الموت السعيد” لألبير كامو، وتستدعي ذاكرته أحد أفلام ستانلي كوبريك “البريق”  The Shining الناضج بالفقد والوحشة، وفيلم “الطائر” Birdy لآلان باركر الذي سقط بطله الذي يحلم بالطيران ليتحرّر من سجن هذا العالم وقبحه، ثم يشبّه هذه الأعاصير من التنظيرات والهواجس عن الوباء ومن الرهاب الذي صاحب هذا الفيروس بين الناس برهاب سكان تلك المدينة الرمزية في مسرحية “خرتيت” ليوجين يونيسكو، ويستحضر نيتشه، وسقراط، وإمبرتو إيكو في تشبيهه الجهل الزاحف في تكنولوجيات العصر الحديث بزحف الغوغاء والرعاع، ونعوم تشومسكي الذي يجزم أن الدولة العظمة أميركا هي المصنّعة لهذا الوباء لتبقى دركي العالم وقطبه الاقتصادي والعسكري غير القابل للإزاحة، وتوماس هاردي بنزوع شخوص رواياته نحو الطبيعة كملاذ من كلفة التقدم والتقنية الباهظة على الروح، ومارسيا إلياد حين قال “أصبح في إمكاننا أن نقيم تبادلًا خلاقًا بين الدنيوي والروحي، بين المتناهي واللامتناهي، والحاضر والغائب، والشك واليقين، ولم يعد بمقدور الإنسان في ضوء ثورات المعرفة المعاصرة وكشوفها الركون بسهولة إلى نظام من التصورات المغلقة”، ودوستويفسكي حين طلب أن لا يدفن في مقبرة فلكوفوسكويه في بطرسبورج قرب مدافن الأدباء “لا أريد الرقود قرب أعدائي، يكفيني أنني عانيت الأمرّين في حياتي”، مشرّحًا كيف تأتي السهام في زمننا الراهن ممن لا قيمة معرفية لهم في ظل شبكات التواصل الاجتماعي التي تسمح لأي كان باستهداف من يشاء دون رادع أخلاقي. ووحيدًا على شاطئ عمان سيحضر معه الفيلسوف برونو باتلهايم الذي انطلق في نظريته ذات النزوع العدمي، كون تلك الأبنية والقصور التي يشيّدها الأطفال على الرمال في شاطئ البحر ثم يدمرونها أو تمحوها الرياح، تختزل الوجود بأكمله منذ النشأة وحتى النهاية والمصير الحتمي، تختزل حياة الكائن على هذه الأرض وأحلامه ومآلاته. كل هذه الاستدعاءات التي تشارك الرحبي عزلته الكورونية كأنها إشارات واسعة الأفق من الضفة الأخرى للكون يحرّكها العقل الباطني للشاعر في أطوار ارتدادات لا وعيه على الوباء ودوامة الزمن والموت والوجود والعدم في سياق حكائي يحاول طرح القضايا الإنسانية وتحريك الحقيقة المظلمة وغير المرئية.




النباتات والأشجار التي زرعتها سيدة البيت، ناصر وعزان اللذان هجرا المدرسة بسبب الوباء، وادي غلا وتلك الصخرة الساهرة في وادي سرور تحرس الموتى في القبور المجاورة، وجبل المسبت الذي تحتضن الأشباح فيه بدم الأسطورة، وقطيع الماعز يتسلق التلال المجاورة، والغيوم على رأس الجبل الأخضر تسكب جداول المياه، ومربوطًا بقرب بحر عمان، تشكّل هذه العناصر الفنية لوحات الشاعر التعبيرية، لوحة عذبة إثر لوحة، كأنها ذكريات الشاعر الجميلة الوحيدة المقيمة في زمن ما قبل السقوط الأخير وفي محاولة منه لتطويع ذاكرة عمان وعروقها وأرشفتها مضافًا إليها أبواب ذاكرته المشرعة على المدن العربية التي ارتحل إليها في حياته: القاهرة، بيروت، دمشق، حلب، وشرفات طنجة.


“تتساقط مفردات الشاعر التي يمكن وصفها بالوحشية في الحركة الفنية التشكيلية مثل ثورة لونية على التصنع والتزيين وترف العالم بحضور كل هذا الموت والدم المسفوك”

وبين كل هذه اليوميات والسرديات الوجودية يرمي لنا الرحبي شراراته الشعرية فيمتزج الشعري بالنثري في تداخل للأجناس الأدبية وتبادل لردّات فعل الشاعر لخراب العالم كأنه يؤرشف للمكان تحت وطأة الوباء من فضاء آخر، كل قصيدة منها بمثابة صدى لذلك العمق الميتافيزيقي لمعنى الأشياء وهويتها المحملة بأسئلة الكينونة، وفيها ينفرط الفراغ الكبير وصدأ الكون وهشيمه المتوقَع إلى ومضات على مقاس الفكرة الموحشة كأنها تخرج من فتحة في الزمن “من أخطأه سهم الموت/ أصابه سهم الحياة المسموم/ إلى أين تهرب من هذا الحصار..”، و”الطفل الذي شهد ميلاد العالم والأبدية سيشهد يوم النشور والقيامة/ بعينيّ نسر يحلق فوق الحشود الذاهبة إلى آخرتها/ إلى أحلام النعمة وهذيانات الجحيم”، ثم يرجّ الرحبي صورة الكون الذاهبة نحو الهدم الكامل محدّثًا الأرض “افتحي خزائنك أيتها الأرض../ ها هي الجحافل تمضي إلى حتفها من غير مواجهة ولا صدام..”.

ويعلن صاحب “أرق في الصحراء” غضبه من الإنسان في معاينة للحقيقة بكامل حواسه “ما سوف يبقى/ هذا الدم المسفوح”، هنا تحضر مشهديات تحتاج إلى الحواس الخمس لتشكيل نص راء عن حقيقة هذه الأرض، وحيث تتساقط مفردات الشاعر التي يمكن وصفها بالوحشية في الحركة الفنية التشكيلية مثل ثورة لونية على التصنع والتزيين وترف العالم بحضور كل هذا الموت والدم المسفوك “الحرب لم تنتهِ/ ربما لم تبدأ بعد/ هذا الصدى المرتدّ إلى صاحبه كسهم مسموم/ هذا الإعصار الذي يقتلع القلوب والأجساد/ من أين راكموا كل هذا الحقد/ كل هذه الدماء الهادرة”، وفي نظرة سوداوية تحيلنا إلى أزهار بودلير وسأمه الوجودي تتناوب انتفاضات الحزن في قلب سيف الرحبي فيشبّه العالم بالمغارة: “كيف للنسور أن تحلّق بحريّة في هذه المغارة/ التي تتحلّل فيها جثث البشر والحيوان؟.. لنمضِ وحيدين إذًا، في هذا الليل الحالك/ لأزمان البشر والمجزرة”.


“يرسل الرحبي صوته إلى “أعداء الحياة والمعرفة” في نقد موجع لوحشية الإنسان “الذي توحّد مع روح الضباع اللاهثة في الأرض” معلنًا انحدار الأرض في العدم”

في آخر فصل من فصول كتابه “عن حديقة الحيوان المنقرضة” يرسل الرحبي صوته إلى “أعداء الحياة والمعرفة” في نقد موجع لوحشية الإنسان الذي توحّد مع روح الضباع اللاهثة في الأرض معلنًا انحدار الأرض في العدم، رغم أنه يدرك تمامًا أن “كل شيء بلا جواب، كثيف كمثل رنين هاتف في منتصف الليل” كما يقول توماس ترانسترومر. يقول الرحبي “أحمل إرثكم يا أبناء العروبة.. أما حان لكم النهوض لتلقوا نظرة الوداع الأخيرة/ فالقيامة على الأبواب../ نحن الآن بلا خرائط ولا أهداف عدا خرائط الدم المسفوك وغرائز الافتراس/ نمحو آثارنا كما تلعق الضباع الدم المتخثر والأقدام”، ولا ينتهي الشاعر قبل أن يعلن خوفه من الحروب التي تتناسل وتكبر وتتفتّح شهيّتها للدم كلما كبرت لتصل إليه وإلى كل مكان وكأنها هي نبوءة الغراب “الألم يتسلّل إلى أعماق الروح/ الزلزال بجوار بيتي../ عليّ تهريب أطفالي إلى بلدان لا تطالها الزلزالات والفيضانات/ بلدان مستحيلة”، ومناديًا نفسه في محاكاة للوجود والفناء “أيها الطائر../ تدير جسمك الصغير/ في الجهات المدلهمة/ كأنما تلهج بالموت والحنين”.