إبراهيم عبد المجيد

روائي وقاص مصري

قراءتي للشاعر سيف الرحبي تمشي معي عبر الزمن. هو واحد من الكتاب الذين أفرح بأعمالهم، شعرا أو مقالات أو رحلات. «رحلة إلى جبال سراييفو» هو أحدث ما وصلني من كتبه، نشرته دار العين المصرية مؤخرا. الكتاب ينتمي إلى أدب الرحلات، لكن الرحلة الأكبر في الكتاب ليست في سراييفو، بل في ما تثيره سراييفو والأماكن في روح الكاتب من ذكريات في غيرها من البلاد مثل سوريا ولبنان، وما تثيره من تأملات في الوجود والناس جعلت الكتاب الصغير، مئة وثلاثين صفحة، رحلة فكرية وفلسفية رائعة، زادها روعة مزجه بين الشعر والنثر. طبيعي أن تذكره سراييفو بحروب البلقان، وكيف كانت الحرب العالمية الأولى بعد مقتل دوق النمسا في صربيا.. لقد صارت الحروب التي تتسم بما جرى من فوضى وأهوال تسمى بالبلقنة..
يسافر سيف الرحبي إلى البوسنة لأول مرة مع ولديه ناصر وعزان وأمهما. طبيعي في هذه البلاد حين تزورها لأول مرة أن تتداعي الذكريات عن خروجها من عباءة الاتحاد السوفييتي وانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه. أول حوار مع سائق التاكسي من المطار يتحدث السائق عن جوزيف بروز تيتو رئيس يوغسلافيا قبل التقسيم والحروب التي واكبت الخروج من عباءة الشيوعية. حديث يجعل لتيتو مكانا وحده من المحبة لأنه لم يكن مطيعا للسوفييت كغيره، وطبعا كان مع عبد الناصر ونهرو مؤسسي عدم الانحياز أو الحياد الإيجابي، بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا أيام الحرب الباردة. يؤكد كلام السائق، أنه رأى ذلك من قبل في بلغاريا حين تم عرض فيلم لريتشارد بيرتون عن تيتو وكان الإقبال عليه كبيرا، فهو الرمز الذي لم ينته أثره.
في أول جلسة بعد الوصول في الصباح في مقهى تأخذه القهوة التركي إلى بيروت والشام. البوسنة خارجة من حروب دينية، ولبنان تحت كابوس حروب متعددة. يرى عجوزا بوسنيا متكئا على جريدة تكاد عيناه تلامسان الحروف من ضعف نظره، فيندهش من هذا الإصرار على الحياة، فبين الحروب والدمار هناك الأمل. ينتقل إلى عالم الفلسفة ومحاولة فهم الكون، فيتساءل كيف تستطيع أن تحتج على قدرك المحفور في اللوح المحفوظ؟ ورغم ذلك فالاحتجاج هو الذي يُؤرَّخ كفضيلة إزاء الاستسلام والإذعان، هكذا ينتقل إلى زمن القتل ولو معنويا للخارجين عن المألوف، مثل رامبو وهنري ميللر، فهم ضحايا في بلاد ديمقراطية لا يختلفون عن غيرهم في البلاد الديكتاتورية، ويلخص الأمر بالثناء على الشاعر الذي قال عن شيخوخة الأرض والبشر وانهيار الحضارات «أجلسَ الجَمال على ركبتيه فوجده مرا» وجاءت كورونا لتزيد الشعوب المقهورة أسى. يتنقل بين بورخيس وميلتون وشكسبير ولوركا وكالفينو، فرغم كل شيء ثمة وقت للحب والنزهات وزيارة المدن اللامرئية. يتنقل إلى غياب الأحباء من كتّاب عرفهم، ويتذكر أماكن كثيرة وسط الطبيعة فيأتي شعره «آه، كل شيء يذكرني بك يا شام.. يا بيروت، يا قاهرة، يا قلبي.. المكلوم على هذا الفضاء الشاسع» ويتذكر الأديبة اللبنانية عناية جابر التي رحلت العام الماضي.
في هذه اللحظة
اتذكر وجهك يا عناية جابر
ضحكتك وأنتِ تمشين على كورنيش المنارة
ضحكتك التي تُحفِّز الكناري
في نشيد يسترسل صخبه
في سواحل المتوسط
«لا أحد يضيع في بيروت»
لبنان تأخذ المساحة الأكبر من الألم في ما تثيره فيه البوسنة. ينتقل من الفندق مع أسرته إلى السكني في أحد الجبال المحيطة، التي جمالها حقيقة ملموسة، وليست استعارات وأحلاما كما في بعض جبالنا، فتتصادق معهم القطط، فهي من بين الحيوانات، التي تسارع إلى ترويض نفسها بنفسها وتستأنس الجماعات البشرية. لقد صار القط الصغير أحد افراد العائلة، ويأتي شعره الذي منه «حتى الملائكة والطيور وأشجار السرو، تغبط هذه القطة.. المسترسلة في فردوس سلامها الخاص.. منفصلة عن الكون المحيط».. المتعة في الريف الجبلي لسراييفو بين الطيور والأشجار تأخذه إلى السؤال الأزلي «هذه الهناءة السعيدة لماذا لا تدوم ؟» وهو السؤال الملازم للإنسان منذ انبلاج حياته الأولى. الغابة تحيله إلى غابات البلقان والأمازون وغابات ماليزيا، والغابات تبعث صوتها من أعماقها مخيفة وغامضة. ينزل المساء على الغابة والمكان والبيوت، فيأتي الإحساس بالضياع، ويتذكر وهو وحده مع ابنه ناصر عائدان إلى البيت، بطل رواية «الطريق» لكورماك ماكارثي هو وطفله في الصحراء الدامية الموحشة، وكيف نجا. ينزعج من هذا الخيال القاسي، فلا شيء يأسر المرء مثل لطف البشر تجاه بعضهم، خاصة تجاه المغترب. هكذا في الصباح الباكر يقابل صاحبي المنزل، الرجل وزوجته، يشذبان الأشجار. هما في الستين من عمريهما، لكن يبدوان في الأربعين من أثر العيش بين الحقول والغابات بنقاء هوائها والطعام العضوي الطازج كل يوم.
وفي زيارة أخرى لهم من قِبل صاحب البيت وزوجته وابنتهما أمينة، يستوقفهم اسم ناصر ابنه، لأنه ذكّرهم بناصر، الجنرال اليوغسلافي الذي انشق عن الجيش وكون مجموعة للدفاع عن البوسنة، وأصبح شهيرا ببطولاته الأسطورية في صد هجوم الصرب الكاسح ضد أفراد شعبه وضد الإنسانية. يأخذنا كما حدث بينهم إلى الحديث في الأدب والفن. إلى ما ترجم من الأدب العماني وإلى المخرج أمير كوستاريكا المعروف جدا لدى البوسنيين، وكذلك عبد الله سيدران كاتب سيناريوهات أفلامه. يتذكر كيف في زيارته لبلدان الشرق الاشتراكي، بلغاريا مثلا، فتنهم بالحديث عن أوروبا وحلمهم في أن يكونوا مثلها. لقد رأيت أنا ذلك في الاتحاد السوفييتي عام 1991 وفي أوكرانيا، وكتبت عنه وقتها، ثم في كتابي «أين تذهب طيور المحيط» أقل ما كتبته هو كيف إذا فتحت علبة سجائر مارلبورو أجد كل من حولي يتقدم طالبا سيجارة، ورأيت ماكدونالدز يفتح محلا لأول مرة في موسكو والطابور عليه لا نهاية له. يتحدث سيف الرحبي عن إعجاب عبد الرحمن منيف بالكاتب البوسني إيفو أندريتش فكتب روايته «حين تركنا الجسر» التي جاءت متاثرة برواية أندريتش «جسر على نهر درينا». يأخذه الحديث في الأدب إلى ميلان كونديرا ورواياته، وفكرة استراتيجية النسيان التي كان يمارسها النظام الشيوعي، والتي كانت وراء أكثر من رواية لكونديرا. يعود إلى سراييفو في صباح من المطر والرعد والبرق، فيأخذه ذلك إلى الحروب وذكريات الدمار، فيتذكر وفاة سعدي يوسف وانفجار مرفأ بيروت وتعود لبنان إلى المقدمة، وبالطبع يتذكر دمشق والرعب من المراقبة البوليسية التي قد تصل إلى حديث الكتّاب في المقاهي. بين صباح ومساء يمضي فيأخذنا إلى زيارة لمقبرة جماعية باقية من شواهد التصفية والإدانة، وطفلة مصابة بالتوحد تأتي إليهم من منزل مجاور كل يوم تقريبا، وهي تعيش مع أمها وجدتها، وأحاديث مع الجدة المسلمة التي تتمنى ان تحج إلى بيت الله في مكة، وتطلب من الله أن يشفي الطفلة التي لا حل أمامها. مع كل عودة إلى الجبال والمكان والغابة يعود إلى الشعر حتى نصل للجزء الثاني من الكتاب تحت عنوان «ولأني أمام البحر رأيت الطائر الذي يعبر العالم في لمح البصر» وهي قصائد تلخص المكان وفراق الأحباء، ومعنى الوجود الذي لم يفارقه في الكتاب بأسئلته الحائرة.
وأختتم المقال بشيء قليل جدا منها:
«هذه السكينة من السلام الروحي التي تغمرني اللحظة، لو تغمر العالم بأكمله، لاستعاض بها عن فردوسه المفقود»
«الإنسان الواقف
مذعورا إزاء البحر المضطرب
هو في الحقيقة مذعور من الدخول
إلي أعماق ذاته المظلمة»
«نخلة وحيدة في صحراء
على منحدر رمال وشاحنات
بثمارها القليلة مطلع الصيف
كأنما تحلم بالهروب من ليل وحدتها الجاثم»
«سيدة الصالون
تعزف لحنا لموتسارت
بينما الحرب تستعر في الخارج
وفي قلب السفن الغارقة في المحيط»
تنتهي من الكتاب وتظل كل النوافذ مفتوحة بأسئلة الوجود والحياة ولا تفارقك متعته.

إبراهيم عبدالمجيد – روائي وقاص مصري

القدس العربي – ٢٢ أبريل ٢٠٢٢