يا ذهبا يبحث عنه العميان
في مناجم منهارة (ص19)
ماذا عساه أن يكون هذا الذهب الذي يبحث عنه العميان في مناجم منهارة؟ لا ضير في أن يقول بأنه النور ، ولكنه النور بوصفه الحرية التي يفتقر اليها العبيد، كما يفتقر العميان إلى الضياء.
ولا مبالغة في الذهاب إلى أن هذه المجموعة مرثية ترثي العالم، ولا تراه الا بوصفه عالم قحل وجفاف، او «شعوبا انهكها القيظ وحيوانات الصحراء» (ص18). ثم خذ هذا القول مثلا اخر: العمائر المأهولة بالجفاف، وبمخلوقات زنخة تفوح من أردانها جثة العالم المتفسخة منذ قرون (ص30) ومما هو جدير بالتنويه أن الروائح الكريهة كثيرا ما تذكر في هذه المجموعة: «أحلام القدماء التي تفعمني برائحة الموتى في السرير (ص36) وفي رؤية الشاعر كذلك أن جذور الحياة، او ركائز الوجود البشري قد «أصبحت تغذيها النفايات السامة في اعماق الارض الملحية، التي تصارعت على اديمها ارومات البشر والضباع والاشجار السامقة» (ص30).
ناصع تماما أن هذا النص له مرجعية اولانية ينبجس من صميمها، ولا ريب في أن تلك المرجعية هي المجتمع او التاريخ، او قل انها الحياة في ازمتها الكابوسية، او الشديدة القدرة على استلاب كل اصالة من جوف الروح. فهي لا ترى الحياة الا من حيث هي رضوخ لسلب متطرف قد استطاع أن يرمد نقيضه، او أن يطوح به إلى أقصى المنافي، وبذلك يكون قد أرغمه على التلاشي، او اقله على أن يتقلص حتى تخوم الاختزال او الاضمحلال، فتبدى العالم وكأنه قد شاخ واهترأ، واخذ ينفق روائحه النتنة، وحتى الدروب قد شاخت تحت اقدام الناس، «مفعمة بروائح الاجساد التي انهكوها كثيرا، مسوقين برغبة الزوال، الزوال الذي لم تساومهم عليه الحياة- (ص38) ولهذا فقد كثرت في المجموعة تلك الالفاظ التي لا تدل الا على البؤس والشر والهرم والتفسخ.
يوسف سامي اليوسف