وفي هذا الاطار الحميم من الوعي والتفهم والتوقع الدائم ولدت شاعرية سيف الرحبي، منذ بزوغها عبر ديوانه الأول ((نورسة الجنون)) الذي صدر عام 1980م وتتابعت من بعده دواوينه: الجبل الأخضر 1981، أجراس القطيعة 1984، رأس المسافر 1986، مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور 1988، منازل الخطوة الاولى 1993، رجل من الربع الخالي 1994، جبال 1996 وأخيرا معجم الجحيم الذي صدر في القاهرة عام 1998. والطريف ان دواوين الشاعر صدرت في دمشق وباريس والمغرب والامارات وبيروت والقاهرة وعُمان، مؤكدة أن هذا الشاعر الشديد العصرية- حفيد السندباد- يحمل قلقه وتمرده وأشواقه، وعذاباته التي لا تنتهي، لأنها عذابات المعرفة والتواصل الحميم والحب والحرية والعدل المفتقد في كل مكان من العالم. فالأزمة الوجودية عند سيف الرحبي هي مفتاح عالمه الشعري ومحور هذا الشجن الطاغي المندلع كالحريق في قصائده بدءا من لوحات الطفولة الغارقة في محيط الذاكرة ولذع الصحراء المصاحب للنشأة والتكوينات الأولى، والاطلالة على البحر- رمز الدهشة والانعتاق والانقذاف في المجهول- تأملا في القلاع الشامخة، والحصون العتيدة، التي شهدت عبر عصور متطاولة إهدار آدمية الانسان ومصرع انسانيته وحريته وصوته، تنقلا بين عواصم العالم وثغوره ونتوءاته الحضارية. وحين يفكر الشاعر في انتقاء مختارات شعرية من دواوينه تمثل مسيرته بكل ارتعاشاتها وانكساراتها وصدامها الوجودي يسبق وعيه الداخلي إلى العنوان الملائم لهذه المختارات وهو ((معجم الجحيم)) جاعلا منه بوابة تفضي إلى عالمه الشعري المشتعل، الذي تسيطر عليه ((أحلام القطرات ومساءات الكوابيس ومغارات الهذيان وهجرة الأسلاف والقدم النرجسية ومرايا القفار وعالم الأودية والشعاب وأرخبيل الغرقى ومدن الملح وهذيان الجبال والسحرة)). وهي بعض عناوين قصائده، التي تكشف عن عروق المنجم الشعري الذي تندلع منه هذه الشاعرية المتميزة لغة ووعيا شعريا وموقفا وجوديا.
يقول سيف الرحبي في قصيدة عن القاهرة التي يعشقها ويرتبط بها ارتباطا عميقا، وله بيت فيها يقصده بين الحين والحين وأحيانا معظم الوقت من العام، أسماها ((نجمة البدو الرحل)):
نحن الذين وجدنا فيك
صغارا
وكبرنا بعيدا عن رعاية الأبدية
نحن الذين تسلقنا حواريك
باحثين بين مقابرك الألف
عن فجر هرب من بين أصابعنا
خلسة، واختفى
. . . .
الفضاء مسبحة الطرقات
والليل حاجب مياهك المضاءة
بالكلام
يموت الكون، برفيفه الغاضب
ويولد في ضحكة
تنتشرين بحزن
كما لو ان الحرفيين وبائعي الخضار
والفواكه، أسرجوا أيامهم بالدمع
يطوف الهواء على الشرفات
حيث كنا نقرأ الكتب ولا نذهب
إلى المدرسة
لأن الشتاء فاجأنا هذا العام
بضباب كثيف
. . . .
وما بين ((الدقي)) ومقهى ((ريش))
يرتجف قلب العاشق المأخوذ على مدار الصدمة
تجلسين على الرصيف
تكتبين أيامك الملأى بالتوقعات
أي ذكرى لمقاهيك وحلوانك
لمحطات قطاراتك الأليفة
بنحيبها الذي لا ينقطع
أي عاصفة ستخلع أبواب العالم هذه الليلة؟
يسحب المسافر ظله
مجرة تيه وألم
لكنك الصدر الأكثر رأفة من المعرفة
. . . .
إيزيس إيزيس
بلمسة غريبة تصنعين العصور
وبين قدميك يركع الملاك
أحلامك التي تسافر في خضم الأعاصير
وقد نامت وديعة بين يدك
خاتم زواج
يكتب سيف الرحبي قصيدة النثر، ساكبا فيها وهج شاعريته وحصيلة خبراته الوجودية واللغوية.
فاروق شوشة
الاهرام المصرية