يظل الشاعر العماني سيف الرحبي صوتا متفردا في مدونة الشعر العربي الحديث ومتوحدا بذاته في سجل القول الشعري في منطقة الخليج. ولا غرابة أن يكون صاحب ((نزوى)) المجلة الثقافية الفصلية الجادة تتكتم كتاباته الشعرية على قلق حقيقي ينبع من معاناة أزمة الثقافة العربية المائوية المنقسمة باعتباطية مفرطة بين كلاسيكية ميتة وبالية وبين حداثة موهومة ومفتعلة.
وكثيرا ما تصدى الشاعر سيف الرحبي باعتباره متأملا في هذه المفارقات المرضية العجيبة.. فهل نخطئ القول حين نذهب الى اعتبار الشاعر سيف الرحبي مبدعا بمعنى عبقرية المكان في القصيدة العربية الحديثة؟
وعبقرية المكان هذه ليس المكان فيها هو ذلك الشيء المحدد جغرافيا أو معتملا بالتاريخ والضوابط بقدر ما هو ذلك المكان الهلامي الأول لتشكل الذاكرة وميلاد غريزة الأبدية الأولى. وهل نبالغ حين نقول أن الشاعر سيف الرحبي بدأ في ديوانه الأخير ((يد في آخر العالم)) يتحسس براحتيه وأنفاسه المهدودة تراب التكوين الكوسموغوني الأول للذات الشاعرة التي تكتب رؤاها بلغة عربية تنشأ هشة في طي القول الأصيل متسامحة مع هواجس وأوهام المدارات الحديثة… نعم يفاجئنا هذا القول الجديد القادر على الانطلاق من حفريات السلالات البائدة الى معانقة ((الميتروبول)) وهو قول شعري ينجز على نار شديدة التأجج والتفجّع عند انخلاع الروح في تاريخها الدائم المأهول بالهزائم الى دائرة ركودها في المياه السوداء للقرن العشرين.
(( يد في آخر العالم)) عنوان لقصيدة وديوان شعري عسير الكتابة وعمقه يكمن في القدرة الهائلة لهذا الشاعر العماني على الاختزال والصبر. ولاختزال والصبر ليس مبدأ الكلاسيكية في القول أو النظم أو في ما يعرف ((بلزوم ما لا يلزم)) بل هو قدرة ناشئة من الوعي بالانتساب الى تاريخ يتجاوز التاريخ وبالانتساب الى جغرافية تلغي نفسها لتصبح كوسموغرافيا.
عندما نقرأ ((يد في آخر العالم)) أشعر أن هذه القصيدة في زمنها الشعري الخاص هي شبيهة بتلك اللحظة التي يختزلها الغطاس العماني وهو يتجه الى غابة المرجان والمحار. وما يختزله الغطاس في رئتيه من هواء. هو مساحة الشعر عند سيف الرحبي لحظة من الوجع والصبر تقاس بميقات الأبدية… ان الأبدية عند سيف الرحبي هي لحظة مواجهة لا ((مكاشفة)). لحظة شبيهة بمواجهة أوديب لاسئلة أبي الهول كما هو الأمر عند أورويبيدوس. ومن تكن له الشجاعة لمواجهة الأبدية تكون له القدرة على اختزال التاريخ والوعي به، ومن يواجه الأبدية يتيتّم وحين يتيتّم يختزل أسئلة الذين:
((كانوا هناك يرتبون العزلات
والعواصف
لا يفصلهم عن الأبدية
إلا قوس جبال ضاربة في البحر
وأساطير بحّارة غرقوا
واقفين أمام الله
يتامى
يخبط الموج أقدامهم
أمام شمس نازفة العيون)).
يختار سيف الرحبي في ديوانه ((يد في آخر العالم)) سبيلا صعب العبور هو سبيل الملحمية وهي ملحمية تظل تتخذ من استحضار الجماعة واندثارهم تعلة للصعود الى الهاوية. وكأني بسيف الرحبي يظل مقرا بأن بداية قول القصيدة العربية يبدأ بمساءلة الاطلال واستقرارء الآثار آثار الاقامة ((كباقي الوشم في ظاهر اليد)). غير انه في الاقدار خرق له في ذات الوقت عندما يبدأ القصيدة بـ((كانوا هناك)) وكأن الأمر يتجاوز البديهي ليعلو به الى زمن سرمدي خارج التاريخ. فالذين كانوا هناك كانوا على عتبة البداية الأولى.
البداية التكوينية أو الكوسموغونية. وصيغة الجمع هذه (كانوا) هي مطية الرحبي للملحمية باعتبارها تدوينا لمسيرة الجماعة ورثائها ثم السمو بها الى درجة الميلاد والأبدية. وهذه الملحمية لا تتأسس عنده الا عبر استقراء تاريخ الجماعة (كانوا هناك) وهي عبر تصوير تغريبية التشتت والتهويم وكان هذا التهويم هو بمثابة رسم الحدود الجغرافية لتجوال الشاعر في مملكته الممتدة خاصة وأن سيف الرحبي وهو الشاعر الذي تنيره تجربة الترحال يظل يمزج بين الذاكرة الملموسة الحاضرة وبين الذاكرة الجمعي الميتافيزيقية. وكأن المكان عنده كلية واحدة. مكان يتشكل من أمكنة الغرابة وعبقريتها (بحر عُمان- جزيرة سرنديب- الزنجبار…) ومن أمكنة محسوسة ذات صلة بالسيرة الذاتية للشاعر.
وكل هذه الأمكنة قديمها وحديثها مأهولة بالأساطير والخرافات وبالذكريات والتفاصيل الى درجة أن سيف الرحبي يتنصل من مقولة الشعر الى النثر السردي وهو سرد لازم لتصوير النفس الملحمي الذي جاء عليه القول الشعري.
عبدالحليم المسعودي
جريدة ((الصحافة)) التونسية