في غَبَش المرآة الغابيّة
ألمح الصورة
تلك التي لمحها الجدُّ الأولُ
قبل أن يدبَّ على هذه الأرض
ألمح منصّاتِ النيازك قبل الانطلاق
في سماءٍ جرداءَ قاحلة
بيضةَ النسر الأوّل
قبل أن تحلّق ذريّته باتجاه الأعالي
ألمح الجنينَ الذي كنتُه
قبل أن يخرجَ مُلبدَا بالأغشية والصراخ،
في المستنقعات الموزية الآسنة.
٭  ٭  ٭
أيتها الكراهية
تمشين في مواكبك اليوميّة
مزهوّة وسعيدة:
حديقتك الوحيدة مزهرةٌ
وسطَ هذا اليباب.
٭  ٭  ٭
أيتها السكينة، كيف استلّكِ
من أحشاء الموج
لتكوني خاتم زواجي،
مُسْتقر أشباحي الهائمة.
٭  ٭  ٭
الغراب الآسيويُّ، منتعلاً موجَ المسافة
التي قطعها من قيظ الجزيرة، حتى الجزر الماليزيّة،
حيث تنعقد البروق في الأعالي
كصيّادين يرمون شباكهم في عرْض البحر
٭  ٭  ٭
مسافرَا نحو الشرق
بينما رسالتكِ تقول،
أنك ذاهبة باتجاه الغرب.
في أي مُفْترق للقوافل التائهة بين القارات
تلتقي مصارع العشّاق؟
خيالاتهم الناحلة تَغذُّ السيرَ
باتجاه ظلّ وارفٍ
ظلكِ الذي يتبعني ملاكًا حارسًا من صدمة الفراق.
٭  ٭  ٭
بنظرةٍ منكِ يتموّج الغابُ
بأنواع الزهور
بالأحلام المتدفّقة في ربوة الخيال
بذكرى تلويحة اليد في هواءٍ جريح.
أي زنبقةٍ يخبئها ليل الينابيع
على مطارح المياه؟
٭  ٭  ٭
حين أجلس إليكِ
أخلع معطف التاريخ
وزْرَ البشريّة
أخطاء الآلهة في الولادة والموت
أجلس محلّقا مرِحًا
كريشة طائر
لا تحمل إلا تيه اللحظة في الفجّ العميق.
٭  ٭  ٭
الطفل المُثْقل بأحلامه ورؤاه
لقد تعبَ الطفلُ
من أحلام الجنّة والنار
من شقاء الطفولة الموصول بحبل الشيخوخة؛
ينظر إلى الصخرة الضاجّة بصمتها
في شِعاب الأودية
صخرة جبل الكور
صخرة سيزيف
المتناسلة منذ قابيل وهابيل
الصخرة، ظلّ الصخرة الذي لاذ به ذات دهرٍ
فرسانٌ عابرون
متدثِّرون بطلعة القمر الضَاحّة في الخلاء.
صخرة المآتم والنذور
تلك الصخرة التي تتهاوى في رأسه
كعويل نسوةٍ حول قبر الفقيد.
٭  ٭  ٭
القطّة النائمة لِصق باب المنزل
يتسلل إليها خيطُ برودةٍ من الداخل
في الظهيرة المفْعَمة بالسُخام
تنظر برخاءٍ إلى المارّة الذين لا تعرف عنهم شيئًا،
وبما يشبه تحديقَة المتوسِّل
من غير رجاء..
أي روح تسكن هذه الوداعة الهانئة؟
٭  ٭  ٭
السمك الصغير المتنزِّه في أضوية الغروب
على حوافِّ البحر
وفي البركِ المتناثرةِ كياقوت خميلةٍ لا متناهيةٍ،
يستدعي سمكَ الأنهار في العصور الغاربة
للطفولة البشريّة
٭  ٭  ٭
إلى م. أوبانك
الوردة تلامس السماءَ بشفاهٍ حمراء
في حديقة “ماغي” على مقربةٍ من “هيثرو”
حيث كوخ العمّ توم
من غير وحشةٍ وبمرحٍ كبير
يتشكل المشهد السينمائي على هيئة مَمر طيرانٍ عاصف.
هنديّة لا تفتأ تنادي كلبها في البيت المجاور
البطُّ في تطوافه الدائم بين الغابة والنهر
“ماغي” تلاحقه بنظراتها الحنونةِ
وهو يملأ الفضاءَ بالصياح والريش،
هي التي كبُرتْ معه
وراقبته عبر فيضان النهر وهلوسات الغابة..
الوردة تلثم الفجرَ بالندى والضَباب
الشعراء الثملون يتعثّرون في ضفاف الحديقة
مغمورين بشميم الوردة وشغف النوم
٭  ٭  ٭
تدير زرَّ الراديو
بحثًا عن أغنيةٍ أو إشراقة عبارة
كما كنتَ تفعل في الماضي
العبارة التي تحلّق بطيورها الخضراء في الأثير..
من محطّة إلى أخرى
من مجزرةٍ إلى بركان..
سادة العالم يديرون ما يشبه الزرَّ نفسَه
قاذفين وجهة التاريخ
إلى مستنقع الحتف الأخير.
٭  ٭  ٭
من أعطاهم كل هذه العزيمة
في الصراع على جيفة جرذٍ
أو جثّة أفعوان؟
كل هذا الشبَق واللُعاب..؟
روحكَ القتيلة أيها الهنديُّ الأحمر
أيها العربي…
واللاتيني الحالم على ضفاف الأمازون
الإفريقي وأنت تصطاد في بحيرة فيكتوريا..
أرواحكم تسبق القَتَلَة إلى المثوى الأخير
أرواحكم الثاوية قبل أن ترى نورَ الحياة..
كل هذا الإرث من الأجنّة المبقورة والغبار
كل هذه الاختراعات العظيمة
كل هذا الدم المسفوح فوق محيطات
الدم والذباب.
٭  ٭  ٭
البارحة سهرنا حتى الصباح
استعدنا صخبَ الأيام الخوالي
ضَحَكنا كثيراً
غرقنا في أرخبيل السنوات
لكنّ الضوء الذي كان يفيض
من القلوب والأحداق
ظلَّ غائبًا…
كانت ضحكات موتى
يسردون موتهم
وصخب أناس عائدين
من معركة خاسرة
٭  ٭  ٭
أيها القَتلة المعتوهون
ألا يشبع نهَمكم شيءٌ على هذه الأرض الثكلى
جفّفتم ينابيعها الثرّة
بقرتم الضرع وتاجرتم بالعظام
الهواء حقنتموه بالسُّم الزعاف
كل خطوة تخطونها تتبعها إبادة
وكل جملة تختزل تاريخ النفاق.
لقد تناسلتم من شجرة الجحيم
“طلعها كأنه رؤوس الشياطين”.
ألا تصابون في لحظة عابرة
بخلجةٍ من ضمير أو خوف من إله؟
لم يبق شيء أمام جشعكم،
إنسان، حيوان
أو شجرة تحلم بالربيع
ألا يوقف زحفكم الأسود،
حتى التراب؟.
٭  ٭  ٭
لا أريد أن أكذِّب أحدًا
أو أصدق شيئًا
سأنام ملء جفوني
عن شوارد الحروب والجوارح
سأنزع الخناجر المسمومة من جسدي
سأصفِّي روحي من دويِّ الذكريات
لتحلّق خارج الأزمنة والمُدن
خفيفةً، مرحةً كروح بحّار تجاوزَ خطر العاصفةِ
في ظلمة محيط
سأصغي إلى شدوِ الطيور في الأحلام
مرتشفًا كلّ خمور الجنّة
متنقلاً من حوريّة إلى أخرى
بجسارة الفحل الواثق من اجتراح المعجزات
هذه الليلة سأنام هكذا:
على فراش الوديان الجارفة
تحمل جسدي نحو سدرة الله والحريّة.
٭  ٭  ٭
الموج يرقص أمامي
ضاحكًا ومنتحبًا
مضيئًا بفسفوره الليليِّ عَتمةَ المكان
عيونكِ من ثنايا الموج الملتحف
بغيم عابرٍ
تحدّق بي
تسألني عن الزمن الذي مرَّ منذ
اللقاء الأخير..
حطام سفن طافية، صياح نوارس.
من ثنايا الموج والغيمة تحدّق كنجمةٍ
غمرَها المدُّ والليل
٭  ٭  ٭
ترنو النوارسُ على قطيع الغزلانِ الراكضِ
نحو السَفح
سفح جسدكِ مسترخيةً في ظِلال
شمسٍ رحيمة
٭  ٭  ٭
صوتكِ عبر التلفون هادئًا وحزينًا
يفتح لي شواطئ وذكريات
شواطئ لم تطأها قدم الغزاة بعد
تحجَّ إليها الطيور والعشاق
بحثًا عن أبديةٍ مستحيلة
صوتكِ المعجون من طفولةٍ وشهوةٍ
يحاذي فجراً ينبلج من بحيراتٍ عصيّة،
كأنما لأول مرة أسمعه
يستدعي صباحاتٍ وأماسي من الخرافة
أن تعود
يستدعي النداءَ الغامضَ
لسعادة حيوانٍ يغْطسُ في الصقيع
معانقًا أنثاه
في ذلك الجريان الشفيف لسديم المياه
٭  ٭  ٭
جسدكِ والمياه
ملعب خيالات لا تنضبْ
قصور تنهض بمنائرها
وأطلال تهبط في هاويات القاع
أغاني بدْوٍ ترتجف في السهوب
مواكب النِعَم تحت داليات العنب..
ربما الحرب مرّتْ من هنا
ربما ثمة قتلى وجوعى في الضفاف
يداعبهم بالحنان نفسه نسيمُ المياه
يداعب الجسدَ الجريحَ
قبل أن يدلفَ حفرةَ الزوال
٭  ٭  ٭
جسدكِ والمياه
تعويذة الملاك أمام وسوسة الشيطان
غواية الشيطان أمام هداية الملاك
تعويذة الموشكين على الانتحار
رفُّ دلافين يضيء بحنينه ليلَ الأعماق
نداء حياةٍ أخرى
وقمر استغاثة.
٭  ٭  ٭
شجر الصيف يذوي
بعد أن كان الربيع طليعة الحريق
أي خريف سينتظرنا على أعتاب المدينة؟
الفصول تهذر خلف الأسوار
مرتديةً أثوابَ الجحيم.
٭  ٭  ٭
شجر الربيع يذوي
مرتديًا أثواب الخريف
خريف الغريب السادر بين الجدران
أو على الطرق البحريّة المقصوفة بالمغيب
يصلني نباح كلاب من القطب المتجمِّد
وآخر من منازل صيّادين،
متعثّرا بين الموج والشباك
كمن يبحث عن الذهب في مناجم محترقة
على أنقاضها بنت البومةُ أعشاشًا
والأفاعي سلختْ جلدها
ولاذتْ بظلال الصخور.
٭  ٭  ٭
هكذا أواجه حتفي
حتى تنتشلني الذكرى
فأعود إلى رؤية وجهكِ القادمِ
مع الموجة والحطام.
٭  ٭  ٭
جناح قطاة يرفس في قلبي
وعلى كبدي
قال “ذو الرمّة”
ولم يقل أفعى تنهشُ رأسي
كل ثانية وهنيهة،
لأنه تلاشى في بروق الوَجْد
وظلام البادية
٭  ٭  ٭
مرَّ الطائرُ أمام نافذتي
نافذة السجين الحالم بالحريّة
سمعته يهدل بالوحشة والغياب
هديل الطائر الليليّ
بالاسم الملغز لعبوره الخالد في الفضاءات
٭  ٭  ٭
ليتني أستطيع تنظيم أيامي في عقد
تلبسينه في الأماسي الحزينة
أو تنثريه لتلعبي النّرد مع نساء
كواكب حائرةٌ بين المجرّات.
٭  ٭  ٭
هذه المدينة بأوقاتها الخرِبة
المنذورة للهلاك
تنمو فيها البنايات والأبراج كسرطانات
تفترس جسد الطبيعة وروح الجذور
ليزدهر السماسرة القادمون من كل الجهات..
أهتف باسمك، احمله كتميمةٍ
تدفع عني هاتف الانقراض.
٭  ٭  ٭
جنازة واحدة
وإن تنوّعت الأماكن والطقوس
جنازة البشريّة جمعاء
يدحرجها الطغاةُ والجلاّدون
إلى منفاها الأخير.
٭  ٭  ٭
أفتقد المكان الذي تعيشين فيه
حتى ولو لم أركِ
أحسَّ بطمأنينة الذي أنجزَ جميعَ
مهامّه وأخطائه وارتاحَ في ظلالِ
ثكنةٍ، جنودها هاربون من أوامر
حربِ قادمة.
٭  ٭  ٭
على خطِّ النهر، الذي كانت سفُنُه ترعدُ
عبر شرايين الممالك الآفلة
ألمح أطياف مشرّدين وأشلاء..
في غَبَش الجسور الضخمة
ألمح السفنَ المبعثرة كنشار أجيال كئيبة.
ألمح الغيمة تمتدّ بحنوِّ
لتأخذني من قسوة الأصدقاء
ووحشة الطريق.
٭  ٭  ٭
وجهك من خلف ضَباب النهر
يطوّح بي
نحو بحارٍ ما زالتْ أمواجُها
تزبد في الذاكرة.
٭ ٭ ٭
جسدكِ والمياه والموسيقى
أبديّة أخرى
للضجر الأزلي الجميل
٭  ٭  ٭
ما هذا الضوء الذي يدلف غرفتي
ما هذه الأشرعة السابحة في الأفق
ما هذه المدن العائمة في الفراغ
لا أكاد أتبيّن صوتًا أو علامة
الساعة تدق بعنف
كأنما تنزف النأمة الأخيرةَ في الزمان
أتذكر النمرَ الذي هوتْ عليه الصاعقة
قبل أن يصل إلى الفريسة
الساعة تدق بغضب وشكيمة يائسة
بعد أن غارت الأزمنة
وتاهت في السديم
٭  ٭  ٭
هل تستطيع أن تكتب عائمًا في السديم؟
المحارة المائيّة الموضوعة على الرّف
من جلَبَها لك من آسيا
كي تذكرك بالبحر؟
العقاب المحنّط والكرسيّ الانتيك
وأعشاب يابسة تشبه روث
بغال وحشيّة
ينعقد منها، مع أزيز حشرات الصيف،
خيط هذيانٍ وغبار.
بماذا تحلم هذه الحيوات
مع الفاكهة الموضوعة على طاولة الكتابة؟
هل تستطيع الكتابة غارقًا في أحشاء ساعةٍ
ضائعة في السديم
هل تستطيع الحياة؟
٭  ٭  ٭
البغال التي كانت تمتطي الجبال
في معترك الهاجرة
تحمل الطعام والأسلحة
لأولئك القاطنين في الذُرى
والواحات المعلّقة في الشِغاف
يتدحرج الحصى من بين حوافرها
تنهار الجروف
تشمشمُ روثَ الإناث وتشنف
في الدروب المفضية
إلى مهبط النسور.
٭  ٭  ٭
أعود إليك أيتها اليمامة
على حافّة النافذة
أعود إليك من أسفار كثيرةٍ
وبداية أخرى أكثر غموضًا..
حيث لا نسبَ ولا خُلّة ولا شجرًا
تهزه الريح
السكون المطبق على البشر والأشياء
وتلك المرأة التي ذهبت إلى الكراهية..
أعود إليك في بهو النافذة..
حياتك كلها أجنحة، روح وأثير
لم تقترفي أي خطيئة أيتها الحمائم
عدا كونك الدليلَ الصادقَ
لسيّد السفينة التائهة في عباب المحيط.
٭  ٭  ٭
في الليل الفاحم البليد
ليل المناجم والرق
أستيقظ مهرولاً نحو الصالة
مهوّمًا كمن يمشي في نومه
على حافّة سطح
ولا يهدأ روعي
إلا بتأمل ذلك العناقِ النورانيِّ
في بهو النافذة.
٭  ٭  ٭
عبر بحر عُمان والمحيط الهندي
حتى أقاصي آسيا
ذاهبًا لمعانقة الظِلال
للقاء البوذيّ الذي ظلّ تسع سنين
محدّقًا في الجدار
في سؤدد الروح
غابة السِّر العصيّ على الكشْف..
للسباحة في بحر الصين والعندمان،
وسألقي التحيّة على قراصنةٍ
يفتشون عن لآلئ وجزرٍ طمرَها الإعصار
٭  ٭  ٭
أيها “الطاو” المجيد
إنك لا تشبه إلا نفسك
فراغك الرهيب بلا صفاتٍ ولا أسماء
انك الجمال المطلق لكمال الطبيعة في انسيابها الحزين
الطبيعة بتلقائيتها، تلك التي يشمل عنفوانها الجميعَ،
من العصفور الذي ينقر الحبّ أمامي
حتى إنسان الحضارة وغسق الكهوف
كل ذرّة في الوجود
وكل هنيهة في الزمان..
علّة الوجود الأولى تحمل الكواكب والأكوان
وعْدًا بسعادة ممكنة
لا تستطيع أن تصفك الكلمات
لأن التوحّدَ مع الجذر
يسوده سكون شاسع عميق.
٭  ٭  ٭
إناء الفخّار الذي صنعتْه يدُ النحات
البوذي من ألوان زرقاء متدرجّة، تدرج
مقامات الروح و”الاستنارة”، يرشحُ الماء
برشاقة البهجة..
وحين تمعن النظر، ترحل في محيطه الشاسع
من غير حدود، وكأنما في كتلته المخروطيّة،
ينطوي العالمُ الأزرق الكبير
٭  ٭  ٭
أشجار تقتلعها الريح، تبعثرها في الأرجاء
لتشكل في لحظة السكون القادم
ما يشبه الغابةَ المتماسكة أمام عوادي
البحر والريح
٭  ٭  ٭
بحر هادئ
قوارب صيادين وباعة متجولون
على رؤوسهم قبّعات.
طائرات ورقيّة
على متنها كهنة بوذيون بقمصانهم الصفر
عائدون إلى معابدهم
في رؤوس الجبال وأعماق الغابات
٭  ٭  ٭
أيتها الحقيقة الأسمى
أمامك تندحر الجيوش واللغات
ويقف الخيال مكسوراً
على باب عظمتك الصامتة
لكن ربما عبر شروق ابتسامة، أو ضحكةٍ
يتنسّم “المستنير” رائحة عشبٍ
من ضفافكِ السرمديّة.
٭  ٭  ٭
قارب هرِم مهشّم الأضلاع
يشبه صاحبَه المترنحَ السكران
مبحرًا في ليل البحر وخطر الحيتان
نحو الجزر التي شهدتْ
طفولةَ القارب والإنسان.
٭  ٭  ٭
راهب الزنّ  أمام الجدار
مجتازًا حُجُبًا وسموات
متحدًا بنور المطلق والفراغ
الرجل الغريب أمام الجدار
يحاول ترويضه
ذاك الذي بنتْه الأيادي الغليظة
ليكون سوراً على تفتح الوردة والروح
يحاول فتح كوّة
يتسلل منها نسيم القصيدة.
٭  ٭  ٭
أفتح الزجاج:
على الشرفة يحملني البحر إلى جُزره ورؤاه
كما حملني ثلج الجزائر ذات دهرٍ
محلِّقًا فوق جبال “جرجره”
منتشيّا بربيع المخيّلة والإشراق.
٭  ٭  ٭
على الشرفة إيّاها
ينبلج فجر من أحشائي
أرى جُزرًا وطيورًا تحلِّق في النعيم
ألمح الراعي يلتقي بثوره
بعد أن ضاع في ظلام الوجود
٭  ٭  ٭
مخطوف بجلالك أيها الموت
يا كمال الحكمة
وذروة الجنون.
أتعثّر بحبل القارب
أسقط على الأرض الرمليّة
تتهاوى بين عينيّ نجوم صغيرةٌ،
تغرب مجرّاتها في الرأس.
٭  ٭  ٭
وجوه أصدقائي الموتى
تظهر من خلال الموج
وسط الضباب البحريّ الكثيف
تظهر الأطياف والأحاديث
عن ماضٍ تصرّم ويوم موعود.
٭  ٭  ٭
أيها الشاعر القتيل
يا صديقي وأخي
أحاول أن أتبيّنك وسط مواكب هذه الأشباح
وسط جلَبَة اللهاث
ودفْق الدماء المُراقة
وسط عالم تَتَـكسّر نصالُه في القلوب والأفئدة
حيث لا ثغرة تنفذ إليها ولا مكان
وسط يباس الروح
أحاول أن أرمي حنانَ الزهرة
على قبرك الغريب.
٭  ٭  ٭
تتسلّل الحياةُ
من بين أصابعنا خلسةً
وحين نتلفّت نحوها
يكون الزمن قد ولى
والرأس خضّبه المشيب.
٭  ٭  ٭
صمت مطبق وظلام
لا عصفور يغني
ولا جدولاً يسيل
الجنازة تمر بهدوءٍ بين كثبان النخيل
وثمة غيوم كثيرة ومفاجآت
يخبئها الشتاء القادم
لزهور الكآبة والانتظار.
٭  ٭  ٭
الحديقة روح المكان
حديقة الصوفييّن والشعراء والرعيان
والمكان شظايا أجسام متطايرةٍ
التحمتْ لتشكل سطح هذا البركان.
البحر يخلع معطفه على الحديقة
غامرًا قلبها باللآلئ والحنان.
٭  ٭  ٭
يسقط المطر على الغابة المتمايلة بأشجار عالية
وأحلام كهنةٍ مستيقظين يرقبون الرعود النائحة
كأرامل ينتحبن طوال الليل..
ينتفض الجسدُ المُتْعب من سريره
ليحلّق مع سفن ترسل إشارات عابرةٍ
إلى اليابسة
ويمكنك في بهو شآبيب البرق أن ترى
الطيور تحلق فوق أشرعتها،
مترنّحةً من فرط النشوة والسفاد.
دليل البحارة في سفرهم نحو الأقاصي والبلاد.
٭  ٭  ٭
الصباح ينتشر على الأرض الخضراء
ديك يسقع على اللوح الخشبيّ العائم فوق الماء
القطيع يندفع نحو المرعى
قطيع الطاويّ النائم فوق سفح الزعفران
ملائكة الرحمة تنشر ظلها
على البشر والحيوانات.
٭  ٭  ٭
السكينة تأوي الى أعشاش الحديقة
الحارس الضجر يتجوّل في صمت
ريح عذْبة تحرك الذؤابات والأطراف
وفي البعيد زمجرة آلاتٍ
وصراخ أطفال.
٭  ٭  ٭
ألقتْ نظرتها الأخيرة على المقعد
وذهبتْ
مشيتها اليابانيّة
تجعلني، أفكر في مروحة الفراشات
التي تدفع المروجَ إلى التحليقِ
بأجنحةٍ من رأفةٍ وجمال
٭  ٭  ٭
في مثل هذا الوقت بالذات
حين تتقاطع السحُب مع شمس آب العابرة
يظهر السنجابُ
بذيله الطويل الأملس
وروحه الأهيف الرشيق
وحيداً، يتسلق شجر الحور الباسق
يطلق نداءً لا يسمعه أحد
جيئةً وذهابًا
بين الجذع والأغصان
باحثًا عن أنثاه
التي ربما فقدها إلى الأبد.
٭  ٭  ٭
الديك بعد قطْع العُنق، يظلّ يرفس
للحظات
حتى يدخل صمتَه الأبدي.
البعض يفضل توصيف الحدث، برقصة
الموت أو الحياة الأخيرة.
العجلُ يذهب إلى ما هو أبعد، فبُعَيد
جزِّ العنق، وتقطيع الأجزاء التي تظل
على انفرادٍ تتحرك وترفس للحظات..
تلك اللحظات المقتَطَعة من نهر
الأزمان الفلكيّة، تختزل عمر الكائن
البشريّ برمَته،
وربما تستطيل لتشمل مساحة الموت القادم
والمجهول.
٭  ٭  ٭
عادتْ زهرةُ الأوركيد، بعد مأتمها الطويل
لتغني مع عصافير الحديقة المنبلجة
مع الصباح.
بخور المعابد يعبق به الأفق
الريح الخفيفة تهز الأشجار،
مشتتةً أمطار البارحة المتجمِّعة في الغدران والغصون
لتسّاقط على الجذور
والفراشات التي تحمل الفصولَ بين أجنحتها
أيضًا تعود.
٭  ٭  ٭
في الأقاصي الآسيويّة المُتْرعة بالبساطة
والعواصف
البحر ينطح المدينة بهديره المتواصل،
ثمة طائر يولد كل صباح ليهذي باسمكِ
وسط أشجار النارجيل والسناء الأزرق،
تتجمع طيور كثيرة تهذي باسمك..
شدوها الجميل يطغى على أسراب الموج
المتدافع
كأنما ينذر بطوفان جديد
٭  ٭  ٭
أين أنتِ
أيتها اللحظة الممتلئة بذاتها
تحرقين الماضي والمستقبل
في جيشان نيرانك المشتعلة
أينكِ كي ألقي القبضة عليك
كما ألقيتها ذات يوم
على قرن الثور الهائج
في القرية النائية.
سيف الرحبي
٭ ثمة إحالات لمراجع “الطاويّة” “الزن” والمتنبي على وجه الخصوص.