خالد زغريت
تنفرد تجربة الشاعر سيف الرحبي الشعرية بتجذرها الحيوي في نسيج الوجود وانصهارها في عروقه ، لتوافرها على حساسية عالية تمنحها القدرة الهائلة على الرؤية الواضحة لفهم حركة العالم الى الهاوية ، مما يزيد في شحن روح الشاعر الوجودي المنتج وبالتالى انغماسه الكلي في معاينة واستقراء الظلال الفلسفية التي تظلل بنيته المعرفية والتي يتحرك بوحيها الى جهات التيه ، وبمقدار ما يثيره عصرنا من الاندهاش بفوضاه أو من الاسئلة الوجودية لهوية انسانه وحضارته وأحلامه ، بمقدار ما أسس لحالة إبداعية تستوعب روحه وتسائلها في طبيعة بنيته وسيرورته وصيرورته المغموز بهما ، لم يبهر التقدم الهائل للميكانيكية الحضارية الشاعر ويعوقه عن استبصار حلكة المصير الانساني وخريف الحلم ، بل زاد في تحريضه على تحديد موقفه شعرياً من هذا العالم المتحرك على الرمال بالتعاضد مع النتاج الفكري الفلسفي . وما سيل الطروحات الفكرية المستريبة إلا استجابة لهذا القلق والرد عليه لذلك بات الابداع مستغرقاً بالحفر في مصطلحات تعنون حالة المرحلة – من مثل ما بعد التاريخ ، ما بعد الحداثة – ما بعد النص – صدام الحضارات – صدام المعنى – حرب وحدانية السوق ) .
وبما ان الشاعر وليد هذه المدينة المضطرمة بهذه التناقضات وصعلوكها ونبيها في الان معاً فهو الاجدر على تحديد ملامح الموتى من ألوان ألازاهير على قبورهم . وفق هذا المنظور يتوجه الشاعر سيف الرحبي في ديوانه ( جبال ) بما يدخره من شعرية متقدمة على صعيدي فن القول والمقولة – إلى استقراء هوية مدينة نهاات القرن بصورة مذهلة بعمق رؤية الشاعر وتفرد ابداعه.
وفيما يلي سنقرأ بعض ملامح هذه الهوية عبر ديوانه جبال بتكثيف واختصار :
1- مدارات نهاية التاريخ  :
بداية نأمل ألا يكون تصرفنا بهذا المصطلح ، أي نهاية التاريخ / والذي تأسس بمقولات هيغل – يونغر – دومان ، كطريقة فلسفية حاورها لوتز نيتهامر واشتغل عليها – ألا يكون خلطاً أو تضليلاً إذ غام بعض الشيء في المصطلح فمزج في فكرة ما بعد التاريخ ، نهاية التاريخ توقف تاريخ البشرية ، واعتبار محطة ما هي النهاية ، وبين تحولات سيرورة الانسانية الى مسارٍ ارتدادية أو ذوبانية وما نريده  تحديداً من المصطلح السابق هو انتهاء سيرورة ما الى حالة خارج التاريخ أي بشر اللاتاريخ – انسان بلا تاريخ لانكساره وانحرافه عن امتداد تطوري يبقيه في مدار تاريخ الحضارة الانسانية ، وقد جسد سيف الرحبي هذا المعنى برؤيا واستيعاب شمولي لحالة العصر :
( رأيت المستكشفين يعلقون خرائط الجزيرة
على رؤوس الاشجار
وآلات عملاقة يحسبها السكان نذيراً بالقيامة
رأيت الارض تهتز كما لو كانت على كف عفريت
وجملا يبتلع صاحبه
كما تبتلع لا تنتهى صاحبه
كما تبتلع الصحراء العواصف
*    *     *
لكن الحافة لا تنتهى
ألا الى اعماق الهاوية )
*   *     *
عن صورة نهاية السيرورة للانسان بانقلاب الطريق عليه من أهم الصور التى تسبر ماهية السيرورة الحضارية ، فمنذ بدء التاريخ والانسان يحاول أن يعبر صحراء وجوده ، أما الان فإن سيرورته تنتهى بفجائعية إذ يبتلعه  جمله ولا ينتهى مصيره ألا إلى اعماق الهاوية وانعدام المعنى الوجودي وقد بات أشبه بالسراب ، فما جدوى الحضارة وهي تقذف بانسانها الى أرض الرماد والخراب فاذا ما انتهى (يونفر) بانسانه تاريخياً الى الغابة فإن سيف الرحبي ينتهى به الى جبال يتيه في شعابها ووعرها أبدية من السراب :
( جبال تتلوها جبال
هذه الأبدية من سراب الكائن
أي اسرار تخبئها
أي أخلاق ستقذفها ذات يوم
في وجه كوكبنا
وقد استحال الى خردة ورماد )
*   *    *
إننا نلتقط شعرية بارعة عند سيف الرحبي تدور في مدارات نهاية التاريخ ، والتى تتواصل عبره مع تاملات بنيامين في لوحة الملاك الجديد لبول كلي  :
( هدأت جوارحي في اتساع المكان
كانت الارض الضيقة
وكان نجيب الراحلين
فهشمت اعضائي بين مدن شتى
ورأيت الزلزال تحت قدمي
دوخة أرض ونشوة سماء
غدرانا تحتلها العصافير
وملائك ترتطم بسقف البسيطة
حتى يخاله الرائي طيوراً كسيحة
تنقر فضلات البشر )
*   *    *
نقرأ في لوحة الرحبي لملاك النهايات المزلزلة الذي يشبه الطيور الكسيحة وهي تنقر فضلات البشر … حالة فراغ وجودي مذهل اشبه بحالة ملاك بنيامين الذي يرى كارثة واحدة دائبة على مراكمة الركام …. يطيب للملاك أن يبقى ، ان يوقظ الموتى وأن يرمم ما تحطم
… لكن عاصفة تهب من الفردوس … تدحرجه بقوة الى قلب المستقبل الذي يدير له ظهره ، إن صورة ملاك الشاعر تحتاج الى تفصيل معمق لاستلهام مهاوي البشرية وخروجها عن مدار التاريخ ، لكننا اكتفينا بالمقارنة الهامشية والاشارات لنخلص الى مقولتنا في الفهم الجديد والمميز للشاعر لوصف حالة التهور الحضاري الى الفراغ وخروج الانسان  عن تاريخه الى مدارات خرائيبية أشرنا لبعضها وحسب كصورة من صور مدينة نهايات القرن وهي تراقص الالغام إنها بتعبير الشاعر :
أرملة العصور ( ام ) مستودع نفايات العالم ).
2 – أبو الهول على ابواب الشرق الحزين :
يصدر سيف الرحبي في تجربته الشعرية عن شمولية في الرؤية انطلاقاً من البيئة ، فالعالم ، فيرسم صورة مدينة نهايات القرن بتداخل بين الجزئي – المحلية والكلي – العالم . ومن اهم ميزات هذه المدينة عجزها عن الاستجابة لأسئلة مستقبلها ، وهي تعيش بدافع هذه الحالة صورة قصوى من القلق والخوف من وباء حضاري يفتك بالانسان كلياً . بهذا المنظور يقودنا الشاعر الى الانتماء على صورة أسطورية لاستقراء حالة مدينته المرسومة شعرياً بوحي تلك المدينة الاسطورية أي ( طيبة التى يحرسها أبو الهول متأبطاً لغزه المشهور ) .
ونستطيع استقراء رموز طفولة الانسان – بداية الحضارة – كهولة الانسان ، أوج الحضارة – شيخوخة الانسان – تقهقر الحضارة – هذه الاسئلة التى تفلسف جوهر الوجود ومعناه وهذه الاسئلة ذاتها أسئلة الرحبي لمدينة نهايات القرن التى يقف أبو الهول على أبوابها رامزاً للخوف الوجودي والقلق من الوباء القادم :
( لكن لا بأس بوجودنا ونحن نرقب العالم
من منظار جبال سحيقة
مكنسة الغيم / اقواس النصر / بومة الأرق
أوسمة الزعيم / عقاقير منع الحمل
مدن تحترق وأخرى تفتك بها الوليرا )
*  *   *
أبو الهول يتحول في الشرق الحزين عبر شعر الرحبي الى عسس في خلايا الانسان الشرقي لا حدود للأوبئة لا حدود للخوف ، لا حدود للتقهقر ، لا حدود للانزياح عن ايقاع الحضارة والارتخاء الى الفراغ ، حتى فقد الانسان هويته .. صورته … معناه :
( لم نعد نشبه هذا البحر
ولا هذه الارض
يبدو ان قروناً مرت بزواحفها
ونحن نيام )
*   *   *
يقف سيف الرحبي في قصائده فاغر القلب ، والفجيعة تصيح في دمه ، يسرد يأسه من تجوف انسان الشرق يعاتب طريق الاجداد لكن لا طريق غيره الا السراب ، فالخوف هو جدران بيوت هذه المدينة وسطوحها وشوارعها إنه مدينة الخوف … المساكنة للوباء …
3 – فاوست .. جسد المدينة :
تأسست مدينة نهايات القرن منذ إرهاصاتها الاولى على طموح انداح الى الية معادية مقيتة هدرت روح الانسان ، وكان قيامها أشبه برهان الشيطان على فاوست ، صحيح أنها كانت مبهرة في تطورها التقني لكن انبهارها بذاتها واستسلامها لهذا الانجاز المدهش أزاحها عن الاهتمام بمصير الانسان ، فكما أن الشيطان لم يربح الا جسد فاوست فإن هذه المدينة لم تربح الا جسد الحضارة .. شكلها غيبت الروح ..الانسان .. وازدهرت ببريق مزيف ، فجوفت الانسان وفتنته حتى بات فريستها الاولى – تتغذى على دمه :
( وفي الصباح نفسه
نذهب نحو المكاتب
نشد أحزمة المقاعد جيداً
ونصغي لانين الموتى تحت العربات
انبياء يملاؤون الفضاء باللعنة
وأيتها الصحراء … الصحراء
ماذا أبتغي من قلبك الذبيح
إنني لا ارى غير نعش يحمله بوذيون
وتعاويذ اقوام هلكوا )
*  *   *
ربما لم يسجل التاريخ حالة من الانحدار الحضاري والعبثية شبيهة بحالتنا المتناهية البشاعة والفجاعة وإسرافها في مسخ الانسان وتقزيمه وجعله دمية هلامية تتقاذفها شوارع مدينته بعشوائية تخريبية مدهشة :
( كل شيء قابل للبيع والشراء كل شيء قابل للاندثار
بسرعة وجوده وبسرعة لغط الالسنة
الكثيرة – وبكاء الامهات على ضحايا الطرق
التى تصرخ بنهم. هل من مزيد لهذا النهر من الدماء )
*   *   *
صحيح أنه زمن الأضواء والشموس التقنية لكنها شموس الموت التى تزيد جسد المدينة المعدني … الغابي جسد فاوست الجيفة المهزلة :
( شموس كثيرة في كل منعطف شمس متحفزة كذئبة
جائعة والخلائق تمضي بشماعة أملها الواهن ، وسط
لجج من اللافتات والحيل السينمائية )
*   *   *
4 – نوح في الطريق الى الربع الخالي:
يزداد إحساس الشاعر الرحبي عتمة وتوترا تجاه استغراق مدينة نهاية القرن في لعبة الموت التي تبتكرها ويستبصر إسقاطها لأية حيلة شعورية تجذبها إلى سفينة الوجود بجناحي حمامة نوح لانقاذها من الطوفان وهي القادمة والتي لا تقوى عليه لأنها صارت من ملح، بل تسعى حركة المدينة لتجسيد غرق نوح المحتم لأنه ضل توجهاته إلى الفراغ.. إلى الربع الخالي الذي يحمل مخيلة رمزية كبيرة للفراغ الإنساني المقبل..
ويدرك الرحبي ببصيرة مملوءة بالحس الوجودي أن الإنسان قاب قوسين من تدمير حلته الوجودية، يستصرخ (نوح) لكن الأنبياء لن يزورونا في ساعة متأخرة من كفرنا الوجودي، من إثمنا الحضاري. فالحضارة تجتذب الجميع بإغواء أشد مضامنة لآدم، إنها تغريه بتفاحة السراب، وتوجهه إلى التيه الأكبر بتعبير آخر:
الإنسان الذي انساق بكليته إلى إيقاع الحضارة المجنون أصبح معمى، أسقط من يده سبل إنقاذ ذاته:
(كل هذه الذرى
ولا أحد تركله رغبة الصعود
إلى جبل)
* * *
·        إن الرحبي يحاكم إنسان مدينته من خلال انزلاقه الأعمى إلى مهاويه التي صنعها في غفلة عن لمعة الروح:
(حيث الأفعى افاقت بعد نوم طويل
لتلتهم الجنة
وتلتهم احتمالات العودة).
* * *
لقد بنى الكائن العصري سفينة نوح بمزاجيته لذلك أدركته الظهيرة في الربع الخالي:
(هكذا يغدق الغيم على بنيه
وقد رحلت بعيدا في نزواتك
فادركتني الظهيرة في الربع الخالي)
* * *
إن الشاعر لا يقوى على ابتلاع فجيعته وهو يراقب تبرج المدن للسقوط في هاويتها الحضارية، أو يرى نوح على أبواب الربع الخالي نادباً الجودي وسنجار الوهم، وإن لم يكن الشاعر نبياً، لكن يرى المأساة واضحة ومباشرة بشكل مخز:
(من غير مواربة ولا دهاء
حروب واضحة
وقتلى في مجد الظهيرة
ينادونني باسمي
ان اخلع وردة رأسك
فأنت على أبواب الربع الخالي
* * *
ترى هل ينتهي دور الشاعر بالتبليغ، والتحذير، إن سيف الرحبي ينسج رؤيته قبل كل شيء بما يلزمها من الجماليات الفنية، فهي قصيدة أولا وأخيرا والقصيدة لديه انبثاق جدلي بين الأنا والآخر، وتتحدد دراميتها بمناغمة الذاتي والموضوعي لتمسرح طروحاتها، وفاعليتها تكمن بقدرتها على الجذب لمشاركتها تجربتها الجمالية المؤدية لرؤيتها، بيدا عن تجبير الشعرية للمقولات الأيديولوجية والتدخل في بنيتها الذاتية فانها تصفي مقولتها الشعرية لتقرأ بتأويل جمالي، يتداخل بشعور المتلقي، تغذيه، توجهه، على المساءلة وحسب…
وبهذا المنظور المتقدم يخلص الشاعر الرحبي قصيدته من الطرح التقليدي النمطي في القصيدة الحديثة التي تقوم بجميع الأدوار: المجرم والمحامي والقاضي حتى تنتهي إلى خطبة وعظ ، بهذا التخلص المتقن من نمط القصيدة يوجه الرحبي قصيدته ليرسم لنا ملامح هوية مدينة نهايات القرن والتي أتينا على بعضها.
وسنقرأ فيما يلي معاينة هذه القصيدة لكائن مدينة نهاية القرن وصداماته- صدام المعنى- تنتهي قصيدة نهاية القرن لدى الرحبي إلى استيعاب حالة كائن مدينة نهاية القرن، حيث يخلص الشعر في ذلك إلى جوهره العريق بحيوية مدهشة بما يوحي بأن القصيدة في شعر الرحبي تجل تشكيلي لمخزونها العميق مخلص في تكويناته لحساسية فريدة في تملي جدل العصر والاحساس بمنظورات آفاقه، فالقصيدة خلاصة أحلام وتاريخ إنسانها على المستويين الذاتي والموضوعي، إن قصيدة سيف الرحبي تزخر بحيوية استيعابها لحساسية العصر على وجه مميز على مستويي الرؤيا والرؤية. إنها صهيل الوجود القاعي على رصيف فجيعة الحضارة وتراجيديا الواقع اللذين خلصا الإنسان من معناه، وتركاه دمية تتحرك بوحي آليتهما… مما أفقده الثقة بصورته الوجودية:
(لم نعد تشبه هذا البحر
ولا هذه الأرض
يبدو أن قروناً مرت بزواحفها
ونحن نيام).
* * *
وهكذا تصبح قصيدة سيف الرحبي عتاب الكينونة للكائن.. أو هزء المعنى من صورته، لأن الكائن يعيش حالة يمكن اصطلاحاً وصفها الإنسان والعصر( صدام المعنى- فالعصر اكتسب بفضل آلية في منتهى التطور والتقنية، واصطدام الإنسان بما خلقه وأكسبه للعصر مما جعل الصراع يتفاقم باطراد تاريخي نادر، إذ أصبح الإنسان وكأنه يغذي الحضارة بدمه فتزدهر على جثته، هذا الصدام هيأ للشاعر مساحة لتزكية انتصار الانسان بالمعنى، فانهمك في الصراع إلى حد الامتلاء المأساوي والتعالي أحياناً لأنه مملوء حلميا بالعلو وليس له إلا الحنين:
(رؤوا سماء تنهار على ساكنيها
ورعوداً تمزق جلد الأبدية
حرقوا الأودية والاشجار بأقدام متعبة
وحنينهم دوما الى الأعالي
التي لن يصلوا إليها أبداً
* * *
إن قصيدة سيف الرحبي هي صورة هوّاته القصوى… لغة الإنسان الجوانية آن تتعانق بقلق مع جذوة أسئلتها وتتصالح مع الحلم وحسب، وهذا ما يجسده الكائن الشعري كتجل لهذه الصورة وفضاءات لها، هذا الكائن غالبا ما ينبلج بنزق من ركام الترتيبات العصرية للحياة رافضا بتطلعاته كل المعايير والقيم المتعفنة التي يتصدأ بها العالم، إنه منصهر بلا حدود مع وجوده الشعري كبديل للوجود الحياتي المصادر، يتعرى من تاريخه وسياقات حركيته المقننة، إنه الكائن الضد، يعمق الحس بما يعوم عليه العالم من بشاعة وجودية نادرة قائمة بتموه محكم وحجج ذات تكوين وليد العصر أي الحرب النفسية، إذن كيف يوازن الشاعر في صدامه مع هذا الواقع وهو فائض يبحر خارج الشطآن، واي رصيد له يجيّر له مستقبلا موائما لقصيدته: إن شاعراً في ظل حلكات الواقع ومحشوا حتى العظم بعتمة وجودية فاجرة، لابد له وأن يلغي معناه الأولى كإنسان ليخلص مباشرة لوجوده الشعري وينغمس فيه حتى آخر دمه لكيلا تلده الأرض من دموعها اليابسة صورة رهيبة لصحراء أبدية:
(جبال تتلوها جبال
هذه الأبدية من سراب الكائن
أي أسرار تخبئها
أي خلائق ستقذفها ذات يوم
في وجه كوكبنا
وقد استحال إلى خردة ورمادي
جنين حياة أخرى
وربما هباء الأجيال وأحلامها).
* * *
هذه الحالة التي يصدر عنها شعر سيف الرحبي في جوهرها صورة تشكيلية لكائن نهايات القرن، هذه المحطة التاريخية التي تشي دون مواربة بخصوصية إنسانها، هي ليست مرحلة ارهاصات او نتائج بل هي حالة نهايات، ولابد من الاشارة في هذا السياق إلا أن سيف الرحبي لا يسعى لأن يكون شعره مجموعة أصداء لفلسفات لها تأسيساتها النظرية كما هو السائد، بل هي كما أسلفنا تجل لحساسية الإنسان تجاه صدام العصر وجدله المهدم للديمومة، والاستمرار، بمعنى آخر: إن شعر الرحبي أرقى صورة فنية لعصر ارض اليباب بل نقول دون خشية لوم بإن فهمه العميق لحضارة الجثث متجاوز لما جسدت أرض إليوت، لأن الرحبي يدرك خرائبية الاستمرار الحيوي للإنسان والتماس فلسفتها في إرث الإنسان الذاتي والانفجاع بمرحلة ما، بل ينطلق في استلهامها من انفجاره من داخل تاريخه وانكساره المجابه، أي هناك مسار منقطع عميقاً من إرثه الانساني بدافع انبهاره السطحي بمنجزاتهن بمعنى آخر الإنجاز غير مطرد مع الوعي الإنساني وهذا الاندفاع كرس كارثة، حرق المراحل الحضارية بدافع نرجسي مادي، دفع التحضير إلى الانفلاش داخلياً، إنها آفاق سلطات الروح الغابية في مثلنا الضيق بحبه وتوغل الإنسان في فتنة الصراع ضد كل شيء إلا أنانيته:
(أفلاك تقود بعضها كعميان شرسين ومجرات غاضبة
على وشك الاقتتال لا شك ستحصل على إثارة أكبر من حروب كوكبنا التي اصبحت مضجرة….)
* * *
لقد قلنا فيما سبق إن قصيدة الشاعر لا تردد أصداء لفلسفات منجزة، لأن الشاعر مغاير في رؤيته، لذلك ترسم قصائده في ظلالها تأسيسات لفلسفة جدلية لكائن نهايات القرن دون أن يصادر ذلك من حيوية الشعرية وجماليتها الممتعة، فنحن أمام فن مستقصى من روح العصر يتخلص من الفائض المحكي والمباشر ليسلك مادته برشاقة أشبه بالزلزلة الداخلية، يولد جوهرها لتشع وتتكامل داخلياً، فتبني كيانها الشعري بإشعال الزوايا الممتعة في الروح، تضيء خرابها لا لتساكنه بل لتحكم بضوئه بأسمى مخبوء عميقاً في أقاصي الروح ومسكوت عنه لأنه ضد المعمول به حضارياً:
(في هذه البقاع القصية
هذه البقاع المهجورة حتى من عواء الذئب
أسرج ضوء الشمعة
وأسافر)
* * *
تتشكل القصيدة الحديثة في بنيتها العميقة كشكل جديد من أشكال الوعي، تتناغم بشفافية بين الذاتي والموضوعي لتشكل عبر توقيعاتها المتنامية عضوية النص بحس درامي يضيء شخصانية المكان. يحمله بحساسية خاصة تكشف عن علاقتها الجدلية بالكائن على مستويات عديدة ترصد بوحيها حركية العالم نحو الهاوية:
(لا نلوي على شيء
عدا كوننا موجودين في هذا المكان الذي سيسلمنا بعد
قليل إلى غابة أمكنة
لا تخوم لها
لكن لا بأس بوجودنا ونحن نرقب العالم
من منظار جبال سحيقة:
مكنسة القيم
أقواس النصر
بومة الأرق
أوسمة الزعيم
عقاقير منع الحمل
مدن تحترق وأخرى تفتك بها الكوليرا).
* * *
باختصار يجعل سيف الرحبي من قصيدته حاسة تستدرج المكان والكائن عبر جدليتها إلى نسيج الفجيعة القادمة فيه، فيحول القصيدة إلى صور متداخلة في سياقاتها لتتركز بالإجمال على بؤرة خاصة فيها أشبه بمشهد القيامة تكشف وتكاشف عبر مخيلة شعرية جميلة لحظة ما قبل القيامة متخذاً من زمن الحاضر وحضوره في المستقبل القريب مساحة لهذه المسرحية الكونية التراجيدية.
كتاب
أهرامات السراب/7/7/97م
خالد زغريت