بعد سنين، سنين طويلة، تعود الى مواطنك التي قذفت فيها صرختك الأولى كرسم دخول إلى هذا العالم الذي ما زلت للحظة موجودا فيه. تعود مغمض العينين على عاصفة ترفض الترويض، عاصفة من الأوهام والتفاصيل وصخب السنين التي خلفتها وراءك، تعود مثقلا بغنيمة الأفق وأصناف لا حصر لها من غنائم الخسارات.
كيف سيكون الهواء وهو يلفح جسدك لأول مرة؟
كيف سيكون الرأس وهو يغور في الماضي؟
كيف سيكون ذلك التصدع العذب وهو يخلخل كيانك بغموض الخطوة الأولى؟
الخطوة الأولى
في نظري هي الأكثر خطورة في تاريخ الإنسان.
إنها اللحظة التي تختزل كل شيء باتجاه اللاشيء.
تختزل الزمان والمكان والمستقبل وما بين الثلاثة من ثلوم وثغرات. تلك الخطوة التي تبدأ بنزف الولادة وتنتهي بزفرة الموت، وما بين هاتين الخطوتين من خطوات (مهمة أو غير مهمة) تشكل أرخبيل حياة، لا شك تنتهي بالنقصان والألم والحسرة، سواء بالنسبة لقائد كالإسكندر المقدوني، أو قائد عمال القمامة في آخر الليل.
هذه الخطوة هي التي قادتني أوائل السبعينات من هذا القرن (أصبح القرن الماضي) نحو الرحيل إلى أماكن كانت بالنسبة لي أنا القادم من الطرف الأقصى لشبه الجزيرة العربية كما تقول الجغرافيا، في تلك الفترة المبكرة، كانت مغمورة بإشراق فريد، كانت جنة الحلم الأول من فرط حضورها في مخيّلة طفل.
ما زلت أتذكر ألق تلك اللحظة التي أهم بالرحيل فيها.. كانت سيارة جيب تقف أمام بيتنا القديم الذي ظلت نجومه وأحلامه تلاحقني وتجلس القرفصاء كل ليلة أمام سريري المحمول على كتف ريح عمياء، وتغرز نظراتها كسمّار المجالس تحت السماء الأولى. وكانت أمي تقف على حافة بئر تلوح بيدها وأنا أصعد السيارة كأنما ذاهب الى كوكب آخر.
لم أعد أتذكر من الوجوه في تلك اللحظة عدا وجه أمي باكيا على الحافة ووجه أبي في المطار القديم ـ مطار بيت الفلج الذي أصبح أهم مركز تجاري في العاصمة، أبي الذي أصبح عمره الآن يقرب من عمر هذا القرن. كانت وجوه كثيرة لكني لا أتذكر غير هذين الوجهين.
في مسار هذه الخطوة الأولى نحو الرحيل إلى (العالي) أو البلاد البعيدة بمنطق خيال تلك الفترة أتذكر، نزلت بنا الطائرة كمحطة تغيير يستمر ثلاثة أيام، في إمارة دبي والتي كانت ما تزال طالعة مما اصطلح على تسميته بساحل عمان المتصالح. وبدت معالم المدينة النفطيّة تنهض في هذه الإمارة التي ستتحول لاحقا إلى مركز تجارة عالمي.
بعد ذلك واصلنا الرحلة الى بيروت مباشرة، بيروت التي كانت تسميّها صحافة السياحة، عروس الشرق.. كان الجو صيفا حين نزلنا بفندق وسط العاصمة، ومن فرط الحرارة بالنسبة للبنانيين والتي لم تكن كذلك بالنسبة لنا، كانوا يفتحون مكيفات الهواء بالفندق طوال الليل فنصاب ببرد شديد ولا نستطيع النوم.
كنت كل صباح أصعد الى سطح الفندق الذي تتبعثر في جنباته بقايا وليمة الليل برقصه وأشباح مجونه وأتطلع بعين حالمة ومذعورة الى هذه المدينة التي سمعت الكثير عن سحر الحياة بها، مستحضرا أسماء الذين قرأت لهم وأولئك الذين غادروا مدينة الثقافة العربية الى المنافي.
ليست عندي صورة واضحة عن بيروت تلك الفترة عدا وميض خاطف لمشهد جمال عابر، تختلط فيه الأشياء والحكايات والوجوه بمراياها المتعددة.
هذه الصورة ستتكون لاحقا عبر حضور ذهني متشعب.
بعد بيروت، اتجهنا نحو القاهرة، ونزلنا بادئ الأمر بفندق في العتبة، وفي الصباح حين فتحت الشبابيك شاهدت صخب ميدان العتبة يلتصق بعنان السماء. كل شيء يختلط بكل شيء، والألفة الحميمية والشتائم تجرف الجميع.
هذه القاهرة سأقضي فيها ثمانية أعوام، يمكن القول إنها من أجمل سنين العمر وأكثرها حضوراً وحنيناً وتأثيراً، قبل الأفول الماحق لسنين أخذت تهرب بسرعة البرق من بين أيدينا ونحن نرقب المشهد في ذهول منكسر، نرى الشرر والشظايا تتطاير في الفضاء ونعرف أنها أرواحنا.
أبناء جيل ومرحلة- كما يقول المصنفون- انفرط عقدهم قبل الأوان. بعدها سأتجه الى دمشق إثر عمل تمهيدي في دولة خليجية.
مواطن الخطوة الأولى لاشك ستقود إلى هاوية خطوات لا حصر لها، ستقود الى تيه الخطوة.
لقد قصفنا المسافة بأحلام الشعراء، والأكيد أنها قصفتنا، فمكمن الخطورة كلها في تلك الخطوة الأولى، هذا ليس بالتنظير، وماحاجتنا الى ذلك أمام هذه الحيوات المحتدمة بأباطرة عابرين، وإنما كلام الخطوة الأولى وهي تنغرز في عنق المضيق. وترى الصحراء محمولة على قرون الأكباش.
بعد سنين، سنين من البرد والمسافة والحنين، تعود إلى مواطنك الأولى، وتغمض عينيك على عاصفة ستقتلعك بعد قليل الى رحيل آخر. منازل تصطفق أبوابها، دائما في أعماق الريح، بجانب رأسي.
***
 
عام جنازة الزعيم. أو البدايات
إنه زمن الثورة والمشاريع والأحلام. زمن الحشود والجماعات التي لا يجد الفرد موطئ قَدَم إلاّ تحت رايتها واسمها وإطارها. زمن الالتحام بين الشارع والنظام محمولين على بهاء الحلم السعيد نفسه. الزمن المنعطف الذي تغلي كل عناصره وحيواته في مرجل الثورة الكبير، على امتداد الساحة العربيّة لتعيد وحدة الهويّة الممزّقة، وعلى مستوى العالَم بأكمله، حيث الأمم المضطهدة يُوَحدُها حلم العدالة والتحرر ضدّ عدو بالغ الوضوح ومطلق الشرّ؛ تغلّفها نفس الرموز والطقوس والأناشيد المحتشدة في الحناجر والساحات العامّة والأزقّة المظلمة في الأماكن السريّة، أوكار الحالمين التي يُطْبَخ في عَتَمَتها أمل المستقبل القادم الذي لا يطاله الشك في الجوهر والتفاصيل. الزمن الذي كانت فيه صور الزعماء الثوريين والشهداء ورموز التحرير من جمال عبد الناصر ولينين حتى لومومبا وهوشي منه وكاسترو وغسان كنفاني وجيفارا غزّة ذي العين المفقوءة في مصانع التعذيب، وجيفارا اللاتيني بسيجاره المتدلّي دائما كعلامة على القلق والتفكير، والذي كنّا نقلّده بشفط علب الكليوباترا، لأننا بالطبع لا نملك مثل ذلك السيجار الأنيق، الذي سيكون حَكْرَ البورجوازيّة الطفيليّة القادمة، والتي كانت تحبل بها الثورات والانقلابات على النمط القديم وأسوأ منه.. كانت صور الزعماء والرموز الكُثْر تحتلّ مسرح النجوميّة بالكامل بحيث يتراجع إلى مؤخّرة المسرح نجومُ السينما والفنّ الذين لم يكونوا إلاّ قلّة تحظى بتقدير العوام ومن لم ينعم بقيم الثورة، إلاّ من أتى منهم دوراً وطنيّاً مشرّفا يرفع عنه وصمة الفنّ الهابط في ذلك الزمان الذي لم يشهدْ بعد هذا الانفجار الهائل لتكنولوجيا الإعلام فيفرّخ ويكرّس هذا الكمّ المخيف من التفاهة والإنحطاط.
كان أهل الفنّ مغلوبا على أمرهم أمام تلك العلامات والطواطم الشامخة، وسط هتاف الجماهير الواقعيّة والمتخيّلة عبر الصراط المستقيم للخطاب الثوريّ الصاخب نحو إنجاز الوعد المستقبليّ. كان الركب برمته يهتف من حنجرة واحدة بذلك الاسم الغيبيّ الملغز والغامض في حقيقته البعيدة، لكنه الأكيد الواضح أيمّا وضوح، في ذلك الخطاب وفي مخيّلات النّاس وأحلامهم.
هل كانت تلك الفترة نوعا من هدنة مريحة منحها التاريخ لأبنائه البائسين في واقعهم، نوعا من منام في الخطاب واللغة، ليستيقظوا بعده على كابوس مرهق هو الحقيقة الداخلية التي تمور بها أحشاء الوقائع والتاريخ؟
* * *
أراني في هذا المنحى أبدأ من مشارف النهاية وتخومها وكأنني أمام شريط سينمائي من ذلك النوع الذي تظهر فيه كلمة (النهاية) على الشاشة في بداية سرده الفاجع. النهاية أو النهايات التي ربّما تشرّع نحو الولادات والانبعاث أو نحو الفناء والامّحاء. إنه ليس شريط ثورة يوليو وأحداثها الانقلابيّة الجسيمة فحسب، فلربما هو شريط التاريخ البشريّ وسيرته في السياق العام وسيرة الطبيعة وسنّتها. لكن الأحداث وولاداتها وتفجّراتها الأولى لابد أن تختلف من مكان وزمان ومن حدث إلى آخر. ومن هنا يأخذ تاريخ الجماعات والأفراد والآداب، تلك التمايزات والاختلافات التي تمنح الواقعة التاريخية والأدبيّة منطقها الخاصّ وذلك الألق في التفاصيل والخصائص، قِوَام كل أدب وكل تاريخ.
فما أريد قوله ليس مقالا فكريا وسياسيّاً حول ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وإنما هواجس لا تتعدّى الرؤية الشخصيّة البسيطة التي تتوسّل خيط رواية متاخمة على نحو طفوليّ (من الطفولة)، وطُلابيّ لذلك الحدث الجسيم في تاريخ الأمة. أنا القادم من الطرف الأقصى للذاكرة العربية بطفولة وأحلام بدئيّة غائمة تجاه الأدب والثورة وجمال عبد الناصر على وجه الخصوص.
كانت أول صورة شاهدتها لزعيم سياسيّ هي صورة جمال عبد الناصر المعلّقة على جدار غرفة شبه معتمة ببيت جارنا في القرية، فلم يكن الوالد يسمح باقتناء وتعليق الصور البشريّة وغيرها من ذوات الأرواح لأسباب عقائدية ومذهبيّة. كانت صورة الزعيم كما أراها في ذلك العمر الموغل في الزمن ملونة على نحو كثيف، مما جنح بخيالي إلى أن تكون صورته الواقعية هكذا بالتمام والكمال من غير التلوين الفني الطارئ على الأصل ذي البشرة السمراء الفاتحة التي قُدت هيئتها من سلالة فرسان غابرين.
كانت الصورة المعلّقة بجوار صورة البراق المجنحة، تمارس سحرها وجاذبيّتها من غير حدود على الصغار والكبار. وبغياب التلفزيون الذي يحدّد أبعاد الصورة ويقزّم دور الخيال، يمكن للصورة الفوتوغرافية المشتبكة مع دويّ الخطاب الإذاعي لِـ(صوت العرب) أن تبسط هيمنتها وبطشها على الوجدان والمخيّلة وتجعل هذه تشطّ في فضاء أسطوريّ من البطولات وتنتقم لحاضرها المكسور.
وكانت أول ذكرى لكلام في السياسة ولاسمٍ سياسي، خارج الحروب والبطولات في تاريخ بلدي (عُمان) هو التصاق نثار كلام لا قِوام له، لكنه بالغ الإشراق في ذاكرتي، هو إصغائي لأحاديث القوم إثر هزيمة حزيران 76 وسطوع اسم جمال عبد الناصر في وعيي المبكّر. كان أهل تلك القرية الثاوية بين جبال تشبه جبال القمر وطبيعته الموحشة يتحدّثون كَمَنْ لا يتحدّث عن هزيمة أو انكسار. كانت المسألة بالنسبة لهم معركة مؤقتة ارتكبت فيها بعض الأطراف خيانات مباغتة في حقّ الزعيم عبد الناصر الذي سيردّ الهزيمة بهزائم ساحقة للعدوّ وسينظّف الأرض العربية منهم. كانوا يتحدّثون كمن يتأهب للقتال في اليوم التالي في جيش لا أوّل له ولا آخِر، وكان جَيَشَانُ العاطفة الصادقة والبحث عن المثال البطوليّ المُفْتَقَد، يذهب بهم إلى اعتبار عبد الناصر ومصر الأقوى في العالَم الراهن، لكنها القوة الخفيّة التي لا تظهر دفعة واحدة، والمعركة مازالت في بدايتها.
كانت تلك الأجواء الحماسيّة التي تخلط الواقع بالخرافة، حتى لا يبقى من الأول إلاّ ظلّه البعيد. ولا أخال القرى والدساكر العربيّة وحتى المُدن، إذ يَضِيقُ الفرقُ بينها عربيّاً على صعيد الوعي- هي الأخرى إلا على هذا المنوال وعلى شاكلته.
بعد ثلاثة أعوام على هذا المشهد المحتدم بالظلام والمتناقضات، قدمتُ إلى القاهرة التي غذّت أسطورتها في خيالي، أحلام يقظة ومنام لم يهدأ أَوَارُهَا إلاّ بهذا المجيء المبكر بالنسبة لي، لهدف واضح هو الدراسة، وهاجس خبيء هو الفضول والمعرفة. ولا أتصوّر أنّ هناك لَبْساً في التعارض بين المدرسة العربيّة والمعرفة.
كان العام الذي رحل فيه الزّعيم عن عالمنا، ليبقى ظل أسطورته يحتلّ الأفئدة من مكانه الآخر ويمارس سطوته. كانت القاهرة التي قدمتُ إليها ما زالت مفْعَمة بحضور غيابه الكبير وصورته.
كانت الجنازة التي حملتها الحشود على القلوب والأكتاف تطبع مصر والأرض العربيّة بطابع هذا الرحيل المفاجئ، الذي خلق الحيرة والشكّ في استمرار نهجه ومراميه. فثمة في الأفق القاتم لهذا الرحيل ما ينبئ بعكس ذلك. ثمة علامات شؤم تتناقلها الألسن والصحف والمنتديات.
كنتُ، وأنا أعبر ميدان التحرير، دائما أستعيد مشهد الجنازة الأسطوري. وأسطوريّة هذا المشهد الجنائزيّ ليس من باب الترميز والاستعارة بقدر ما هو تسجيليّ في واقعيّته. فالجماهير العربيّة من المحيط إلى الخليج، كانت تحمل النعش بقلوب مكلومة ودموع حرّى، وكأنما تحمل الأمل الأخير الذي احتضنته بعواطفها بعد طول شقاء وغياب. وطريق التحرير- منشيّة البكري حيث ينام الزعيم ليست إلاّ تلخيصاً مكثّفاً لما تموج وتحتدم به أرض العرب بأرجائها الفسيحة الثكلى بهذا الاختفاء الصاعق. كما كان جمال عبد الناصر، الرمز المكثف الذي انطوى في شخصيته الكاريزميّة، العالَم الأكبر، بالنسبة لها، الثورة والكبرياء، ونهضة العرب الحديثة على نمط الأبطال التراجيديين الذين شكّلوا مفاصل التاريخ الجديد لشعوبهم والعالم. لكن عبد الناصر كان بطلاً مأساويّاً أكثر مرارة وغصّة من أبطال المآسي الإغريقيّة وغيرها. فلم يَعُد المقاتل إلى داره بعد سلسلة المآسي والاقتلاعات، ولم يتحقّق شيءٌ على الأرض إلاّ قليله الذي تَلاشَى بسرعة أو كاد في خضمّ العواصف التي حطّمت السفن والأحلام قبل أن تبحر نحو البعيد.
* * *
إذا كان وعيُ الجماهير العربية المندفعة والفطريّة على ذلك النحو البريء الذي ظلّ وراء الزعيم والأحلام حتى في الهزائم والنكبات، من غير مساءلة ولا حتى مجرّد الشك في طبيعة المسيرة التاريخية ونتائجها، التي يَتَنَكبُها خطاب الزعيم بمظاهره المختلفة. أي ظلّ ذلك الوعي بمستواه الخرافي من غير أن تعكّر صفوَه شائبةٌ، فإن وعي النخبة السياسيّة والثقافيّة والطلاّبيّة، أصابَه الكثيرُ من الشوائب والتصدّعات، باستثناء ما دُعِي بالخطّ الناصري، وحتى هذا الخطّ لم يقتفِ حرفية الخطاب السابق. صار منفتحاً على آفاق ومتغيّرات أخرى، وهو الانفتاح الذي بدأه عبد الناصر بالكثير من الحنكة والحسّ السياسيّ الرفيع. الهزيمة الحزيرانيّة كانت الصدمة التي مزّقت تماسك ذلك النصّ القومي وفككت أوصاله باتجاه تبنّي مسارات سياسيّة وفكريّة أخرى، في طليعتها الماركسيّة على غير النهج التقليدي للأحزاب الشيوعية، وكذلك تيار الإخوان المسلمين. هذان التياران اللذان حَاوَلاَ تقاسم ميراث العواطف الناصريّة واستقطابها بشكل متوازٍ ومتقاطع يصل حدّ الصدام والتصفية أحياناً وهو الأمر الذي استثمره الرئيس أنور السادات لِصالح استمرار تفرّد نهجه السياسيّ في السلطة.
كان مطلع السبعينيات، ومنذ عام جنازة الزعيم يموج بالتنظيمات والرؤى ذات المنحى الماركسيّ اللينينيّ في الحركات الطلابيّة العربيّة، ولا نغفل طبعاً، التروتسكيّين والماويّين، وهو النهج الذي تبنّتْهُ قيادة اليَمَن الجنوبية وامتداداتها السياسيّة آنذاك قبل أن تنتقل إلى ثكنات اليسار الكبرى في الاتحاد السوفييتي. التيار الماويّ، وكتب (ماو تسي تونغ) ذات الأغلفة الحمراء والموجهَة أصلاً إلى الفلاّحين والشغيلة في الصين، كانت هي الغالبة، خاصّة للطلبة المبتدئين من الخليج والجزيرة العربية قبل الانتقال إلى كتب ذات طابع سجاليّ فلسفيّ بالمعنى التبسيطيّ الذي سوّقه قادَةُ الأحزاب الشيوعيّة، للفلسفة الماديّة التي ستقود البروليتاريا إلى انتصارها الحتمي مثل كتاب (الماديّة الجدليّة والماديّة التاريخيّة) و(الأدب والمجتمع الطبقي).
كانت تلك الكتيبات ذات الطابع التوجيهيّ في التلقين والحفظ، هي التي تهيمن على الحلقات والجلسات. ومن هديها يستمدّ الطلبة ضوء النظَر والسلوك في تحليل أوضاع بلدانهم الاجتماعية والثقافيّة. رغم أنها كُتِبَت حول أوضاع تفصلنا عنها فوارق فلكيّة في التركيبات الاجتماعية والاقتصادية. حتى لتبدو المسألة المطروحة في ضوئها محض دعابة لا مرجعيّة تحليل جديّ ورغبة تغيير، مثلها مثل تطور اليمن الجنوبي وكوبا وتقدمهما على سويسرا وفرنسا وفق معايير التمرحل الماركسي للتاريخ. لكنه الإيمان الطفوليّ لليسار الباحث عن مُثُل وشخصيّاتٍ وأفكار تحتذى وتقلّد أطرف تقليد وأقصاه.. في تلك الأجواء المصحوبة بمراهقة جنسيّة صحراويّة كاسرة، لكنها مكبوتة تحت سقف السياسة وهوامّها. (الزّميلات)، مثلاً، يجب عدم إقامة أيّ اتصال جسديّ معهنّ، أو حتى غزل يخرج عن المبادئ الفكرية الثائرة، على جاري طهرانيّة ثوريّة تعويضيّة في حركات اليسار الجديد. طهرانيّة لم تختبر الحياة والأفكار بعد.
رغم هيمنة المناخ الماركسيّ ذي المنشأ القومي، لا أذكر، أنه كان هناك من يجرؤ على التعرّض بسوء إلى الزّعيم الراحل، أو التشكيك في نزاهته. كان النقد يتناول دائما مجمل عناصر ثورة يوليو وبنياتها العسكريّة التي لا تؤهلها للقيام بأهداف الثورة الجذريّة، التي لابدّ أن تتحقّق في أفق الوعي الماركسيّ وأحضان رؤياه الشاملة والكليّة للمجتمع والتاريخ والأدب وطريقة الأكل والحلاقة.
(هناك حكاية تُرْوَى عن كيفية ترتيب “لينين” ذقنه وشاربيه في الصباح)
هذه الرؤية النقدية ذات النّزوع الماركسيّ الهلاميّ بمختلف تفرّعاته، هي بداهةً سليلةُ الرؤى والمواقف السوفييتيّة منذ بداية حركة الضباط الأحرار وانعكاساتها على الحركة الشيوعيّة، العربيّة منها والمصريّة. رغم أن حركة (حدتو) التي كانت تملك وجوداً في المجتمع العسكريّ والمدنيّ والتي تعاونت بشكل عميق مع حركة الضباط وجمال عبد الناصر، تعرّضت لانتقادات من قبل السوفييت وتجلياتهم الماركسيّة في العالَم العربيّ.
في هذا السياق يستتبّ سؤال الخيار الأيديولوجي والفكريّ الذي تبنّته حركة يوليو كنهج عملٍ ضمن الاتجاهات المتلاطمة في تلك المرحلة. هناك آخرون، دول وحركات، حسموا هذا الخيار باتجاه الاشتراكية العلمية، ومثيلتها القومية والرأسمالية وما يشبهها. إلخ. لكن إشكاليات التخلّف والتقهقر الحضاريّ ظلت عميقة في بنيات الحياة والمجتمع!!
جمال عبد الناصر وبعض زملائه خبروا في مطلع شبابهم وأحلامهم أكثر من خيار واتجاه، من حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، والدخول في إطارها التنظيميّ لفترة قصيرة دفعت بعبد الناصر إلى التوجّس والريبة حتى القطع النهائيّ، حين اكتشف بحدسه العميق أن هذه الحركة تعمل على تحويلهم إلى أدوات لأهدافها في الاستيلاء على السلطة. حتى الحركة الشيوعيّة (حدتو) كما سبق، حركة التحرير الاشتراكيّة التي أعجب بها عبدالناصر وخالد محيي الدين وآخرون، كاتجاه فكري تحرّري، وأعجب بسكرتيرها العام (الرفيق بدر) تلك الشخصيّة الغامضة والمدهشة، حسب وصف محيي الدين لها. لكن هذا الإعجاب لم يبرح أن يتحوّل إلى نوع من الاحتقار حين عرف عبد الناصر، أنه عامل ميكانيكي (لم يكن يدرك أن المستقبل للميكانيكيين). لكن إعجابه بفؤاد كامل بقي وبقيت أواصره مع الحركة أواصر جذر ومصير حتى انتصار الثورة والانقضاض على رفاق الأمس والتنكيل بهم في السجون التي ورثتها الثورة من العهد السابق. وهي عادة أصبحت نمطيّة من فرط تكرارها في تاريخ ثورات العالَم بأكمله. حيث تندفع رغبة الجناح الواحد أو الفرد الواحد في الاستحواذ على السلطة الكليّة، ليس باتجاه افتراس حلفاء الأمس واستئصال شأفتهم، وإنما تجاه أبناء الحركة أو الثورة نفسها باسم الاتجاه الصحيح وتصويب الانحراف في المعسكر الذي أصبح خصماً، لا عدالة من غير فضحه وتدميره تدميراً لا هوادة فيه، مثله مثل العدوّ والعميل. وفي تاريخ هذه الحركات والانقلابات يتفوّق تمزيق الرفاق لبعضهم، تدمير العدوّ الذي من أجل دحره قامت الثورة والحركة.
هذه الإشارات إلى وقائع حول الخيارات الأيديولوجية والفكرية وتماسّها العميق مع حركة الضبّاط الأحرار والثورة والنظام الذي قذف بتهمة العسكرتاريا ولم يأتِ من الشارع والزقاق والقاعدة العريضة للجماهير، تحاول طرح السؤال الذي كان مطروحاً كاتهام من قبل أوساط يساريّة ويمينيّة، إن صحّت هذه الثنائيّة في الحالة العربيّة، كون هذه الثورة أهملت هويّة الفكر الواحدة وتبنّتْ خليط أفكار من الشرق والغرب وأهملت الحسم النهائيّ الذي يكمن فيه الحلّ السحريّ الناجع لوجهة الطريق والمسيرة! وفق ما هو متداول في تلك الفترة.
لكن سؤال الشكّ نفسه حول جدوى مثل هذه الهويّة شبه اللاهوتيّة، وهل ستكون كفيلة بإنجاز “المشروع” الحضاري الشامل، أم أنّ هذا المشروع المحلوم به يقع في مكان آخر عصيّاً وبالِغ التعقيد، عبر قراءة وتتبّع خطى الأحداث والوقائع والثورات في التاريخ البشريّ، ماضيه وحاضره. هذا الحاضر الذي بيّن بقسوة ما آلَت إليه تلك الخيارات المُتَبَناة بمختلف مَشَارِبِها ومصادرها وأهوائها، من قبل دول بعينها، في مَا دُعِيَ بالعالَم الثالث من حروب أهليّة وفقر وقمع لا حدود لسقفها المتطاول والساحق لحياة البشر والطبيعة.
في سياق الطبيعة العسكريّة لثورة يوليو والنظام الناصريّ يمكن التساؤل حول طرح هذه الطبيعة أو الصفة على إطلاقها مثل حركات وانقلابات عربية وعالَم ثالثية كانت تجتاح تلك المرحلة، حيث لا يتصِف أصحابها بأي تكوين وامتداد مدنيّ في المجتمع. ولا شأن لهم إلاّ بالجنديّة والرتب والقيم العسكرية التي تربّت وشبّت عليها تلك الجيوش التي من مهام وجودها قمعُ المجتمع المدنيّ وبوادر نشوء تشكيلاته؟، فقد تشكّلت خارطة وعي قادة يوليو الأساسيين، في حضن المجتمع المدنيّ والعسكريّ على السواء، إذ انضمّ معظمهم إلى أحزاب وهيئات مدنيّة لمدة تطول وتقصر وتلقّى تكويناً مدنيّاً مرموقاً.
إنها ليست عسكريّة بالمعنى النموذجيّ. وحصر عسكريّتها على هذا النحو ربما كان متعجّلاً وأدّى إلى تصوّرات ساهمت في تأجيج الخلاف والصدام مع الفئات المشاركة الأخرى.
هل كان الخلل في مكان آخَر غير الطبيعة العسكريّة المزعومة التي لا يمكن أن تُواكِب وتنجز “مشروع” التحوّلات الكبرى في التاريخ الذي يُمارِس مَكرَه ومراوغته أحياناً بعيداً عن إرادات البشر وأحلامهم؟
الثورات الشعبية التي لم تأتِ من ثكنات العسكر لم تَلْقَ مصيراً أفضل، والسنوات الأخيرة من القرن الفائت قدمت الدليل الدامغ بعد الآخَر في جهات وجغرافيات مختلفة، على الإجهاض والفشل الذريع والارتطام بالأفق المسدود!
* * *
ظل الزعيم حاضراً، وصورته الشخصيّة المشعّة بالألوان والنظرة المتفحّصة في تلك الغرفة شبه المعتمة، لم تَغِب ولمْ تَتَوَارَ، لكنّ خطابه السياسيّ والفكريّ أو معظمه بدأ في التواري والغياب، وإن بقيت ثوابت معيّنة حول أحلام العدالة والتحرير والاشتراكية متقاطعة مع تيارات واتجاهات مختلفة ضمن تصورات لم يعد الخطاب الناصريّ مرجعيّتها. تَوَارَى ذلك الخطاب الذي اجتهد فيه الزّعيم مع رفاقه ومن ثم مع مثقفين مصريين بارزين من أدبيات وتنظيمات الحركات الطلابيّة مصريّاً وعربياً. وباستثناء الشريحة الناصريّة وبداية تلاشي هذا الخطاب في المؤسسات الرسمية التي لم تنتظر طويلاً كي تُغير الدفّة والشراع نحو أفق آخَر، وصل ذروته في نحر الثورة لنفسها فيما عرف بالحركة التصحيحيّة 37 عبر الرئيس أنور السادات والتي وصَفَها أعداؤها بالثورة المضادّة التي جاءت لتستأصل كل ما بشّرتْ به وأنجزَتْهُ ثورة يوليو وعبد الناصر، طوّحت بكلّ تلك العناصر والتطلعات والوجوه إلى عالَم خارج الفعل والمشاركة في الحياة السياسيّة والمدنيّة والصحفيّة التي كانت مركزها ومدارها على مرّ السنوات الفائتة.
بدأت صور الزعيم المعلقة على الجدران والمؤسسات والأماكن العامة تتقلص تدريجيّا حتى أوشكت على الاختفاء، لكن ليس من قلوب الناس ومشاعرهم التي بقيت خبيئة ومطمورة في لهاث المعيش القاسي.
هل لو عاش عبدالناصر وكانت له فرصة البقاء حتى المرحلة الراهنة، هل كانت صورته ستبقى على هذا النحو المثالي الحالم؟ أم أن صيرورة التاريخ والأحداث أكثر عناداً وعلى نقيض رغبات الأحلام والأفراد والجماعات؟
أمّا أدبيات اليسار ونشاطات أوساطه الطلابيّة والسياسيّة، فقد بدأت بنبرة هذا التغيّر والتحوّل بعد الكارثة الحزيرانيّة وأخذت مداها لاَحِقاً مع نزوعها الماركسيّ الذي ارتأت فيه الطريق الأمثل لمواجهة تراكم النكبات والانكسارات، وهو الطريق نفسه ـ بجانب طرق أخرى أبرزها تيار الإخوان المسلمين ـ الذي طالبت بعض الأحزاب والمثقفين في مصر والعالَم العربيّ، عبد الناصر ويوليو في حسم الخيار الأيديولوجي وعدم التردّي في مهاوي اللاخيار الذي سيفضي إلى الفشل والإجهاض في نظرهم. وفي هذا السياق، وبحكم طبيعتهم الفكريّة، لم يطالِبوا بتوسيع الأطر المدنيّة والديموقراطية، والتي أخذ تعاظم الأجهزة وهيمنتها على كل أوجه الحياة في إلغائها وسط الالتفاف الشعبيّ الواسع منقطع النظير حول عبد الناصر، الذي تستمدّ منه تلك الأجهزة شرعيتها وسلطتها، حتى في الأشياء الكثيرة التي لا يمكن أن يُقِرها بسبب وعيه العميق بالتاريخ وطبيعته الإنسانيّة. لم يطالبوا بتعميق التعددية التي هي من مكاسب الحركة السياسيّة والثقافيّة قبل يوليو وتعميقها. فلم تكن المسألة الديموقراطيّة مطروحة بشكل أساسيّ في البناء المجتمعيّ والمؤسّسيّ، عدا الديموقراطية المركزيّة أو بمفهومها الاشتراكيّ ذي الطابع التجريديّ المحض. ربما طَالَبَ بها مثقفون ليبراليون، لكنهم غير مؤثّرين بحكم تهميشهم وغربتهم في ذلك المناخ الذي كانت تطغى عليه الحشود والمواجهات الواقعيّة والمتوهّمة في الداخل والخارج. ففي مثل تلك الظروف الحالكة ليس من الأولوية طرح مسائل كالديموقراطية والتعدّدية في العالَم الثالث كَصَدى لتجارب الحكم في المعسكر الاشتراكيّ والاتحاد السوفييتي، فهذا الطرح لا يعني سوى تسلل الأعداء واستغلالهم للمناخ الديموقراطي لضرب المنجزات وتحطيم المستقبل القادم من غير شكّ، وضرب وحدة المجتمع المتماسك. ومن فرط مكر التاريخ ودهاء القَدَر أن هذه المسألة ومخاوفها وسياجاتها وأسوارها في اللبّ والصميم، هي التي حطّمت أعظم امبراطورية حديدية في العصور الحديثة. وربما ستحطم الأخرى التي تلتقي معها في العنفوان التوتاليتاري الخفيّ والمعلن، وإنْ عَبْر مسالك مختلفة.
بداهةً لم تكن الحركات الطلاّبيّة، التي كنا نعيش في غمار أفكارها واستيهاماتها، والتي تطرح نفسها عبر الطابع النقابيّ هروباً من التهَم السياسيّة المباشرة. وهي حركات من معظم البلدان العربية التي تتوزّعها والتي كانت القاهرة مركزها حتى انقلاب الأوضاع السياسيّة ورحيل المركز وتوزّعه بين بيروت والشام وبغداد. لم تكن إلاّ أسيرة هذا الجهاز الأيديولوجي ومفرداته وأوهامه حول الطابع الجذريّ للمفاهيم الثوريّة ورؤيا التقدّم والتغيير. والتي لم يكن عبد الناصر ويوليو إلاّ إجراء مرحلياً (لأنه لم يكن ثورة شعبية) للوصول إلى جنّة النظريّة التي تَتَعَالَى شآبيب الإيمان من سمائها الصافية. عكس ما كنّا نُردّده حول رماديّة النظرية واخضرار الحياة (ماركس) التي استعارها من (غوته) الذي لم نكن نعرفه في تلك الفترة. عكس «نيتشه« الذي كانت معرفتنا به عبر كتاب «الماديّة«، كممهد للنازيّة والملهم الفكري والنظري في إرادة القوة بالمعنى السطحي والعضلي، لأدولف هتلر!
كانت الحياة والوقائع على الأرض هما الغائبان الأكبران. وكنا نغرق في مياه التجريد وخدر القراءات المبسّطة.
في الضياء الذي بدأ في التلاشي، وحين تنفضّ حلقة النقاش حول موضوع ما من تلك المواضيع المطروحة والتي تمتدّ وتتشعّب من «نظرية البؤرة« حتى المرأة في أنجولا وجزر القمر وجبال ظفار والبحرين ويوّلي الزملاء الأكتاف مغمورين بغسق الغياب، كنت أفكر في عزلة كل منا وفي الظروف التي ستفضي إلى شتات الشمل وأراها قادمة من غير رحمة. وفي الواقع أو كثير منه لم تكن تلك الحركات تمارس فروقاً جوهريّة، عكس ادّعائها عن ممارسة الأجهزة والحركات الناصريّة، عدا ادّعاء الارتباط المصيريّ الملتبس بالنشيد الأممي والاتحاد السوفييتي وفلكه المهيمن، وهو ارتباط آليّ في تبعيّته النظريّة خاصّة بعد أن تحول الماويّون إلى الفلك نفسه. وهو ادعاء لم تُقِرهُ يوليو وعبد الناصر الذي كان يطمح إلى التعامل من مواقعه العربية الخاصة التي أعاد لُحمتها بعد قرون من التشظي والضياع. وحول خلاف شكليّ عن أولويّة المسألة القومية والصراع الطبقي.
تَوَارَى خطاب الزعيم من تلك الأدبيات الطلابيّة في الاسم والتفاصيل لتحل الأقنعة الماركسيّة. هذا الخطاب نفسه الذي لم يسعفه الزمن والقلاقل لبلوغ طور التحقق والنضوج في الواقع والنظريّة، وكان مشدوداً إلى ما هو على خلاف معه في الخطاب الاشتراكيّ العلميّ السائد على إيقاع الأحداث العاصفة ووتيرتها، وفق نماذجه المتحقّقة والمطموح إليها على مستوى العالَم. وكان مشدوداً إلى مرجعيّات هي بالضرورة ذات طبيعة غربية في جانب الانبعاث القوميّ لخطاب التنوير الأوروبيّ. وهي سِمَةٌ تَتَقَاسَمُهَا الأحزاب القومية والبعثيّة.
هل هي أُصُوليّة الخطاب اليساريّ وأوهامه، وإن تعددَتْ الأقنعة والتفاصيل التي تسوق قطيعها الحالم وسط كثافة دخان السجائر والزجاجات الفارغة ولغط الزملاء والرفاق والأماني، التي ربما يكمن جمال لحظاتها الغاربة في عدم تحققها؟
* * *
هل هي أصولية الخطاب العربيّ اليمينيّ واليساريّ على أرجاء مختلفة ومتناقضة؟ وهي الأصولية التي تحاول أدلجة وتعليب كلّ شيء تَطَالُهُ براثِنُهَا، حياةً وفكراً وأدباً. وكل ما لا يتّفق مع تصورها رؤيةً وسلوكاً، فهو بالضرورة محرومٌ من نعمة الحقيقة ورضا الشهادة، محكومٌ عليه بالمنفى والعزلة و”النخبوية” المذمومة ذات الأبراج العاجية البعيدة عن الجماهير والشارع والأوحال والهموم. فحين تذهب الكتابة إلى طَرْقِ إشكاليّات ذات طبيعة معرفية صعبة خارج المتداول والمكرّر للطرح والسّجال، تُوصَمُ بالتفلسف المجّاني المتبرجز. وحين يذهب الشعر والأدب إلى محاولة ارتياد مناطق مفتوحة على الاحتمالات الجماليّة والتجريب واللعب الحرّ للمخيّلة، يُوصَف بالنأي عن “الأدب الهادف” وبأنه أدب مترف وعديم الفائدة.
هكذا كانت ثيمة المواجهات بيننا، نحن من نحاول أدباً وفناً والزملاء الذين لا يرون فيه إلاّ انعكاساً مبسّطاً للتصور السياسيّ وامتداداً له.
إنها الصفات التقليديّة التي يبثّها أي جهاز أيديولوجيّ عبر التاريخ. تتنوّع الأوصاف والتخريجات، لكنها جوهرياً تظلّ مشدودةً إلى طبيعة واحدة، إلغاء القيم الجماليّة والروحيّة، إن لم تكن مطيّة تجرّ أسمالَها وراء الدعاية والتحريض دولاً وجماعات معارضة.
تتعارض تلك الجماعات وتصل حدّ التحارُب والإفناء المتبادَل، لكن النظرة تجاه الأدب والثقافة بما فيها الثقافة الدينيّة نفسها، هكذا لا تختلف نظرة الأجهزة المتقاتلة من (غوبلز) حتى (غدانوف) و(مكارثي) ومن حسن البنّا حتى شعراوي جمعة وخالد بكداش، من قمة الهرم حتى أسفله وأدناه، يُخْتَزَل جوهر الكائن وماهياته الكيانية والروحيّة العميقة فنّا وديناً وثقافةً إلى بعد دعائي من أبعاد السلطة القائمة أو تلك التي يطمح إليها المعارضون. إنها (أي السلطة) ضالّة الجميع وهدف الفرقاء والمتحاربين بكل الوسائل القذرة لهذه الغاية القصوى والنهائيّة، حتى لو تحوّل المجتمع إلى حطام وجثة هامدة.
الحركات الطلابيّة كانت أكثر تشدداً يصل حدّ الانضباط العسكريّ بحكم قصور التجربة والوعي، من مرجعياتها الحزبية والسياسيّة تجاه المحاولات الأدبيّة والفنيّة لعناصر من الأوساط نفسها، وأكثر تطرّفاً في الفرز والإقصاء. مثالها الأدبيّ والفنّي كان لا يتجاوز عربيّاً، أحمد فؤاد نجم ومظفر النوّاب والشيخ إمام ومحمود درويش في قصائده الأولى وشعر المقاومة وكرامة مرسال ومن ثمّ مارسيل خليفة وفيروز بصورة تحمل على التأويل القَسْريّ واستخلاص الدلالات الثورية من أغانيها! ومن على شاكلة هذا المثال ونمطه “الثوريّ” عربيّاً وعالمياً، والذي يختلط في حومته الحابل بالنابل والحقيقي والزّائف السطحيّ وهو الأغلب. ولا يجب الخروج على هذه المعايير والفروض “البروكستية” فهي إِرْث الشعوب ومستقبلها.
جيل الفنّانين من السيدة أم كلثوم حتى عبد الحليم وعبد الوهّاب. إلخ، لا مكان لهم في أوساطنا، إلاّ من جرفه الحنين والعاطفة. فصار يسمعهم سِرّاً وسرقة. وإدانة السيدة أم كلثوم كونها سبباً من أسباب الكارثة الحزيرانيّة، يجري مجرى التندّر والطرافة، لكنه في الواقع عين ومؤشّر من مؤشرات مستوى الوعي النافذ في تلك الفترة وما زال يسري في أوصالٍ كثيرة. ويذهب الشطط برفض هؤلاء المطربين حتّى في أغانيهم الوطنيّة الثائرة. فهم لم يُعَّمدوا بعماد “النظرية” الحقّة، وبانتظار ذلك، فلا أحد يسمعهم حتّى ماتوا من غير أن يتراءى لهم سطوع الحقيقة.
* * *
من الفطرة والخرافة و”وعي” البراءة الأولى لأهالي القرية حتّى الوسط الطلاّبي ذي البراءة المختلفة المُدعية والمتعالِمَة. ومنه إلى بدايات الوسط الثقافي الذي شهد إرهاصاته في الوسط الطلاّبي. في القاهرة المزدانة دائماً بأهلها ونيلها ومقابر عصورها المختلفة والمزدانة بالأصدقاء والطفولات والذكريات التي لا تمحي، يمضي خبط مسار الوعي المتقلّب في وضوحه وعَتَمَتِه. من الفطرة والتبسيط حتى الوعي الأدبيّ النازع نحو المخيّلة وشيء من التركيب والتعقيد.
كانت كلمات- مصطلحات، مثل “الالتزام” و”المثقّف العضويّ” بعد “الواقعيّة الإشتراكيّة” ـ تتهادى بأطيافها وطقوسِهَا الاحتفالية المناضِلَة، بين الطلبة أصحاب النزعة التنظيريّة والزعاميّة، الذين انتهى المطاف ببعضهم في البلاد الخليجيّة وغيرها، إلى سفراء ووزراء ومسؤولين، كانت غائمة في أذهاننا وبعيدة، لكن تطبيقَهَا القاطع يجري على كلّ شيء يلهج باسم الثورة والتمرّد في الأدب والفنّ مهما كان إسفافه وركاكته وانعدام موهبته.
كان “المثقف العضويّ” كلمة السرّ ومستودع الحكمة، ليس في أوساط الطلبة بتواضع المعايير والتوصيف، بل في أوساط المثقفين وفعالياتهم وندواتهم. كانت تلك الصيغة “الغرامشية” ـ نسبة إلى “أنطونيو غرامشي” ـ تحتلّ واجهة وعي السبعينيات في إضاءة إشكالية المثقف مع السلطة والمجتمع وحلّها، بعد أن تراجع على نحوٍ مَا مفهوم “الإلتزام”، تلك المقولة ذات الظلال الماركسيّة في مناطق تفكير الفيلسوف الوجوديّ الشهير.
تلك الإشكالية، المعضلة التي تشعّبت وتعقّدت أكثر، بعد ثورة يوليو، ودخلت في دهاليز وحقول من السجال السياسيّ “الفكري”، بحيث إن استشارة “غرامشي” حول عضويّة مثّقفه لم تعد كافية، فدخل السّجال إلى مناطق محرّمة وسوء فهم شديد، أدّى إلى ذلك الصدام المعروف بخلفياته وصلاته الحزبيّة والتنظيميّة، حتى إبرام العقد بين الطرفين الذي خرج بموجبه المثقفون من السجون ليكونوا فاعِلِين ومسؤولين في أجهزة الدولة.
المرحلة الجديدة، مرحلة الستّينيات، انطوت على إنجازات أدبيّة وإبداعيّة كانت علامة في الحياة الثقافية المصريّة والعربيّة، أثمرت تعاوناً خلاّقاً بين الطّرفين.
“لقد عامت الطبقات في هذه اللحظة على سطح التاريخ” كما عبّر “غرامشي” تلك الطبقات الغائمة أصلاً في مجتمعات سديميّة التركيب والتطوّر. وصار المثقفون على رأس مؤسّسات الثقافة وغيرها، مُشارِكينَ حتّى في القرار السياسيّ. فكانت فترة الستينيات، بهذا المعنى، شبه مثاليّة في ذلك السيّاق الصداميّ العنيف. فيها ربما أحسّ المثقف بنوع من الهدنة وراحة الحياة والضمير الممزق بين «مبادئ« تشده إلى عرينها، ودولة وطنية قومية لأول مرة، كان يحلم بأن يكون جزءًا من نسيجها وأهدافها.
هذا النوع من التوافق التاريخي، إن لم أقل الانسجام، لأن المثقف الحقيقيّ لا يمكنه التخلّي عن طاقته النقديّة، تجاه الوجود بأكمله، مَهْمَا كانت الشروط المحيطة، يدفع بمثقف ليبيراليّ (سعد الدين إبراهيم) إلى إقرار ضرورته الحتميّة في أيّ مشروع نهضة حقيقيّة في التاريخ. وأمثلته على ذلك اليابان، التي قامت نهضتها الحديثة على التعاون الكامل بين النخبة المثقفة والنخبة الحاكمة. وبريطانيا عبر الجمعيّة الفَابِيّة التي استطاعت أن تحدث من التغيير ما يحتاج إلى ثورة دمويّة هائلة، وكذلك نهضة أمريكا في تعاون وتحالف بين رجال الفكر ورجال السياسة، حسب تعبير سعد الدين.
كل هذا أثبت التاريخ والوقائع صحته من غير مبالغة. ولا يتطرق سعد الدين إلى أي مثال من التاريخ العربيّ الذي يرى أنه غير جدير بذلك، قديمه، مثل الدولة العباسيّة، وذروة ازدهارها الكونيّ، ودور ذلك التوافق الخلاّق بين نخبة العلماء والفلاسفة والنخبة الحاكمة. وعلى نحو آخَر، كانت بداية جيدة لو استمرت وتعمّقت أفقا وتعدّدية، مرحلة الستينيات المصرية، التي لا يرى فيها بعض المثقفين إلاّ استمراراً للتوتّر والقمع من غير أي منحى إيجابيّ.
* * *
المرحلة الناصريّة كانت مشروع أمل وحلم لم يكتمل، وربما أجهض قبل بدايته الحقيقيّة حول طموحات النهضة الحديثة التي لا تمتّ بصلة مُقَارَنَةٍ مع ما دُعِيَ بنهضة محمد عليّ، ذلك المُغَامِر الألبانيّ ذي النزعة الامبراطوريّة الشخصيّة، أكثر من أيّ مشروع آخَر. ولم يكن ذلك الأميّ الطموح، الذي تعلّم الكتابة في الأربعينيات من عمره، صانع تلك الحلقة الهامة في التاريخ المصري، بقدر ما كانت النخَب المصريّة ومسار تطوّرها؛ لكنّه (أي المشروع الناصريّ) ترك آثارا عميقة على الأرض المصريّة والعربية، وعلى مستوى العالَم، فلأول مرة يتبلور البعد القوميّ في كافة مستويات وشرائح المجتمعات العربية، وهناك الكثيرُ من الإنجازات والأطروحات العظيمة بمنطق التاريخ، ليس هذا مجالُهَا، التي ساهمت في صياغة العالَم الجديد (مثل حركة عدم الانحياز)، حتى ولو أتى عليها الزمن بمعول الهدم والتدمير، تظلّ جزءًا مضيئاً في الذاكرة العربية.
تحية لجمال عبد الناصر الذي قاد هذا المشروع من غير سفك دماء ولا مجازر، عودَتنا عليها الثورات والانقلابات. كانت عينه على التغيير والنهضة وليس على الانتقام والتمثيل بمن كان على سدّة الحكم.
خمسون عاماً انصرمت بتحوّلاتها السياسيّة والفكرية والعلمية الكبرى التي تختزل في مسارها الصاعق آلاف السنين الضوئيّة.
هل يحقّ لنا التساؤل حول ما آلت إليه أمورُ العَرَب في العلم والحضارة والمعرفة؟ وما هي مكانتهم في هذا العصر الأكثر قلقاً واضطراباً وعلماً.
تلك المكانة التي تبيّن خرابها الأقصى وفسادها المتراكم في التعامل مع المنعطفات المصيريّة كالقضيّة الفلسطينية في اللحظة الراهنة التي يدفع بها الأعداء إلى الإفناء والإبادة لولا المقاومة الفريدة في التاريخ البشري بكامله لشعبها ورغبة البقاء والحياة بعيداً عن الإخضاع والعبودية المطلوبين. وقبلها وبعدها (القضية) حول قضايا التنميّة والأفق الحضاري المنتظر الذي آل إلى إرث هائل من الإحباط والهزائم بمختلف مستوياتها وسوء الحال الذي يتداعى يوماً بعد آخر.
وبعد هذه الانهيارات في الدول والأفكار والمبادئ الأخلاقيّة بالمعنى الإنسانيّ العام؟ وهل ما زال وعي الناس في القرى والمدن العربيّة على حالته الخرافيّة البدائيّة، وإن جفّت ينابيع عواطفه النبيلة وجَرَفَهَا الطاعون؟
* * *
لقد تحطّمت السفن قبل أن تبحر إلى البعيد. وَحْدَهُ الزعيم أبحر في مشهده الجنائزيّ العاصف. ربما تَذَكر، وهو يَعْبُر في موكبه من ميدان التحرير إلى منشية البكري، ويعبُرُ الأرض العربيّة قاطبةً، أنه قرأ في طفولته اسطورة الإله الفرعوني (رَعْ) الذي أوجد العالَم من بصاق ودموع.. ونام إغفاءته الأخيرة.
***
 
القاهـرة. مطلع السبعينات
حين ســرت غيمة باكيـة
من فــرط العـذوبـــة
..إني ذكرتكِ بالزهراء مشتاقا
“ابن زيدون”
في الليل اللانهائي بنجومه وهدوئه الصاخب وخيالاته الجامحة، تحدوني رغبة الكلام مع مخلوقات خرافيّة لا أثر لها على الأرض، أثيرية هائمة كما تهيم الأرواح حول بارئها في سدرة المنتهى، والنيازك في ثقوب الفضاء بين أشجار الكواكب العملاقة.
رغبة نزقة مجنونة تقتلع العاصفةَ من أسرّتها النائمة في قاع المحيطات وتقذف بها الى الأرض الملتهبة، لتحل روحي بعد ذلك في حجر بركانيّ تقاذفته العصور بين أحذيتها المعدنية الصدئة؛ ليبقى الشاهد الأخير على هول هذه المهزلة الأرضية التي نعيش.
***
هذه الليلة لم أستطع النوم. القلق ينهش رأسي. نأي يطوّح بي، سارحا في ضباب وجوه وأطياف غائمة وبعيدة. هذه الليلة في مواجهة الماضي وأصقاع الذاكرة.
2/11/2002 بشارع الزهراء، حيث أعيش الآن وحيث عشت في مطلع السبعينات حين كان هذا الشارع جميلا مزهوا بأشجاره ومساكنه ذات الخمائل والحدائق المثمرة التي لا تتجاوز الطوابق القليلة إلا نادرا. كانت «المهندسين« برمتها ماتزال خارجة من ريفها على حواف المدينة العملاقة. ذلك الريف الذي أخذ العمران العشوائي يفترسه حتى انقرض الى الأبد كما انقرضت «غوطة« دمشق أو كادت، وحلت محلها هذه الأبراج والمباني الضخمة التي تفتقد الى أبسط حس جمالي وإنساني، شبيهة بأحياء مدن خليجية بُنيت على عَجَل وبنفس دوافع ذلك الهجوم الكاسر للرأسمال المتوحش وقيمه وأنماط سلوكه القسرية.
كانت ” المهندسين” و”الدقي” يموجان بمختلف الجنسيات من الطلبة العرب خاصة من الجزيرة العربية وفلسطين وغيرها. ففي هذه المناطق كانت أماكن نشاطاتهم الطلابية والسياسية من اتحادات وجمعيات وأندية، فالمرحلة مفعمة بأحلام التحويل والتغيير، مفعمة بالطفولة والمسرات والتجريد. كنا لا نرى الحياة في وقائعها المتعينة طبعا وإنما في إنعكاساتها علي أذهاننا وعواطفنا الطرية التي تـُغذيها قراءات أيديولوجية قاطعة. كان اليقين على أشده دورانا “ديالكتيكيّا”، لا تهدأ عجلته في اجتثاث الحضيض والتخلف وصولا لبناء الذرى الاشتراكية على أرض الفردوس الموعودة. كل بيان نوّقعه نتصور على الفور اهتزاز الإدارتين الأمريكية والسوفييتية. دعك من الأنظمة العربية. فرغم يساريتنا الزاعقة. كان السوفييت بالنسبة لنا منحرفين عن الخط الصحيح الذي أشرقت أنواره علينا واليمن الجنوبية، متفردين عن معسكرات العالم وأفكاره وقواه.
هذه المنطقة بالذات كانت تعجّ بالطلبة الوافدين والأفكار والمخبرين والمغازلات. كانت دور السكن لا تتجاوز الطوابق القليلة إلا نادرا ومن هذا النادر كانت العمارة التي تقطنها سوزان” وعائلتها (المنحدرّة من أصول شاميّة مسيحيّة) والتي هي ملك لهم وكذلك العمارة الأقل حجما منها والمقابلة له، والتي كنا نسكنها، ثلاث شقق معظم سكانها من العُمانيين. مقابلة لها وليست لصيقة لأن عمارة عائلة سوزان تتمتع بحوش واسع مليء بالدجاج والأرانب والديكة الرومية الأكثر صخبا من ضجيج الطلاب ومتقاطعة معه في أوقات كثيرة خاصة ضجة الصباح الباكر حين تشرئب بأعناقها مطلقة أصواتها في فراغ النوم الكبير.
كان بواب العمارة الذي يدعى “قرني” مازال قادما من أعماق الريف لتوه يسكن هو وزوجته الشابة في بدروم العمارة كعادة البوابين. بدأنا بالتعرف على عم قرني، فالبواب دائما أمين أسرار العمارة ومفتاح عوالمها وحكاياتها. ذات مرة سألته عن اسم تلك البنت الشقراء. قال اسمها سوزان. منذ فترة وأنا أراقب سوزان عبر الشبابيك والبلكونات. سوزان التي تميل من بين أخواتها ذوات الشعر الأسود الى الشقرة، تلك الشقرة التي لا تشبه شقرة الغربيات إلا من بعيد، فالتكوين والقسمات واضحة الفرق والاختلاف. كانت تميل الى الشقرة أو هكذا خُيّل إليّ. وجهها الطافح بأنوثة متفجرة ممتلىء قليلا عبر تناسق جمالي للجسد المفعم بالأنغام والمرح وفتنة الحياة.
بقيتُ هكذا وراءها عبر الإشارات والإيماءات التي نتبادلها. من غير تحديد واضح لشيء. كان ذلك الالتباس والضباب الذي يلف بظلاله المشهد الحلمي أقصى درجات النشوة والجمال. كان الانخطاف في أعلى سطوته لتلك الإشارة السحرية المصحوبة بالغنج ورفع الكتف الى أعلى كأنما ستحلّق بعد قليل الى جزر وبحار بدأت تغزوها أسراب خيالاتنا البيضاء. كانت تلك الإشارة تكفيني في حد ذاتها. وربما لهذا السبب أهملت سؤال قرني عن تليفون بيتها حتى أفاجأ ذات ظهيرة بتليفون قادم من مجهول، كانت هي على الطرف الآخر وربما على كل الأطراف والضفاف فالدهشة أخذتني وأنا أسألها بصوت مرتبك، حتى وصلت الى سؤالها من أين تتحدثين إليّ. قالت من المكان الذي كنت ساهرا فيه ليلة البارحة. ذهبت الى الفندق ووجدتها تنتظر في الكافتيريا المطلة على النيل. كانت تلك اللحظة التي أشرقت في أعماقي كما تشرق موجة جياشة لقادم من صحراء. أحس لأول مرة فيها بمثل هذه العاطفة المتدفقة تجاه امرأة أرخّت لعلاقة ظلت محفورة لا تنمحي على صفحة وجداناتي المتقلبة، فما قبلها إما مغازلات سريعة أو علاقات مع بنات الهوى وهي الأكثر انتشارا في الأوساط الطلابية. رغم أن الأكثر تطرفا في الطهرانية الثورية يحاربونها بضراوة لا تقل عن محاربة الامبريالية.
جلست مع سوزان على الطاولة متلعثما لا أكاد أصحو من حلم إلا وأدخل في آخر على أرض الينابيع المزهرة. سألتها من أين أتيت بنمرة التليفون وكيف عرفت المكان؟ قالت من قرني. وفعلا حين انتهيت من سهرة البارحة التي تتكرر دائما بعد كل خطاب يقلب العالم رأسا على عقب في أحلام يقظتنا وأتيت إلى المنزل مترنحا لأجد البواب أمام باب العمارة محلقا هو الآخر من فرط شربه للشيشة والدخان، قال أنه يريدني لمساعدته في حل خلاف مع زوجته. دخلت معه البدروم وكانت سوزان ترقب المشهد الليلي من الشباك الأعلى.
منذ ذلك اللقاء مع سوزان أحسست أنني جزء من نظام الكون والأشياء وأن علاقتي بها هي التطبيق الرائع لما كنا نعرفه في الماركسية حول هذه الأطروحة، وليس الالتحام بجماهير متوهّمة لا نعرف عنها شيئا عدا استيهاماتنا القرائية المبكرة التي كانت تـُتداول فيما يشبه حلقات الذكر والتحفيظ التي درجنا عليها في القرى والدساكر.
في اليوم الثاني ذهبنا الى برج القاهرة وبعده الى سينما ميامي حيث همهم رعد في أعضائي وسرت غيمة باكية من فرط العذوبة. وغالبا ما كنا نمر على كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث كانت سوزان تدرس في سنتها الأولى، ومن ثم نذهب إلى نزهات لانهائية لم تنته إلى هذه اللحظة التي أحاول فيها تجميع بعض أجزاء هذا الحطام في الذاكرة. ومن غرائب الصدف، وهنا اقتنعت أكثر أن تاريخ البشر لا تصنعه قوانين موضوعية دقيقة ومنسجمة وإنما من تلك الفوضى الجارفة للصدفة، فحين جئت القاهرة بعد أكثر من ربع قرن، أبحث عن شقة ذهبت مع أصدقاء مصريين إلى مدينة نصر والمعادي والهرم ولم أوفق حتى جاءت ضربة القدر السريعة ليأتي بنا سمسار إلى شارع الزهراء وبشكل لاواع أمضيت العقد وأخذت شقة في الشارع نفسه من جديد.
هل أمضيت العقد لأن صبري سريع النفاد في مثل هذه الأمور أم لأسباب أكثر خفاء وعمقا؟ ما أحسه الآن أن تلك الذكريات والتفاصيل “الصغيرة” المبكرة تشدني إلى قبضتها الصارمة، فنحن كما يقول “فلليني” ملك لذكرياتنا وليست هي ملكنا. ولماذا لا تكون الملكية مشتركة؟ أخمّن أن ما كان يرمي إليه المخرج الكبير هو تلك القوة الكامنة في الذكريات والتي نقف ضعفاء أمامها. ومن حسن الحظ أن هناك من تبقى من أصدقاء يشاركونني هذه الذكريات والوقائع العذبة، فمنهم من قضى ومنهم من حلّت البشاعة في كيانه وروحه.
مشدودا إلى وتد الذكريات
كما ينشد الكبش الى خيّته
والحصان الى صهيل أنثاه
أمام المحيط الهادر
لتهدأ روحه من الهياج.
أحدّق في الجنبات الضاجّة بقلبي
فأرى أشباح الغائبين
تسبح في عدمها الخاص.
أفلاك تقود بعضها
كراع يقذف قطيعه نحو الهاوية.
***
قبل ثلاثين عاما. هل أنا نفس الشخص الذي كان يسكن هذا الشارع أو امتداد له. .؟ أم هناك كينونة أخرى انبثقت من الفراغ الهائل للزمن بتراكماته وتجاويفه المرعبة. ما الزمن؟ وما الصيرورة؟. ما هذه الغيوم التي تعبر أمام ناظري، فيالق مترحلة في المغيب؟ هل هي نفس الغيوم أو تشبهها؟ وطاولة الزهر في المقهى، لاعبوها أمازالوا أحياء؟ والكلاب الضالة في الأزقة، نباحها طوال الليل يأخذنا في سهاد لذيذ؟ هل عشت قبل ثلاثين قبل قرون؟ لا أحد يعرف، لا أحد يهتم بالأمر، للناس مشاغلهم وعاداتهم. إنه هذياني الخاص في هذه الليلة. الحياة في مجراها الطبيعي منذ بدايات الخليقة، فقط هذه الجزر العائمة في مياه الذاكرة.
لكن حين تنمحي المدن وتسحقها النكبات هل يبقى زمن يتجول من غير مخلوقاته وضحاياه؟ ولماذا عليّ أن أفكر على هذا النحو القاسي الذي يحجب عني الحياة التي أحب أن أعيشها حتى آخر قطرة في ظلام الصحراء رغم كل خرابها وحقاراتها وغثيانها؟
أقرأ لبورخيس “قبلي لم يوجد زمان بعدي لن توجد كينونة، هو يولد معي، هي تموت معي أيضا”.
بورخيس الذي قلّب صفحات الزمن والنجوم والأطالس والجغرافيات ليتسلى. يا لها من تسلية عميقة لهذا الشيخ اللاتيني الأعمى:
يمامة من بقايا ريف قديم
تنوح طوال النهار
كأنها علامة الطوفان.
غابة الأسمنت والحديد
تخنق المدينة الخبيئة في الذاكرة.
أصوات الباعة
أناشيدهم الصباحية
التي كانت تملؤنا بالبهجة
أضحت أنين غرقي
تضرّعات منكوبين
***
بعد موت والدها بفترة، ذهبتُ مع سوزان الى المقبرة. قالت إن والدها كان يحبها ويرعاها أكثر من بقية أخوتها وأنها المفضلة لديه. أحسّت بحنين مفاجيء إليه ونحن نقطع غمار الزحام في شارع طلعت حرب. اجتاحني فرح غامض لا يمكن وصفه حين عرضت عليّ الذهاب معها، فرح يشبه القبلة الأولى التي اختطفناها وصعقتنا في ظلام سينما ميامي. وحين رأيت الدموع تنسكب على وجهها أمام القبر وهي غارقة في لباسها الأسود الجميل وحضور الفقيد واستعادته المتخيلة؛ رأيتها أجمل من ذي قبل، جميلة أكثر مما أحتمل، أسندت رأسها على كتفي ماسحا دموعها بأصابعي أو بالأحرى لاعقا تلك الدموع الغزيرة بلساني وأصابعي، دموع القمر وهو ينير ليلة شتاء عاصفة.
كان المشهد بكامله محتدما بالرغبة واليتم، ومحتدما بالحنين.
كانت النجوم في علياء سمائها تبكي فرحا لأجلنا.
***
اليوم الأخير من رمضان، قررت أن آخذها مشيا الى البلد في وقت الإفطار كما اعتدت كثيرا أن أفعل. فهناك وقتان يمكن المشي فيهما بالقاهرة بهدوء بعيدا عن الضجيج والزحام. الوقت الذي ينشغل فيه الناس بالإفطار ومشاهدة التليفزيون، ووقت الصباح الباكر عبر غلالة الضباب، قبل انفجار الحركة لهذه المدينة التي تشعبت الى عدة مدن وأزمنة ومقابر في أمعائها الضخمة. في مثل هذه الأوقات التي تذكرك بأيام غابرة يمكنك اكتشاف سحر هذه المدينة وجمالها المتواري خلف طبقات سميكة من الصخب والضغط السكاني والغبار. وأنا في طريقي بشارع الزهراء من الأعلى الذي يفضي إلى شارع مصّدق ومن ثم إلى التحرير والأوبرا التي كان يقام على أرضها قبل ثلاثين عاما معرض الكتاب وتحول لاحقا إلى مدينة نصر – وكازينو النيل، التقيت فجأة بـ “أم عبير” الست التي تخدمني في المنزل، أمام عمارة سوزان مباشرة قلت لأم عبير إنني كنت مقيما في هذه العمارة أيام زمان. قالت، أنها خدمت فيها فترة مع الحاجة بعد موت زوجها أبي “سوزان” واستطردت أن رامي ابن الحاجة مات قبل سنوات قليلة بمرض السرطان. لكن سوزان وأخواتها البنات موجودات وقد تزوجن جميعا. أم عبير هذه تشكل ذاكرة “المهندسين” بكل تفاصيلها ووقائعها منذ بداية تحولها من الريف والدور الصغيرة إلى حي يقطن معظمه أثرياء جدد وسياح خليجيون ومن بلدان أخرى وفنانون و.. الخ حي من غير هوية مكانية وعمرانية وجمالية عكس أحياء القاهرة العريقة سواء كانت شعبية أو برجوازية. قلت ذات مرة لأم عبير مازحا لو تكتبين مذكراتك عن “المهندسين” لربحت الملايين. قالت )يغورو في ستين داهية ( وكنت قبل فترة اشتركت مع صديق على نوع من تمثيلية استكشاف لعمارة سوزان حين ذهبنا بغية/بزعم استئجار شقة، فاستقبلنا شاب هو ابن الحاجة، أعتقد أنه رامي الذي مات بالسرطان، شاهدنا عدة شقق في العمارة وفي تلك الأثناء حدثنا عن أخلاق القاطنين وبأنهم لا يندرجون ضمن المنطق السياحي للشقق المفروشة، تركناه على أن نعود اليوم الثاني لمقابلة الحاجة، فلم نعد.
تذكرت أنني كثيرا ما كنت أذهب مع سوزان في مثل هذه الأوقات التي تجمُد فيها الحركة واندلاع الصخب في شوارع القاهرة المقفرة!
البشر غالبا ما يكونون جميلين في غيابهم، والعلاقات التي تنحل الى ذهب الغروب لوقائع ممعنة في الغياب.
***
قبل سكني في عمارة الزهراء في ذلك الزمن الذي يوغل في النسيان انقطعت المساعدة الدراسية التي كانت لا تتجاوز العشرين جنيها، وحاول طردي من كنت أسكن بمعيته وهو طالب عُماني. بعد يأسي من تقبله وضعي الجديد حتى يفرجها الله، قمت بتحطيم الشقة وصورة أمه المعلقة أعلى سريره. استعان بالشرطة لطردي، أصبحت هائما في أكثر من مكان، حتى جاءتني الفكرة الملهمة ذات ضياع، اقتدت شخصا ضريرا يلبس العمة الى شيخ الأزهر. كان الإمام محمد الفحام آنذاك. قابلنا في اليوم الثاني، بعد أن أوضحنا له أوضاعنا سأل “أين تسكنون؟” وقبل أن يجيبه الأعمى بلغته المتكلفة المنمقة التي يقلّد فيها رجال الدين سارعت بالإجابة:
“في اللامكان يا فضيلة الإمام”.
منذ تلك الفترة وهذا “اللامكان” يرتسم كعلامة لوعي جيل ممزق على المستوى الرمزي والواقعي، يلاحقني كقدر، سهما يشق طرقا متشعبة في الفضاء اللامتناهي، دائما باتجاه الأعماق المفعمة بمصائر مرتجفة؛ إنه متاهتنا التي بنينا في حدائقها مدننا وأحلامنا التي لا تفتأ تواصل مسيرة انكسارها الخاص.
***
اليوم، أستعيد قراءة “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ. هالتني قدرته الفذة على الترميز الذي لا يخسر الواقع والتاريخ والحياة. أي لا يصل إلى التجريد المطلق الذي يمحو المدى البشري والمكاني ويسحق ملامحه وسماته، رغم أطروحته الميتافيزيقية الخطرة، كان رغم جسامة الموضوع يشبه لاعب سيرك يمشي برشاقة وحزن بالغين على حبل الوجود السري للكائن. هالني رسمه لمشهد القتل البشري الأول من نوعه بين قابيل وهابيل. كل ذلك العنف، وذلك الحنان، الندم والشفافية بتلك البريّة التي ستمتلىء لاحقا بالضحايا والجثث والفرائس.
صوت “الجبلاوي” الذي يشق جبالا من الأزمنة والغيوب مازال مدويا رهيبا يجثم على الأحياء والموتى.
***
كنا في الليل
ننفض المدينة كسجادة قذرة
وفي الصباح نقطف زهر الياسمين
هدية لحبيبة محتملة.
***
صحا من نومه من غير رغبة في القيام بشيء ظل يتلوى تحت البطانية بخدر مقلدا وضعية الجنين. أدار زر الموسيقى، جاءت زوجته، دخلت معه تحت البطانية. رأته على هيئة الجنين أخذت تداعبه حتى استقام، مارسا الحب بصمت، إلى أن أطفأه الضجر وانسلّ من بين فخذيها من غير بلوغ سطح ولا ذروة.
عادت هي تقلد هيئته الجنينية واضعة أصبعه في فمها الناعس.
***
كنت أكتب على سرير غرفة النوم قليلة الإضاءة بحيث لا يسعني أن أرى الحروف تبكي على الورقة. علي الفور تذكرت أن الكثير من معارك التاريخ الفاصلة دارت في ظلام دامس وكذلك المؤامرات والمكائد. الكتابة نوع من مكيدة للزمن. وتذكرت أبا العلاء المعري وبشار بن برد وطه حسين وبورخيس.
كان عليّ أن أفتح نور القراءة كي لا أنجرّ الى توسل اسم شهير أو حدث ملحمي كبير.
***
منذ فترة ليست قصيرة، كفّت الكوابيس التي تؤلف ملاحمها المفزعة في نومي. أو قلت بشكل كبير، صارت متفرقات كوابيس ترفس بعضها في حقول الليالي. وقلّت تلك الملاحقات في الأقبية المدلهمة بباطن الأرض أو على الجبال الجرداء ومنحدراتها المسننة وهاوياتها وأثقالها وفي المدن والأوتوسترادات والمقاهي الرخيصة الباردة وأنفاق المترو في غياب الأوراق الشخصية. كما حصل ذات مرة وكنت بصحبة الجزائرية عفيفة نافع، وكنت للتو قد استخرجت أوراق إقامة مؤقتة بذلك البلد الجميل (باريس)، بعد طول معاناة. ركزت الأوراق في جيب معطفي الداخلي وذهبنا لنحتفل بهذا الحدث السعيد الذي يتيح لي أن أتحرك بحرية في وضح النهار، من غير قلق السؤال عن (الهوية).
في غمرة احتفالاتنا، غرزت يدي في قعر الجيب لأسعد مرة أخرى بلمس البطاقة، وإذا بهواء ثقيل يصدم يدي ويشل الخوف جسدي بالكامل. لقد اختفت البطاقة وكل الأوراق وتحولت الى ما يشبه هواء الكوابيس في الأقبية الباردة.
هذه لقطة واقعية وأنا أريد أن أشير إلى كوابيس الأحلام التي هي أكثر فتكا من الوقائع التي تولدها ويختزنها العقل الباطن ليوزعها لاحقا على هواه، وفق آلية غامضة. وقصة الكوابيس والأشباح المنفلتة كالجوارح في نومي، يمكن أن أتذكر بداياتها البعيدة حين كنت طفلا في القرية التي ولدت فيها “سرور” يا لمفارقة الأسماء مع الوقائع أحيانا كثيرة. ذهبت مرة مع بعض عائلتي لنزور صهرا كان واليا في منطقة الشرقية من عُمـان. وتحديدا في (جعلان بني بوحسن) تلك المناطق الشاسعة الجميلة بالنسبة لنا نحن المسوّرين بطوق جبال عالية. ذات ليلة ونحن نائمون في حوش من أحواش القلعة التي عادة يسكنها الولاة وتستخدم لأغراض السلم والحرب التي ما تفتىء رحاها تدور بين القبائل العمانية في ذلك الزمان أو مع أعداء خارجيين. كانوا نائمين بشكل جماعي حين علا في فضاء القلعة صراخ غامض جريح، مرتبك لا يُـعرف مصدره، انبرى على دوّيه الحراس المسلحون بالبنادق ظنا منهم أن ثمة غارة على قلعة الوالي. وأطلقت عدة طلقات أحالت القلعة وسكانها الغارقين في سابع نومهم، الى ما يشبه حالة حرب مفاجئة.
لم يكن مصدر ذلك الصراخ الكابوسي الا ذلك الطفل الذي كنته وشب وكبر معي وتناسل في أدغال زمان ومكان مختلفين.
ترى ما هيئة ذلك الكابوس الذي انقضّ عليّ في تلك الليلة المقمرة؟
في الفترة الأخيرة خفّت وتيرة الكوابيس التي لا تكل عن تأليف قصصها المفزعة في نومي، خفت وتراجعت ليس لصالح أحلام وردية كما يقال. ربما هي الأخرى ضجرت من تكرار نفسها. رغم ظني أنها تشبه الموت الى حد ما حتى في وظيفتها التطهرية، إن صحت، وفي النضارة المتجددة حين تشيخ العناصر الأخرى ويلتهمها البلى والذبول، لكن في هذه الليلة ـ 28/12/2002 ـ بشارع الزهراء أي قبل رأس السنة الميلادية بيوم واحد، انقض عليّ طائر من ثكنة تلك الوحوش الجائعة واقتلع بهدوء عنقاء الحكايات، أحشائي وأسناني وأطراف جسدي، ولعب ألعابا شتى ماكرة وبالغة الفتك والتعذيب، لأستيقظ غارقا في بركة دم باردة.
هـــــامــش
منذ أيام وصل ابن أخي الأكبر أحمد الرحبي من موسكو حيث يدرس. وفي جلسة عابرة أخبرني أن والده الذي يقف الآن على عتبة الستين من عمره مازال فريسة لكوابيس ليلية وأنه يضطر حين يصحو على صراخه الى نجدته وايقاظه: قلت يا له من إرث عائلي للبهجة.
***
 
 
يوميات قاهريّة
الاثنين:
أصل المنزل، في القاهرة، بالدقي، جسدي متْعَب بفعل الحمى وضربة الزكام. أسترخي على السرير ذي الطراز القديم، كانت الستارة، واقعة على الأرض حتى جاء من يصلحها. يوماً واحداً وانكسرتْ من جديد مما اضطرني إلى النوم في الصالة، كي لا أنام مكشوفاً أمام عيون الجيران الذين تتدلى ملابسهم الكثيرة من حبال الغسيل.
قبل الفجر أسمع خارج الباب مباشرة، القطط وهي تتعارك على الفضلات. حين تفرغ من عراك الأكل، تدخل في عراك هياجها الخاص.
صحت المرأة الى جانبي وهي تقول: حلمتُ بك البارحة، مسافراً من غير أن تترك لي عنواناً ولا حتى اسم البلد.
أدير زرّ الراديو على البرنامج الموسيقي، استلقي مغمض العينين لا أفكر في شيء.
أصغي كما في الأحلام إلى موسيقى فيلم (قصة حب) الذي شاهدته معها في الزمن البعيد، بسينما قصر النيل. وقرأت قصة (اريك سيجال) ذات صباح في حديقة الميرلاند. الموسيقى تجعلني أتكاسل أكثر، وتبدأ في إيقاد تلك الهواجس وما تبقى من الذكريات: كم هي نائية وضبابية. ولو كانت هذه الهواجس التي تحرك مياه الأعماق النائمة، قرب المغيب، لكانت أكثر اضطراباً وتدميراً.
العاصفة على أشدِّها في الخارج، محملّة بالغبار والأشلاء. إنه شهر (طوبه) الذي يشبه (أمشير) في غباره وليس في برده بالطبع.
أفتح عيني، أجدها، مستيقظة، تشرب قهوتها، الصباحيّة، أسفل السرير. لا تكلمني، فيما ينبغي أن نفعل هذا النهار، وأي المشاوير والأماكن نرتاد، بل تواصل سرد أحلامها المذعورة، التي تعبّر عن خوفها المتراكم عبر السنين، منسكباً من سُحب اللاوعي الدامسة، لتجد في الأخير نوعاً من راحة نفسية بعد التعبير والافصاح.
قلت: إن الأحلام تريح صاحبها، ففي رحلته الحلمية يعيش حيوات متعددة، حيوات الحاضر والحياة التي عاشها، فربما، تمتد الرحلة الى آلاف السنين، حين كنا حلماً لسمكة قرش أو ذئب يعبر المياه الضحلة في الفلوات الجرداء. تنضغط هذه الحيوات وهذه الأزمنة، تتكثّف وتتقطر في تلك اللحظات القصيرة من عمر النائم، وكأنما قارّات تنفتح على الآزال السرمديّة.
* * *
مساء أضعتُ نظارتي الشمسيّة التي أحبها وقد اشتريتها من أحد المطارات. يبدو، أن الأشياء التي نحبها مثل البشر في رحيل دائم، يرحلون فجأة تاركين مرارة الصَدْمة. ثمة شرط قدريّ صارم يندفع ضد المشاعر والعواطف الإنسانيّة، هذا الشرط هو الذي قُدّ منه الغياب والتلاشي.
نذهب الى مطعم قريب بشارع جدّة، لتناول وجبة العشاء. مطعم صغير وحميميّ، تقول لي: إن هذا النوع من المطاعم، أفضل من المطاعم الاستعراضيّة، الصاخبة، التي تكثر في المدن. وخاصة في هذه المدينة التي تكاد أن تكون صحراويّة، لولا نيلها المتدفق من عتمات الأبد، يحملها دائما على النضارة والتجديد.
نجلس متقابلين، في الضوء الشاحب الذي يتحرك في غبشه الجرسونيّة كالأشباح الأنيقة، لكن ليس كتلك الأشباح التي تنجبها مخيلة جاك نيكلسون في فيلم (شايننج) كي يؤثث بها فراغ عزلته. فمثل هذه الأشباح موجودة في مدن غير القاهرة وبيروت. ثم تواصل الكلام بعد أن شربت عدة جرعات من كأسها قائلة: لو نستطيع العيش خارج أي بلد عربي فلن نتردد. يمكن العيش في أقصى حالات العزلة والوحدة وسط الأقوام الأخرى التي لا تعبأ بالآخرين بمعنى ما؛ ولا نعيش وسط ظلام حطام أرواحنا وقلوبنا، في هذه المدن المخلّعة الأبواب والنوافذ، المدن المستباحة، والتي لا تزيدها السنون، إلا تكريساً واتساعاً، تكريس الحطام والظلام القاسي في النفوس والأمكنة.
* * *
الأربعاء:
مضى أسبوع على وجودي في القاهرة، التي أتردد عليها باستمرار. لم أر أحداً من الأصدقاء والمعارف. لقد أخذتني من الجميع، هي القادمة من بلاد أخرى. أفكر في الاتصال أو الذهاب إلى وسط البلد. عليّ أن أتصل بجيراني أولاً، مها وعرب لطفي. أمر على عرب نتحدث كيفما اتفق بتلقائية. ميل عرب للتنظير والشرح لا ينزع عنها تلقائيتها في الحديث. وهذا ما لاحظته لدى منى أنيس التي لا تغادر في السكنى، وسط البلد لأنها ما تبقى من روح القاهرة الحقيقية، قاهرة الذكرى والحنين. في مثل هذه القلة من المثقفين، ليس هناك ما يثقل الحديث بالتفاصح واستعراض الثقافة. هناك اندماجٌ وتداخل اللحظات المختلفة، من الطرافة واللمحة الشخصيّة، بالمرجعية الثقافيّة العامة والفصحى والدارجة، مما يجعل الحديث، حديث متعة ورفقة طيّبة، وليس خطابة منتفخة بفقرها المريع.
أثناء وجودي عند عرب، أتصل بمها لطفي، قائلا ان تلاميذها في لبنان يسلمون عليها، مشيرا الى قصة، أخبرني إياها حمزة عبود. كانت الستّ مها مديرة مدرسة في مدينة صيدا، وكان كل من عباس بيضون وبسّام حجّار وحمزة، يعملون في المدرسة نفسها. كانت البلاد تعيش أجواء الحرب، وفي المساء يسهر الشباب في بيتها الذي لابد، أن يكون مرتبّاً أنيقا ومليئا بالعرق والمازات.. في الصباح حين يتأخرون عن موعد المدرسة المحدّد، تغضب المديرة التي تفصل بين العمل ومعطيات الصداقة. يقولون لها ست مها أنت تعرفين أن الشعراء مزاجيون. يعلو صوتها أكثر قائلة: إذا كانوا كذلك فهي أكثر مزاجيّة منهم.
* * *
الأحد:
بعد جولتها الصباحيّة التي تركتني فيها نائما، روتْ لي قصة دخولها محلاً لبيع الملابس. كان المحل يغص بأصحاب اللحى العشوائيّة الطويلة والمنقبّات، بحيث وجدت نفسها وحيدة وغريبة حاسرة الرأس. وكان البائع، حين تسأله عن شيء ما في المحل يرد عليها ورأسه الى الجهة الأخرى.
وكنا قبل يوم نقطع المسافة من (الدقي) إلى وسط البلد، مشياً. الجو ملفع بسحب التلوث وما يشبه الدخان، صخب البشر والسيارات وما تبقى من عربات الحنطور يطبق على المدينة بشكل قيامي. عرّجنا على دار الأوبرا من جهة التحرير، وجدت مبنى المجلس الأعلى للثقافة أمامي، قلت لأسلم على جابر عصفور. لم أجده تركت له ورقة لدى الاستعلامات، وتليفوني في القاهرة. تبين لاحقا أنني نسيت أن أكتب الرقم الأخير. سألت عن منتصر القفاش ونجاة علي، أيضا لم يأتيا بعد.
مشينا في ردهات الأوبرا، أحسّتْ بالهدوء المفاجئ الذي ينزل دفعة واحدة ململما شظايا النفس من التشوّش وسطوة الجلبة، ويعبر بها الى شيء من سويّة التأمل والتفكير. قالت: إن دار الأوبرا لابد بُنيت بعوازل الصوت في خرساناتها. وبما أن اليابانييّن صممّوها وهم الذين تكثر الزلازل في بلادهم، فقد ابتكروا، تكنولوجيا فاعلة ضد هذه الزلازل، بدمج كتل مطاطية في الأعماق الخرسانية الضخمة، فترى العمائر تتمايل لحظة هجوم الزلازل كنخلٍ في خضمّ عاصفة، لكنها لا تنهار. لذلك يبتعد الصخب لحظة دخول دار الأوبرا. رغم الشوارع الكبيرة المحيطة بها.
دخلنا قاعة للفنون التشكيلية، يسيطر على لوحاتها هاجس التجريب والتجديد، وكان في وسطها شبه المعتم شاب بلحية قصيرة، يتلو آيات من القرآن الكريم ويجوّدها بمقدرة كأنه أحد المقرئين، المعتمدين من إدارة المساجد ودور العبادة.
واصلنا السير عابرين كوبري قصر النيل نحو وسط البلد. وكانت وجوه وصور من الماضي أخذتْ طريقها معنا لعبور الكوبري، أخذت تنعتق، تدريجياً من أغلال عتَمة الأيام وضبابها، حتى انجلت كوجوه وصور حقيقية واضحة الملامح والقَسَمات.
أقوى تلك الوجوه تجلت أمامي هذه اللحظة، وأنا أقترب من كازينو النيل، حين كانت هناك مدينة ملاهٍ نرتادها دائما.. ذات يوم رأينا شيخاً عمانياً بلباسه التقليدي ولحيته البيضاء الطويلة حتى الركبة. يركب، ربما مع أطفاله، لا أدري، على ذلك الدولاب الضخم الذي يدور بسرعة حدّ الذوبان في الفضاء المترامي.
أتذكر، بعد عدة دورات، انقطعت الكهرباء وتوقف الدولاب عن الدوران. وكان من حظ الشيخ ومن حظنا نحن لنشاهد هذا الحدث السماوي الأرضي- أن يكون في الأعلى من الدولاب، في الذروة تماماً. كان المشهد بقدر ما يشي بمرح الطفولة ويستدعي الضحك والتعليق، يوحي بجلال الغموض الشبحيّ للشيخ، وهو يستوي على عرش الفضاء باسطاً هيمنته على سماء القاهرة.
* * *
السبت:
أذهب مع الحاج فؤاد، الى إدارة الكهرباء بشارع نوال في العجوزة لتسديد فاتورة متأخرة. الطرقات مليئة بالوحول والبرك جراء أمطار البارحة، التي تعرقل السير اضافة الى الزحام اليومي.
لكن ثمة ما لا يؤثر كثيراً في زحام الحياة القاهرية. في بلدات أخرى بعض هذا الزحام يكفي لتلف الأعصاب وتدميرها. ربما مشهد الحياة الذي يغري بالمرح والتأمل والانهماك. لطف خبيء لا أعرف تفسيره على نحو واضح.
نمر على صف من محلات الجزّارين وقد عُلقت الذبائح كالعادة بكلاليب من عراقيبها وتدلّت الأحشاء والرؤوس. بالأمس كانت ترعى في أريافها الحالمة. لكن إذ كانت عادة الغذاء البشري المتوارثة في هذا المشهد القاسي، فثمة شعوب معلّقة هكذا من عراقيبها بدافع الوحشيّة والافتراس ورغبة الإبادة، فضائل العقل الحضاري وغير الحضاري المعاصرة.
أسأل الحاج، من هي نوال التي سُميّ الشارع باسمها؟ لم يجبني بل ذهب في الحديث إلى أنّ هذه الأرض الخصبة المحاذية للنيل، كانت مملوكة من قبل البرنسيسة فاطمة اسماعيل وهي تقدّر بعشرين ألف فدان. هكذا كانت الأرض المصريّة، اقطاعيات بين الأمراء والأميرات. وبضع عائلات أخرى مثل سراج الدين وأباظة..الخ.
جاءت يوليو وعبدالناصر حاولوا تصحيح بعض فداحة هذا التاريخ، لكن..
ندخل مبنى الدائرة الحديث الذي لا تخطئ العين نظافته وانعدام الزحام فيه. نجلس بعض الوقت، الحاج يعرف من يسهّل أمور المعاملات. البيروقراطيّة نفسها في البلدان العربيّة، ذات الثقل السكاني وتلك المتخفّفة منه.
في هذه الأثناء ثمة شخص يلبس جلباباً أنيقاً يصرخ في الموظفيّن، ويستدعي مدير الدائرة الذي يصل الى مكتبه، فيسأله ذو الجلباب الأنيق بصوته العالي، أنت المدير؟ فما كان من هذا الأخير إلا أن ينتفض من كرسيّه: نعم أنا المدير، ولازم تعرف حاجة أساسيّة، أنا مدير الخناقات كمان.
* * *
الاثنين:
أذهب مع جرجس شكري وشاكر عبدالحميد، إلى مسرح قصر العيني، مشيا على الأقدام، حيث تعرض مسرحيّة لألفرد فرج. في طريقنا الطويل، نمر على فندق المريديان سابقاً، نشاهد نادية لطفي تنزل من سيارتها باتجاه باب الفندق، وقد شاخت وتثاقلت خطواتها حتى كادت أن تتعثّر لولا مساعدة الحارس. أين منها تلك الفاتنة التي يستلّها المراهقون بصنّارة الخيال الشَبِقة من الافلام الرومانسيّة، في ليالي الخلوة والهياج، حتى الإغماء.
لقد هدّها الزمن أكثر من اللازم.
نصل الى المسرح، ألتقي بعبد الغفار مكاوي وفاروق عبدالقادر، مكاوي، ألتقيه لأول مرة، بعد زمن من تبادل الرسائل والكتب، مرة أرسل لي ديوان (أونجاريتي) مخطوطا بخط يده وترجمته. بعد قليل تأتي آسية البوعلي مع رفيق الصبّان. آسية تقول لفاروق: أنا الوحيدة من بين العمانييّن تربيت في مصر. أجابها فاروق: وسيف الرحبي، تربى فين، في الربع الخالي؟
* * *
أستلم رسالة تليفونية من رشا عمران، تقول: هل تتضامن مع الشاعر الصيني الذي قررّت السلطات السوريّة ترحيله من غير سبب واضح. أحمد جان عثمان، سوري وعربي عبر الزواج والزمن واللغة التي يتقنها أكثر من شعراء كثيرين عرب الحسَب والنسَب.
أجبتها، أنني غير مستعد للتضامن. لقد جنَتْ على نفسها براقش. وهو يستحق الطرد، فما الذي أتى به وأبقاه كل هذه المدة في ديار العرب في هذه المرحلة. مفكرا نفسه في عهد الرشيد والمأمون!
* * *
الثلاثاء:
أذهب الى وسط البلد لمقابلة شاعرة شابة، في مقهى جروبي. وجدتها قلقة، ان لم توضح لي المكان جيداً فأَتيه في الطريق. قلت لها يمكنني معرفة أماكن القاهرة وأنا مغمض العينين. واتضح أنني موجود في هذه المدينة، قبل مجيئها الى دنيا البشر. طفقت تتحدّث عن الأجيال الشعريّة وخصائص جيلها الفني. قلت، يبدو أن كل عام يشهد ولادة جيل جديد.
وسيضيع الباحث في معمعة أجيال مطاطيّة، هلاميّة الملامح والتكوين. هذا إذا كان الإبداع بحاجة إلى مثل هذا التجييل والتزمين. ثم انتقلنَا الى النصْب الثقافي، فكان الموضوع أكثر ثراء وواقعيّة، حيث أضفتُ الى خبرتها المصريّة، وحدة النَصْب ورحابته على الصعيد العربي.
مقهى (جروبي) الذي أسس أواخر القرن التاسع عشر، بعض من أعرف من المصرييّن، ورثوا الجلوس فيه أبا عن جد، أجيال كان لها مرتع لقاء وحنين.
أنا لم أعرف المقهى، لم أعرف الجلوس في المقهى إلا حين قدمت إلى القاهرة. في ذلك الزمان الذي يبدو هنيهة تافهة، لا تستحق الإشارة في ذاكرة الجبال. ويبدو لي من النأي والبعاد كأنه في كوكب آخر غير الأرض الذي نعيش.
* * *
الساعة الثالثة ليلاً، أعود من سهرة مع سي محمد بن عيسى وعبدالعزيز الهنائي. في نادي العاصمة، معظم الحديث كان عن (أصيلة) المدينة الثقافيّة البحريّة التي نأتيها من أماكن مختلفة وكأنما نعود إلى بيتنا الحميم، بن عيسى يتخفّف من أعباء السياسة في واحة الثقافة والفن. وحين نقترب من السياسة يشتعل الخلاف. هذه الليلة كانت السِهام تتطاير شعاعاً بيني وبين صديق الطفولة أبي عمر.
أرى مشهد النيل والقاهرة من ذلك العلوّ الذي يقع فيه النادي. مشهد مدوّخ من فرط سطوته الجماليّة. هذا الأبد الجارف في أعماق المكان.
أستلقي على الكنَبة التي اشتريتُها قريبا. الديكة بدأ صوتها يسطع في البعيد، الديكة الأكثر إحساساً بالزمن ربما من الفلاسفة. في المنطقة القريبة تتردد أصداء ديكة أخرى، في بولاق الدكرور على الأرجح.
الحنفيّة ترشح بالمياه وأحيانا تعوي كأنما ثمة حيوانات تتقاتل داخلها.
أتمدّد على الكنبة التي تتحوّل سريراً وأدخل في سديم النوم الفاره قبل أن تطرق الأقدام السلالم وألوذ إلى الموسيقى للتخفيف من وقعها الثقيل أو نسيانه.
* * *
في المعادي بنادي اليخوت، ألتقي بماري تريز عبدالمسيح وصديقتها ماجدة رفاعة، حفيدة رفاعة الطهطاوي. من الجيل الرابع لجدّ التنوير المصري والعربي. كان الموعد على غداء. وكان من المفترض أن يكون عبدالمنعم رمضان حاضرا، لكنه اعتذر وفق ظروف طارئة.
تذكرت وأنا قادم مع ماري بسيارتها، حين كنت أركب مع صديق دراسة في سيارته المسرعة على نحو صاعق حتى ارتطمت بعمود كهرباء وسط الشارع. رحتُ في غيبوبة خفيفة، استيقظت بعدها على أهل الحي المجاور وقد أحاطوا بالسيارة مع بعض أفراد من الشرطة.
كان الجو على النيل رائعاً. ثمة نخلة وحيدة على الشاطئ. في الضفّة الأخرى بساتين وقصور لأثرياء ومسؤولين.
ماجدة رفاعة التي تصدر مع محمود أمين العالم مجلة (أفكار) تقول، إنها تتخيّل الجنّة هكذا: نخلة ونيل وشمس غاربة وهدوء.
* * *
الخميس:
أم عبير، القائمة بأعمال المنزل، شخصية فيها من الغرابة والقوة ما يغري بكتابة الكثير. تاريخ من الألم والشقاء والخيانات، أثمر هذا الكائن العجائبي.
يمكن لأم عبير، مع من يمتلك القدرة الخارقة على الإصغاء والسماع، أن تستمر في الحديث الى ما لا نهاية. هدير جارف من الكلام لا يتوقف. لو قدر لها أن تدخل مهنة التمثيل لبرعت في الأدوار الطويلة ذات الممثل الواحد التي لا تحتاج الى مؤلف، أو في الأدوار الملحميّة، بشكل لا مثيل له في تاريخ هذا الفن. لكن المصير أخذها الى مسار آخر.
وهي على معرفة دقيقة تفوق معرفة الأجهزة بأحياء الدقي والمهندسين والعجوزة بتفاصيلها وبشرها ومشاكلها. مادتها الواقعيّة لا تنضب مقرونة بقدرة التعبير ووسائله.
حين تأتي أحيانا صاعدة سلّم الدور الخامس الذي تصعده أكثر من ست مرات في اليوم رغم عمرها واشتغالها في أكثر من منزل ومكان، والتي حصلت من جرائه على ثروة مهمة تتفوق بها على الفئات الوسطى على جاري الترتيب والتصنيف.
حين تقترب من باب الشقة يسبقها صخب الإرادة، وقد بدأتُ في كتابة أو قراءة، أترجاها أن لا تكلمني حتى أدعوها الى ذلك.
تدخل غاضبة إلى المطبخ، تفتح الراديو، وغالباً على مطربها المفضل محمد عبدالمطلب. وتظل هناك تغني وتتحاور مع أشباحها حتى تنتهي فترة الهدنة. عنادها في فرض إرادتها، عرفتُ أنها تمارسه في كل البيوت مهما كان مقامها المدني والعسكري. رغم هذا العناد وهذه الإرادة الفولاذية، فهي قريبة وجدانيا وحميميا، تعرف بحنكة المجرّب، الفروق بين البشر ومستوياتهم مع غض النظر عن الوجاهة والوضع المادي. هكذا عقدت صلات علاقة مع الكثير من الأدباء والصحفيين، يوسف القعيد يستمتع بالحديث معها، وحسين عبدالغني حين قلت لها انه مراسل الجزيرة، قالت ما تهمنيش الجزيرة ولا غيرها هوه راجل طيب وجميل من غير حاجة، وغالبا ما تسألني عن عبدالرحمن الابنودي وفاروق شوشة اللذين تعرفهما عبر التلفزيون.
أما فتحي عبدالله ووحيد الطويلة فكانا عائلتها الحقيقية؛ لاحقا اكتشفت السرّ، كونهم ينحدرون من بلدة واحدة في الريف المصري.
مرّة قلت لها لو قُدَّر لك يا أم عبير، أن قدتِ الجيوش العربيّة عام 48 باتجاه اسرائيل لما كنا نعيش كل هذا الوضع الكارثي الآن.
وحصل أن حاول بعض الصبية، كسر باب الشقة في غيابي. وما أن عرفت أم عبير، أن هناك خدوشاً في الباب على اثر المحاولة، حتى أزبدت وزحفت على سكان العمارة وخاصة على الحاج صاحب العمارة الذي لا تقع هذه الحوادث في إطار مسؤوليته. ومن ثم باتجاه عرب لطفي، وصرت في الأيام التالية أعيش أنقاض معركة أم عبير.
الأمس ظلّت تشتم شخصا لا أعرفه، ومع اندفاع سيل الشتائم والقذف، تبينت شتيمة، لم أسمعها من قبل لا في مصر، ولا ما يشبهها في الجزائر والشام ولبنان التي تختزن ترسانة الشتائم الثقيلة. (ابن المهتوكة) ظلّت تكررها في خضمّ المفردات الجارفة الصعبة.
في هذا الصباح، أسمع وقع خَطوها القادم حيث تدخل غاضبة تصرخ: ما تعرفش، الشيخ ياسين قتلوه، فتفتوه، هوه وولاده. لعنة الله على اليهود واللي جابهم.
* * *
أذهب الى مقهى في وسط البلد، مقهى ريش أو ما تبقى منه شكلاً وليس روحه المشعّة في الماضي. ألتقي ببهاء الطود وآخرين، وكنت قبل يومين سألته عن العراقي علي القاسمي الذي وصلني خبر اغتياله في أسبانيا.
وكانت سكرتيرة مجلة (نزوى) قد سألت عن عنوانه البريدي إثر نشر مادة له في المجلة، فجاءها الرد من زوجته او أرملته في هذه الحال، انه اغتيل. وقد انتقلت مع أولادها الى الاسكندرية، فأي شيء يتعلق بالمرحوم يمكن إرساله إلى عنوانها الجديد.
أدخل المقهى أفاجأ ببهاء يجلس مع القتيل العراقي العصيّ على الموت. العراقي والفلسطيني عصيان على الموت والانقراض منذ بابل وحتى ما بعد أمريكا. ولأنني أدمنت معاشرة الموتى ومعايشتهم في أحلام النوم واليقظة وعبر قراءة الأدب الملغي الفواصل والحدود بين مختلف الحيوات والأماكن، فقد أخذنا في الضحك والتهريج. وأخذ القاسمي بزمام الحديث من غير فاصلة اعتراض تبهظه مشقة التوقف والاستراحة. وكأنما بهذا السيل العرم من الكلام أراد إثبات وجوده الذي لا يُدحض، ودحر إشاعة الاغتيال.
* * *
أقرأ للحلاّج :
وأي الأرض تخلو منك حتى
تعالوا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إليك جهراً
وهم لا يبصرون من العماء
وللسيّد المسيح :
»لا تنثروا درركم قدام الخنازير كي لا تدوس عليها ثم تلتفت إليكم وتمزقكم إرباً..«.
وللمولويّه :
الموسيقى هي صرير أبواب الجنة وهي تفتح على مصراعيها.
وأكــتب:
أيتها الأرض، الصّبِخة العاقر.
كيف ينبت في أحشائك عشبٌ، حتى لو زرعتْه بيدها الآلهة؟
أيتها الموسيقى، أيتها الجبال، جمالك الذي لا ينضب.
في الصباحات المفعّمة بسقوط النيازك ونعيق الغربان
والحرارة المحتشدة كنذير بركان.
تطوفين بنا الأزمنة
كأنك الوصيَّ الوحيدَ
على عرش الأبديّة.
* * *
الأحد:
أذهب الى مدينة 6 أكتوبر لنحتفل بعيد ميلاد جابر عصفور الستيني، وهو المنزل الذي شيّده الدكتور حديثاً، بذوق عالٍ. ونحن نتجول في ردهاته وزواياه الكثيرة، تستقبلك الكتب بحضورها المهيمن، على كل تلك المنحنيات والزوايا. وثمة حديقة خلفيّة مليئة بأشجار مختلفة. ونخلة وحيدة تهتز قليلا تحت ضوء القمر الذي بدأ يتنسّم أنفاس ربيع قادم.
أحدّق في فضاء المدينة الشاسع غير المكتظ بالعمائر والأبراج والضجيج. انها واحدة من رئات المدينة المحتقنة بالزحام والغبار.
أفكر أن 6 أكتوبر تقع في عراء الصحراء، لكنها الصحراء الأقل وحشة وقسوة. ولقربها من المدينة الأم تحسّ بذلك الامتداد الحميم.
لفيف من الأصدقاء من أهل الفن والأدب أشعلوا ليل المدينة الهادئ، بالغناء والكلام والنكات. وكان مضيفنا منغمراً بحيويّة في الجو بكل أمواجه المنفلتة من القيود الوظيفية والاجتماعيّة، غير عابئ بالمحطة الستينيّة في خط هذا القطار الساحق الذاهب الى اللاشيء.
ربما كان ينظر صوب المستقبل كخلاص مؤقت من احتدام اللحظة وهوامِّها.
ربما علينا أن نحشد ما نستطيع من وسائل المواجهة للاستبداد الزمني على مشاعرنا وأجسادنا، وننعم بقسط من سلام الروح، حتى ولو كانت له الضربة القاضية في النهاية. لكن قبل تلك الضربة والضربات التي تمهدّ لها، ثمة واحات نخيل خضراء وحدائق خلفيّة نمرح فيها، وتحمل صباحاتُنا رائحةَ عشبها النديّ.
* * *
آخر الليل، أصحو. لا اعرف كم الساعة الآن؟ لا اعتقد أن المؤذن قد أذن، أو أن الديكة قد صدحت بصوتها الذي يحمل دائما صخب القرى البعيدة التي يحتلها عواء الذئب.
ضوء خفيف، يلوح من درفة الباب مع موسيقى توقد حنين مدنٍ وذكريات. غائبة عن السرير تفصلنا المسافات والصدوع.
أستحضر طيف أي امرأة تركتْ نظرتها في أعماقي ذات يوم ممطر، علّه يساعدني على استئناف النوم بعد سماع ديكة الفجر وشدو ريف اليمام.
* * *
ألتقي بعرب، بعد الظهر، تخبرني بأنها كانت في جنازة صديقة لها. ممثلة مسرحيّة تدعى فانيا الكسندريان، كانت تسكن سابقاً في الشقة المقابلة لشقتها مباشرة، أي بجوارنا، ثم انتقلتْ الى مصر الجديدة لتلقى مصرعها مع والدها العجوز وامرأة أخرى، طعناً بالسكين في قلب العمارة التي تسكنها، على يد مهووس ديني.
فنانة من اصل أرمني تموت قتلاً في الأربعين من عمرها.
كم من الوقت يلزمني لتجاوز طيف المرأة الجميلة المغدورة في روض الصبا والأحلام؟
* * *
 
الطريق إلى الربع الخالى
أو إلى سكة القطارات في بولاق
يمكن القول بداية أن الكائن المنفي أو المغترب في برهتنا الراهنة ليس ذاك المقذوف خارج منطقة مكانية بعينها تسمى: وطن، وإنما ذاك الذي أضاع مكانه جذرياُ في هذا العالم، وبدأ رحلة التيه الحقيقية التي لا أمل في العودة منها.
انطلاقاً من هذا الشعور الحدى لهذه اللحظة المحتدمة بالهواجس لكائن وجد نفسه خارج العالم، خارج لعبة الاجتماع والتاريخ التي تبعثرت ـ لحظةَ هذا الكشف الأليم ـ شظاياها وخيوطها المحبوكة جيداً، في صميم روحه وكيانه وحولته إلى كائن القلق والبحث والترحل بأبعاده الرمزية والواقعية.
ثنائية الوطن/المنفى المتداولة حد الاستهلاك، لم تعد تضيء شيئاً ذا قيمة في هذه الرحلة الليلية المحتشدة بالهوام والأسئلة. لم تعد تعنى شيئا إلا ربما للدارس النفسي والاجتماعى وفق مناهجه المحددة سلفا. وحتى عبر هذا السياق انقلبت معايير المنفى والوطن وتصدعت حيث تبادلا الادوار في عملية انقلاب ناعمة مخادعة، وفق الشروط السياسية والاجتماعية والتعبيرية في أكثر من بلد ومكان. وحيث أصبح الوطن هو ما دعي بالمنفى وكذلك العكس.
عملية الانقلاب هذه تستدعى بالضرورة، إشكاليات متعددة ليس على صعيد الحياة اليومية والمدنية التي أصبح منفى كالمنفى الأوربي يلبي احتياجتها ومتطلباتها أكثر من الأوطان المنكوبة بكافة أنواع التسلط والحروب والانهيار.
إشكاليات الكائن المنفي الذي يتاعطى الكتابة والتأمل والتفكير، ذاك الذي ندعوه شاعراً ومثقفاً. مثل كيفية اشتغال المخيلة، الذاكرة والحنين. إلى أي مدى تبحر سفنه حيث لا نجم يُهتدى به؟ بحر مضطرب وظلام عميق.
هل مازالت الأمكنة الأولى، أمكنة الطفولة دوافع جذب وحنين؟ هل مازال ذلك النبع الذي تنهل منه مخيلة الكتابة، بؤرة الأماكن في تشظيها وتعددها، مرجع الذاكرة في رحلتها الشاقة بين المدن الغريبة والناس الغرباء؟ أم كفت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والانخلاع قبضته الأزلية؟
***
لنفترض أن هذا الكائن الباحث، في غابة الكلمات، عن موطئ قدم ليحط فيها رحال الشاهد والمتذكر، بدأ رحلة الانفصال عن المكان الولادي، مكان الخطوة الأولى، مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، أحس في البدء ما يحسه الآخرون من لوعة الفراق للوجوه والأماكن المألوفة التي استمرت فترة من الزمن. و بالاندماج في حياة البلاد الجديدة بدأ نازع الحنين والتذكر في الخفوت، لكن ليس الانطفاء حيث استمرت جمرة الذكرى في التوهج. وحتى حين أمعن مشهد الترحل يشتئ الأصقاع والأماكن ظلت هذه الجمرة توصل الحياة السابقة لمرابع الطفولة بالحيوات اللاحقة وتلحم الزمن الأول بالأزمنة المتقادمة التي أخذت في التكاثف والمباغتة حتى أصبحت على ذلك النحو السريع الصاعق.
يعود المترحل بعد طول بعاد ونأي، إلى تلك الأماكن التي حلم بالعودة إليها وروادته بكثافة في الحلم واليقظة، ليجد أن الوقائع تشيد بنيانها بمعزل عن الأحلام ونوازع الحنين.
يعاود الرحيل والعودة مرة ومرات وبوتيرة سيزيفية، ليكتشف كل مرة ما لم يعد بحاجة إلى اكتشاف: خرائب الروح وخرائب طفولة الكائن والمكان. يقف ناعقا بهجاء قاس وانتباه أقسى إلى هذه الصيرورة الفاجعة المنذور لها بقدرية عمياء صارمة، حين لا مكان للتسوية ولا خيط شمس يتسلل من تلك البيوتات الطنية العتيقة، حيث كانت تقطن العائلة في الأزمنة التي بدت له نائية أيما نأي وسحيقة.
***
يمتزج البعد الوجودي الأنطولوجي للمنفى بأبعاد اجتماعية وسياسية، وهذه الأخيرة تلهب الأولى وتدفع بها إلى حافة أكثر خطورة ومكابدة. تتضاعف المعاناة وتزدوج؛ فالإنسان أو الشاعر الذي دفعت به خياراته في ظروف محددة ودفعت به الصدفة إلى أن يكون ملاحقاً من قبل دولة وأجهزة لا ريب يعيش حالة حياة خاصة، تختلط في رأسه الوقائع والأوهام على نحو كابوسي يوصل ليله بنهاره ويطوح به إلى حافة الجنون والموت، خاصة وأن هذا الكائن، الذي نحن بصدد الإشارة إليه، فرداً يعي فرديته وأفقها بعيداً عن الانضواء القطيعى تحت لواء الجماعة بأسمائها المختلفة.
بطبيعة الحال، هؤلاء الأفراد غالبا مايكونون من أهل الأدب والفن، حيث تتوتر المسافة بينهم وبين الجماعة التي تحمل لواء المعارضة اللاهجة باليقين، المبشرة بالنصر الحاسم القريب. تتوتر المسافة وتتسع كما توترت واتسعت من قبل مع تلك الأوطان الافتراضية المحمولة على لغة الشعارات وغنائية الحنين المبسط. ويجد الفرد ذاته مقتلعاً من جديد ومرميا في مهب الجهات العاصف. يسارع إلى لملمة أشلائه ومحاولة التخفيف من فداحة الخسارة بمعناها الجذري. أنه يقف وحيدا في مرآة مدماة مشروخة، هشاً وضعيفاً أمام بطش الوجود متعدد الوجوه والمصادر والأهداف هو الأشبه بالكائن التجريدى من غير أهداف واضحة والذي ولد من صفحات كتاب قرأه ذات مرة وبقيت صورته الوحيدة في رأسه تميمة يلوذ بها من فتك التلاشي والخراب. تتسارع حلقات المنفى إلى الاستواء والنضج، ليجد نفسه مرة أخرى ليس على مشارف الربع الخالي، تلك الصحارى الجبلية الرملية التي ولد في أتونها، وإنما في القلب منه واقعا وأفكارا، مسار حياة ورمزا.
ينكسر المنفى الصلب بصفاته وأهدافه المحددة ويوغل المغترب المنفي في تيه الصحراء، باحثا في ضوء هذا الانكسار عن سبل جديدة يستطيع مواصلة ما تبقى من حياته، ربما يجد بعضها في الكتابة والكتب/ في المرأة والتحديق جيدا في المغيب المحتدم بالأشباح الجميلة كل مساء
***
ربما تذكر المنفي وهو في غمرة هذا الصراع المرير مع شرطه الوجودي والتاريخي، في عهوده البعيدة حين كان يجلس على المشارف المطلة على الصحراء العاتية، المكللة بغناء الروح، وسط العوز والفقر- تذكر القوافل المترحلة بين التخوم والأودية والشعاب ميممة شطر جهة مجهولة بالنسبة إلى الطفل الذي كانه في ذلك الزمان.
تذكر وراودته في اللحظة لمحة وجيزة من العْود النيتشوي، تلك الدائرة الجهنمية لرحى العذاب البشري كما يود تأويلها حيث العدم يطبق قبضته على الكائن كما تطبق عواصف الربع الخالي قبضتها على القوافل المترحلة ببشرها وحيواناتها. العوْد الأبدي بهذا المعنى إمعانً وتعميق لمأساة الوجود وليس ضوءاً في آخر النفق أو مخرجاً لدوائر الوجود المغلقة.
وتذكر كائن المنفى أيضا مرآى الطائرة لأول مرة. لكن ما أثار مخيلته أكثر وأشعلها مرأى القطارات التي لم يشاهدها من قبل حتى في السينما والتليفزيون اللذين لم يكونا موجودين آنذاك.
في بداية السبعينيات حين نزل القاهرة ليلاً وذهب ليسكن في حي الدقي المتاخم لحي بولاق الدكرور، سمع صفيرا يشبه النحيب حسبه في أول الأمر صفير بواخر راسية في عرض البحر لكن حين انجلى ليل القاهرة عن بدايات الصباح ذهب إلى مصدر صوت الصفير ليشاهد تلك القوافل االحديدية العابرة السكك والقضبان. وحين عرف أن هذا المارد الخرافي اسمه (قطار) ذهب ليفتش عن أصل كلمة قطار. فوجد أن العرب كانت تسمى الناقة الطليعية في القافلة (القاطرة)
لاحقا ينفجر مشهد القطارات على مصراعيه واقعاً وكتابة
***
حين يصل الإنسان الذي دعوناه في هذه العجالة بالكائن المغترب والمنفي والمترحل. أسماء متعددة لوجه واحد يتعدد حين يرنو في مرآة ذاته؛ حين يصل إلى هذا الشرط المتفجر لوجوده يدخل حالات هذيانية شتى. كأن تتلبسه الضغينة على محيطه كما تتلبس المؤرق الذي جافاه النوم في الليالى الموحشة، تجاه طمأنينة النيام وهدوئهم. تراوده هواجس عدائية تصل إلى حدود تخيل مجزرة بكامل ضحاياها، لكنها تظل مجزرة في المخيلة و اللغة ولا تتجاوزهما. فهو من فرط العواطف وربما اليأس لا يستطيع أن يؤذي حتى بعوضة كما يقول المثل الدارج. وليس بقادر إلا على تدمير ذاته بالتحديق والتأمل في المشهد الدموي المحيط الذي يتناسل وحشية وانحطاطا لا مثيل لهما.
عليه أن يتدبر تسويات أخرى أكثر انسجاما ونبلا مع محيطه وذاته الممزقة.
***
يصل المترحل إلى نوع من الوضوح الكاسر، ذاك الذي يحمل شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل: لم يعد للتجوال في خرائط الجغرافيا حلم كشف وإشراق لا للرحيل ولا للعودة لا للوطن ولا للمنفى. تهشمت في مخيلته ووجدانه هذه الثنائيات لتحل محلها خارطة متناقضات داخلية متموجة بجمال وقسوة خاصين. هذه الخارطة، بستان الداخل، هي التي يحاول تعهدها بالسقي والرعاية عبر خيارات جمالية يرتئيها.
في هذه الحالة تتحول خرائط الخارج بسراباتها، وحقائقها إن وجدت، إلى امتداد أرومة جمالية، لبستان الداخل بسراباته وحقائقه التي ربما تتجلى ولو كإشراقات عابرة كنوع من تسوية ممكنة مع وجود صعب وعمر هارب.
***
ما أشرت إليه من هواجس ومشاهد يشكل ثيمة الكتابة ولبها، واحتها المضطربة التي تنزع دائما إلى الاتساع والامتداد لتستطيع لم شمل هذا الكائن أو الكائنات المتشظية المصدوعة بالموت والغياب.
هذا النزوع أو الطموح لبناء وطن مواز عبر الكتابة يتحمل كل هذه الأعباء من الفجائع والمهازل، لا محالة له من توسيع رقعة الكتابة ومفهومها من الدخول في حقول التجريب والخروج على ما هو متفق عليه وسائد. التجريب والخروج في هذه الحالة ضرورة وليس ترفاً أو نزقا عابرا، شرط وجود و إبداع. انفجار الأحشاء بعنف الداخل والخارج في الصورة والعبارة لتستحيل الكتابة إلى منازلة مفتوحة مع العالم. تحاول الذات الكاتبة في هذه المواجهة أن تتلبس أقنعة شتى وتحشد أسلحتها وحيواتها المختلفة: أزمنة بدائية تسطع على صفحة المسودة الأولى للخلق. حيوانات وجوارح أحلام وذكريات الأمس الموصولة بأحلام البشر الأوائل. وقائع صغيرة وكبيرة تتوحد في مركب المخيلة المندفعة من الحسي إلى التجريدي والمرئي المباشر إلى الغيب
المتعالي.
في وهم هذا الوطن الموازي أو البديل أو أي اسم آخر، الذي يسمى الكتابة، تحلم الذات الكاتبة أن تلامس قبس وحدة وجود مبعثرة في الأصقاع، وأن تنقذ ما أمكن وسط جلبة الإعصار والهشيم.
 
 
 
اليوم الأول في القاهرة
قـذا بعينــــك أم بالعــين عــوار
أم أقفـرت اذ خـلت من أهـلها الدار
الخنســاء
هذا أول يوم لك في القاهرة، تلك المدينة التي قدمت إليها تلميذا أزهريا بداية عام 1971 لتغادرها عام 1978.
كانت محطة التكوين الحياتي والمعرفي الثانية بعد مكانك الولادي الأول. وبلغة الأرحام، الفرويدية، هي الرحم الثاني.
تستيقظ مبكرا قبل انفجار الضوء والحركة وتلفع وجه المدينة بذلك الديكور البشري الضخم، تمشي وفي رأسك طنين صباحات فاتنة، وسط الشوارع والأزقة والمباني التي سفحت فيها شطرا من عمرك، وثمة ضباب يبروز المدينة بأكملها ضباب لأول مرة تشاهده بهذه الكثافة كأنما هو رسائل عيد ميلاد السنة ربما من مدينة “هليوبوليس” الفرعونية كما سماها الإغريق، أقدم مدينة على وجه الأرض.
“المهندسين”، “الدقي”، وصولا إلى الجزيرة على حافة النيل مرورا بـ”العجوزة” التي ما زالت تبحث عن شبابها تنظر إلى شرفات المنازل والشقق التي كنت تسكنها متيقنا أن لا احد يطل من النوافذ والشرفات المغلقة مثلما كان في الماضي، لقد ذهب الجميع كل في طريق، حسب أم كلثوم، لكن رغم هذا اليقين ما زلت تستجدي الصدفة ليطل وجه امرأة أو رجل عرفته في ذلك الماضي الذي أصبح مفصولا عنك بجسد من السنوات والمجازر.
تمشي غارقا في ذهول هذا المشهد الملبد بطحالب الزمن، تحاول ألا تتذكر، ألا تستعيد، أن تكون حياديا تجاه المكان، ألا تكون مازوشيا أكثر من اللازم، لكن الضباب، الضباب، الذي ينتشر في رأسك كما في المكان، هذا الضباب الأكثر فتكا من ضباب، يوجين أونيل البحري.
ها أنت في المقهى نفسه بميدان الدقي.
نكهة القهوة إياها ربما تغيرت قليلا، الأحاديث والنكت المبعثرة في كل اتجاه، الحمير التي تجر عربات شبه محطمة، رجل يسعل بشدة كأنه يحتضر، ورغم ذلك يعاود شفط النارجيلة.
تتذكر أنك هنا في هذا المقهى كنت تحاول الكتابة وتحلم أن تصير كاتبا، خربشات على الورق، رسائل إلى امرأة مجهولة، لقاءات تنعقد في المخيلة بين فتوات نجيب محفوظ ومخلوقاته مع أناس يتوافدون من كل أصقاع العالم ليشكلوا سرد رجل مأسور بالارتطام والترحال.
ينتهي فنجان القهوة، تتحرك بضع خطوات، تشاهد أمامك كافتيريا معلم رضوان، تدخل.
ـ معلم رضوان فين؟
ـ البقية في حياتك.
معلم رضوان كان الوحيد في الحتة الذي يسمح ببيعنا على أن ندفع له حين نريد.
يقلك أوتوبيس وتذهب إلى الأهرامات ومن البعيد، من الشارع المؤدي إليها. الشارع المطرز على الجانبين بالملاهي والعلب الليلية وقبل ان تصل “الميناهاوس” ترتفع أمامك بشموخ حزين تلك القرى الحجرية المعلقة في الفضاء والمسكونة بأساطير الخلود وبطش الكهنة ومعرفتهم العميقة.
كانت الشمس تغرق في مياه حمراء تتجول في تلك الباحة المكتظة بأشباح الماضي وحركة الناس، والحيوانات تحس بتلك المهابة الروحية التي تضفيها روح الإبداع والموت على الأشياء.
إنه يوم جمعة، الزحمة فيه أكثر من المعتاد، أناس من أكثر من بلد، يمتطون الخيول والجمال والحمير في جلبة لا تهدأ وعلى الضوء الشاحب للمغيب واختلاط أطراف هذا المشهد الاعتيادي بصورة غائمة، تتذكر “تغريبة بني هلال” لكنك تعرف أن لا بني هلال ولا يحزنون، مجرد مشهد سياحي مضجر.
وعبر الأماكن التي خلفتها وراءك كل هذه السنوات تحدق في حجم التغيير الذي طرأ على كيانك ونظرتك للأشياء والبشر فالمكان ربما لا يتغير كثيرا، وعمارة هنا وسوق هناك لا يغير كثيرا في صياغة مدينة عملاقة كالقاهرة.
وتعود إلى البيت لتستقبل صباح يوم آخر.
***
القاهرة .. بيروت
عتب عليّ بعض الأصدقاء المصريين، على ما ورد في مقابلة تلفزيونية لقناة “الحرة” مع الشاعر جوزيف عيساوي، في بعض فقرات المقابلة، حيث التطرق إلى مصر، سواء عبر الكلام عن طفولتي الثانية في الفضاء المصري، القاهري خاصة. والتي أعتبرها دائماً النقلة النوعية من بيئة يَسِمُها الانغلاق والواحديّة في النظر والتفكير بتلك الفترة من تاريخ عُمان، إلى فضاءٍ مفتوحٍ يصخب بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية، الذي ترك بالغ الأثر في التكوين المعرفي والوجداني.. وكان البوابة التي دخلتُ من خلالها إلى ما عرف بالحداثة والتجديد..
من نافلِ القول أن المكان القاهري مارس عليّ ـ بعد المكان العُماني ـ سطوته العاطفية، وتلك الجاذبية الروحية التي لا ينضب معينها على مدى الزمان المتقلب السريع. مما ظهر جلياً أثره الحاسم في الكثير من الكتب الشعرية والنثرية وعلى صعيد السكنى والمعيش.
* * *
ربما عتب البعض حول نقطتين وردتا في الحوار المتلفز والذي يتبعُ صاحبه خطاً فيه نزوع الإثارة والاستفزاز كي يستقطب أكبر قدر من المشاهدين العازفين أصلاً عن البرامج الثقافية والمعرفية الجديّة، المنصرفين نحو الإسفاف واللغو بمناحيه السياسية والفنية، حيث استخدام بعض أدوات تلك البرامج الإثارية حسب قناعة المقدم، يكسب موقع مشاهدة أفضل ويخطف منها بعض متاعها وضوئها، والتي هي ليست قناعتنا بالتأكيد.
عتب بعض الأصدقاء حول نقطتين وردتا في ذلك الحوار المتشعب:
الأولى – حين سألني مقدم البرنامج عن تلك الفترة البعيدة في الزمن والذاكرة، عن شعور الصدمة الثقافية حين انتقلت من عُمان الى القاهرة. وهو سؤال أصبح نمطياً من فرط تكراره، وكان جوابي: أن القاهرة ليست باريس كي تُحدث هكذا صدمة. وكان قصدي أن الوضع الثقافي المصري والعربي ينتمي إلى شجرة أنساب واحدة عبر اللغة والتاريخ. فأحمد شوقي والبارودي وحافظ ابراهيم على سبيل المثال جزء من الذاكرة الثقافية العُمانية وكذلك أسماء ورموز مصرية أخرى وعربية، كلاسيكية وحديثة، هي جزء عضوي لا يتجزأ من هذا المركب الثقافي والمعرفي. عائلة واحدة بروافد وخصائص مختلفة ومتنوعة. وهذا الاختلاف ضمن الوحدة التي لا يمكن أن تنفصم عراها وتتفكك نهائياً كما يحلم البعض، إلا بالتصفية المادية والانقراض. يمكن أن تضعف كما هو حاصل في ضوء هذا الهجوم الكاسح على وحدة الهوية الثقافية في أزمنة الانحدار الذي تعيشه المنطقة كلها.
هذا التنوع مصدر إثراء روحي وثقافي، كما هي الوحدة الحقيقية التي تتوطدُ بهذا التنوع والاختلاف.
نقطة ثانية أتى عليها العتب والالتباس وهي حين أجبتُ على ما أظن، حول سؤال الفرق الثقافي بين بيروت والقاهرة، على أن الأولى كانت مسكونة بالسجال الثقافي وما يعنيه من انفتاح أكثر على التجريب الأدبي والمغامرة. وهذه حقيقة تاريخية لها ملابساتها وعناصرها الكثيرة. منها أن المؤسسة الثقافية في القاهرة، مؤسسة قوية متماسكة حول منظومة قناعات ورؤى، ليس من السهل اختراقها بسرعة. ولا أقصد المؤسسة الإدارية الرسمية، بل تلك المؤسسة من الذوق والمفاهيم الأدبية النظرية والإبداعية المراتبيّة التي لا تقبل التغيير إلا ببطء وضمن منظورها المركزي. فعلى سبيل المثال جيل “السبعينات” في مصر وما تلاه نال من الهجوم والإقصاء الشيء الكثير من تلك المؤسسة التي هي حديثة وتجديديّة وفق معاييرها وأطرها. وأذكر أيضا ما دعي بالجيل “السوريالي” الذي كتب الكثير منه بغير العربية ضمن تكوينهم التاريخي والتربوي، جيل جورج حنين، ورمسيس يونان، فؤاد أنور، وألبير قصيري. أقصي رغم أهميته الإبداعية والتاريخية، خارج نسيج الثقافة المصرية.
منذ تلك الفترة حتى اللحظة الراهنة وهذه المؤسسة لها امتدادها وان ضعفت تحت ضغط السجال والإبداع لأجيال الثقافة المصرية اللاحقة. عبدالمعطي حجازي وآخرون ما زالوا يناقشون مشروعية قصيدة النثر، وما زالوا يمانعون في إعطائها شهادة الولادة والاعتراف، بعد كل هذه الأزمنة والتحولات، حياةً وإبداعاً!!
بيروت أيضاً لها شروط مناخها الخاص الذي أفرز ذلك السجال الحيوي. بيروت الحاضنة والمختبر للتجربة الثقافية والسياسية العربية بصورة عامة بما فيها المصرية الطليعية وليس اللبنانية فحسب. وهو الدور الذي لعبته مصر قبل السبعينات، في مطلع القرن العشرين بشكل شامل وخلاق. وتلك مسائل بحاجة إلى نقاش متشعب بعيداً عن هذه العجالة.
يبقى أن المسألة تطرح في ضوء وقائع التاريخ الأدبي والثقافي العربي لكل بلد على حدة وفي السياق الثقافي الشامل العميق، الذي يغتني بمنابعه ومصباته الكثيرة، وليس بادعاء مركزيات متوهمة، وخارجة عن نطاق التاريخ ووقائع الاجتماع.
تبقى علاقتي الوجدانية والمعرفية بمصر، قضية حيوية بالنسبة لي، غير قابلة للمزايدة والإدراج في النقاشات التي تحركها نزوعات مرضيّة تحاول الاصطياد دائماً. علاقة هي من النأي بمكان بعيداً عن الحسابات الضيقة والمصالح الآنية، كما يعرف بعض أصدقائي المصريين الذين اقتسمت معهم خبز الحياة والمعرفة منذ زمن سحيق.
تبقى جزءاً من ذاكرة النبع الذي لا ينضب وإن جفّت كل القنوات والمياه.
 
أمل دنقل :
من الصعيد الأعلى إلى غرفة رقم 8
لم يكن أمل دنقل، ذلك القادم من الصعيد الأعلى بمصر، وما يحمله ذلك الصعيد من أثقال عنف وثأر، وبدايات تقدم ملتبسة، وما يحمله من هوام ونأي، يشبه بلدانا عربية قصية، في تركيبته على أكثر من وجه، كما يرتسم في مخيلتي.
لم يكن بداية إلا صدى ذلك الصعيد ورجْعه وحنينه وصدقه حدّ عري النصل ومضائه. والذي سيكون رافداً من روافد الشعر المصري والعربي، تأسيساً على تلك الخصائص والمناحي ذات النزوع الحرّ، الكاشف والحاد; رغم تمركزه في جملة وايقاع تفعيلييّن، ذلك الإيقاع المتاخم لأفق النثر والمخترق لرحاب حريته المتعدّدة المشارب والمصبات. فليس ثمة وقار الوزن ونصاب نظامه المسبق المتداول; هناك لعب من نوع آخر، مفتوح على الحياة بأشلائها وحطامها اليومي والرمزي في هذا الشعر.
لم يكن أمل دنقل بعدّته تلك، وهواجسه وانفلاته أمام إيقاع المدينة القاهري المتراكم والمقولب في نواح شتى، منذ أزمنة بعيدة في الكتابة والذاكرة، لم يكن، في ظل المناخ الثقافي والشعري المهيمن، لينصاع، ويتبنى عناصر ذلك المناخ وأجوائه ومعطياته، كان عليه بالضرورة العضوية وبطبيعة تكوينه وأصالته الابداعية والفطريّة، أن ينشقّ ويمرق عن مركب الثقافة الرسمية وغير الرسمية، ويكون ذلك الصعلوك النموذجي الصاخب حتى في صمته، وهو يجول في ليل هذه المدينة المتموج بالجمال والأصدقاء والتناقضات والأحلام المجهضة، التي بدأت تأخذ شكلاً آخر في مخيلته ووجدانه. وهو إذ يذرع ليل القاهرة مع يحيى الطاهر عبدالله ونجيب سرور وغيرهم من ذلك الجيل المنكوب بالألم الاجتماعي والوجودي.. أستطيع الآن، أن أتبينهم في الضوء الخافت للغياب، مع رفاق لهم يحتلون أرصفة العالم في آصرة روحية، أن أتبين أحذيتهم وهي تفركش ليل المدن بالرفض والسخرية والتدمير; متأملين الجمال ونقيضه والقيم التي بدأت تعممها عهود الانحطاط العربي. وذلك الصدق الخبيء المتواري خلف حجاب الألم والمعاناة اليومية للبسطاء والهامشيّين.
كان أمل دنقل يحاول الغَرْف من طين المدينة ودخانها ومخلوقاتها، ومن ذاكرته الصعيدّية الشرسة ومن التاريخ، طبيعة “مشروعه” الشعري الذي سيكونه لاحقاً. لم يكن دنقل في رحلته من الصعيد الأعلى إلى القاهرة على قلة أدواته الثقافية والمعرفية، في ذلك العمر المبكر والذي سيقصفه الموتُ على نحو مبكّر أيضا، مصدوماً بهذه المدينة المدهشة كما جرت العادة عند كثيرين، ارتدوا إلى ما يشبه الحنين الريفي المبّسط، وإنما اتخذ منذ البداية موقفا صِداميا يصل حد العدوانيّة، رابطاَ قيم المدينة وعناصرها المتغيرة بأبعادها المصريّة والعربيّة، رائياً عبر أقنعته وأساطيره ما سيؤول إليه الوضع العربي، من رعب وانحدار تتواضع أمامه أعتى المآسي في التاريخ وأكثرها هولاً; والتي لم تكن فترة (أمل) إلا النّذر الأولى إن لم نذهب بعيدا في التاريخ، لهذا الدَّرْك الذي وصلت إلى قعره هذه الأوضاع بتشعباتها وأماكنها المختلفة. كان الواقع واستشراف القادم، يضغطان على أعصابه وخياله، أكثر من أي شيء آخر; فكان ديوانه الأول عبر قصيدته الشهيرة (زرقاء اليمامة) بما يشبه الصرخة الشعريّة الأولى:
“أيتها العراّفة المقدّسة
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى
وفوق الجثث المكدّسة
مكسر السيف مغبّر الجبين والأعضاء”
لم يكن (أمل دنقل) شاعرا سياسيا وفق الوعي السائد لهذا المصطلح ومن على شاكلته. ليس لأنه قال شعرا في الحب والموت والطفولة، فمثل هذا الرسم والتصنيف لا يليق بإنجازه الإبداعي. ولا بإنجاز أي شاعر حقيقي. كان شاعر أبعاد وفضاءات. كان التاريخ بالمعنى العميق، هاجسا أساسيا في مساره، تاريخ الفرد المندغم بتاريخ الجماعة اندغام الخاص بالعام، من غير تنظيرات أو فواصل مصطنعة. كان معفّرا بتراب الأرض ووحل التاريخ.
أليس الشعر هو التاريخ نفسه بأدوات الخيال والوجدان، أليس الشعر هو تلك السيرة الخاصة للذات وتمزقاتها في مرآة حركة الزمن والتاريخ، كل حسب رؤيته وأسلوبه؟ كان الشعر لدى (أمل) قراءة للمعيش ونبوءة بالقادم، لكنه من فرط توحّده بنبض المكان والبشر والأشياء، ليست نبوءة المتعالي أو المتعالم، ليس قديسا أعلى مرتبة من سائر الناس. كان أكثر بساطة وصدقا، ذلك الصدق الذي وحدّ الكتابة والسلوك، حتى الوصول إلى مشارف الانتحار وبهجة الضفاف الأخرى، كأنما هذا الجنوبي، كائن السلالات الناريّة لا يستقر إلا على القلق والرفض.
“لا تدخلوا معمدانيّة الماء
بل معمدانيّة النار
كونوا لها الحطب المشتهى والقلوب”
***
تشرد الشاعر الجنوبي في واقع الحياة اليوميّة بتفاصيلها، كما تشرد في الكتابة وسط زوابع رموزه وأساطيره وأقنعته. من العصر الفرعوني حتى العهود العربيّة اللاحقة، إلى الراهن والطفولة الجنوبيّة التي تهيمن على الشاعر أكثر وهو على عتبات النهاية في (الغرفة رقم8). عبر هذا الترحّل في المكان والزمان الشعريّين، أخضع أمل دنقل تلك الأزمنة بشخوصها وشعائرها لما يرتئيه من معضلات واقعه وزمنه. فكان الواقع العربي معروضا في الضوء الباهر للتاريخ; فيما يشبه الدراما المسرحيّة حيث الماضي والحاضر يتبادلان الأدوار والمواقع، في لعبة أقنعة محبوكة لصنيع الفنّان وقدرته على إدارة المصائر والانقلابات في الذات والتاريخ. لعبة تنزف مفارقة وألما، وتفيض حنانا، وهو ما يكشف عنه الشاعر حتى في هيجان الغضب والإحباط.
“لو كنت ريحا لاختنقتم حين لا تهب
لو كنت نوحا فوق لجة الطوفان
طردتكم من السفينة
لو كنت نيرون لطهرت قلوبكم على ألسنة اللهب
لكنني أحبكم..”
تذكرنا هذه العبارة، بعبارة (آخاب) بطل رواية (موبي ديك) “لو كنت ريحاً لن أهبّ على هذا العالم” مثل هذه المقاطع والقصائد العنيفة يمتلئ بها المتن الشعري، إن لم تكن لُحمته وسُداه. فهناك المدن التي يتقاذفها القراصنة المخمورون كما يتقاذفون زجاجة الخمر بين أقدامهم. حتى في مواقف الحب، هناك نوع من عنف خبيء ورغبة تدمير. إنه الارتطام بالعالم وقيمه وأنماطه.
من جغرافية الآلهة الفرعونية ورموزها المتصادمة في السمو ونقيضه، في حلم العدالة والظلم الساحق والعبوديّة، تمضي رحلة النص الباحث عن ذاته وهويته بتجلياتهما المختلفة; حتى زرقاء اليمامة وحرب البسوس. . الخ.
تتبدل الأقنعة والعصور، لكنّ روح النص وهواجسه وأحلامه وانكساراته، تبقى واحدة، في منعرجات هذه الرحلة المرهقة. البحث عن المعنى في ظلمات العدَم الماثل دائما. وفي محطات هذا الترحال، تستوي لغة التعبير الشعري وتنضج من محطة إلى أخرى، ليس بالضرورة في خط تصاعدي، لكن (زرقاء اليمامة) حيث الشاعر ما زال يختبر أدواته وموهبته الأكيدة، ليست هي (حرب البسوس) ذات البناء الأكثر تركيباً وتعقيداً بالمعنى الفني، مشدودة إلى عصب الفن الكبير:
“هل تترّّنم قيثارة الصمت
إلا إذا عادت القوس تذرع أوتارها العصبية
والصدر حتى متى يتحمّل أن يحبس القلب.
قلبي الذي يشبه الطائر الدموي الشريد”
وصولاً إلى المحطة الأخيرة الأكثر خطورة حياة وشعرا، في (الغرفة رقم8) وهنا تبدو مفارقة أخرى في رحلة المفارقات الشعريّة عند دنقل، مفارقة تبدو قليلة في تاريخ الإبداع والمبدعين; وهي الكتابة على عتبة الموت الفيزيقيّ القادم حتماً، حيث الشخص الموشك على الانطفاء النهائي، ينهي مسار تحديّاته للحياة والزمن ويستكين إلى قَدره; وإذا ثمة كتابة فليست أكثر من شكوى قدريّة وبوح واسترحام بالمعنى البائس الذي يرتد إليه الكائن في لحظة الانكسار النهائي. في (الغرفة رقم8) نقرأ كتابة مختلفة، استمراراً للرحلة الإبداعية برهافة وإشراق أكبر. خفّت تلك الجَلَبة في النص، وتعمق مكانها تأمل وجودي أكثر حضورا عن ذي قبل في الحياة والموت والطبيعة. ثمة تقطير اللغة وكثافتها.
يبدو أن شبح الموت المحدِق، لم يزده إلا توقداً وإبداعاً، وفي السياق نفسه يتم استدعاء طفولة ووجوهٍ، أضحت بعيدة ومكتنفة بالغموض.
وأصدقاء وأماكن ومقاهٍ كانت مراتع الشاعر، يتم استحضارها، عبر حركاتها وتلويحاتها الطيفيّة الآخذة في النأي والاختفاء.
“هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي؟
هذه الصورة العائليّة
كان أبي جالساً وأنا واقف تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجا وعلمت القلب أن يحترس”
وإلى ذلك الاستحضار للمكان القصيّ ومن ظلال الأعماق، سيكون المشهد الحسيّ الماثل بتفاصيله وشخوصه وألوانه، هو الآخر وقود الشعر في هذه التجربة الأخيرة، من غرفة العمليّات ونقاب الأطباء، ولون السرير الذي أضحى قبراً، المشهد الذي يكتسحه البياض، عدا المعزّين بالسواد كالعادة. وهو ما يأخذ بحِيرة الشاعر، إذ يتساءل، هل السواد
“هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن؟!”
يمضي الشاعر في تأمل الموت من خلال المشهد المحيط، على أكثر من وجه والتقاطة بالغة الذكاء. وكأن الميّت ليس هو، كأنه شخص آخر يتأمل في مرآة غيابه الوشيك ذاته والزمن والزهور، الطيور والخيول التي أصبحت للترفيه السياحي، في الظلال الباردة للمتاحف وفوق حلبات سباق المتر فين، بعد أن كانت بريّة، كالناس، وكانت تبني الممالك والسموّ النبيل. صارت مدجّنة ذليلة مثل بشر هذا الزمان.
مشاهد ومقاطع أنى للذاكرة أن تغادر أو تنسى ذلك التأثير السحري الآسر:
“تتحدث لي الزهرات الجميلة
أن أعينها اتسعت ـ دهشة ـ
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة إعدامها في الخميلة”
في حواره مع باقة الزهور التي جاءته كهدية أمنية بالشفاء الذي أصبح مستحيلاً، كيف قطعت تلك الزهور، مشوار موتها المرعب، كيف تجود له بحنانها “بأنفاسها الأخيرة”. نوع من أنسنة الطبيعة. فحين يبدأ البشر في التلاشي والاضمحلال والإبادات الروحيّة والأخلاقية، تحل الطبيعة ـ أمُّنا الحنون ـ بحيواتها وجمالها الصامت، بفراغها الأكثر اكتنازا بالأسرار.
“رفرف
فليس أمامك ـ
والبشر المستبيحون والمستباحون صاحون
ليس أمامك إلا الفرار
الفرار الذي يتجدّد كل صباح”
هذه الأنسنة للطبيعة وتوجيه الخطاب الشعري نحوها، في حوار مرير، يرى الشاعر في مرآته، صور الموت القادم، وصور العدوان البشري. كل شيء آيل للزوال والانتهاء، وهذا أكثر نبلا، وفق رؤية الشاعر، قبل أن يستباح مثلما استبيح الصقر، صقر قريش.
دائما هناك ذلك التوحّد، بين الموت الفردي والموت الجماعي; بين الراهن والتاريخ، وحدة مصير لا تنفصم عُراها بين أعضاء هذا الجسد المثخن بالجراح، حتى في اللحظة الشخصية الحرجة. رغم أن دنقل في ديوانه الأخير، يقف مع الموت في مواجهة حاسمة ونهائية، مما يدفعه الى استبطان الذات والوجود إلى الانغمار في الأعماق الجوانيّة لمسيرة الكائن على هذه الأرض. هنا يحتل الداخل مساحة أكبر من الخارج، إذا صحت هذه الثنائيّة، وهي ربما صحيحة في تناول نتاجات شعريّة وإبداعيّة بعينها وليست بإطلاق.
في سياق أنسنة الطبيعة، يتأنسن الموت ويفقد خشيته ورعبه الميتافيزقيين، ويضحى كائنا أليفا طبيعيّا، وكأنما الإرث الفرعوني الموغل في ازدراء الحياة العابرة، يمارس سطوته بشكل لا واع ، على الشاعر، لكن من غير ذلك البعد الإيماني البديل، الذي يجعله مشدوداً إلى “بين الحق والخلود والأبديّة”.
***
أمل دنقل الذي دفع بالعبارة الشعريّة العربيّة ذات الهاجس التاريخي والميثولوجي، إلى مشارف جديدة، ولم تغره تلك التهويمات اللفظيّة التي أخذت في الانتشار، والتي تتوسل الإدهاش البراني وما يحتويه من فقرٍ روحي ودلالي.
أمل دنقل بمنحى ما تقدم، وغيره بالطبع، شاعر بالغ الثراء والموهبة، رغم اختلاف الرؤى والخيارات، لكنه “ليس العبقريّة التي نحتاج إلى ألف عام من الآن، إلى مسافة تماما كالتي كانت بين المتنبي ودنقل، سنظل ننتظرها”، كما عبر كاتب كبير، إلا إذا اعتبرنا ذلك نوعاً من المبالغات التي تنتشر هذه الأيام بصورة أكبر ولا نستطيع التفريق بين هَزَلها وجدّها.
أمل دنقل ليس ضمن هذا التقييم الطريف، وليس هو” الذي فقد الشعر المصري بغيابه- أمله في تطور الخطوة التالية لصلاح عبدالصبور تطورا حاسما” كما عبر شاعر كبير أيضا. الشعريّة المصريّة ما تفتأ تتناسل أجيالاً وأساليب وطرائق تعبير.
***
أخيرا ونحن نحتفي بالذكرى (الخامسة والعشرين) لرحيل أمل دنقل، في هذه اللحظة المفصليّة، التي توغل فيها الحضارة في مهاوٍ بربريّة تكنولوجيّة حديثة، يحسن أن نذكّر بمقولة الفرنسي ذي الأصل الروماني (سيوران) بأن (هتلر) و(ستالين)- مع الاحتفاظ بالفروق- ليسا إلا طفلين في جوقة موسيقيّة، بالنسبة للقرن الذي نعيش بداياته البشعة، وقد أطبق طغاته وجهلته على رقَبَة العالم والكون.
أما عربيّا، فقد وصل الوضع إلى ما هو عليه، إلى آخر الشوط، في تغذية جلاديه وقَتلته، بالمال والدم واللحم الحي، كي يكون لقمة سائغة، من غير أبسط غصة في فم القاتل والجلاّد. ابتلاع الفريسة بسلاسة بالغة، وهو ما لم يعرف له التاريخ مثيلاً حتى في أقصى العهود عبوديّة وانحطاطاً.
هل نردد ما كتبه (دانتي) على باب جحيمه “اخلعوا كل رجاء فأنتم على أبواب الجحيم؟” لكننا في قلب الجحيم حقاً، في قلب الربع الخالي، حيث يضيع الدليل، ولا يتبقى من القافلة إلا كلبها الجريح، ينبح في عَتْم الأبديّة.
ربما من هناك يبزغ معنى مختلف للوجود.
قاهرة علي قنديل
علي قنديل، الشاعر المصري، الذي غادر عالمنا، عالم الاحياء، وفق التعريف البيولوجي للموت، في 5/4/1975م.. إثر إصابته في سيارة النقل العامة، التي دهستها شاحنة في ليل طرقات الصعيد (ربما)، الذي يختلط في جنباته عواء الذئاب مع صرخات الانتقام الثأرية بين قبائل البدو المتناحرة في تلك البقاع.
مات علي قنديل قبل أن يكمل الحلقة الأخيرة وفق “ريلكه” وما قبل الأخيرة. كان باكراً على ذئب الصدفة هذا أن يفترس جسد الشاعر، الذي كان يؤشر بقصائده للغة شعرية مختلفة عما ساد أجواء الشعر المصري الذي يتناوب بوابته شعراء فرضوا أنفسهم بقوة الأيديولوجيا والإعلام.
كان علي قنديل مع مجموعة أصدقاء مشكلين هذا الهاجس الجديد. وكان من أكثرهم شاعرية وتدميراً لأصول الشعر المستقرة. بجانب حلمي سالم وعبدالمنعم رمضان وحسن طلب والقائمة تطول. برزت موهبته مبكرة، كالموت الذي خطفه وهو يتنزه في حدائق أحلامه الموحشة، بين زيارة أهله الفقراء وكتابة قصيدة جديدة تخترق حجب السطح الزائف. القصيدة، قصيدته تختلط فيها دماء اليومي القاسي ونزوع غامض في التقاط كينونة لا متناهية. .
كان علي قنديل يفتت عناصر الوجود ليجمعهما في مناخ شعري يمتلك خصوصيته إلى حد بعيد. نص يضج بالأشياء الملموسة والمبعثرة هنا وهناك، والتي ترتفع بفعل المخيلة إلى أفق الشعر:
“ونمشي فوق تراب النيزك نخفي وجهينا في صدر العائلة
العائلة الدافئة من اللبلاب أو النسرين
أو نتواصل عبر لقاح البازلاء”
ليس ثمة ما يدخل من هذا الشعر في مجانية القول أو التراكيب الفارغة التي يختفي وراءها الكثيرون من دعاة الحداثة، بل وعبر مجموعته الشعرية الوحيدة “كائنات علي قنديل الطالعة”. . كل صورة، كل جملة شعرية تفيض بدلالات مناخ المعاناة المخصّبة بذلك الحلم، الذي يتجول وحيداً فوق تراب النيزك ويتحد أخيراً بالنهاية المؤلمة.
علي قنديل حين كان يكتب هذا الشعر. كانت ذاكرة الشعر الخمسيني هي المهيمنة بإطلاق، والمناخ الشعري الجديد ليس بهذا البروز المختلف مع تلك الذاكرة وهذا برهان آخر على تميزه وشاعريته.
حين يتكلم علي قنديل بلغة الشعر عن القاهرة، التي أتى إليها غريباً من قريته للدراسة، نلاحظ أن هناك موروثاً شعرياً ونثرياً واسعاً حول القاهرة، نجده مفارقاً للجميع من الشعراء، الذين سحقت هذه المدينة أحلامهم الريفية وفق رؤية مثنوية تقترب أحياناً من السذاجة، ريف-مدينة، وكانت لغة هذا الشعر وأدواته أقرب إلى رومانسية مضى عهدها. وهو بهذا يقترب من أمل دنقل والشعريّة المصرية الجديدة التي تجسّدت جوانب أساسيّة منها في مجلتيْ (إضاءة) و(الكتابة السوداء) في تلك المرحلة.
يقول علي قنديل:
“القاهرة : دخان يقترب :سماء
مدرجة في قائمة الأعمال. وفيما، بين
الحلم وفائدة الافكار وتوابيت
تتناسل، فطر يتكاثر والساعة
في عكس إيقاعات القلب.
أفتح نافذة، يتهدج موج يصل الشرق
بأعصاب الغبطة، أفتح عمقاً، تنشطر
اليقظة في ألق الشيخوخة فأعدل
هندام أمي، أفتح، أفتح تجرية”
هذه هي قاهرة علي قنديل. يمشي فيها مشية المتسكع بين صخور أحلامه وكوابيسه، متعثراً “بأحجار الشيخوخة وموائد الكلام” كي يفتح فضاء جرح جديد في لغة: اللغة – الحياة، تلك التي لاكها الخطباء ومتشعرنو الفصاحة والحداثات المفتعلة.
يمكن القول إن مثل هذا الشعر، كان يؤشر لأفق جديد في الشعر المصري. وفي مقام هذا الحديث العابر عن قنديل، هل من المجدي في شيء أن نتذكر عام 1974، على ما أظن، فالجو مليء بضباب الزمن المتعجّل والشتات، حيث جمعتني كمستمع، ندوة أدبية في القاهرة بعلي قنديل وحلمي سالم. ربما كانت آخر مرة بالنسبة لعلي. في تلك الفترة كنا نتهجى أبجديات ثقافة محتملة، وربما كان علي يتهجّى أبجدية موت غامض.
نجمة البدو الرحل. أو القاهرة
نحن الذين وُجدنا فيك
صغارا
وكبرنا بعيدا عن رعاية الأبدية
نحن الذين تسلـّقنا حواريكِ باحثين
بين مقابرك الألف، عن فجرٍ هربَ
من بين أصابعنا خِلسةِ واختفى.
***
الفضاء مسبحةُ الطرقات
والليل حاجب مياهك المضاءة بالكلام
يموت الكون، برفيفه الغاضب
ويولد في ضحكه.
تنتشرين بحزن كما لو أن الحرفيين وبائعي الخضار
والفواكه أسرجوا أيامهم بالدمع.
يطوف الهواء على الشرفات
حيث كنا نقرأ الكتب ولا نذهبُ
إلى المدرسةِ
لأن الشتاءَ فاجأنا هذا العام بضباب كثيف.
وما بين (الدقي) ومقهى (ريش)
يرتجف قلب العاشق المأخوذ
على مدار الصدمة
تجلسين على الرصيف، تكتبين أيامك الملأى بالتوقعات.
أى ذكرى لمقاهيك وحلوانكِ
لمحطات قطاراتك الأليفة بنحيبها الذي
لا ينقطع
أي عاصفة ستخلع أبواب العالم هذه الليلة،
يسحب المسافر ظله، مجرة تيهٍ وألم
لكنك الصدر الأكثر رأفة من المعرفة.
إيزيس. . إيزيس
بلمسة غريبة تصنعين العصور
وبين قدميك يركع الملاك
أحلامك التي تسافر في خضم الأعاصير
الأعاصير وقد نامت وديعة بين يديك، خاتم زواج
إيزيس. . إيزيس
يا غنيمة الماضي
غيرةً، أحرق الإله غيوم الجنس
على بابك
رعودك وقد احتلتني
طيورك الكاسرة وقد أطبقت على فريستها
في الربع الخالي
مياه ينابيع في غور خلجانك البعيدة
أغرقيني أيتها الزائغة
بالرغبة.
العبد الآبق لا يستحق الشتيمة
عبد رغباتك
تجمعين شمل القارات بلمستك الغريبة.
إيزيس. . سوزان.
أرى أيادي آثمة تمتد إليك.
أيادي منقوعة في السم
وأنت لا إثم لك غير الخطيئة
المشرقة في ليل
ليل جسدك الذي يشبه
غابة ً في جبال الهملايا.
يا غنيمة الماضي ونجمة البدو الرحل
الصوت المخنوق بزئير المسافة
لا يستطيع المديح
ربما التذكر قليلاً
مثل نيزك يسقط في قاع الجمجمة
أمشاطك الكثيرة ما زالت على الطاولة
فرشاة الأسنان المشتركة
أقلام الرصاص
أمراض اللوزتين
أقراص منع الحمل
السرير الذي أصبح عتيقا
ما زالت تنام عليه النوارسُ الكسولة
ممدِّدة أعناقها نحو الشرفةِ
حيث كنا نطل على شعوب سحيقةٍ
تطالبنا بالثأر.
الشقة ما زالت بفوضاها
بستائرها المذعورة تحت هجمات الريح
بسعال زوارها الليليين
وفي الظلمة الحادة مثل بريق شفرة
تشتبك أنفاسنا
وحيدين كأنما في أقصى جرف
من الكوكب الأرضي
ومن جسدينا يتشظى الأنين، بروقا صغيرة
في مدار الغيم الموشك
على المطر.
كان ذاك العام عام الجراد
وكان بنو هلال يزحفون
على ثغور النهر
متمنطقين بزنار من الحكايات
والنساء يسطعن تحت ضوء السيف
في وداع الفرسان
وكان الدم الفينيقي والآرامي
والدم المزوني يشخب في شرايينك
جبلّة أعراق ومجازر.
في التلال القريبة ينشب المساء أظافره
على الشجيرات الوحيدة.
كنت ترقبين الغروب
بحرا من الغرقى
مظلّة أوهام نحيلة
المساء، مساء منتصف الطريق،
ومن عمان حتى السند وزنجبار
كان البحارة يستلون المدن والذكرى
البحارة بقاماتهم التي لوحتها
شمس آب
نخيل مسافر
أمجاد بمسميات كثيرة
وأمجاد لا اسم لها
البحارة بأغانيهم التي تجرف الليل والنجوم
محدِّقين في أمواج الصواعق
بنات نعش طفولتنا الهاربة
خلف الأسوار.
أخيرا تصلين إلى بيروت
قوس قزح العالم
ينطفئ في عينيك
يا بيروت
لن نكتب لك المراثي والمدائح
ولن نصلي لأجلك
كما يفعل الرهبان والشعراء
سنقتلك بمدية المحبة
وننثر الشائعات على جسدك
وقد تضرج بدم الفينيق
سنقتلك بنفس البساطة التي
نعرفك فيها، ببساطة ليل جياعك الأصم.
وبعد ذلك أو قبله بقليل
صرت تذرعين البسيطة
بحثا عن عقدك الضائع
عن وليمة الليل الجاثم في الصدر
من القاهرة حتى الجزائر
حتى اسكتلندا ودمشق و..
فضاءات تلد أخرى
مثلث برمودا منتحرا بأسراره
أصقاع. أصقاع.
وكنت السلالة الوارفة على متشرد
وكنت ذهب المحيط
فيحاء. . إيزيس..سوزان
الصوت المخنوق بزئير المسافة
لا يمكنه الصراخ
ربما التذكر قليلا
كأنما بالأمس. بالأمس فقط
مرّت أسراب المذنـّبات.
***
 
 
 
الى أروى صالح *
أرتشف جرعة الشاي الأولى
بخارها ما زال يحلّق كغيمة حميمة،
أنظر إلى الأفق الخالي من المارّة والطيور.
أحاول الكتابة عن امرأة قضتْ في أحد الشوارع المجاورة
أحاول القول مثلا:
الجسد ينزل من الدور التاسع
خفيفاً مرحاً كأنه في نزهة غرام
مضيئاً وحشة الليل
بمغامرته الأخيرة
الجسد يذهب مع أسرار جماله
ويتركنا في الحيرة
تعصف بنا رياح هوجاء..
أترك المحاولة عن المرأة وقطارات بولاق
وأعود إلى غيمة الشاي
لأجدها قد رحلتْ مع طيور
أخذتْ تملأ الأفق الخالي قبل قليل
*كاتبة مصرية
* * *
 
سينما سنفكس
الشبح يعاود الظهورَ
يرتدي ملابس الشتاء
مسرعاً من غير هدف.
الشوارع ما زالتْ هادئةً
والأعياد في آخر أيّامها
الأضاحي نُحرتْ
والدم المتيبّس ما زال على الحواف..
يسمع نداء قادماً من الفجاج العميقةِ للذكرى
يتجاهله
ويمضي إثرَ حمارٍ ينطلق بطفل في الشارع الكبير.
يتخيّل شعوباً بكاملها تجري وراءهُ
شعوباً منكوبةً وجريحة
يطاردها أعداءٌ مدجّجون.
يجد نفسه أمام دارٍ للسينما
تلك التي شهدتْ ميلاد أبي الهوْل،
والتي شاهدَ فيها
أوّل الأفلام في حياته،
حين كانت القُبلةُ تعشبُ سهلاً قاحلاً
وتجعلُ الجسدَ يسقط في الدوار
***
 
حديقة الميرلاند
أمام الحديقة الكبيرة
التي كانت مركضا لأفراس الملك
ومخدع صقوره وبغاياه
حديقة الميرلاند
بأعشابها الخريفية
والقمر الذي غاب أخيراً
مع غياب عشاقها الليليين
كانت أرواحنا، غسق الأشجار
وكنا نرهف السمع لارتجاف العصافير فوق جبل المقطّم
الفمان فم واحد يتكسر قبلة
في ذلك الزمان
كان لنا منزل
وكنا نحن فيه.