هل يمكن لموهبة ان تخرج عن مألوف السائد والمألوف في البلد الذي تعيش فيه او البلد الذي تحمل جنسيته؟
وهل يمكن لموهبة ان تخترق ايقاع حياة الحدود الجغرافية التي تسمى بدولتها او اقليمها وتتجاوز كل ما هو سائد منها من انتاج ثقافي وتتخطاه؟
باعتقادي ان ذلك ممكن ضمن شروط تتعلق بالذات المبدعة وبالظروف الموضوعية التي تحيط بها عيشا وتأثيرا وتمثلا. فموهبة مثل موهبة سيف الرحبي الأديب الشاب الذي ولد في عُمان وعاش فيها، ثم انتقل مجبرا او مختارا للعيش في عدة أقطار عربية يمثل حالة من حالات الاجابة الايجابية على الاسئلة التي اثرناها.
فموهبته وابداعاته تتجاوز كل ما هو سائد من ابداعات في القطر الذي نشأ وتربى فيه وحمل جنسيته.
فالأدباء في عُمان ما زال همهم ينصب على تقليد الموروث ومحاولة  السير على دربه. ومحاولة السير على ذلك الدرب لا تعني ان النتاج الجديد يقف ندا للقديم، بل ان الجديد يهرب من مواقعه في العصر ليحاول محاكاة نتاج عصر مضى وانقضى.
والمقلد هنا يأتي في الكثير من الاحيان هجينا. فلا هو ابن عصره.. ولا هو في نفس الوقت ابن عصر الزمان الذي مضى ان كان في المستوى الفني او في مستوى المعالجة للموضوعات.
الجبل الاخضر
ومن يقرأ لسيف الرحبي كتابه الذي صدر منذ اسابيع قليلة واطلق عليه اسم ((الجبل الاخضر)) واصر على وضع ((كتابات عمانية، على غلافه ايضا. لا يمكنه الا القول بان ابداعات سيف ما هي الا ابداعات شربت من منبع الثقافة العربية وتأثرت وهضمت كل ما هو سائد في العصر.
سيف الرحبي أديب من الأدباء الذين عاشوا في رحاب الثقافة العربية وتمثلوا تياراتها الأكثر حداثة.. فأبدع في هذا المجال وأعطى وما زال يعطي.
وكتابه الثاني ((الجبل الاخضر)) الذي بين أيدينا تضمن أربع محاولات أو ((التباسات)) قصصية كما اسماها هو وخمس قصائد. وهو في محاولته الشعرية والقصصية لم يخرج عن اطار الموضوعات التي يستوحيها ابناء جيله من الشعراء العرب، مثل التسجيل لمحاولات القمع والتخلف والامراض المعشعشة في الأرض العربية. مع التميز في توظيف لمحات وقسمات صور تختص بمظاهر البيئة في عُمان. ومع انه ينقل الصورة والأجواء الشعرية ويخصب بهما لغة وأجواء القصة، مع ذلك فان جسد القصة بقي فضفاضا تتوارد فيه صور الاسترجاعات والكوابيس والاحلام السيريالية أحيانا، دون ضابط، ودون ان يتشذب التوظيف ليوحي ويوفي بشروط ومتطلبات القصة المتعارف عليها. لذلك فان شعره كان افضل من قصصه.
صحيح ان المخيلة الجموحة التي تفتق صورا ملسوعة اذيالها بنيران الواقع احيانا ومنقوعة بمآسيه في احيان أخرى هي نفسها في الشعر وفي القصة.
مع ذلك فان الشعر كان أكثر طواعية واكثر بهاء واكثر وضوحا في تجسيد الحالات التي مرت في بوتقة الابداع عند الكاتب.
وكما قلت ان ميزة الشاعرالرحبي هو انه يملك خيالا جموحا يقترب في بعض الاحيان من اجواء الكتابات السيريالية.
لنقرأ معا هذا المقطع:
جلس التاريخ القرفصاء يدخن وكانت حدقات الغيم منافض لرماده وبين الطلقة والطلقة يسعل كأس مسلول ينتظر عصف العلاج الآتي.
وكما في ((كما في الاحلام)).
يحدث أحيانا
أن يجلس على النافذة
فيرى رؤوسنا تتدلى
من اجسادنا
نحسبها نواح عصافير
يحدث أن يسقط نيزك على
جمجمة  تموء كالقطة
في مدخل البناية
يحدث ان تتلاشى السماء
في مسامنا
مثل ثغاء الماعز
فنسقط من كثافة الرؤيا.
وتتميز قصيدة الجبل الاخضر بأصوات مركبة تقترب من تركيبات القصائد الملحمية. واننا ننشر مقطع الشاعر الذي جاء في نهاية القصيدة كاملا.
هذيان الليلة الاخيرة
ويبدو ان الكاتب في تعامله مع أدواته الفنية الشعرية والقصصية تمثل جيدا الكلمات التي سجلها في قصة ((هذيان الليلة الاخيرة)) فكما على الانسان ان يتعذب، كذلك الحرف عليه ان يعاني فوضى تحوله وعذابه حتى الانفجار الأسمى حتى يتحد بشظايا النار المجوسية وقنبلة هيروشيما التي استقرت جرثومتها الأزلية في أعماق كل انسان ص113.
ولأنه هو قائل هذا الكلام.. لذلك فانه لم ينس دوره في تطبيقه واخذه مأخذ الجد والتطبيق العملي.. فجاءت قصائده وقصصه حاملة لتلك الجرثومة التي ادخلت غموضا وتشوشا على ذهن من يقرأ بعض المقاطع في كتاباته.
لكن هذا لا يعني ان بعض المقاطع في قصصه وقصائده لم تأت بالرقيق والعذب شعرا ونثرا لنقرأ معا: ((كانت الغيوم تتداخل بفرح طفولي مثل وعول بيضاء في سهل أخضر)) ص122.
((شعر برذاذ الدفء يتناثر من جدائل نساء يطلعن كالاشجار في سديم هذا المشهد الحلمي- أغاني رعاة تعزفها حنجرة الفجر)) ص124.
((كم انا مشتاق لحنان يديك وأنت تقومين مع الفجر تمشطين شعر الحقول بأصابع الملائكة)) ص127.
وإذا كانت هذه الصور الرقيقة الموحية ..قد أنارت أجواء قصصه، فان ما نشرناه من مقاطع من قصائده يحمل التوكيد على أن سيف الرحبي يملك الاستعدادات الكاملة ليكون له شأوه وشأنه في دنيا الابداع.. وهو حتما سيصل الى ذلك بعد ان يتخلص من نزف الجموح، ومن فوضى الاسترسال، وبعد ان يرسي على حال من حمى التجريب التي تشغله وتأخذ من طاقة ابداعه الشيء الكثير.
و… مرحبا سيف الرحبي.
الطليعة ص34-35
الكويت 1983