حياةٌ على عَجَل
سيف الرحبي
الفهرس:
– أسئلة الكتابة
– سينما العالم المفتوحة
– الطريق الى الربع الخالي
– عام أتى عام مضى
– طرق القتل والتسميم
– ثيمة الغياب في شعر محمود درويش
– السياحة الروحية
– صلاة الاستسقاء
– الصيف ونوم القطط
– بين الصيف والشتاء
– مياه الروح
– قطيع الجسور
– مقبرة بيرلاشيز
– الصعلوك الارستقراطي
– رحيل الكبار
– التلفزيون : فلليني
– اسطورة البراءة : دوجفيل
– لحية لينين
– متعة الجريمة
– الشر والخير
– الانفس الميتة
– الاخوة الاعداء
– تحقق المثال
– نزار قباني والخليج العربي
– غالب هلسا
– التحية الاخيرة :سركون بولص
– القارئ البصير : عباس بيضون
– مع أمين الزاوي – المكتبة الوطنية
– جواد الاسدي : نشيد الصحراء الحجريّة
– تعويذة الحسيّ
– الفلسفة والصحة العامة
– شعراء مترجمون
– حافة النسيان
– مختارات
– خمسون عاماً على تأسيس مجلة الشعر
– احتفاءً بالثقافة – احتفاءً بالشعر
– أسطورة المتنبي
– الرأسمال المتوحش
– الخطابة
– صحراء المسافة
– اللجان
– القاهرة – بيروت
– النسمات المنعشة
– من أصيلة إلى مسقط
– مواكب الاحداث
– انحطاط الموسيقى
– نزهة الخيال عبر المرض
– نعمة النسيان
– هواجس سفر ليلي
– حذاء سندريلا
– يد المحبة
– فرقاء الحروب
– حوار طرشان
– مزرعة الكراهية
– الشيخ والبحر
– طاعون الحروب
– ارث العائلة
– خريف عابر
– مجد الحيرة
– الضباع تلهث وراء طرائدها
– ضيافة الجبل الاخضر
– إلى أين تذهب؟
– عصافير الوادي
– تاريخ الأيام
– منزل الواقع ، بيت الأبدية
أسئلة الكتابة
ماذا يستطيع كاتب جمل وكلمات شعراً ونثراً ، أن يقول لقارىء سواء كان موجوداً في الواقع ، أو في المجال الافتراضي لمخيّلة الكاتب والكتابة ، وهو الأغلب في سياق اللحظة الراهنة لتاريخ يتوارى فيه القارىء والكتاب على نحو خطير لصالح وسائط وممكنات أنجزتها التطورات التقنية الهائلة ، معظمها يسوّق التسطيح والتفاهة في خطابات تتدفق كالسيل العِرم ، ضاريةً في تغييب الأسئلة الحقيقيّة للحياة والوجود ، أسئلة الكائن في التاريخ ..
الإنسان العربي في هذه اللحظة الحرجة أيما حراجة في هذا المفصل المرّوع من تاريخ البشر والعالم ، هذا الانسان الذي ما يفتأ يرفس في إشراك المحن والدماء المراقة بغزارة قل نظيرها ، ويرفس في الحيرة واللامعنى ، إلا ما ركن ويركن إليه من جاهز مستتب ومتوارث عبر القرون..
إذا أمعنت الكتابة النظر فثمة ما يشبه انسداد أفق وسيادة المجزرة أو المقبرة بكل المعاني الرمزيّة والواقعيّة للكلمة وعلى المستوى العربي العام..
لكنها (الكتابة) لا بد أن تمضي بشكل من الأشكال في ممارسة دورها (الطليعي) إذا ما زال من معنى لهذه الكلمة ، ولا بد للكاتب أن يمضي في ممارسة الكتابة بالمعنى الحر الطليق في محيط مكبّل بالأغلال والقيود والظلام.. وإن ارتطمت الكتابة بعدم قدرتها حتماً على التغيير أو حتى على التصويب لمسار تاريخ واجتماع ، مثلما كانت ترّوج تلك الرؤية الصادقة لكنها ربما المتسمة بنوعٍ من التفاؤل السريع والتبشير ، فيكفيها شرف المحاولة أن تكون شاهدة حقيقيّة وصادقة على راهنها وربما على العصر الذي تعيش.
***
الصفحات والأسطر التالية التي شكلت كتاباً ذا دفتين وعنوان ، ليست إلا عجالات وتعليقات واحتفاءات ، سبق نشر معظمها في أكثر من جريدة ورقيّة والكترونيّة …
وهي لا يجمع بين شتاتها جامع محدد الملامح و(المشروع) إلا أطياف الأدب والكتابة المبعثرة في أكثر من ركن مقهى ومدينة وقارعة طريق.
ليست إلا شذرات وقراءات ومشاهدات التقت صدفة لتشكل عنوان كتاب .
لكن متى كانت الكتابة (كتابتنا) خارج هذا القدر أو ذاك من الصدفة إلا باختلاف الطريقة والاسلوب ؟
للأصدقاء الذين جمعوا اجتمع شمل هذه الصفحات ونشروها ،أهدي امتناناً وشكراً
* * *
سينما العالم المفتوحة
لم تعد الخدعة والحيلة الهندسية والفنية، بكافة أشكالها، مقتصرة على الفن السينمائي، ولم يعد ذلك امتيازها الخاص، حيث يتفرج المشاهد على العواصف والبحار الهائجة وأسماك القرش وأسراب الخيل، وهي تطارد الحيوانات والهنود الحمر كما تطارد الطائرات والصواريخ العابرة راهنا، شعوبا أخرى على هذه الأرض.
يتفرج المشاهد على الجيوش الجرارة والكواكب وهي ترتطم ببعضها، والوحوش الغريبة في الاستوديوهات الهوليوودية وغيرها، بمساحات ضيقة بالنسبة لهذه الحشود السينمائية الضخمة.
لم تعد الخدعة مقتصرة على السينما، وعوالمها وشخصياتها، بحيث باتت توصم من قبل الوعي العام بالسلب، كونها قرينة “الكذب” كما ألصق الوصف نفسه تقريبا بالصحافة (كلام جرائد) أي أن السينما ومن ثم الصحافة تضخم الحوادث والأمور أو تخترعها بالكامل. فحسب هذا الوعي هي مضادة للصدق والحقيقة. طبعا نحمل هذا الوعي على دلالته المباشرة في تصوره لصدق الحدث وصواب الخطاب. ولا نغوص أبعد في “الكذب” الإبداعي الذي تحدث عنه (فلليني) وآخرون، وقبلهم عرب قدماء (أعذب الشعر أكذبه)، والذي هو عدة الفنان والكاتب وعرين الخيال الطليق في تناول الوجود وتنظيمه في سياق الفن والإبداع.
* * *
لم تعد الخدعة ولا التمثيل، أي تجسيد الأدوار المختلفة وأداؤها، حكرا على السينما والمسرح بعد أن تحولت إلى حلبة العالم المفتوح وكذلك الطبيعة عبر فصولها المتقلبة ليست بحاجة إلى تلك الحيل الهندسية التي تكلف المنتجين والنظارة أموالا كثيرة.
أنا الآن في مقهى أرقب الخارج من وراء الزجاج: ثمة شتلات نخيل وأشجار تكاد أن تغطي عمائر الأسمنت، وثمة غَبَش على الزجاج، ومما يتراءى أنه الندى. أو أن السماء مليئة بالسحب، وهي على وشك الإمطار، إن لم تكن تمطر. وكي تندمج الصورة أكثر بالحقل، ثمة فراشة ملونة ترف بجمالها قريباً من الزجاج الفاصل.
يمكنك ببساطة ومن غير إجهاد للخيال والاستحضار، أن ترى غابة تهطل عليها أمطار غزيرة أو متوسطة وثمة شآبيب تنداح على الزجاج والنوافذ وذوآبات الأشجار المستسلمة لهذا العصف المتخيل الجميل. ويمكنك أن تستدعي غابات آسيوية أو أفريقية أو أوروبية الى حيث تقودك أعنة الخيال الجامحة.
هذا المشهد يغرقك في واقع نقيظ للواقع الحي، يغرقك في واقع مُستدعى ومتخيل من غير وسائط. فداخل المقهى تهدر مكيفات الهواء، وفي الخارج يهدر الصيف ذو الحرارة العالية الموحشة. ولا يبقى من جمال هذه اللحظة النافلة، إلا خيال رجل وحيد، في مقهى، زبائنه قليلون.
* * *
على صعيد التمثيل والاستعارات الأدائية من عالم السينما وشخوصها، سواء النجوم أو الكومبارس، الذين يؤدون كل حسب درجته ومقامه (الناس مقامات)، فنجده انتقل إلى عالم البشر اليومي، من القادة السياسيين، حتى الفلاح في الحقل – إن وجد- وباقي الفئات التي صارت تستعير حياتها من وهم الشاشات وأضوائها..
ساسة العالم الآن من غير حاجة إلى دقة ملاحظة وانتباه، صارت حياتهم الرسمية والشخصية تحت المجهر دائماً، إذ لا شيء يختبئ تحت أضواء العصر الكاشفة، والتي هي جزء من اللعبة، لكل صغيرة وكبيرة. هؤلاء الساسة تفوقوا على نجوم السينما والمسرح وعالم الدمى، بشكل ساحق. مواهبهم التمثيلية أعلى من مواهبهم في الفكر السياسي وسلوكه، والذي يديره غالباً ويتولى أمره رجال من خلف ستار الحلبة أو ما يسمى بالقوى الخفية من اقتصادية وأمنية وتنظيرية.
من خلف الستائر والكاميرا والكادر ، تدير شؤون العالم تاركة للرئيس وحاشيته، مهنة التمثيل والرمز. إنها القوى التي تضحي بالمظهر وحب الشهرة والحضور الدائم، لصالح كهانة القوة ولذة ممارستها الفعلية.
من مناطق الظل والخفاء يمسكون بالحبال والخيوط، والممثلون على الخشبة الكونية يواصلون لعب أدوارهم كما رسمها أباطرة الظل المتواضعون.
* * *
الطريق إلى الربع الخالى
(حول الكائن المغترب والتسويات الممكنة)
يمكن القول بداية أن الكائن المنفي أو المغترب فى برهتنا الراهنة ليس ذاك المقذوف خارج منطقة مكانية بعينها تسمى : وطن ،وإنما ذاك الذى أضاع مكانه جذرياُ* فى هذا العالم ، وبدأ رحلة التيه الحقيقية التى لا أمل فى العودة منها .
انطلاقاً من هذا الشعور الحدى لهذه اللحظة المحتدمة بالهواجس لكائن وجد نفسه خارج العالم ، خارج لعبة الإجتماع والتاريخ التى تبعثرت ، لحظة هذا الكشف الآليم ، شظاياها وخيوطها المحبوكة جيداً ، فى صميم روحه وكيانه وحولته إلى كائن القلق والبحث والترحل بأبعاده الرمزية والواقعية ..
ثنائية الوطن_المنفى المتداولة حد الإستهلاك ، لم تعد تضئء شيئاً ذاقيمةفى هذه الرحلة الليلية المحتشدة بالهوام والأسئلة .لم تعد تعنى شيئا الإ ربما للدارس النفسى والإجتماعى وفق مناهجه المحددة سلفا . وحتى عبر هذا السياق انقلبت معايير المنفى والوطن وتصدعت حيث تبادلا الادوار فى عملية انقلاب ناعمة مخادعة ، وفق الشروط السياسية والاجتماعية والتعبيرية فى أ كثر من بلد ومكان . وحيث أصبح الوطن هو مادعى بالمنفى وكذلك العكس .
عملية الانقلاب هذه تستدعى بالضرورة ، اشكاليات متعددة ليس على صعيد الحياة اليومية والمدنية التى أصبح منفى كالمنفى الأوربى يلبى احتياجتها ومتطلباتها أكثر من الأوطان المنكوبة بكافة أنواع التسلط والحروب والإنهيار .
إشكاليات الكائن المنفي الذى يتاعطى الكتابة والتأمل والتفكير ، ذاك الذى ندعوه شاعراً ومثقفاً.. مثل كيفية اشتغال المخيلة ، الذاكرة والحنين .. إلى آى مدى تبحر سفنه حيث لا نجم يٌهتدى به . بحر مضطرب وظلام عميق . ؟
هل مازالت الأمكنة الأولى ، أمكنة الطفولة دوافع جذب وحنين .؟ هل مازال ذلك النبع الذى تنهل منه مخيلة الكتابة ، بؤرة الأماكن فى تشظيها وتعددها ،مرجع الذاكرة فى رحلتها الشاقة بين المدن الغريبة والناس الغرباء . أم كغت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والإنخلاع قبضته الازليه .؟
**********
لنفترض أن هذا الكائن الباحث فى غابة الكلمات ، عن موطئ قدم ليحط فيها رحال الشاهد والمتذكر ، بدأ رحلة الانفصال عن المكان الولادي ، مكان الخطوة الأولى، مطلع السبعينيات من القرن المنصرم ، أحس فى البدء مايحسه الأخرون من لوعة الفراق للوجوه والأماكن المألوفة الذى أستمر فترة من الزمن . و بالاندماج فى حياة البلاد الجديدة بدأ نازع الحنين والتذكر فى الخفوت، لكن ليس الانطفاء حيث استمرت جمرة الذكرى فى التوهج .، وحتى حين أمعن مشهد الترحل يشتئ الأصقاع والأماكن ظلت هذه الجمرة توصل الحياة السابقة لمرابع الطفولة بالحيوات اللاحقة وتلحم الزمن الأول بالأزمنة المتقادمة التى أخذت فى التكاثف والمباغته حتى أصبحت على ذلك النحو السريع الصاعق .
يعود المترحل بعد طول بعاد ونأى ، إلى تلك الأماكن التى حلم بالعودة إليها وروادته بكثافة الحلم واليقظة ، ليجد أن الوقائع تشيد بنيانها بمعزل عن الأحلام ونوازع الحنين ..
يعاود الرحيل والعودة مرة ومرات وبوتيرة سيزيفية ، ليكتشف كل مرة ما لم يعد بحاجة إلى اكتشاف : خرائب الروح وخرائب طفولة الكائن والمكان . يقف ناعقا بهجاء قاس وانتباه أقسى إلى هذه الصيرورة الفاجعة المنذور لها بقدرية عمياء صارمة ، حين لامكان للتسوية ولا خيط شمس يتسلل من تلك البيوتات الطنية العتيقة ، حيث كانت تقطن العائلة فى الأزمنة التى بدت له نائية أيما نأى وسحيقة
******
يمتزج البعد الوجودي الأنطولوجي للمنفى بأبعاد اجتماعية وسياسية ، وهذه الأخيرة تلهب الأولى وتدفع بها إلى حافة أكثر خطورة ومكابدة . تتضاعف المعاناة وتزدوج فالإنسان أو الشاعر الذى دفعت به خياراته فى ظروف محددة ودفعت به الصدفة إلى أن يكون ملاحقاً من قبل دولة وأجهزة لاريب يعيش حالة حياة خاصة ، تختلط فى رأسه الوقائع والأوهام على نحو كابوسى يوصل ليله بتهاره ويطوح به إلى حافة الجنون والموت ، خاصة وأن هذا الكائن ، الذى نحن بصدد الإشارة إليه، فرداً يعى فرديته وأفقها بعيداً عن الأنضواء القطيعى تحت لواء الجماعة بأسمائها المختلفة .
بطبعة الحال هؤلاء الأفراد غالبا مايكونون من أهل الأدب والفن ، حيث تتوتر المسافة بينهم وبين الجماعة التى تحمل لواء المعارضة اللاهجة باليقين، المبشرة بالنصر الحاسم القريب. تتوتر المسافة وتتسع كما توترت وأتسعت من قبل مع تلك الأوطان الأفتراضية المحمولة على لغة الشعارات وغنائية الحنين المبسط . ويجد الفرد ذاته مقتلعاً من جديد ومرميا فى مهب الجهات العاصف . يسارع إلى لملمة أشلائه ومحاولة التخفيف من فداحة الخسارة بمعناها الجذرى. أنه يقف وحيدا فى مرآة مدماة مشروخة ، هشاً وضعيفاً أمام بطش الوجود متعدد الوجوه والمصادر والأهداف هو الأشبه بالكائن التجريدى من غير أهداف واضحة و الذى ولد من صفحات كتاب قرأه ذات مرة وبقيت صورته الوحيدة فىرأسه تميمة يلوذ بها من فتك التلاشى والخراب . تتسارع حلقات المنفى إلى الاستواء والنضج ، ليجد نفسه مرة أخرى ليس على مشارف الربع الخالى ،تلك الصحارى الجبلية الرملية التى ولد فى أتونها، وإنما فى القلب منه واقعا وأفكارا ، مسار حياة ورمزا .
ينكسر المنفى الصلب بصفاته وأهدافه المحددة ويوغل المغترب المنفي في تيه الصحراء ، باحثا فى ضوء هذا الانكسار عن سبل جديدة يستطيع مواصلة ماتبقى من حياته ، ربما يجد بعضها فى الكتابة والكتب/ فى المرأة والتحديق جيدا فى المغيب المحتدم بالأشباح الجميلة كل مساء
******
ربما تذكر المنفي وهو فى غمرة هذا الصراع المرير مع شرطه الوجودى والتاريخى ، فى عهوده البعيدة حين كان يجلس على المشارف المطلة على الصحراء العاتية ، المكللة بغناء الروح ، وسط العوز والفقر- تذكر القوافل المترحلة بين التخوم والأودية والشعاب ميمة شطر جهة مجهولة بالنسبة إلى الطفل الذى كانه فى ذلك الزمان .
تذكر وراودته فى اللحظة لمحة وجيزة من العْود النيتشوى ، تلك الدائرة الجهنمية لرحى العذاب البشرى كما يود تأويلها حيث العدم يطبق قبضته على الكائن كما تطبق عواصف الربع الخالى قبضتها على القوافل المترحلة ببشرها وحيواناتها . العوْد الأبدى بهذا المعنى إمعاناً وتعميقاً لمأساة الوجود وليس ضوءاً فى أخر النفق أو مخرجاً لدوائر الوجود المغلقة .
وتذكر كائن المنفى أيضا مرآى الطائرة لأول مرة . لكن ما أثار مخيلته أكثر وأشعلها مرآى القطارات التى لم يشاهدها من قبل حتى فى السينما والتليفزيون اللذين لم يكونا موجودين ائنذاك .
فى بداية السبعينيات حين نزل القاهرة ليلاً وذهب ليسكن فى حى الدقى المتاخم لحى بولاق الدكرور ، سمع صفيرا يشبه النحيب حسبه فى أول الأمر صفير بواخر راسية فى عرض البحر لكن حين انجلى ليل القاهرة عن بدايات الصباح ذهب إلى مصدر صوت الصفير ليشاهد تلك القوافل االحديدية العابرة السكك والقضبان . وحين عرف أن هذا المارد الخرافى اسمه (قطار) ذهب ليفتش عن أصل كلمة قطار . فوجد أن العرب كانت تسمى الناقة الطليعية فى القافلة ( القاطرة )
لاحقا ينفجر مشهد القطارات على مصراعيه واقعاً وكتابة
******
حين يصل الإنسان الذى دعوناه فى هذه العجالة بالكائن المغترب والمنفى والمترحل . أسماء متعددة لوجه وأحد يتعدد حين يرنو فى مرآة ذاته ؛ حين يصل إلى هذا الشرط المتفجر لوجوده يدخل حالات هذيانية شتى .. كأن تتلبسه الضغينة على محيطه كما تتلبس المؤرق الذى جافاه النوم فى الليالى الموحشة , تجاه طمأنينة النيام وهدوئهم . تراوده هواجس عدائية تصل إلى حدود تخيل مجزرة بكامل ضحاياها ، لكنها تظل مجزرة فى المخيلة و اللغة ولا تتجاوزهما. فهو من فرط العواطف وربما اليأس لايستطيع أن يؤذى حتى بعوضة كما يقول المثل الدارج . وليس بقادر إلا على تدمير ذاته بالتحديق والتأمل فى المشهد الدموى المحيط الذى يتناسل وحشية وانحطاطا لامثيل لهما.
عليه أن يتدبر تسويات أخرى أكثر انسجاما ونبلا مع محيطه وذاته الممزقة .
*********
يصل المترحل إلى نوع من الوضوح الكاسر ، ذاك الذى يحمل شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل : لم يعد للتجوال فى خرائط الجغرافيا حلم كشف وإشراق لا للرحيل ولا للعودة لا للوطن ولا للمنفى . تهشمت فى مخيلته ووجدانه هذه الثنائيات لتحل محلها خارطة متناقضات داخلية متموجة بجمال وقسوة خاصين . هذه الخارطة ، بستان الداخل ، هى التى يحاول تعهدها بالسقى والرعاية عبر خيارات جمالية يرتأيها.
فى هذه الحالة تتحول خرائط الخارج بسراباتها وحقائقها إن وجدت ، إلى امتداد أرومة جمالية ، لبستان الداخل بسراباته وحقائقه التى ربما تتجلى ولو كأشراقات عابرة كنوع من تسوية ممكنة مع وجود صعب وعمر هارب .
*********
ما أشرت إليه من هواجس ومشاهد تشكل ثيمة الكتابة ولبها ، واحتها المضطربة التى تنزع دائما إلى الاتساع والأمتداد لتستطيع لم شمل هذا الكائن أو الكائنات المتشظية المصدوعة بالموت والغياب .
هذا النزوع أو الطموح لبناء وطن مواز عبر الكتابة يتحمل كل هذه الأعباء من الفجائع والمهازل ، لا محالة له من توسيع رقعة الكتابة ومفهومها من الدخول فى حقول التجريب والخروج على ماهو متفق عليه وسائد . التجريب والخروج فى هذه الحالة ضرورة وليس ترفاً أو نزقا عابرا ، شرط وجود و إبداع . انفجار الأحشاء بعنف الداخل والخارج فى الصورة والعبارة لتستحيل الكتابة إلى منازلة مفتوحة مع العالم . تحاول الذات الكاتبة فى هذه المواجهة أن تتلبس أقنعة شتى وتحشد أسلحتها وحيواتها المختلفة : أزمنة بدائية تسطع على صفحة المسودة الأولى للخلق . حيوانات وجوارح أحلام وذكريات الأمس الموصولة بأحلام البشر الأوائل . وقائع صغيرة وكبيرة تتوحد فى مركب المخيلة المندفعة من الحسى إلى التجريدى و المرئى المباشر إلى الغيب
المتعالى .
فى وهم هذا الوطن الموازى أو البديل أو أى اسم أخر، الذى يسمى الكتابة، تحلم الذات الكاتبة أن تلامس قبس وحدة وجود مبعثرة فى الأصقاع ، وأن تنقذ ما أمكن وسط جلبة الإعصار والهشيم .
هامش
هذه الرؤية التى تسترشد بسارتر ، ربما تتقاطع مع رؤية المتصوفة للأغتراب كون الحياة رحلة اغتراب بكاملها بدأت منذ انفصال الإنسان الأول ونفيه خارج الجنة ليعيش وذريته اللاحقة ذلك الحنين المحتم بالعودة إليها من جديد.
* لا تتعرض هذه الورقة/الشهادة إلى حقل المفاهيم الشاسع للمنفي والغربة والإغتراب والانفصال…..إلخ إلخ تلك التى بحثها فلاسفة وأدباء بشكل تفصيلى ومكثف إلا بقدر ما يتصادى مع دفق الشعور نظراً وتجربة فى هذه المسالة
التى هى من السمات الأكثر جوهرية فى عصرنا بمختلف جهاته وعوالمة المؤتلفة والمتناقضة حد الصدام والحروب الكاسرة.
*****
 
عامٌ أتى .. عام مضى
لا يكاد الفرد منا يستقبل العام الجديد كحدث مباغت، إلا ويزحف آخر أكثر سرعةً واقتحاماً. هيجان أزمنة وسنين وأيام، انطلقتْ من عقالها وتاهت وتلاطمت في براري حياتنا ورغائبنا، مساعينا وأحلامنا المحدودة أيما حدود بسقف الزمن ومتوالية قسوة عبوره العاصف.
لم نعدْ نستطيع العدّ والإحصاء، تلاشت روزنامة التقويم وحدود وحداته، بمعالمها الواضحة، وسالت في أحشاء السنين المندفعة… مثلما لم يعد في المتناول عدُّ وإحصاء الموتى والقتلى، حتى عبر فضاء الأجهزة الالكترونيّة، العالية الاستيعاب، والدقة، من فرط ما يتساقطون بفعل الكوارث البشريّة والطبيعيّة والمرضيّة، في كل مكان وصوب عبر خرائط أرض البشر المُصابة جرّاء ذلك بالخَرَف والتصدّع والدوار.. وإن تفاوتت القسمة بشكل ذريع بين بلدان مترفة حققت مكاسب إنسانيّة وحقوقيّة بشكل فعلي، لا لفظي ودعائي، وأخرى يفترسها الفقر والحروب والأوبئة.
? ? ?
لم تعد الحدود واضحة كما كانت، تلاشت واضمحلّت، صرنا في تيّار الزمن الجارف، وفي الأعماق منه، سفينةً توشك على الغرق من غير قوارب نجاة أو حتى تلك القطع الخشبيّة والنباتات الطافية على سطوح المياه المدلهمّة التي تشكل خيط أمل للغرقى والمنكوبين.
تلاشى طعم الفروقات بين الأيام والشهور، بين المواسم والأعياد، صارت متساوية في الضجر والرتابة وانهيار الأحوال.
تلاشت فروقات الأحاسيس وتمايزاتها تجاه البشر والأشياء، إنه “السقوط الكامل في الزمن” وسنينه وأيامه المنفلتة من مرابضها الحصينة، لتسحق كل علامة وتحديد وتدفعهما الى ساحة المحو والغفلة والنسيان..
كان في الماضي ثمة تمايزات، مواسم وأعياد. ثمة إحساس عميق بمتواليات الأشهر والسنوات. كانت هناك علامات فاصلة ومحطات نقف أمامها، أفراح وأحزان شفيفة. ثمة شُرُفات مغمورة بضوء القمر الفتيّ، ومدن مضاءة بالفوضى والأحلام.
وهناك في البعيد، البعيد من الذاكرة التي يحاصرها المحو والنسيان، برارٍ شاسعة تسرح فيها الظباء والغزلان، ويمرح فيها الوحش اللاهث من طِراد الصيّادين..
تلاشى ذلك كله واختلط بسيلان الأزمنة ودمائها.
? ? ?
ربما لأنّ الكائنَ، وهو جسم من الأجسام السابحة في هذا الفضاء اللامتناهي- أو المتناهي، لا أكاد أتبيّن أي معرفة أو تحديد في غَبَشِ السنين- ربما لأن هذا الكائن، حسب قانون الجاذبيّة الشهير، حين يبدأ بالاقتراب من نهاية شوطه و”مشواره” يتسارع في السقوط والارتطام. وبعبارة أقل حدّة، العودة إلى ما يشبه سديمه الأول الذي خرج منه في أول الرحلة والمشوار.
وفي هذا السقوط المتسارع الأليم، لا يعود الكائن يعوّل أو يلتفت بالطبع إلى الفواصل والعلامات، إلى سياقات الأيام وبيان المفاصل والمنحنيات.. ربما سحر الأرض، أرضنا في هذه الحالة، وجاذبيتها التي لا تقاوم للأجسام السابحة والتائهة في فضائها المترامي. يزداد هذا السحر غِوايةً كلما اقترب الجسم- الكائن البشري من فتنة الأرض، فتنة القيعان السحيقة.
* * *
طُرق القتل والتسميم
تمتلئ الغرفة بنور الصباح ، يجلس ساليري العجوز يبكي بحرقة ،بينما تتوقف الموسيقى وتنهمر الدموع على وجهه.
يراقبه فوجلر مندهشاً.
فوجلر : لماذا ، لماذا ؟ لماذا تضيف المزيد على بؤسك بالاعتراف بالقتل ، أنت لم تقتله.
ساليري العجوز : لقد فعلت.
فوجلر : كلا أنت لم تفعل.
ساليري : لقد سممّتُ حياتَه.
فوجلر : لكن لم تُسمم جسده.
ساليري : ما وجه ا لاختلاف في ذلك ؟
***
المقتطف أعلاه من سيناريو فيلم (أماديوس) للمخرج التشكيلي الأصل ميلوش فورمان ، حول حياة الموسيقار الشهير (موزارت) الذي كانت حياته قصيرة ، مثل أقران كثيرين أضاءوا سماء البشريّة بعبورهم الخالد ، كالشُهب المترّحله في أزلها ، ولا يلبث الموت أن يختطفهم ، وهم في مطلع الحياة وذروة الابداع..
موزارت من تلك الكوكبة الخالدة ، رامبو ، لوتريمون ، طرفه ابن العبد ، غسان كنفاني …
السيناريو الذي كتبه بيتر شافر والفيلم يركزان على تلك العلاقة الاشكاليّة بين موسيقار البلاط (ساليري) صاحب الحضور الساحق والنفوذ لدى امبراطور العرش النمساوي (جوزيف) ابن الامبراطورة المثقفة الموسيقية (ماري تيريزا) وصاحب الحظوة والحضور على المستوى الشعبي أيضاً..
حين بدأ نجم موزارت في البزوغ منذ عمر الطفولة ، بدأت بشائر عبقريّة قادمة ومفارقة ستقلب معايير وأذواق الفنون الموسيقيّة والاوبراليّة رأساً على عقب ..
وهذا ما بدأ بإدراكه (ساليري) المخضرم قبل غيره ، وبدأت هواجس الغيرة والحسد تفترسه ، مما دفعه إلى حبْك المؤامرات والدسائس تجاه موزارت ، الذي رأى فيه خطورة إعصار سيكتسح كل المجد الذي بناه عبر السنين.
كان (ساليري) على نحو من الذكاء والحرفة العالية وفق السائد ، لكنه أحسّ بالصَغار أمام موزارت بفطرته المدهشة وبأنه (ساليري) فارغ وعديم الموهبة وليس أمامه إلا سلاح التآمر والتحطيم وتسميم حياة موزارت الذي رحل في ذلك العمر الباكر ، لكن بعد أن أبدع أثاره التي لا يزيدها الزمان إلا تجدداً ونضارة وإشراقاً.
***
كان ذلك الاعتراف الحزين لـ (ساليري) بخطيئته المروعة أمام القس ، وهو في المصح عجوزاً متداعياً ينتظر النهاية الحتميّة …
وهو في هذا يظهر نوعاً من نُبل أعماه عنه سابقاً بريق المجد والشهرة والمال..
وهو بهذا السلوك أفضل من كثيرين يمارسون أساليب الغش ، ويكرّسون حياتهم لتسميم الأخرين ، فلا ينجو من سمومهم نبع ماءٍ صاف في هذه الصحراء المترامية بالوحشة والجفاف ..
عديمو المواهب حياة وإبداعاً مهما كدّسوا من مظاهر السؤدد الكاذبة ، الآيلة للزوال السريع لا يتقنون شيئاً ولا يعرفون ، عدا حرفة تسميم شجرة الحياة والابداع التي يفتقدها جوهريّاً كيانهم المنخور بالحقد والحسد السطحّي الذي يريد صاحبه أن يستأثر بكل شيء وهو يتمرّغ في ظلال الدِعة والإستسهال وفقدان الموهبة والقدرة على الحب والإبداع.
حسد ساليري لموزارت ، لم يكن حسد شخص غُفل يحاول أن يكون شيئاً بالقوة الجاهلة ، وإنما حسد مبدع يتمتّع بسطوة ، ها له أن يكون ذلك النهر المتدفّق من المواهب والابتكارات ، مستودعه ذلك الطفل (الساذج) موزارت ، وليس هو . لماذا أخطأه القدر هذه المرّة وجعله يلجأ إلى مرابض الوحش في ذاته ، ليدفع ثمن خطيئته ، عذاباً وتمزقاً وانهياراً ..
يقظة ضمير متأخرة ، لكنها ليست من غير دلالة أمام من لا ضمير لهم بالمرّه.
***
ثيمة الغياب
“لقد ناضلنا ضدك أيها القدر، ضد هجماتك السريّة الكاسرة، والمعلنة. لكن حين يأتي موعدُ رحيلنا، سنمضي باصقين على هذا العالم مرددّين أنشودة نصر مجيد: لقد عشنا حياةً طيّبة”.
أبيقور
إلى أي مدى تتلاشى الحدود والبداهات في هذه الحقيقة الإبداعية الملتبسة، ان الشاعر الأكثر حضوراً في الجماهير والقضيّة والأكثر احتشاداً وغناءً بالمعنى الملحميّ النبيل، هو الشاعر المجبول في عمق كيانه وصميم صنيعه الإبداعي، على الغياب والموت والتلاشي، من :
“خديجه لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب”
وأيضا :
“مطر ناعم في خريف بعيد
والعصافير زرقاء، زرقاء
والأرض عيد.
لا تقولي أنا غيمة في المطار
فأنا لا أريد
من بلادي التي سقطت من زجاج القطار
غير منديل أمي
وأسباب موت جديد”
البلاد/ الأم منذ تلك الفترة المبكرة محاطة بهالة السقوط بالمعنى التراجيدي وأطياف الموت المتطاولة..
الغياب والموت يهيمنان على روح الشاعر الكبير ولُبِّ وجوده كثيمة أصيلة استمرت وتعمّقت في عالمه الشعري والحياتي فرداً وجماعة، حيث الفلسطيني الذي وُلد من صدمة الغياب والموت وانتشر بأرجاء الأرض في رحلة تِيهٍ وبحثٍ عن ضوء العودة الشحيح، الى أرضه الأولى التي اقتُلع منها عنوةً وقسراً وبأسلحة الحضارة الحديثة وقيمها وإنجازاتها، وبأسلحة الأخوة وأبناء العم، والسلالة بكل معانيها، وأبناء القضية الواحدة والخندق الواحد.
الفلسطيني الأعزل المشرد لا يجد ما يسند كيانه الذي تفترسه الضواري والوحوش من كل حدْب وصوب، إلا ذلك الحلم العصي البعيد، ما زال يتسلل من نوافذ مغلقة وآفاق مدلهمة.
تستمر هذه الثيمة في شعر محمود درويش، حتى أعماله الأخيرة حتى “الجدارية” وما بعدها، دافعاً بها الى فضاءات تعبيريّة قل مثيلها في الثراء والدلالة والسطوع المأساوي.. الشعر الذي يقيم مضاربَه وسُكناه على أرض الخطر والهواجس التدميريّة، على صحراء القسوة والموت الزاحف لا محالة، والفناء. وذلك الإحساس العبثي الذي يصل حدَّ العَدَم العاتي إزاء الوجود برمته، ما أخصب شعريته بحشد المعاني والدلالات المتناقضة المتصادمة في ظاهرها كونه شاعر الإنبعاث والثورة، لكن في العمق أعطى هذا الإحساس غنى التجربة واتساعها، أعطاها بعدها الجوهري الكبير.
منذ بداياته المبكّرة على تلك الأرض التي ستتحوّل لاحقاً إلى رمز لغياب أزليّ أصيل للكائن في كل زمان ومكان وتفيض عن شرطها التاريخي العاتي والمحدّد – وحتى (الجداريّة) وما تلاها من أعمال شكّلت مرحلة حاسمة في تاريخ الشعريّة العربيّة قاطبة.
على تلك البقعة الصغيرة الخضراء من أرض البشر، ظل الحنين يكبر ويحشد أدواته وقواه الخلاّقة عبر ذلك الخيال الشعري الذي بقدرته المدهشة يحوّل ما لا يتحول قاذفاً به إلى قفار وعوالم غير مسبوقة ليبني أسطورته الخاصة المشتبكة والموازية والمتماهية مع أسطورة الوطن السليب…
الغياب الذي وسَم الشاعر منذ طفولته، رغم الحضور العارم لصخب المرحلة وشعاراتها وآمالها المستقبليّه آنذاك…
غياب صاعق للوطن وللعائلة والمركز الوجداني والعاطفي سيطبع جيلاً عربيّاً بكامله وستكون فلسطين هي النموذج المأساوي المكثف لما ستؤول إليه أحوال البلاد عامة (التي انفصل البحر عن مدنها) وما نحن عليه الآن حيث الإقامة في قلب الهاوية التي تبدو بلا سقف ولا قرار.
غياب الشاعر والجماعة المشوب والمخترق دائماً بحلم العودة والحنين…
لكن هل ثمة امكانيّة واقعيّة للعودة؟
أم تظل حلماً يسكن الشاعر نوعاً من دعامة روحيّة من الانهيار والتلاشي؟
? ? ? ?
محمود درويش الذي خبر الحياة والعالم سفراً وترحالاً ومنافي، يسلمه الواحد إلى الآخر.
وعاش في قلب تراجيديا التيه الحقيقية التي هي اقتلاع شعب واضمحلال ما تبقى من الإرث الإنساني للعصر الحديث ؛ اختار أخيراً الإقامة في رام الله (حياة وموتاً) إذا صح التعبير، في قلب المجزرة والبطولة، في أعماق شعبه الذي أحبه، وكان الملهم الأول لأعماله الخالدة.
وحين رجع ذات مرة إلى قريته (البروه) لم يجد ما وجده أبطال الأساطير العائدون بعد مغامرتهم وأسفارهم ومحنهم، التي اختزلت محن عصور بكاملها، لم يجد حلم موطنه الأول ولا حتى بقاياه.
كانت قرية طفولته أطلالاً وحطاما، كأنما ترفض أن توجد وتزهر إلا في مخيّلة الشاعر، لاجئةً من البرابرة إلى مخيلته ووجدانه لتظل الوقود الإبداعي والرمز. وهل ثمة ما هو أسمى وأنبل من ذلك على قلب الشاعر الجريح ؟
المبدع يسكن حرّيته وخياره في الترحل والإقامة، في الحرب والسلم إن وُجد، يسكن شرط ألمه وتاريخه وسط اجتياحات الزمن والتاريخ.
? ? ? ?
نقرأ محمود درويش الآن، محدّقين في ذواتنا الممزقة بالغيابات والجثث والأشلاء، وتلك الطفولة المضيئة ككوكب انفصل عن هذه الأرض الصدئة، ومن المستحيل استعادته إلا عبر الحلم والشعر، ونقرأ تاريخ المرحلة فلسطينياً وعربيّا، ونقرأ تاريخ القرن العشرين، وكل قرون العذابات البشريّة.
محمود درويش وغسان كنفاني أكبر كاتبين وشاعرين أنجبتهما التراجيديا الفلسطينيّة وما يليق بحجم هكذا مأساة، رد عبر اللغة المفعَمة بهواجس التاريخ والجمال على عصر الفضاضة والانحطاط، وإعادة اعتبار إلى الذاكرة المنتهَكة.
ما يجمعنا بمحمود درويش والفلسطينيين ليس بداهة مناصرة القضيّة في بعدها المباشر الذي تجمع عليه كل هذه الأكوام من “الذباب الموسميّ” وإنما روح المتاه الذي طوّح بنا إلى أقاصي العَدَم الباحث عن جماله المفتَقَد، المعذَّب والمستحيل.
“ليس الوصول هو المهم وإنما المضيّ في الطريق المؤدي، ربما إلى اللاشيء. الطريق في حد ذاته أجمل من الوصول إلى الهدف”.
? ? ? ?
محمود درويش من تلك القلة في شعراء العالم عبر التاريخ، الذين ربحهم الشعر والنثر إذا ثمة فرق، وربحتهم القضيّة والمبادئ الجوهريّة (ليس من غير ريبة وتوجس) الذين استنزفوا أعمارهم من أجلها… وربحهم الروح الانساني والجمالي وهو في طور انكساره وهبوطه.
تبقى فاجعة غيابه المادي وحضوره الفريد، تلك الشخصية المركبة التي تفصح عن بساطة وطيبة ، مثلما تتوارى في الترّفع والغموض وفق متطلّبات المواقف والأمزجة والحساسيات. يطبعها المرح وعادية التفاصيل اليومية، القرب وكسر الحدود، مثلما يطبعها الاسم والتوقيع والأسطورة.
محمود درويش الذي كان يعرف كيف يمسك بخيوط العلاقات البشريّة وقسطاط المسافات الغائمة، المعتمة في الحياة والشعر.
***
السياحة الروحّية والكتابة
تحيل كتابة (الرحلة) أو السفر و”السياحة” وهو تعبير صوفي قبل أن يستخدم في وكالات السمسرة التجارية – إلى أسئلة ومصادر ومرجعيات مختلفة ، ومتباينة بمعانيها الواقعيّة والرمزيّة ، تبدأ من سفر المشاهدة الخارجيّة البرانيّة التوثيقّية ، ولا تنتهي على عتبة الرغبة في الاكتشاف الأعمق والسياحة الروحّية الجوانيّة طارحة أسئلة الوجود والكون برّمته ، تلك الغابة المتشابكة المدوّخة بهواجسها وجوارحها اللامتناهية حياة وموتاً وآخرةً ..
بهذا المعنى يصبح الانفصال عن المكان أو الأمكنة والترحّل في أصقاع ومطارح شتى ، وسيلة ضروريّة ، ليس لذاتها ، وإنما لاستفزاز مكامن الروح ، في الذات المترحّلة والعالم بحيواته المختلفة . وتكون الأماكن والشخوص والمسافات لا لرغبة حفظها الإرشيفي والتاريخي ، وذكر صفاتها ومعالمها ، على طريقة الأدب الجغرافي او ” المسالكي ” على أهميته البالغة وإنما لما تضيئه وتكشفه من خفايا روحيّة ونفسيّة ووجوديّة في الذات المتّرحلة في التخوم والآفاق … وتكون الكتابة تاريخاً مفارقاً للتاريخ السائد وقائع وكتابةً ، تاريخاً روحيّا للذوات والوقائع ينزع نحو الباطن والكشف لما يمور ويختبئ خلف الظواهر الحسيّة والعيانيّة.
***
الرحلة الواقعيّة تكون عاديّة ومضجرة حد القرف ، إذا لم تقترن بأبعادها الرمزيّة والماورائية… وسيطارد التأسّن والعفن جراّء المكوث في المكان الواحد ، خاصة إذا كان هذا المكان بالغ الضيق والانغلاق ، سيطارد المسافر أو المترّحل أينما حل ويقع في نفس الدائرة الرهيبة التي هرب منها …. السفر أصبح مع الإنجازات التكنولوجيّة الحديثة ، بالغ العاديّة والروتين اليومي ، ولم يعد مغامرة خاصةً بكل المعاني الدينيّه والمعرفيّة ، والجمالية التي يهدف إليها مغامرو الأسفار كما في الماضي ..
وحدها الأبعاد الروحيّة والتأمليّة تنتشل الذات وتطوّح بها إلى مناطق أخرى مفعَمة بالنضارة والبهاء والجمال عبر التأمل والكتابة والمرأة.
***
السفر الخارجي الذي يقود إلى السياحة الروحيّة والجماليّة ، في جانب أساسي منه يستبطن رحلة الكائن في عبوره على هذه الأرض الهرمة .. هذا السفر أو الرحيل الذي يبدأ منذ الخروج من الرحم وإطلاق تلك الصرخة الأولى في وجه العالم ، ليمضي في رحلة مزدوجة صعوداً حيث يكبر الطفل ويشبّ ويكتهل ويشيخ . هذه الرحلة التي تحمل في أحشائها منذ الولادة بذور الانحدار والعودة إلى رحم الأم ، أو الحاضنه الكبرى : الأرض.
***
المخيّلة النشيطة المدربّة الجامحة (كما يدرب الرياضي عضلاته وجسده) هي المنقذ من وحل الواقع والتاريخ المحبط للمسافر والمقيم … وبدونها تكون الرحلة عقيمة والفضاء مكفهراً جافاً … الأماكن متشابهة ومعظم أنماط الحياة والأذواق …
“النظام العالمي” استطاع إلى حد بعيد إنجاز ذلك التوحيد القسري مما أوقع العالم في دائرة القطيع المتشابه على مستويات شتى ، وفقدت الفروق ماهيتها الجوهريّة والجماليّة الفريدة.
***
لا ندين لأحد بشيء
عدا أرجلنا الثكلى
بالمسافات
 
* * *
صلاة الاستسقاء
صلاة الاستسقاء ، وما تقتضيه من خشوع روحي وتوسل وتضرع إلى جلال الخالق عز وجل ، طلباً لإنزال الغيث على الأرض الجفاف ، الأرض اليباب .
الأهالي في حيرة من أمرهم أمام زحف ذلك المحل الساحق الذي سيهلك الحرث والنسل جرّاء استفحاله وهيمنته التي لا حل لها ، حيث تنعدم الوسائل والأدوات وتنحل الإرادات جميعها أمام سطوته ، ولا يبقى للمنكوبين إلا اللجوء إلى الملاذ الأعلى ، لاستدرار عطف الإرادة الإلهية وألطافها …
وهكذا في جميع المناسبات الكارثية ، البشرية كالحروب والعدوان ، الطبيعية كالمحل والجفاف والزلازل والفيضانات التي أصبحت إحدى سمات عصرنا رغم كل التقدم العقلاني المذهل. لا يبقى أمامهم إلا التوجه نحو الجلال السماوي وكرمه الذي لا ينضب.
***
حين كنا صغارا في تلك القرى النائية التي يضربها صاعق الجفاف بين الفينة والأخرى ، يهرع السكان عن بكرة أبيهم نحو (مصلى) الوادي لأداء هذه الصلاة التوسلية ونحر القرابين والذبائح كجزء من هذا الطقس الروحي المتوارث عبر الأجيال .
رغم الدافع الحزين لهذه المناسبة ، التي يستشرف من خلالها الأهالي أملاً جديداً في الحياة ، وبسببه، كان الجو أقرب إلى فرح الحياة ومرحها . خاصة الأطفال ، إذ أن هذه المناسبة لا تختلف لديهم عن مناسبات وطقوس الأعياد الكبيرة والصغيرة .
كانت عيداً آخر وذكرى فرح ، مثلها مثل طقوس الخصب حين تُؤتي الصلاةُ ثمارها وتهطل الأمطار الغزيرة وتسيل الأودية الجارفة .
الطفولة تخلق من المناسبات الحزينة ، عيداً ، تدمج النقائض في سلة واحدة ، سلة المرح والشقاوة البريئة وكذلك يفعل الكبار ، يجدون أنفسهم في الطقس نفسه ، متطلعين ، بِنِيّة صادقة على الأرجح ، إلى الأجمل والأفضل .
هكذا كانوا قبل أن تصعقهم ” القيم الجديدة” الأكثر فتكاً من الجفاف ، والتي حولت الكثير من الشعوب إلى مسوخ ، وقذفت بهم إلى منطقة الغراب المتخبط في مذبحة بلاهته السلوكية والقيمية ، وفق المثل الشعري المعروف.
***
بعض المرويات الشعبية تروي ، أن أحد الثيران التي تجر الماء من باطن الآبار والتي كنا نسميها في عُمان (الزيجرة) وقع عليه ظلم فادح … كان المحل يضرب المكان وكان على الثور أن يضاعف عمله عشرات المرات كي يستطيع الأهالي الاستمرار في حياتهم … ذات يوم حطّم الثور الخيّة والربقة ، وهرب نحو الجبال والمفازات ..
دأب أصحابه في البحث حتى وجدوه تحت جبل عال واقفاً في ذلة روحية وخشوع ، و رأسه نحو السماء.
كانت دموعه تملأ سفح المكان ، كان يصلي صلاة استسقاء ، متوسلاً للعلي القدير أن يرفع فداحة المصيبة والعذاب .
هذه البلاغة المدهشة للحكايات الشعبية ، تعفينا عن أي تعليق ، لولا أن الظرف الموضوعي حان لاقتراح صلوات استسقاء في أرجاء البلاد والمعمورة ، لإعادة الانسان إلى إنسانيته التي أوشك على فقدانها بالكامل ، حيث الجفاف الأخلاقي والروحي ، وطبعا الحضاري الخلاق في منطقتنا العربية ، أوشك أن يسحق بصواعقه الجشعة أي فضيلة وأثر إيجابي لمكتسبات البشر في تاريخهم القِيمي .وفسح المجال على مصراعيه لقيم النفاق والانحطاط بكل علاماته وتمظهراته ، فسح المجال كاملا للبشاعة واستيطان الكراهية عبر استحواذ القوة الغاشمة على حقوق الغير ومساحة حياتهم ووجودهم ،. الذي يتجلى ، ليس فيما دعي (بالقضايا الكبرى) واحتلال الأرض والوطن فحسب، وإنما في تفاصيل الحياة اليومية وعلاقات البشر الطبيعية التي تشهد اجتياحاً أكثر خطورة .
في مثل هذا المستنقع المتموّج بكل ما هو دنيء وقذر ، لا يسع إلا أن نصلي صلاة استسقاء لإعادة بشريتنا إلى ما أوشكت أن تقطع معه حتى شعرة (معاوية) وتدخل عصور الظلام بكل طاقتها وعنفوان انحدارها الكبير..
صلاة استسقاء شاملة ندعو فيها ثيران الحكايات وحيواناتها للمشاركة الفعالة في هذا الطقس المهيب.
* * *
الصيف ونوم القطط
أصبح من علامات قدوم الصيف الجدي عندي، نوم قطط العمارة على أبواب الشقق طلبا للنسمة التي تتسلل من الداخل المكيف، لتخفف عنها غلواء الحرارة والجفاف والرطوبة.
هكذا ليلا ونهاراً حين أفتح باب الشقة، أرى القطة الرمادية اللون مسترخية بكل تضاريس جسدها كما يسترخي الكائن البشري على سريره الوثير بعد نهار متعب.
أحيانا تفتح عيناً لترمقني بنظرة عابرة حنونة وتغلقها لتواصل مسيرة الهناءة البسيطة والحلم..
نادراً ما أرى قطة الباب هذه تأكل أو تستأنس بقرين. كل رؤيتي لها على هذه الهيئة وحين سألت عمن يطعم القطط التي هي ليست قليلة في العمارة، جاءني الجواب، أن هناك سكاناً أوروبيين يتولون مسؤولية العناية والطعام، فهم وبسبب تربية تشدد على العطف على الحيوان خاصة لا يهملون حيواناً على مقربة منهم من كلاب وقطط وغيرها. ومن هنا انتشرت على مستوى الأقطار الأوروبية والأمريكية ومقلديها، جمعيات الرفق بالحيوان ، أكثر من الجمعيات والهيئات والمنابر التي تعنى برفق الإنسان ، وواقع الأمر أن هذا الأخير وبحكم تطور الحضارة الأوروبية وما اشتق عن هذا التطور النوعي في تاريخ البشر، من مؤسسات حقوقية ومدنية هي اللب والصميم الأكثر إضاءة وعمقا لهذه الحضارة منذ انتفاضها في كافة صعد الحياة والمجتمع والمفاهيم، على العصور المظلمة، التي ما زالت ترسف فيها البلاد العربية والمتاخمة.
لكن الأعراف والتصورات المترفة لكائن هذه الحضارة، أيضا قاده إلى المبالغة في التبجيل والعطف على هذا النوع الحيواني، على حساب الإنسان، الإنسان بمفهومه الشامل وليس المركزي الأوروبي فحسب. ففي هذا الخضم الهائج للحروب والعدوان الذي تشنه دول من قلب تلك الحضارة وطليعتها، أو بإيعاز منها بحكم أنها تمتلك مفاتيح القوة والمعرفة على مستوى العالم، لم نشهد جمعيات ومنابر بهذه الكثافة والتعدد، بحيث يمكننا أن نرى في كل عمارة حتى في العالم الثالث، جمعية رفق بالحيوان..
وحتى ولو استطاع الوعي الأوروبي وعمل على نحو ما يوازي نزعته الأكثر إنسانية ورفقاً مع الحيوانات عمل بنفس الوتيرة مع قرينه الإنسان الممزق المخطوف من قبل الفقر والحروب، هل يستطيع أن يحد من اندفاعها الشيطاني الذي نشهده؟. هل يستطيع حتى أن يعرقل تلك الخفة والاستهتار في شن حرب على شعوب ودول هي من الأساس مدمرة وبحاجة إلى دعم وعون كي تأخذ طريقها إلى ما يسمى بالمستقبل؟.
وبمناسبة الحديث عن الحيوانات، أتذكر حين كنت مقيماً إقامتي العابرة في (لاهاي) قريبا من محكمة العدل الدولية بقضاتها وملفاتها المتفجرة بشرياً وليس حيوانياً على ما هو معلن. والتي ربما لم تنجز أي قضية عدالة كبرى، مستقلة في التاريخ ـ أتذكر صباحاً ومساء ، كيف يمر الهولنديون العجائز خاصة، ومع كل واحد وواحدة، ليس كلب أو كلبان إنما قطيع من كلاب متنوعة الأحجام والأشكال، من الكلب الفأر والقنفذ، إلى الكلب العجل أو الجاموس، من أمام محكمة العدل، يدخلون إلى تلك الغابات الشاسعة الممتدة حتى البحر.
كيف يستطيعون إطعام كل هذه القطعان مما لذ وطاب من طعام خاص يتصدر الواجهات الفخمة في المحلات؟. وأحيانا كثيرة أترك مثل هذه الخواطر لأفكر في نفسي، وأنا وحيد في غابة مع هؤلاء العجائز، بحيواناتهم، التي لو هاجت سأكون أقل من لقمة سائغة بين أشداق هذه الوحوش. لذلك أختار المشي بجانب الكلاب الصغيرة وأتجنب الجواميس وتلك التي تشبه الخنازير البرية المسمنة جيدا.
هل هذا السلوك تجسيد لضجر الإنسان المتراكم، من قرينه الإنسان وعودة لا واعية إلى العصور الأولى للخلق، حين كان يسود الحيوان بوئام أكثر وحروب أقل بالتأكيد، من عصور الحضارة؟.
أنا الذي لا أمت بأية صلة عضوية، إلى تلك الحضارة، أحس في غلواء هذه الظهيرة من الطقس، وخيانات البشر وتفاهتهم، بوشيجة أكثر حناناًُ وعاطفة تجاه القطة التي أشاهدها صباح مساء أمام الباب، تستجدي نسمة باردة تتسللّ إليها من الداخل.
ولولا طرف ذكرى من عشرة نبيلة تكرست برحيلها المستمر، لطردت زوجتي التي لا تحب القطط وأحللتها ساكنة داخل الشقة، لكن على ما يبدو أن الخيارين أحلاهما مر.
 
* * *
بين الصيف والشتاء
كتبت ذات مرة “الظهيرة تستفز القيامة بشكل مبكر” لا أتذكر في أي الأوقات كتبتُ هذه العبارة، لكن الأرجح، إنها كُتبت تحت ضغط الصيف اللاهب وبخاره ورطوبته العالية التي تطبق على أنفاس الكائن لتذكر بالعذابات الموعودة التي لا نهاية لها فكأنها (البرزخ) الذي يفصل بين عالمين.
ثمة أفراد، يفضلون الحرّ على البرد، ولو خيروا بين زمهرير الصيف والهاجرة، وبين غلواء الشتاءات القارسة وزمهريرها، لاختاروا الأولى..
بالنسبة لي إن كان لا خيار آخر بين الزمهريرين، فسأختار الشتاءات القارسة، أختار البرد ولسعاته التي أتخيلها في هذه اللحظة، عذبة وعميقة تحرّض خيال الكتابة وتوقد رغبة الحب والجسد.
على عكس الصيف اللاهب الذي يخمد هذه الرغبات والخيالات التي تحاول تصفية جموحها في اللغة ونزوعات الجسد العاشق..
في زمهريرات الشتاء في المدن والبلدان المتاخمة للبحار والمحيطات حيث الهدير يلفّ الليالي بندائه العميق، أو تلك التي تخترقها الأنهار الخالدة، كما البحار، تهدأ الروح بين جدران المنزل أمام المدفأة، الكتب والأوراق البيضاء والذكريات.
يمكن للمتعة الجماليّة أن تكون أكثر اختزالاً وكثافة، سواء عبر القراءة والكتابة أو عبر التواصل الحميمي الجسدي العميق مع الأنثى وفضاءاتها المتموجّة في خضّم الليالي الصامتة التي تصخب فيها الأمواج والهواجس والرغبات.
* * *
ثمة قابليات واستعدادات جسديّة وذهنيّة تختلف من فرد إلى آخر، ربما هناك أفراد ولدوا في بيئة جغرافيّة وثقافيّة مشتركة، لكن مزاج كل واحد منهم يختلف عن الآخر وربما يتفق أفراد آخرون ولدوا في بيئات متناقضة أيّما تناقض. إنها التمايزات والخصائص الفرديّة التي يلفها نوع من غموض ولا تستسلم لمعطيات التحليلات العلميّة المبسّطة.
أتذكر طفولتي في غور القرى العمانيّة التي عصف بها أخيراً إعصار (جونو) بين تلك المجرّات من الجبال المتناسلة العالية.. ربما هذا الإعصار الذي من لطفه تعالى لم يقذف بحمولته، بنواته الأساسية التي انشطرت الى ثلاث كتل وتلاشت وكان اختباراً لنبل العمانيين دولة وشعباً، ربما، رغم ما خلفه من خراب ودمار، ذكرّ تلك القرى بالجوائح والأودية الغابرة، التي تهرّب الأهالي إلى الحواري الداخليّة للقرية حتى يخفّ هيجانها، مخلفة خِصباً طوال العام.
قلت أتذكر تلك الطفولة المتشردة والصاخبة، وسط ريح (الغربي) الساخنة، وإذا كنا في (البندر) في مطرح، يضاف إليها الرطوبة العالية.
لكن رغم هذه النشأة البيئيّة أفضّل البرد على الحر وأتمنى وأحلم بالليالي الباردة وحتى الصقيعيّة منها. ولا تختزن ذاكرتي أي سوء تجاه الحياة التي عشتها في كنف تلك المدن التي تندرج في هذا السياق.
* * *
(الظهيرة تستفز القيامة بشكل مبكر) هناك كتب وروايات، أبطالها يرتكبون أفعالاً تصل حدود جرائم القتل.. أبرز هذه الروايات (الغريب) لألبيركامو، بسبب الحرارة الشديدة على الأرجح، إذ ليس ثمة دوافع واضحة أخرى.
أتذكر، منذ فترة بعيدة، قرأت مقالاً ضمن كتاب، للروائيّة الكبيرة غادة السمان، تستقصي فيه الجرائم والأفعال العدوانيّة في كتب بعينها، حصلت في ذروة الصيف الحار.
أكتب هذه الخاطرة وضغطي مرتفع 150 على 100 ، وهذا يحصل غالبا في الصيف أو في ليالي السهر الطويلة..
والسلام عليكم.
 
 
* * *
مياه الروح
كما ينسحب المحيط في أزمان معينة، ربما من ضجره ويأسه، مخلفا وراءه جزرا ومساحات كبيرة تتحول إلى قارات تقطنها شعوب وحيوانات وأنماط سلوك وعادات.. هكذا الذاكرة حين تحاول لمس ما مضى واضمحل، في مدن ومقاه، وجوه وذكريات..
تحاول أن تقترب من تلك الحيوات التي كانت نابضة حتى الاستحواذ والضجيج كجزء عضوي من نسيج الذات والسلوك والأحلام، تحاول أن تلامس وتقترب وتستدعي لكن الحنين الذي كان جارفا خفّ اندفاعه وهديره، وإن لم يبرح المعاودة والاختراق كدليل حياة وإبداع، وكملاذ في بعض الأحيان والهنيهات..
تحاول الذاكرة والحنين الغامض وتظفر بمحاولتها أو تنسحب حيوات الغياب تلك مخلفة، كما البحر والمحيط، تلك الفراغات والكسور والتصدّعات مخلّفة وراءها الأرق والخراب، لأن تلك الفراغات النفسية والروحية تستعصي أحيانا على ما يسد جوعها الغاضب على ما يروي عطش يباسها الذي خلفته الانحسارات والجروح المتراكمة.
هكذا داهمنا الصيف البالغ الحرارة، هذا العام، بعد إعصار “جونو” المعروف، مما يستدعي كالعادة شد الرّحال كما يفعل الأسلاف في الماضي البعيد، بحثا عن الماء والكلأ، عن نسمة عابرة وعلاقة أكثر عبورا، إذْ عزّ البقاء والخلود في هذا الشأن المتصدع باستمرار..
بعد استراحة أسبوع في جزر المالديف في بيت خشبي بجزيرة تشبه الغابة وسط المحيط الهندي المتلاطم، لا تسمع صوت سيارة أو نباح آلة طاحنة، بحر وهدوء ووطاويط تحلق بين أشجار جوز الهند تشبه المراوح البحرية، بصمت وكأنما حفيف الروح العاشق يتهادى بين الأغصان والعُذوق.
بعد هذه الاستراحة قدمت إلى بيروت المفعمة بالاحتمالات والتناقضات من ما وراء الكارثة، إذ أن هذه الكارثة خبرتها مدينة الثقافة والجمال وما هو نقيض ذلك، خبرتها حتى العظم والنخاع.
وبما أن المقاهي تشكل بالنسبة لي في الماضي ذلك الفضاء الحميم للحياة والكتابة والقراءة، صرت أقف أمام تلك المقاهي التي كانت الأشهر والأجمل في فضاء المدينة، التي يتناسل قتلتها من كل حدب وصوب، أقف في لحظة طللية باكية . من عز ودموع أو مراثٍ فاجعية، وقد تحولت المقاهي مثل “المودكا” و”الوينبي” إلى محلات لبيع الملابس كما تحوّل قبلها “الهورس شو” وانقطع ماضيها الثقافي والجمالي.
بدمشق، أيضا، تحوّل “اللاتيريا” الذي كان ملاذنا من الشتات في الأصياف الحارة، أو في الشتاءات الدمشقية الباردة، إلى مطعم فخم لمُحْدثي النعمة وفقد هويته بالكامل…
أجيء إلى باريس، في الحي اللاتيني الشهير، والشهرة هنا ليست إلا استعادة فلكلورية لماضٍ جميل وعميق. أقف الوقفة الطللية نفسها من بلاد العرب إلى بلاد الإفرنج، تلك التي أدهشت الطهطاوي وعلماء المسلمين ولخبطت عليهم معايير الفكر الوثوقي الواضح والمستقيم من غير لبس ولا أسئلة، أقف أمام مقهى “كلوني” الكبير ذي الطوابق المتعددة الذي كنّا نلتقي فيه من بلدان وأصقاع مختلفة لنشكل عائلة دفء وسجال وأحلام، وقد تحول إلى مطعم بيتزا للسياح. وليس مقهى “البيري جوردين” الواقع على ضفة نهر السين بـأحسن حالا، فقد تحول هو الآخر إلى مطعم بيتزا من ماركة استهلاكية أخرى..
هذه “العولمة” الاستهلاكية الكاسحة في الطعام والملابس والتعبيرات الغريزية الأخرى، تنسحب أمامها مياه الروح وأماكنها مخلّفة تلك الفراغات الرهيبة المليئة بالحطام.
* * *
قطيع الجسور
هذا الصباح مثل عادة كل صباح، أنطلق من الفندق الذي أنزل فيه منذ سنوات ، فندق لويزيانا، الواقع في زقاق من أزقة الحي البهيج، المشرق بماضيه وسحره الهندسي شبه الريفي الحميم، لم أكن أعرف هذا الفندق ، الشاعرة مرام المصري، هي من عرفتي عليه، فاتخذته مقرا ثابتا عندما أزور باريس. كما عرفتني على نزيله العريق الكاتب المصري الفرانكفوني ألبير قصيري، تلك الشخصية المدهشة ليس في الكتابة، وإنما أيضا في نمط العزلة والسلوك. كانت مرام قد أجرت معه حوارا مطولا عن طريق الأسئلة والأجوبة المكتوبة، فهو لا يستطيع النطق والكلام بسبب سرطان الحنجرة. دائما أراه صدفة داخلا أو خارجا، وأحيانا يجلس في قاعة الاستقبال بأناقة فائقة، وهو الوحيد الحي ربما من أفراد جيله الذي ينتمي إليه جورج حنين ورمسيس يونان فؤاد أنور وإلخ.. يجلس بأناقة وصمت يراقب العالم بعينيه الحادتين. هو الذي لم تكن له عائلة، يسكن العابر والعزلة وسط الصخب الباريسي الكبير.. مرة رسمت له صاحبة الفندق ، وهي رسامة، لوحة علقتها على المدخل. كان رد فعله الأول، تحريك كتفه بلا مبالاة، وبعد أيام طلب منها إزالتها. ميشيل بيكولي(الممثل المخضرم) صديقه يأخذه أحيانا إلى نزهات خارج المدينة، متذكرين مجد الحياة الغابر والفن. ألبير قصيري يشبه أبطال قصصه الغارقين في ترف الكسل وأناقة العطالة. الصديق محمد المزديوي أنجز، على نحو خلاق، حوله ملفا نشر في مجلة نزوى.
**********************
مثل عادة كل صباح أخرج من الفندق باتجاه نهر السين. جسر “ميرابو” الذي “تمضي تحته المياه والسنون ويمضي حبنا العظيم”، كما عبّر الشاعر “أبولينير”، وهو القائل أيضا: “برج أيفل أيها الراعي، قطيع الجسور يثغو هذا الصباح”. لكني أنزل إلى ضفة النهر من ناحية جسر الفنون، قاطعا أرضية المدخل للأكاديمية الفرنسية(الخالدين)، ومن أعضائها، على نحو نادر، الجزائرية آسيا جبار، بقبابها المذهبة اللامعة، بفضاء المدينة المتموجة بالجمال على نحو هرموني. أتذكر كلمة الفيلسوف الأمريكي “لندن صنعها الإنجليز لأنفسهم وباريس صنعها الفرنسيون للعالم”.
أقطع النهار أحيانا باتجاه معهد العالم العربي الذي لم يبق منه غير اسمه، بعد أن تعب الفرنسيون من عدم التزام الجانب العربي وصراع العصابات داخله،( ما علينا) أمشي حتى آخر جسر في الضفة وأعود إلى نقطة الانطلاق متوقفا أحيانا لكتابة جملة أو ملاحظة أو النظر إلى موجة أو طائر مفتون مثل السياح بمرح الصيف قبل أن يأتي الشتاء بفيالقه الكئيبة بالنسبة لهم والرائعة العذبة العميقة بالنسبة لي.
في هذا الصباح ألقي التحية على صاحبة النزل، “مونيكا”، أفطر في مطعم “بول”، أمضي عبر النهر في الاتجاه المغاير، تجاه الشانزيليزيه، حتى أصل إلى المرتفع الذي يطل على بداية الشارع الشهير.. أرى صفوفا من الجند والحرس، بمختلف تشكيلاتهم الملونة والطيران يرسم فوقهم، في سماء المدينة، ألوان العلم الفرنسي: أعرف أنها “14 يوليو”، عيد الثورة الفرنسية.
أعود أدراجي. كان مطرا خفيفا، والسحب تتراكم أكثر وتحتدم. هذا هو الطقس المثالي، وليذهب عشاق الشمس والحرارة إلى جحيم بْرُونْزاجهم اللذيذ.
أنا الآن في نشوة الحلم بقصيدة أو امرأة، رغم كوابيس البارحة. علينا أن نلغي كل العقود، تلك التي وقعناها في غياب الحلم كما يقول “بروتون”.
 
* * *
مقبرة بيرلاشيز
من أكثر المشاهد الباريسية التي عشتها في هذه المدينة الشاسعة على نحو متعدد وآسر، مشهد المقابر، خاصة، مقبرة بيرلاشيز، التي دُفن في حناياها الوارفة، الكثيرُ من أدباء وكتاب فرنسا.
هناك أضرب مواعيد مختلفة لأصدقاء بعينهم. في مقدمة هؤلاء عبد اللطيف اللعبي، الذي يشبه دويستوفسكي، برهة إحساسه بالخطر الذي لا فكاك من دائرته الجهنمية، حين حكم عليه ملك المغرب السابق بالإعدام، كونه أحد قادة الحركة اليسارية(إلى الأمام) في فترة السبعينات وخفف الحكم في ضوء الحملة العالمية لإطلاق سراحه والتي نشطت فيها زوجته الفرنسية “جوسلين اللعبي” ومنظمات حقوقية، حتى الرئيس فرانسوا ميتران تدخل لدى الملك المغربي.
كنت مع اللعبي مرات كثيرة، نتنزه في أرجاء هذه المقبرة الفسيحة، المفعمة برفات أهل الأدب والفن، بأشجارها العالية الكثيفة الباسقة، وكأننا نتجول في غابة لا نهائية، من الخضرة الباذخة، والهواجس والشعر. وغالبا ما نتوقف أمام قبور الأدباء ويأخذ اللعبي في الحديث المستفيض حول حياتهم وأدبهم.
أتذكر قبر هنري باربوس، صاحب رواية الجحيم، التي قرأتها مبكرا، وتماهيت مع تيه بطلها الوجودي، الذي ينظر من ثقب الباب إلى العالم والحيوات، إلى المذبحة البشرية المتلاطمة في مخيلته ووجدانه الملتهبين. وكتبت قصيدة أهديتها للعبي في ذلك الزمان غير البعيد.
أدباء أحياء لا يفصلهم عن أولئك المدعوين بالموتى إلا خيط شمس شفيف بالغ الدقة والسديمية حتى لا يكاد يُرى في اختلاط الحيوات والنزوعات والرغبات، في التوحد أفكارا وإبداعات، لمن هم تحت الثرى ومن ما زالوا يدبون فوق أديمه إلى حين.
أتذكر مقولة “سيوران” كون التنزه في المقابر يهدد القلق العاصف ويروض روع الموت.
أتذكر أيضا صديقي رشيد الصباغي، الذي رحل في حادث تراجيدي، حين رمى نفسه تحت عجلات القطار المندفع، وقضى على هذا النحو الفظيع. فكأنما ذلك الرجل العميق الإشكالي، لا بد أن يرتطم بالموت كارتطامه بقضايا الفكر والوجود. رشيد كان الأكثر عمقا بيننا، وإن آثر الطريقة السقراطية في عدم الكتابة إلا قليلا، هو المتبحر على الصعيد الفلسفي والمعرفي عامة. كان يتحدث أثناء نزهاتنا الكثيرة ساعات وساعات حول فكرة أو فيلسوف أو شاعر، حتى يضيعنا أحيانا في دوائر متاهاته النظرية الواسعة سعة المقبرة والمدينة.
ترى هل كان رشيد رحمه الله، ونحن نتجول بين الأضرحة والأجداث، يفكر في ميتة مدوية مأساوية على هذا النحو،؟ حين أبلغني شموئيل شمعون خبر انتحاره، نقلا عن عبد القادر الجنابي، وكنت حينها في عمان، لم أصدق واعتقدت لأيام أنها مزحة سوريالية، حتى قرأت مقالة الصديق محمد بنيس في صحيفة “الحياة”.
أتذكر أنني عرّفت “رشيد” على “سيدي بنيس”، كما أخذته، وهو المنعزل غالبا، عن أجواء المثقفين العرب، إلى يوسف الخال، وكان هناك صدفة، أدونيس وخالدة سعيد حيث أعجبوا أيما إعجاب بهذا المغربي الذي يتدفق معرفة وذكاء يصل حدود العبقرية.
آخر مرة رأيت فيها رشيد الصباغي كان بمعية محمد أركون، كان من أخلص أصدقائه، وقد صدمه هذا الرحيل المبكر، كما صدمنا، لدرجة أن الأستاذ أركون حين ألتقيه في مؤتمر أو مناسبة وأذكره برشيد يلوذ بالصمت من هول صدمة الغياب.
في سياق هذه الإشارات إلى نزهات مقبرة بيرلاشيز، كيف لي أن أنسى هدى بركات، وكان أول أيام السنة الجديدة، حين اقترحت عليها أن نلتقي في المقبرة، وهي قريبة من بيتها الحديد، قالت مازحة: “سيف أول أيام السنة، وفي مقبرة، شو ها التفاؤل الجميل؟”
* * *
الصعلوك الأرستقراطي
حدث أن غبت عن باريس، أربع سنوات كاملة، تاركا المدينة والأصدقاء والذكريات. في طليعة هذه الذكريات، التسكع والتشرد في الشوارع والحدائق الفسيحة، والمقابر والمقاهي والمكتبات.. وفي طليعة هؤلاء الأصدقاء الكثر، حيث كانت باريس تغص بالمنفيين والصحفيين العرب، على أثر انكسار المركزية البيروتية، بسبب الحروب والاجتياحات، هاجرت صحافة ومثقفون من مختلف البلدان العربية؛ وفي طليعة هؤلاء الأصدقاء كان صموئيل شمعون، الذي كان اسمه في بيروت، في الأوساط السياسية والصحافية، سامي شاهين. أتذكر لحظة تعرفي الأولى به، في مقهى “كلوني” الشهير. كان هادئا وخجولا، وغالبا ما يتحدث في السينما التي تتركز حولها طموحاته المستقبلية.، رغم أنه يكتب شعرا ما لبث أن أصدر ديوانه “أولد بوي”، وما لبث أن شق المدينة الفرنسية كالإعصار، من أقصاها إلى أقصاها، عاجنا خرائطها وضجيجها وباراتها تحت حذائه الذي لا نشاهده في خضم التشرد إلا لامعا ونظيفا، مثل كل ملابسه. إذ أن النظافة وحسن الهندام كان هما أساسيا بالنسبة له في مختلف الظروف والأوضاع. وكان ينزعج حين يرى أحدا من صحبه غير حليق ومبهدلا بحيث ينطبق عليه تسمية “الصعلوك الإرستقراطي”، بامتياز. كما أنه لا يمكن أن يمشي في الشارع مع امرأة دميمة أو غير أنيقة،. أتذكر أنه ذات مرة تعرف على فتاة أمريكية سائحة، وصار من فرط رومانسيته يحتفظ حتى ببطاقات الميترو كذكرى لتلك العلاقة العابرة.
صموئيل الذي كتب أخيرا كتابة الرائع عن التجربة الباريسية: “عراقي في باريس”، كان كل كلوشارية ومتسكعي وفناني الحي اللاتيني من مختلف الأجناس، أصدقاءه بل كانوا عائلته الحقيقية. كان يسهر طوال الليل وفي الصباح لا نلاحظ عليه أثر التدمير الليلي، إذ يذهب إلى العمل المترحل دائما في أكثر من جهة ومكان، وحين يستلم الراتب يكون المطعم اليوناني الذي يختص بأكتاف الخراف المشوية، محجوزا له ولضيوفه الذين يصادفهم في ذلك اليوم السعيد.
ولأنه في أحيان كثيرة من غير بيت ثابت، يمشي مسافات ضوئية، ليجد مستقر الليلة أو يركب القطار وينام فيه حتى يصل الحدود البلجيكية ثم يعود أدراجه ليستقبل الصباح في المقاهي كأنه خارج للتو من فراش بيت وثير.
حكايات كثيرة مع صموئيل تشكّل كتابا على حدة.. مرة كنت معه نتعشى في مطعم الجزائري في منطقة “دونفير روشرو”. الجزائري الذي يقبل بتسليفنا العشاء والشراب حتى تتوفر الأموال لاحقا.. خرجنا متأخرين كالعادة، نركض نحو الميترو الأخير، الذي أقلّنا إلى نصف المسافة، مما اضطرنا إلى النزول وأخذ التاكسي. سمع شوفير التاكسي، ذو الملامح الشرقية، حديثنا العربي، وما لبث أن شارك في الحديث. كانت فترة حرجة في فرنسا حيث اضطراب الأمن على أشده، بسبب التفجيرات التي قام بها جورج عبد الله وجماعته. اشتد الحديث بين السائق وصموئيل، وفجأة، نرى التاكسي تحول إلى سيارة بوليس تلعلع حدبته على السطح بمختلف الأصوات والألوان وأغلق النوافذ، وفي ثانية صرنا أسرى نرفس داخل الزجاج المغلق بإحكام. ثوان أخرى ونحن في مخفر البوليس تستقبلنا الشرطة والبنادق، حيث قضينا ليلتنا حتى الصباح تحقيقا وخرابا وضحكا. وحين أقمت في “لاهاي” فترة، جاء صموئيل لزيارتي وهو يجر حقيبته في الشارع، رآه المسرحي حميد محمد جواد، وسأله عن وجهته، قال إنه ذاهب لزيارة سيف الرحبي في هولندا، سأله حميد إن كان لديه العنوان والتلفون أجاب صموئيل بالنفي، حينها علق حميد بغضب كعادته: ” هي أوروبا صارت برخانة إلْكُم”. وفعلا كنت جالسا في مقهى السينما الملاصق لمحكمة العدل الدولية وإذا بصموئيل ينبثق من الفراغ وكأنه على موعد معي في الثانية والدقيقة..
حياة بخفة الطيور المهاجرة المترحلة، نسيجها الصدفة والشعر واللاهدف..
في مطلع هذه الذكرى قلت إنني غبت عن باريس سنوات أربع، رجعت بعدها حيث نزلت اليوم الأول مع الصديق أحمد الصياد.
تركت حقيبتي وأخذت الميترو من محطة “ليموت بيكي”، ونزلت في محطة “ألأوديون” بالحي اللاتيني. لا أكاد أخرج من جحر المترو نحو الفضاء الطلق، حتى أرى صموئيل شمعون، صدفة، أمامي، وكأنما تركته منذ لحظات فقط وليس أربع سنوات.
* * *
رحيل الكبار
برجمان – انطونيوني
برحيلهما , تكاد تكون الأسماء السينمائية الكبيرة والفارقة، قد أشرفت على التواري إن لم تكن قد توارت وغابت عن المشهد رغم إرثها الإبداعي الذي لا يزيده الزمان إلا جدة وبقاءً، في عيون القلة القليلة التي ما زالت تشاهد هكذا أفلام.
تلك الكوكبة المضيئة التي تمتد إلى روسليني، وديسيكا ، وفلليني، وحتى كافياني وبرتلوتشي.
تنسدل الستارة بكثير من التجاهل والإهمال في ضوء القيم الضارية للاستهلاك والتجارة الفظة، على تلك الأعمال المفعَمة بالرؤى الشعرية والفلسفية وبتحليل بالغ الرهافة لأعماق الكائن السارح في واحة العدم الدموي والضياع؛ مفسحة المجال واسعاً لسينما الانحدار الفني والأخلاقي، والسينما المتوسطة في أحسن الأحوال، تأتينا بعض إضاءات منها قادمة من الصين وحواشيها واليابان وبعض دول ما دعي بالعالم الثالث. قليلة هي السينما التي تواصل مسيرة أولئك الراحلين الكبار أوروبياً بذلك الإخلاص والذوبان في حقيقة الفن السامية.
* * *
رحيل إنجمار برجمان وانطونيوني، عن عمر مديد في الزمن والإنجاز، يتذكر محبو تلك السينما كيف غمرت أمواجها الباذخة بالجمال والمرح والرؤى والقتامة، على اختلاف الأساليب والمقاربات عالم الفن والثقافة وشرائح اجتماعية أخرى. وكانت مصدر معرفة وإلهام للشعراء والروائيين والفلاسفة وميدان تحليل ومتابعة وتقييم.
نحن الذين غمرنا رذاذها الندي منذ منتصف السبعينيات وما زالت تسكن الوجدان وخيارات التعبير، ما زالت بؤرة جذْب وحنين. أتذكر فيلم “روما فيلليني” حين نزل في سينما قصر النيل بعنوان “خرافات رومانية”!.
بجانب دور العرض العادية كان هناك نادي السينما وجمعية الفيلم التي كانت تنشط في عرض تلك الأفلام وغيرها من الأعمال الطليعية المنتقاة بعناية والمصحوبة بالنقاش والنشرات التي تضم مقالات لأكثر من ناقد ومتخصص وهاوٍ..
كذلك الأمر لاحقاً في دمشق وبيروت وفي هذه الأخيرة أكثر كثافة وحضوراً.
كان هذا المناخ السينمائي الثقافي هو الذي ربى ذائقتنا السينمائية وجعل تلك الأسماء والأعمال عنصرا صميمياً في ذاكرتنا المعرفية والجمالية.
* * *
برحيل السويدي برغمان والايطالي انطونيوني نستحضر بعض أعمالها.. من يستطيع أن ينسى تلك الآثار البرغمانية في مختلف الأشرطة والمحطات من “الختم السابع” و”برسونا” وحتى “وجها لوجه” الذي شاهدته لأول مرة في سينما الكندي بدمشق. وكنت قد أقنعت الصديق الناقد يوسف سامي اليوسف بالذهاب معي. كان أبوالوليد يحتقر السينما ويعتبرها فن الغوغاء (كذا). وحين شاهد الفيلم.. وبعد أن أخذ نَفَساً عميقاً قال: هذه تراجيديا، تراجيديا حقيقية بكل أبعادها وخطورتها في سبر أعماق الجحيم البشري.
برغمان الذي ينطلق من خصائص الروح السويدية الاسكندنافية الأكثر رفاهية وترفاً وحضارة وفي الوقت نفسه كآبة ووحشة وانتحاراً..
انطونيوني في أفلامه الكثيرة أيضاً، “المخبر الصحفي” ، “نقطة زبرسكي” و”المغامرة” و”الصحراء الحمراء” يكشف في مسيرته السينمائية التي امتدت حتى وهو مصاب ومريض، كان الإبداع رفيقه الحنون، يكشف هشاشة الكائن وفساده وزيف عواطفه. في “المغامرة” حين تضيع الفتاة في تلك الجزيرة البحرية النائية يأخذ عاشقها وصديقتها في البحث عنها، لا يلبث الاثنان أن يقعا في حب بعضها ناسيين معاناة الفتاة ومصيرها.
أفلام عصية على التلخيص من فرط كثافتها ومصبات دلالاتها الكثيرة، إذ ليست “الحكاية” إلا ذريعة من ذرائع المخيلة في جموحها الحر واستشرافها المصائر والأعماق.
 
* * *
فلليني :
التلفزيون
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، أنجز الايطالي (فريدريكو فيلليني)، فيلمه (جنجر وفريد) الذي تتركز ثيمته الأساس على- غنى الموضوعات الأخرى الأثيرة على قلب المخرج كالطفولات والموت والشيخوخة- حول (الميديا) وخاصة التلفزيون، الذي بدأ في التهام المساحة التي كانت للفنون الأخرى وفي طليعتها السينما.. وبدأت ملامح القِران العضوي المدمّر بين سلطة المال ومافياتها المتشعبة وبين الميديا مجسدة أكثر في الفنون التلفزيونية التي كان وما زال على الصعيد الايطالي (برلوسكوني) عرابها الأول.
أحسَّ المخرج الكبير بقدوم الخطر الكاسح على ما تبقى من الإنجازات الفنيّة والجماليّة وعلى روح الانسان وفطرته وقيمه، فدفع بهذا الفيلم ليفضح ويتنبأ بالمشهد المُعاش الذي يزداد اتساعه وهيمنته يوما بعد آخر.
يستدعي (فيلليني) راقصيْ الثلاثينيات في أمريكا، جنجر وفريد، الشهيرين في تلك المرحلة، يقوم بدورهما، (مارتشيلي ماسترياني) و(جوليتا مازنيا) يستدعيهما، فيلليني، كعادته حين يحوّل الأساطير والشخصيات والقصص، الى ظلال وأشباح الرواية المعروفة والمتداولة.
هكذا فعل (بكازنوفا) حين أحاله الى كائن آخر غير العاشق المعروف، يعلوه الصلع, ويصاب أخيراً بالحزن والانهيار واليأس.
جنجر وفريد، ليسا إلا ذريعة، وقد كانا في الفيلم عجوزين متعبين، لما يريد فيلليني، أن يعبّر عنه، ويقلقه.. كان يقرأ في قدوم السيطرة المطلقة للمال والسلطة، المعادية للمعرفة والجمال والمعادية لتفتح الطاقات الانسانية، يقرأ تجلي هذه الهيمنة في (الميديا) التي يقودها التلفزيون ومن ثم الروافد والوسائط الأخرى التي لم تكن موجودة بعد في تلك الفترة.
كان المخرج الكبير شديد الإحساس بهذا الخطر الذي سيلاحق حتى الهوامش والأقاصي في النفس والروح ويحتل الحلبة كاملة، على هذا النحو من البريق والاستقطاب وكأنه الآلهة أو بديل عنها لهذه البشريّة الباحثة عن عزاء وملاذ..
عبر هذه السيطرة يمكن للقوى المهيمنة أن تقلب الحقائق وتفبرك الحروب والمجازر، أن تزيّف وعي الكائن البشري وتحيله إلى مسخ حديث ومدني بكامل أناقته وجروحه..
هكذا في المدن المنتجة والحضاريّة التي ينطلق منها المخرج الايطالي في نبوءته العبقريّة التي أتت عبر هذا الفيلم بمثل هذا الجمال والدهشة والسخرية.
السخرية، كانت سلاح المخرج الانتقامي من هذا الزحف الهمجي الذي سيكون على أشده بعد فترة قصيرة من عرض تلك العلامة السينمائيّة، في مسيرة الأفلام الخالدة.
أقول: هكذا في البلدان الحضاريّة، فكيف سيكون الحال في البلدان الاستهلاكيّة والتابعة بلداننا، كيف سيكون تجلي هذه السيطرة وتحويل البشر إلى قطعان هائمة، دائخة تحت قوس أحلامها الكاذبة؟
* * *
دوجفيل:
أسطورة البراءة
فيلم (دوجفيل) الذي شاهدته منذ أربع سنوات من الأفلام القليلة التي لا تبرح الذاكرة لمجرد الانتهاء من مشاهدتها ، وإنما تشعّ باستمرار وتلاحق الخيال والوجدان بشخصّياتها وأسئلتها المأزقيّه حول الانسان والعالم.
هذا النوع من الأفلام بالفعل ، أصبح نادراً في زحمة الأفلام التجاريّة بعنفها وصخبها البليدين :بين الفترة والاخرى تزورنا هذه الأفلام لتذكّرنا بعهود السينما المضيئة كمغامرة إبداع طليعي ، وحاضنة فنون همها الأساسي اقتحام عرين الشرط الوجودي والحياتي الذي يتحكّم بمصائر البشر والتاريخ . حتى إيطاليا التي كانت مهد هذه المغامرة وساحتها الموّارة بالأسماء الكبيرة ، لم تعد كذلك وانكفأت إلا ما دون الحدّ الأدنى …. وبقيت تلك السينما التي شكلّت مفصلاً في الوعي الثقافي والفكري ، في ذمة الذاكرة الارشيفيّة والتاريخ (المدرسي) للأكاديميّات والأندية الخاصة على قلتها ، وعلى المستوى العربي تكاد تختفي وتتلاشى كليّاً …
***
فيلم (دوجفيل) للمخرج الدينماركي (لارزفون تيرنر) من تلك الأفلام النادرة التي لا تقيم أي نوع من أنواع التسوية أو التخفيف في تعبيرها عن مناخ القسوة والرعب الراهنين ، الذي يغرق البشر في وحل علاقاته وانحطاط قيمه الأخلاقيّة والإنسانيّة ، تلك القيم التي كسبوها بعد قرون طويلة من الصراع والكفاح ضد قوى الشر والقبح لتسمو بالغرائز فوق فلتانها الوحشي ، إذا بها ترتدّ مع العصور الحديثة إلى ما هو أبشع وأكثر بطشاً وبربريّة من تلك العصور البدائية للبشر الأوائل ، التي استحالت إلى ذكرى فردوسيّة وارفة الحنان ، أمام عصر العلوم والإختراعات والدساتير وكل أنواع العطور والكريمات والملابس الفاخرة…
تُرى أيّ بذرة جهنميّة أُودعت في أعماق الكائن لتنمو على هذا النحو الكارثي ويغدو العقل والعلم مطيّة لتجسيد وتحقيق ذلك النزوع العدواني الفظ الذي لا يتراجع إلا بسحق الآخر والقرين حتى لو مرّ عبر انتحار الذات التي تسعى القدرة وتتوهّم حمايتها وتمييزها؟
بذرة جحيميّة نمتْ مع الأحقاب من غير أن تستطيع الأديان والقيم الروحيّة والفنون برموزها المختلفة أن تثنيها ، أو تخفف من زَهْو غلوائها ، وإنما استُخدمت هي الاخرى مثل العلوم والاختراعات لتحقيق ذلك الهدف المعادي لإنسانيّة الإنسان وروحه وكرامته .
***
فيلم (دوجفيل) في القلب من هذه الاطروحة تماماً ، حيث تتكشّف بدايته عن ذلك المشهد الضبابي القاتم ، عن ما يتراءى أنه مدينة ، مصحوباً بنباح كلب وحطام عظام ، ونرى (جرايس) نيكول كيدمان ، تركض مذعورةً من قتلةً يطاردونها لتلجأ إلى هذه المدينة الأمريكية بصفتها قِوام قوة العصر وطليعته ، إذ يمكن أن تكون أي مدينة في العالم … تلتقي (جرايس) بكاتب يتعهد لها بتوفير الحماية والأمان وتنشأ علاقة بين الاثنين ، بعد فترة يخون عهده معها ويصل إلى حد الوشاية بها إلى المجرمين والقتلة .. أهل المدينة الطيبين الذين قبلوا حمايتها أيضاً لا يلبثون ، أن يمعنوا فيها إذلالاً واغتصاباً ، وتُربط بسلسلة مشدودة إلى كتلة حديد تشبه الرحى ليسهل الإنتهاك السادي والتحطيم….
الفيلم لا يوفر أحداً ، حين يمزّق كل رومانسيّة وكل إخلاص : الكاتب كما رأينا آنفاً … الطفل الذي كانت تحتضنه وتحبه يظهر قدرة مخيفة على إيذائها ، وتنتهي اسطورة البراءة المتوارثة ، حتى الخادمة المضطهدة تفصح عن وجه عدواني كالجميع .. باختزال شديد تنتهي هذه الملحمة المظلمة من القسوة والكراهية التي تعرّي الجميع من غير رحمة ولا تلطيف تنتظره عين المشاهد، تنتهي بتعاون الضحيّة (جرايس)مع القَتَلة الذين يطاردونها من بداية الفيلم ، لإبادة أهل القرية بالكامل .. ونسمع نباح كلب يتهذّج في البعيد. ربما كان هو الشاهد يروي عبر نباحه فصول هذه المجزرة الواقعيّة الرمزيّة ، إن كان ثمة من حيّز للرمز والمجاز أمام هكذا واقعيّة قاسية قدّمها المخرج الدينماركي بكل هذا الصدق الصارم والفريد ، في هذا الفيلم الذي لا يأتيه الأملُ الخُلب من أيّ مهبّ أوجهة …
 
* * *
لحية لينين
ما تحاول بعض المؤسسات الأمريكية والغربية ترويجه لصورة الاتحاد السوفييتي السابق وقادته ، ليس في أفضل الأحوال بمختلف عن دعاوى هذا الاخير حول المعسكر الغربي المنحط والمتحلل بفعل خيار التطور الرأسمالي و(النمر الورقي).
ليس بأفضل من هذه الدعاوى التي تجافي بطبيعتها وقائع التاريخ وتنزع دائماً إلى الحط من شأن العدو بكافة الأسلحة المتاحة التي لا يمكن لخطابها أن ينبني إلا على السذاجة والتلقين الايديولوجي .
الدعاية الأمريكية خاصة ، المنتشية بنصرها التاريخي حقا ، لا تفتأ تطارد شبح المعسكر الحديدي الذي كان يقض أيامها ولياليها ولا يتركها تسرح في واحة أحلامها ، الامبراطورية المتفرده التي تراودها ، والتي تحاول تحقيقها في البرهة الراهنة حتى ولو على جثة نصف البشرية أو البشرية جمعاء ، من يعرف في ظل أسلحة الإبادة الحالية. بعد أن فرغت ترسانة الكذب والتبشير بقيم الحرية والديمقراطية الموعودة وانكشفت عارية ، على يدي المحافظين الجدد ، أمام العالم الذي كانت تراوده بعض الأوهام حول ذلك.
ذلك العالم أو النفر الذي صار لا يخفي اسفه إلى عهد الثنائية القطبية الذي كان يلجم هذا الاندفاع الدموي الوحشي الذي يسود ويستفحل في عهد الواحدية الراهنة .
***
طبيعة الخطاب الدعوي الغربي الأمريكي خاصة ليس بأحسن من سابقه السوفييتي في طمس الحقائق والحط من شأن العدو المخالف في الرأي والتوجه ، وان كان أذكى واكثر مكرا ولمعاناً، هذا الخطاب بتفريعاته المختلفة الذي أصبح يغطي الكوكب البشري ، لا يترك قناة أو نافذة إلا ويحاول إحتلالها وضمها إلى موكبه العملاق.
وإذا سلمنا أن التلفزيون أصبح القناة الأكثر حسماً لترويج الدعاوى والتجهيل والعَبطَ ، فالسينما التي كانت قبل استفحال التلفزيون وارتفاعه إلى سدة الرئاسة ، هي الوسيلة المهيمنة جماهيرياً ، ورغم تراجعها لكن ما زالت تشكل أحد مجاري هذا الخطاب ومستنقعاته الكثيرة.
ليست قليلة هي الأفلام التي تتناول وتقارب الحقبة السوفيتية ومنظومتها الاشتراكية بأشكال ورؤى مختلفة ، يغلب على معظمها السمات التي أشرت إلى بعضها .
آخر فيلمين رأيتهما في هذا السياق، فيلم ( حياة الاخرين ) وفيلم (استالين) فاذا كان الأول يتناول ظاهرة كانت موجودة ومستفحلة بالفعل في ألمانيا الشرقية ، وهي الرقابة المخابراتيه على الكتّاب والادباء حتى أولئك الموالين للنظام القائم.
ومعرفة كل شيئا عنهم حتى أدق تفاصيل حياتهم الخاصة ورصد طريقة ممارستهم للجنس وطريقة الأكل والتدخين والاستحمام .
حياة (الآخرين) وان كان في المحصلة الأخيرة يندرج في سياق الأفلام الغربيّة التي تكشف وتفضح مساوئ الشرق الاشتراكي السابق ، لكنه فيلم بجانب شهادته الصادقة التي تستند إلى رواية واقعية لحياة كاتب في ذلك الشطر الشرقي من ألمانيا ، وهو فيلم ألماني ، يقدم أيضا مستوى فنياً راقياً ومميزاً .
على العكس تماماً فيلم (استالين) الذي هو النموذج الفج للأفلام الدعائية ، حيث يظهر القائد السوفييتي في تلك المرحلة المعقده من تاريخ السوفيت والعالم _ وهو التتويج الأقصى لسلسلة الأباطرة ، بإعتبار ان الشيوعية الروسية ، أقرب إلى (ايفان الرهيب) منها إلى (كارل ماركس) حسب (كونديرا) – يظهر شخصاً (أزعر) ذا ضحكة أقرب إلى الغوغائية ، متآمراً صغيراً ، يحيط به أفراد مهرجون تافهون بعد أن صفى نخبة الرفاق .. (استالين) الطاغية والدموي لكنه ضمن وقائع التاريخ ووثائقه وبراهينه هو الذي هزم (هتلر) والجيوش النازيه وبنى الامبراطوريه المهيبة بصناعاتها الثقيلة ، بعد أن أخمد كل الحروب والفتن الداخلية . العصامي المحب للثقافة والموسيقى والشعر ، كما أظهر الفيلم في بدايته ليذهب مباشرة إلى التزوير كما ترسمه دوائر التوجيه المعنوي للعدو النمطي ..
هذا النوع من الأفلام الموجهة المجافية لمساحة البحث الموضوعي والإبداع الحر تؤدي مفعولاً عكسياً لدى بعض النخب المتعلمة والمثقفة خاصة ، التي تستشعر بعد المشاهدة والقراءة بنوع من النزوع المنصف إلى ذلك العدو أو (اللا صديق) المرذول والمعتدى على بديهيات تاريخه وحياته فرداً ومرحلة وأفكاراً.
في فيلم (استالين ) لم نر ذلك الرمز الطاغي ، الاشكالي التدميري والبناء ، خارطة المتناقظات هذه على نمط الديكتاتوريين الحقيقيين (وليس السماسرة) كما عرفهم التاريخ. ولم نرى تلك الحقبة المفعمة بالأحداث الجسام والتحولات ..
وحدها لحية (لينين) ظهرت على ذلك النحو المرتب الأنيق.
* * *
متعة الجريمة
مما حملته أخبار هذا الصباح، غير تلك التي تدور في أقانيم السياسة ومراكزها وأبوابها التي أصبحت راسخة وثابتة حتى الإيذان بتحولات ومراكز جديدة.
ما حملته متفرقات الأخبار، أن روسياً من أواسط روسيا ، وهو كيميائي ، اخترع نوعاً من السموم وأراد اختبار فاعليته وجدواه ، فبدأ بأفراد عائلته، زوجته ثم ابنته..
كان يراقب آثاره وفاعليته التدميرية حتى النَفَس الأخير… ثم على زملائه في العمل فأصدقائه ، والقائمة تطول..
ما يلفت أكثر في الحدث غير الإستثنائي ، في الزمن الذي نعيش، أن القاتل الاختصاصي حين يدس السُم لضحاياه يقضي فترة من المتعة، فيما يشبه النزهة السياحية، في مراقبة ضحاياه ، مراقبة العلامات والأعراض جرّاء انتشار السم في جسد الضحية، حتى لحظة الحتف الأخيرة.
رحلة من اللذة يقطعها القاتل، تستغرق فترة ليست قصيرة، وهو يراقب ضحيته الحميمة تتألم وتتشوه وتنحدر. رحلة بالنسبة له أجمل من قضاء الصيف في منتجع “القرم” الروسي الشهير.
هذه الحوادث وعلى شاكلتها وأفظع وأكثر غرائبية منها الكثير الكثير، في المدن والأرياف المتحضرة ، وتلك التي يسحقها التخلف والظلام.
يتبارى القتلة ، صغاراً وكباراً ، في ابتكار مناخات الجرائم وأدواتها وطرق تنفيذها التي يعجز ويتقهقر أمامها أي خيال سينمائي أو روائي، حتى تلك التي ترتفع الى مصاف الخرافات والمجازات..
لم تعد روايات وقصص عرفها التاريخ في هذا المجال مثل “الكونت دراكولا” أو بوليسيات “ايجاتا كريستي” و”جورج سمينون”. وحتى دسائس أجهزة الأنظمة القمعية وغير القمعية، لمعارضيها وأعدائها، لم تعد إلا طرائف وفكاهات، أمام تطور الخيال البشري وتفننه في ارتكاب الجرائم والتنكيل.
خيال الفرد الأعزل من السلطة ، تجاه أقرب الأقربين الى قلبه وعواطفه أو هكذا يفترض حتى الآن.
الدول والأجهزة بإمكانياتها الكبيرة، ما ترتكبه وتخترعه في هذا السياق الأصيل في النفس البشرية، ليس بخارق ولا بالغ الذكاء والفطنة أمام خيال الأفراد وابتكاراتهم، في السياق نفسه وإن اختلفت الدوافع والالتباسات..
* * *
الرجل الروسي والملايين على شاكلته ، وعلى رأس القائمة أمريكا غريمة روسيا التقليدية في المجال الامبراطوري/ يرتكب جرائمه ليس بدم بارد فحسب وإنما بالمتعة التي لا تضاهيها لحظات الحب الجسدية… شبقٌ غامضٌ، عارمٌ وعصيٌ على النفاذ والتحليل المنطقي..
كان بطل رواية “الجريمة والعقاب” للروسي الكبير (ديستوفسكي راسكلنكوف)، حين ارتكب أشهر جريمة في تاريخ الأدب، ضد المرابية العجوز، دخل في هذيان الندم والحقيقة والعدالة، سقط في بؤرة الأسئلة والهواجس..
واقعُ حال العالم ان الابن يقتل أمه وأباه… ويجري انتهاك وقتل كافة المحرمات والقيم القرابية والأخلاقية بنفس الدم البارد الذي تُقدِمْ فيه الدول القوية على إزالة شعوب وبلدان من خارطة الحياة والتاريخ.
* * *
الشر والخير
موضوعة الشر ، فعله ونتائجه ، نزعاته وهواجسه العميقة الشاسعة في النفس البشريّة ، هي دائما وعلى مر الأجيال والأزمان ، الموضوعة الأثيرة على الادب والفن ، الإشكالية لأكثر التصاقا وكيانيّة لروح الأدب والفسلفة وماهيتهما الجوهريّة ..
كل كاتب يحاول دوماً الإبحار في هذه الظُلمات المحتدمة بالهوامّ والكوابيس في قلب الكائن وأعماقه ، يحاول استقصاء تلك الإنحرافات والأخطاء المريعة التي تجتاح البشر أفراداً وجماعات ، تجتاح الدواخل والخفايا ، تجتاح الروح المبُتلاة والمعذبة بجرثومة الشر والعدوان ، رغم كل ذلك التاريخ الطويل من محاولات الإصلاح والهداية (والتنوير) .
ذلك التاريخ الذي يتقاطر ابطاله وشخوصه ومريدوه تباعاً منذ بداية الوعي البشري على هذه الارض ، زمناً بعد آخر ، محاولين ترويض ذلك الوحش الكامن في خفايا وتضاعيف النفوس والذوات ، لكنه لا يزداد إلا ضراوة واندفاعاً وهمجيّة ..
الأديان السماويّة جميعها . الفلاسفة والمصلحون الوضعيّون ، وأولئك القادة الذين حاولوا تقويم بعضٍ من هذا الانحراف العدواني المخزي ، جميعهم لم ينالوا إلا شرف ونبل المحاولة والتأثير المحدود بعيداً عن الموقع الحاسم في التأثير ، الذي غالباً ما يكون بأيدِ مفعَمة بأوهام القوة والعدوان والشر .
***
عند الروائي (ديستوفيسكي) تصل هذه الاشكالية الجوهريّة ذروتها ..
في رواية الاخوة (كرامازوف) يستقصي الروائي الكبير ظلـُمات النفس الموّارة بالشر والأثام والإرتكابات الغامضة ، على نحو فريد غير مسبوق ربما .
حيث ان أفعال الخير والمحبة والإنسانيّة ، لا تأتي بنتائجها الطيبة أو الإيجابية وإنما نقيضها ، تنتج ثماراً سامة وقاتلة . شخصية الامير (ميشكين) مثالا سريعا حين يحاول مثل هذه الأفعال الخيّرة ، لا يحصدُ إلا عكسها .
كان (ميشكين) يصغي إلى (الجنرال ) وقصة لقائه مع نابليون وهو يعرف إنها مختلقة . كان يصغي من باب التعاطف الانساني والمواساة ، لكن الجنرال حين يدري بمعرفة الامير بسره أو بكذبته ، ينتحر على الفور .
المواساة تنقلب إلى نقيضها : الفعل الدموي ..
يأتي ذلك الكشف عبر استقصاء سردي تركيبي بالغ التداخل والتعقيد ، على نقيض ثنائية العنوان ..
هنا يصل الشر إلى كامل سطوته وغلبته على نفوس البشر ونوازعهم الجوانيّة وان سوّق الادعاء التبشيري عكس ذلك وهو ما نرى ونشاهد ونسمع في مشهد العالم المعاصر بكل تجلياته الفظـّة ونواحيه المخيفة .
* * *
 
 
 
الأنفس الميتة
من يستطيع القول أن العمل الإبداعي الحقيقي، يطفئه تقادم الزمان، أو يقلل من نضارته وطاقاته الدلالية، والاحتمالية المفتوحة دائما على مدارات، لا يطالها البِلى، وإن طالها الإهمال والنسيان أحياناً. بالقراءة وعبرها يتجدد، وتجدد الذات القارئة: تنطلق حيواتها وروحها ، بشرها وطبيعتها تندفع نحو مراعٍ ومياه تغتسل وتحلّق تحيا وتموت وتحيا في دورة أزليّة..
في خضمّ هذه الليالي الرمضانية قرأت فيما قرأت وأعدت، رواية الروسي الكبير (نيقولاي غوغول) “الأنفس الميتة” وهي الأكثر شهرة له على صعيد العربية مع “المعطف” و”المفتش العام”..
شجعني على إعادة القراءة اسم المرحوم (غائب طعمة فرمان) في الترجمة، والذي عاش فترة طويلة في موسكو ومات فيها..
“الأنفس الميتة” 1842، من تلك الأعمال المتجددة المضيئة، التي تجسّد بعمق دامٍ تلك الحقبة من الحياة الروسية، مدناً وأريافاً، قرى ودساكر، الأرض الروسية الشاسعة الممتدة على مسافة لا تضاهيها أي دولة أخرى في العالم..
تنشق بيضة أحد الأيام الرتيبة، عن غريب ينزل مدينة (ن) مع خادمين وعربة تجرها الخيول كعادة تلك الأيام، انه “تشيتشيكوف” الذي سيحمل عبء السرد في الرواية بعد تعرفه على المدينة وأعيانها، ملاكها وفعالياتها يبدأ في زيارة الملاك زيارة وديّة حميمية لا تلبث أن تتكشف عن هدف ملتبس غريب من نوعه، هو رغبته في شراء أقنان الفلاحين الموتى، وبما أن الدولة تأخذ ضريبة حتى على أولئك الموتى والذين قضوا منذ زمان بعيد مثل الأحياء تماماً تكون مهمة “البطل” سهلة وميسرة.
ثم يأتي اليوم الذي ينكشف فيه أمره على نطاق واسع وينفض عنه الأهالي والأعيان والنساء المغرمات به كونه أحد أكبر الملاك، جاء لشراء أقنان وعبيد عاديين أحياء..
ثم تمضي الرواية في الإلغاز والغموض العميق، حين يكشف مدير البريد أن (تشيتشيكوف) ليس إلا (الكبتن كوبكن) الذي قاتل في المعركة الشهيرة ضد نابليون وأفضت به الظروف إلى التشتت والضياع.. وبعض الإشاعات تقول انه نابليون نفسه… الخ.
* * *
حين قرأ الكسندر بوشكين، هذه الرواية صرخ: يا إلهي، كل هذه الجهامة والفضاعة في روسيا؟!
عبر رحلة هذه الرواية التي هي رحلة بطلها المنبثق من المجهول والذاهب إليه، صور غوغول، على نحو دقيق وتفصيلي صادم وشاعري، شاعريّة المأساة والسماجة والوضاعة، صوّر ذلك الرعب والانحدار القيمي والذوقي الذي كان يسحق الروح الروسيّة الخلاّقة. البشر بمختلف طبقاتهم، الطبيعة الرهيبة الراعدة، بمختلف تجلياتها وحيواتها، طرُز المعمار والبناء وأنماط المعيش.. كل شيء مشمول بلعنة الانحطاط، لكن ، أيضاً بأمل التطلع إلى أفق آخر وإن بدا شاحباً أمام هول الواقع وكثافة المأساة..
(الأنفس الميتة) رواية الطرُق المتشعبة، الرواية البولوفونيّة، وليست الأحادية كما يشير كونديرا، الذي ينتمي إلى السلالة الروائيّة نفسها التي تجمع بين براعة السخرية العالية والتراجيديا..
رواية من تلك العلامات التي أسست لمجد الرواية اللاحق، رغم أن مؤلفها قضى قبل أن يكمل أجزاءها الثلاثة.
* * *
الأخوة الاعداء
تاريخ الآداب والفنون ، يحتفظ بالكثير من الأحداث والوقائع التي تؤرخ العلاقة بين منتجي هذا الإبداع على مختلف أنماطه وأساليبه ، ومختلف أزمنته وعهوده ومدارسه المتعاقبة ..
هناك وقائع وسجالات لا تحصى في العهود الكلاسيكية للأدب العربي مثلاً ، بين أبرز النقاد في عصرهم حول رؤى ومفاهيم بلغت من الحِدّة كونها معارك مشهودة مثل معارك الجيوش والدول والفتوحات في ذلك الزمان ..
حول مفاهيم ورؤى تجد نماذجها التطبيقية في شعراء شكلوا علامات المرحلة وذاكرة الأدب والأمة ، وكانت رمزيتّهم في هذا المجال تسبق النقاد مهما بلغوا من الشأو والمعرفة العميقة ، ودخل في السجال علماء اجتماع يأتي النقد الأدبي في مرتبة متأخرة بالنسبة لهم مثل ابن خلدون الذي قال عن الثلاثي الشعري الشهير قولته الغريبة ” المتنبي وأبو تمام حكيمان أما الشاعر فهو البحتري”
وحول هذه الأسماء ومن على شاكلتهم ، كانت رحى السجّال الثري والعقيم أحياناً ، تدور دورتها المعرفيّة الطبيعيّة ، تلك التي تنزع إلى الإلغاء المطلق والتحطيم ، أو إلى التبجيل والتقديس وما بينهما من موضوعيّة ، إن وُجدت.
هذه الدورة المعرفية ، وتلك العلاقة المسترخية المنعمة حيناً والمتوترة المزبدة بالغضب والعداء أحياناً كثيرة تطبع تاريخ الأدب والنقد في الأمكنة والأزمنة على اختلاف الأمزجة والحضارات وأنساق التفكير ..
في حقول شعراء الحداثة الذين شكلوا مناطق مضيئة وعلامات ، تدور الدورة نفسها تقريبا فها هو شاعر على سبيل المثال مثل (مايكوفسكي) يصف بعض نقاده بأقذع هجاء عرفته هذه الثنائية الضديّة بين الشاعر والناقد عبر التاريخ المفعَم بأمثلة تشكل موسوعات في هذا المجال :
“توله الحوذي ، مرة ، بغسالة ثرثارة
فكان هذا الجرو الدميم
وكصبي لا يلقى في القمامة
أو يحمل في عربة يد
وأعولت أمه ودعته ناقداً”
***
“ما أكثرنا نحن الكتاب ، لنجمع مليون روبل
ونشيد لنقادنا ملجأ عجزة في مدينة بيتا
أتراكم تظنون أن من السهل عليهم
أن ينظفوا ألبستنا الداخليّة كل يوم على صفحات الجرائد ”
مايكوفسكي لا غيره قائل هذا الكلام أو الشعر ، مايكوفسكي الذي اطبقت شهرته العالم وهذا ينم عن إنصاف ما في النقد والإعلام والتكريم .
لكن رغم ذلك حاصرته الأسئلة والإغترابات والقلق فمات منتحراً في ربيع عمره الغني العاصف.
* * *
تحقق المثال
في مطلع السبعينيات على ما أعتقد ، من القرن المنصرم ، قرأت الكتاب الذي كان شبه متداول في أوساط اليسار الثقافي لتلك المرحلة (ضرورة الفن) لآرنست فيشر ، الذي تتصدره عبارة مغوية غامضة بشفافية ، لجان كوكتو (الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا؟)
ربما هذه الضرورة الروحية المجهولة المصدر والنبع لكنها حاسمة ، تنطبق على كافة الأزمنة البشرية ، إلا الزمن الذي تبلغ فيه هذه البشريّة طور التحقق الأسمى والكمال ، أي ما يشبه الحلول والسكنى في المطلق والمثال..
وهي نظرة لا بد لافتراضها من حاملة أيديولجيّة يوتوبيّة تؤمن بإمكانية بناء هذه المثال الفردوسي على هذه الأرض التي قطعت كل هذا الشوط المأساوي الكثيف نحو ما هو نقيض ذلك ، نحو التحلل والهرم والانهيار….
الشعر والفن ، كضرورة روحيّة وجماليّة تزداد أهمية وخطورة في البرهة التي نعيش بكل هذا الصخب المادي والتقني ، بكل هذا الاندفاع الأعمى نحو مستنقع الاستهلاك وجحيم العلاقات اللاإنسانية واللااخلاقية التي تسود العالم ، وربما تزداد ضراوة في المنطقة التي نعيش في العالم العربي رغم كل الإدعاءات التجميلية التي لا تعمل إلا على تعميق البؤس والانحطاط …
الشعر والأدب والفلسفة ضرورة وجوديّة وفيزيكيّة وأخلاقية ملحة ، خاصة في ظل تدهور الاجتماع والسياسة التي تحوّلت إلى سيرك مفتوح للتهريج والتبشير المنافق ، يسومها كل سائم مؤسسي وغير مؤسسّي (كما أشرت في أعمدة سابقة) ولم تعد علم تحليل الوقائع والاحداث المرتبطة بصيرورة التاريخ ، إلا ما يضيف إلى السيرك من صفات استعراضيّة وبهلوانيّة . ويقينا هناك ما يشذ عن السياق ويختلف …
في هجوم أزمنة الحروب العشوائية والطائفيّة وهجوم أزمنة الانهيار وانفجار العُقد النفسيّة الرخيصة ، أي انطلاق الوحشي من أعماق الكائن ، من غير وازع ولا رادع كما نعيش ونشاهد ونسمع.
كل أنواع القول الروحي الوجداني ، الذي يتداخل حد التماهي الخلاق أحياناً مع منطق التحليل العقلي الحر والعميق ، تتحول إلى ملاذ وحصانة ضد الموت المجاني والمرض والجنون ، حصانة وملاذ ضد أنواع واشكال القيم القطيعية ، المعولمه على نحو اكتساحي فاجع ، حيث تضيق التمايزات والفروق ، قِوام الابداع والافراد ، حدّ الاضمحلال والتلاشي.
***
المقولة التي أشرت إليها ، المحمولة على وهم التحقّق الأرضي للكمال في طور ما من أطوار التاريخ هي نفسها التي حوّلت الشعر والفن إلى أداة وظيفيّة ، بيد الأيديولوجيا والسياسة .
والاطروحة الاخرى المقابلة المحمولة على الحلم بالكمال الفردوسي على أرض أخرى غير هذه الارض الدنسة ، هي الأخرى حولت الشعر والفنون إلى السياق الأداتي نفسه وإن بسطحيّة أكثر وانعدام نفوذ…
الاطروحتان حوّلتا الشعر والفن إلى أداة ، لغاية محددة سلفاً تجافي الخلق والإبداع والحرية.. الفنون الشكلانيّة واللغوانيّة التي تحاول إخفاء فقرها الروحي والدلالي بالاستعراض اللغوي واللمعان البراني للتوليدات الصوريّة وافتعال الإدهاش، ليست هي ما يدل ويحصّن ضد الانهيار الكاسر .. خاصة وأن الألعاب الشكليّة للصورة أصبحت تعميماً شعبويّاً تسوّقه مؤسسات الاستغلال والتدمير في كل وسائل الإتصال الجماهيريّة..
***
هل أستطيع القول ، أن الشعر بمعناه الشاسع الذي طوّح به دوار البحث الجمالي واللغوي والتاريخي هو ما يشكل نوعاً من خلاص الروح ، وهي تكابد قسوة الواقع وتشظي القيم النبيلة وانحدار التاريخ …
الروح المجروحة بكل أنواع الغيابات والمحاصرة بغزارة الدم المراق في الأرض الخراب…
* * *
نزار قباني والخليج العربي
طرحت بعض الجرائد العربيّة اليومية في صفحتها الثقافية سؤالاً حول هجاء الشاعر الراحل نزار قباني للنفط وبلدان الخليج النفطية التي قبل جوائزها وهداياها ، وذلك بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الشهير.
وأعتقد أن السؤال، لم يكن موفقاً فلا الخليج بجغرافيته الثقافيّة وبلدانه، يُختزل في ثقافة واحدة موّحدة لا يطالها الشك والنقد، ترتفع الى مستوى الطهر والقداسة. هكذا كتلة صماء لا انقسام ولا أهواء ولا اختلاف!! كما تروج الكثير من الدعاوى التلفزيونيّة الورديّة التي لا ترسم إلا الايجابي والمشرق للحاضر الخارج من رحم البداوة والتوحش، والمستقبل الأكثر بذخاً وإشراقا!
ولا شاعر بقامة نزار قباني وموقعه الريادي في خارطة الشعر العربي، يمكن أن يختزل إنجازه الشعري والثقافي، في بعد واحد، هو بعد هجاء النفط، فكما شهر به وهجاه، كذلك فعل بالعروبة والأنظمة “القوميّة” التي تتاجر بالقضايا الكبرى وعواطف الجماهير مسوقة شعارات هي النقيض منها على طول الخط …
وتعرض للكثير، عبر تسييس الشعر، على هذا النحو، من مظاهر وعناصر برهة الانحطاط العربي، الذي يشكل حدث النفط ومشتقاته وسلوكاته جزءاً لا يتجزأ من مجمل هذا الوضع… بجانب بداهة أخرى أن هذا النفط المذموم ليس في بلدان الخليج فحسب وإنما نعمته التي تحوّلت الى لعنة ونقمة، موجود في بلدان عربيّة اخرى… وهناك طبقة من الكبرادور العربي الطفيلي استفادت من هذه الثروة، هذه الطبقة هي الوحيدة متماسكة و”قويّة” وموحدة تمتد من الخليج الى المحيط.. وما عداها ليس إلا وقود الحروب والأوبئة والجهل والفقر، ولا يزال الأفق مشرعاً على ما هو أكثر دمويّة وخرَابَا..
نزار قباني (رحمه الله) لا يمكن ولا يجوز إبداعياً ونقدياً، اختزاله في بعد هجاء النفط والأنظمة، فالكثير من أشعاره وقصائده في هذا السياق ليست إلا ردات فعل، أو كما يقال (فشة خلق) شعبية.. فقباني الشاعر الكبير، الدمث الخلوق، والحضاري ينبغي علينا استحضاره في هذه المناسبة، عبر متنه الأكثر ألقاً، والذي استطاع فيه أن يحقق تلك المعادلة الصعبة بين الإنجاز الفني عبر خياره الشعري الجمالي الذي اقتنع واشتغل عليه طوال حياته، وبين الحضور الجماهيري الذي ربما لم يحظ به شاعر مجايل آخر.
رحم الله نزار قباني وعبدالرحمن منيف وسركون بولص ، ففي رحيلهم ورحيل أقرانهم ، راحة النفس والروح، قبل أن ينفتح المشهد الكارثي الى آخر مصاريعه ومآسيه ومساخره.
* * *
غالب هلسا
في هذه اللحظة من نهار رمضاني يوشك على نهايته .
أكتوبر والطقس ما زال لم يجنح إلى البرودة بعد .
خريف غامض ، أوراق شجرهِ الأصفر يتساقط في الروح والمخّيلة ..
في هذه اللحظة تنزل عليّ ذكرى الراحل الكبير غالب هلسا .. هكذا وأنا أجلس على منضدة القراءة والكتابة مثل معظم الصباحات ، يحط عليّ اسمه الذي يستدعي على الفور ملامح شكله ومنجزه الإبداعي بدوائر متاهاته وشخوصه ، بالرغبات والأحلام المداسة بغلظة قل مثيلها ، تحت عجلات القمع والاستبداد لبرهة التاريخ العربي المعاصر .
هكذا … بفجاءة لا ينقصها الرهافة والقسوة ، يحط اسم الراحل على شجر خريف غامض تسرح أشباحه على منضدة كتابة مقفرة كصحراء يحاصرها الغزاة والجفاف ..
بملامحه الطرية اللامعة التي لا يكاد ينعكس على صفحتها كل ذلك الشقاء والمعاناة الحياتية والإبداعية التي وسَمَت حياة الراحل وطبعت كينونته بالكامل منذ سنيِّ حياته الأولى ، منفصلاً عن مرابع الولادة والعائلة . متبنياً أصعب الخيارات الفكرية في التصدي للظلم والتخلف بكافة أشكاله وبنياته ، ماضياً في دروب الإبداع الموحشة ، لكن المضاءة بنير الفكر والممارسة ، بالأمل الذي كان موجوداً ، حتى لحظته الاخيرة التي قذفتها المشيئة هذه المرة إلى دمشق ..
منذ انفصاله المبكر عن بيئته الولادية في الاردن صارت القاهرة مسرح حياته وحريته الإبداعية وسجنه . صار جزءا من نسيج هذه المدينة الشاسعة المتشظية ، من أحلام نَخبها وطليعتها في السراء والضراء ، في خوض غمار التجربة والإبداع ..
توحدت تجربة غالب هلسا مع قناعاته ودفع أثماناً باهظة من غير تسوية مخلّة أو محاباة مهما كان بريق مصدرها المادي والمعنوي ، اليميني واليساري ، كالنظام الناصري وغيره من التنظيمات الطامحة إلى سدة الحكم والسلطة ..
منذ هجرته المبكرة الاولى صار الراحل الكبير لا تحده حدود الجغرافيا والاقاليم العربية والبشرية المصطنعة .
صارت جغرافيا الخيال والاحلام واللغات سكناه الاساس ، مضارب عشيرته المبعثرة في أصقاع الارض والتاريخ ..
في أعمالة الروائية خاصة ، ومنذ (الخماسين) و (الضحك) حتى (الروائيون) روايته الاخيرة يبني غالب هلسا ويتابع مسيرة روائيه غابية (من الغابة) شديدة الغنى والاصالة بالمعنى المفارق . تشكل ملحمة الزمن العربي الراهن بتخلفه وحداثته المكسورة بأفراده وجماعاته ، بمدنه وصحرائه الموصدة الابواب .
يلتحم الشخصي الحلمي ، الهلوسي ، بالتاريخ والواقع الموضوعي على نحو معماري بلحمته المُحكمة ، بخبرة جمالية وحياتية ومعرفية لروائي كبير لم ينل بعض ما يستحقه . وهو أمر ليس مستغرباً في دنيا العرب المبنية أركانها على النفاق والشللية وسحق الاختلاف .
في هذا الصباح الاعتيادي ، في المدينة التي أحبها غالب هلسا وكانت مسرح عواطفه الواقعية والرمزية .. ( أتذكر الآن لحظة ترحيله القسري إثر ترؤسه مؤتمراً من مؤتمرات تلك المرحلة)
في هذه المدينة التي أحببناها حتى الوله والتكرار يحضرني غالب هلسا ، يحط طائر روحه على شجر الخريف الزاحف .
* * *
سركون بولص :
التحية الأخيرة
صباحاً ، هذا اليوم في مقهى (الليناس) ببيروت، يتصل صموئيل شمعون من لندن حاملاً خبر الرحيل الفاجع لسركون بولص بعد أن هدَّ جسده المرض الكاسر المفاجئ الذي سيكون خاتمة حياة الشاعر المضيئة شعراً وتشرداً وطفولة مفارقة، هو المنتمي الى العراق ولادةً و”وطنناً” أولاً وإلى أمريكا الشعريّة والثقافيّة وطناً ثانياً..
أتذكر كنا في منزل صموئيل ومارجريت في ذلك الصباح اللندني الذي كنت أنوي فيه العودة إلى عُمان، حين قال لي: أفظع لحظتين في حياتي والأكثر فتكاً على المستوى الشعوري والنفسي، هما حين أفكر بالعودة إلى العراق أو أمريكا..
يرحل عنا سركون هذه المرة من غير عودة، في برلين وحيداً وحزيناً بعد ترحله المستمر في أصقاع الجغرافيا واللغة، تلك اللغة التي كانت من الفرادة والنضارة والعمق بمكان قصيّ وخاص في خارطة الشعريّة العربية، مؤسسة صادمة وجديدة أيما جدّة، وأصالة غائرة في الكشف والإشراق والإختلاف..
كانت حياته في الشعر والمعرفة ولهما بالكامل، إذْ قلما اشتبكت حياة الشاعر بإبداعه مثلما هي لدى سركون بولص. طارحاً عرضَ الحائط كل ما هو خارج هذا المجال الحيوي للروح والخلْق..
شاءَ، هو المتعلق باللحظة، بالحياة الحقّة حتى الثمالة، وشاء له القدر المأساوي الذي حمله على كتفيه كما تحمل الأم رضيعها، طوال هذه الحياة الخاطفة، أن يغادر هذا الحطامَ في هذه البرهة من التاريخ حيث موطن الصرخة الأولى والحنين، حيث البشريّة تكاد أن تصل الى قاع مستنقع البربريّة والانحطاط أو أنها وصلت، وعلى الشاعر أن يلقي التحيّة الأخيرة ويغادر صالة الإنتظار من غير أسف أو ندم..
سلاماً على روح الشاعر الكبير، شاعر الجوهر والطريق والهامش وهي تنام في منفاها الأخير، موطنها الحقيقي.
 
 
* عباس بيضون :
القارئ البصير
عباس بيضون من علامات هذا الجيل الشعري الذي وجد نفسه خارج المكان واللغة السائدين ، باحثاً عن شيء آخر ، من علامات ريادته في الكتابة والبحث عن أفق يكسر ذاك الذي أصبح شبه نموذج ونمط في الشعريّة العربيّة الحديثة.
كان أول لقاء لي على الصعيد النظري مع عباس حين كنت مقيما في دمشق ، وقرأت له دراسة في أحد اعداد مجلة “مواقف” ، حول شعراء جيله اللبنانيين كانت ذات نبرة مختلفة وكانت على ما أظن جزءاً من أطروحة قدمها في باريس تحت إشراف الاستاذ “ابن الشيخ” .
وجدت في هذه الدراسة كثيراً من عناصر البحث الشعري والجمالي الذي يمضي في السياق المفارق مما شدني إلى قراءتها أكثر من مرة ..
كنا في تلك الفترة نتلمس طريقنا الشعري والكتابي وسط ذلك الصخب الفكري والسياسي الذي كان يشكل في معظمه متنا خادعاً يكاد يبتلع كل ما هو مضيئاً وهامشياً وحقيقياً في الشعر والكتابة عامة.
وكان لقائي الشعري الأول بعباس بيضون في المرحلة نفسها عبر قصائد متفرقة في الصحافة اللبنانية غالبا ، حتى جاء ديوانه الاول ربما (الوقت بجرعات كبيرة) وتوالت دواوينه تباعاً حتى قصيدة (صور) تلك الملحمة الرفيعة ، المضطربة بسديم المياه والطفولة والحنين . فكأنما (كلما يرغب فيه القلب يأخذ شكل الماء).
وكانت متابعتي وقراءتي المتفاعلة والمحبة له حتى ديوانه الأخير (شجرة تشبه حطاباً) ذلك النضج المتأني وتلك القسوة الآسرة.
عبر هذا الركام من السنين والمجازر والعمر النافل والإنجازات الشعرية والثقافية على أكثر من مستوى، يواصل بيضون خطه الطليعي المؤثر في الكتابة العربية شعراً واستبصارات نقدية تقدم وتضيء في الشأن الثقافي الإبداعي اللبناني والعربي عامة ؛
هو من دخل “الحلبة ” متسربلا بأسلحة المعرفة الناجزة وذخيرة الحيرة والقلق كأنما دخل على أتم حال منذ كتاباته الأولى.
بمعنى آخر لم تصلنا له تلك الكتابات التي تشكل السياج الاول الذي يفضي الى الاستواء والنضج. قرأناه هكذا مؤثراً وصميمياً في حركة الشعر بحيث أن متواليات التجربة في حقولها المختلفة لا تشكل الا إثراءً وإغناءً لما أسسته في انطلاقتها الاولى .
هناك تمعن وروية في هذه السيرة سواء على مستوى الإبداع رغم جموح المخيلة وارتيادها دائما فضاءات جديدة في العبارة الشعرية ، أو على مستوى النقد والبحث النظري. المْختَرق هو الآخر بشعرية تلك العبارة ونفاذها . تمعن وروية تؤشر وتدل على نحو عميق بعيدا عن اللعب اللغوي المجاني الذي يسوقه البعض من باب الأستذة والبعض الآخر من جهة الجهل والاستسهال . بعيدا عن تلك الآلية السيالة التي لا تقول في النهاية حتى عبثها وعدمها ، لا تقول شيئا ذا بال وقيمة .
وفي بحثه حول شعر مجايليه والذين سبقوه ، نلمس ذلك التواضع وتلك الروية المنصفة.. ليس هناك هجوم واندفاع بغية تسيد واحتلال المواقع والألقاب والتسميات .
وهو منذ زمن بعيد لا يقدم نفسه مكتشفاً ومؤسساً لأنماط تعبير جديدة انه “قارئ جيد” هذه العبارة ذات المرجعية البورخيسية هي الملهمة .
القراءة العميقة لتضاريس الواقع بالمعنى التاريخي والراهن ، والمعرفة في حقولها الشاسعة.
عباس بيضون القارىء البصير والمبدع الكبير سلاما.
* ضمن ملف أنجزه الشاعر ناظم السيّد
* * *
مع أمين الزاوي
المكتبة الوطنية
بدعوة من المكتبة الوطنية في الجزائر ، ومسؤولها الأول الروائي أمين الزاوي ، ذهبت هذه المرة إلى الجزائر ، هذه البلاد الفسيحة ، الأكثر اخضراراً وإمكانات في المدار العربي أو من أكثرها ، لم أذهب إليها منذ فترة طويلة نسبياً .
أنا الذي عشت فيها قبل أن تلم بها كارثة الحرب والدمار.
كانت قامة الرئيس هواري بومدين الذي رحل مبكراً ، المهيبة والقوية ، ما تزال طريّةً في تربتها ، وعهد جديد يرتسم في الأفق الجزائري كما العربي، مفتوحاً لحزمة من الاحتمالات المندفعة نحو السلب وإجهاض ((المشاريع)) والأحلام.
منذ تلك الفترة الصاخبة التي كانت فيها الجزائر نقطة استقطاب فاعلة ومؤثرة، لم أذهب إلا مرة واحدةً لحضور مؤتمر نظمته اليونسكو ، إذ أن المؤسسات الوطنية ما زالت تعاني آثار تلك الحرب الأسوأ من الحروب الأهلية ، وأكلافها على كافة المستويات . كان الأمن على نحو من الاضطراب والالتباس حيث لا يمكننا التحرك إلا بحراسة الأمن والشرطة.
هذه المرة ذهبت مع صديقي أمين الزاوي من القاهرة ، نزلنا في مطار جديد كل الجده عن الذي نعرفه سابقاً . كان مطراً خفيفاً والجو معتدل. وكنت أرى الجزائر من خلف زجاج السيارة كمن يستيقظ من كوابيس باهظة أوشكت على الرحيل ..
وكانت لقطات عن أماكن ونشاطات ووجوه اختفت إلى الأبد ، تعبر الذاكرةَ كبرق متقّطعٍ ، لا يلمع إلا ليغادر ويختفي في أعماق الغابات والكهوف . تلك الغابات الجبلية المكللّة بالثلج والأرز التي عبرناها ذات يوم حتى أعلى قمة في جبال (جرجرة) حيث تمتد بنا الإقامة لأسبوع أو أكثر.
***
عرفتُ أمين الزاوي ، الذي تعرض لمحاولة تفجير سيارته وقت كان يعمل أستاذاً في جامعة وهران ونجا منها ، مع إبنته ، بمعجزة ، عرفته حين كان ينجز مع زوجته الشاعرة ربيعة جلطي ، رسالة الدكتوراة في دمشق ، ومثلما تقول ربيعة (كبرنا معاً) . فعلاً كبرنا ، لكن أحلامنا التي أوشكت على الشيخوخة ، تتجدد باستمرار ، ربما بفعل سفر الأعماق والكتابة والصداقة الحقيقيّة .. وأعتقد أننا حتى حين نموت ستُنبت هذه العناصر ، زهوراً ضاحكة فوق قبورنا .. لاحقاً تقطعت بنا السُبل وكل ذهب إلى مكان لكن خيط التواصل ظل قائماً بين الوقت والآخر.
كانت دمشق بوابة معرفتي المباشرة بالجزائر والجزائريين قبل أن أشد الرحال نحوها . وكان الزاوي وربيعة من أعز أصدقائي بجانب الكاتب الروائي واسيني الأعرج والراحل عبدالله طرشي والشاعرة زينب الأعوج ، والقائمة تطول..
وكان هناك من العمانيين على ما أذكر الشاعر ناصر العلوي والدكتور سالم سليمان وغيرهم ..
هذه المعرفة التي أعتز بها توطدت مع الزمن وأتاحت لي معرفة خصائص الروح الجزائرية الحدية وغير القابلة للمساومة حين تصل الأمور إلى منطقة بعينها . هذه الروح التي لا تتردد في التضحية من أجل الصداقة ، روحاً سمحة جداً ، لكن الخطأ ممنوع.
كم من المواقف التي تختزنها الذاكرة في هذا السياق وعبر شخوص وأمكنة مختلفة.
***
المكتبة الوطنية التي يتولى أمين الزاوي مسؤوليتها بمرتبة وزير ، افتُتحت حديثاً فهي غير تلك التي كنا نعرفها . موقعها المثالي الملاصق لحديقة التجارب التي تمتد عبر فضاء يوصلها بغابات الجبال الخضراء المحيطة بالعاصمة.
وتحت هذه الأرض المرتفعه ، يتموّج البحر الذي كنا نتسلق السلالم الحجرية حتى نصل إليه ، وإلى المقاهي والمطاعم المتاخمة له وللميناء الممتد مسافة كبيرة (البيركامي تحدث كثيراً عن طفولته وسباحته في هذه المنطقة بالذات).
مكتبة بهذا الحجم والطموح الحضاري ، تشبه خلية نحل بشرية وسط غابة ، قريباً من البحر ، وأصدقاء ..
موقع المكتبة ربما يستدعي أطيافاً من قبيل المكتبة البورخيسية ، نسبة إلى الارجنتيني بورخس .
ذلك ما يستأثر بالتأمل الجمالي المفارق في بلد يحاول تخطي تركة العنف الثقيلة ، عنف الأبناء والأخوة والأقارب.
تحاول الثقافة الجزائرية الغنية بمشاربها ولغاتها واختلافاتها ، لملمة أشلائها المبعثرة ، نحو أفق آخر.
المكتبة الوطنيّة طليعة هذا المسار وروحه المتدفقة بالعطاء والتعدد والانفتاح.
لصالح من وأد هذه الإضاءات الطليعيّة في هذا الزمن الصعب؟!
* * *
جواد الأسدي :
نشيد الصحراء الحجريّة
حين اقترح عليّ ذات مرة الصديق جواد الأسدي ، وقد كان بباريس في مهمة تتعلق بعمله المسرحي ، أنه ينوي إخراج عمل فني ، مسرحي شعري ، انطلاقاً من نصوص أنجزتُها في أزمنة وأمكنة مختلفة يلمّ شتاتها في لُحمة هذا المشروع المشترك…
واقترح أن أساهم بأكثر من تلك النصوص والكتابات المتحققه شعرياً ، ولا بد من جهد تحويلي حتى تتجسّد على الخشبة ، إذ في النهاية لكل فن أدواته وخصائصه ، مهما شطّ التداخل والاندماج بين الحقول الابداعيّة المختلفه..
لكن ما حصل لاحقاً بالنسبة لي لم يتعدّ تلك النصوص والكتابات المنجزة سلفاًَ ، كنت أميناً على إرثي الشخصي التاريخي من الكسل العذْب واللامبالاة.
وكان جواد أميناً على نشاطه في خلق المشاريع مهما اتسمت بصعوبات إنتاجيّة وفنيّة … كان أميناً على عرين أُسده المغمورة بالتوحّش كما الألفة والدعابة المرّة.
***
كان يوم العرض المسرحي ، بعد أشهر من الإعداد والتحضير ، على كافة المستويات التي يتطلبها عمل من هذا القبيل ….. وجاء جواد مع فريقه الفني المفعَم بالمواهب ، من الشام وبيروت .
كان العرض على مسرح (الفليج) البعيد نسبّياً عن العاصمة مسقط ، والمفتوح على جهات الصحراء الألف ، في ذلك الخلاء الفسيح المضاء بالقمر والنجوم ، كجزء من ديكور المسرحيّة ، الديكور الخالد للطبيعة أمام الصنيع البشري السريع الزوال (أم أنّ الفن يقتسم مع الطبيعة بعض سمات ديمومتها وخلودها)؟ وغير بعيد (المسرح) عن صخب بحر الباطنة الجميل ، بنعيق غربانه السحيق …
حين شاهدت العرض مع غيري من الأصدقاء ، لم أجد ، جواد الأسدي قد تدخل في النصوص الأصليّة إلا بما يوصل تبعثرها وتشظيها ، بلحمة المسار المسرحي وسياقة ، خالقاً من تلك البانوراما الشعريّة ،النثريّة ، نسيجاً دراميّا وحكائياً متماهياً ومتناغماً بشكل خلاّق ، بهيّا وتدميريّا حتى أعماق الهاوية…
في مسرحيّة (كونشيرتو الحجر ، نشيد الصحراء) سيرة الذات والأقران ، سيرة ذلك الجيل الموزّع بين البلدان والأماكن والأفكار ، بين الأحلام المستقبليّة والإرتطامات المدويّة للواقع والتاريخ . ذوات مطعونة بالخيانة ، ممّزقة بالظمأ والحنين ، بالفَقد المبكر للأمومة والمركز الروحي الجامع ، نأي أمكنة الطفولة والحلم ، واستحالة الهدف ، إن وُجد أصلاً..
تحفل المسرحيّة بمفردات تلك المرحلة وسماتها ، حيث السياق يتموج عبر التمثيل والموسيقى والغناء ومختلف عناصر الفضاء المسرحي موّحداً على نحو مدهش تلك المقاطع والشظايا الشعريّة التي تلامس الحياة اليوميّة وتفاصيلها في الأماكن المختلفة والمنافي : الحقائب ، القطارات ، الجندي الهارب والطائر الجريح ، المرأة ، الخيانة ، المقهى ….الخ . من خصال المنفى وعاداته وسجاياه وكذلك الحروب وخرابها ورعبها ، وتشكل (ثيمة ) الجندي الهارب بين المدن والصحارى والمفازات ، بؤرة الدراما ، وروح حكايتها التي تبدأ من النشيد الجنائزي لموت الأم الواقعي والرمزي ، ولا تنتهي بمشهد الحقائب وصفير القطارات الذي جاء صادماً وجحيمّياً على نحو يذكر بما دُعي بمسرح القسوة ، أو بالبولوني الكبير (كانتور) وإذا صحت هذه الملاحظة ، فعبر القناة الخاصة لجواد الأسدي التي ربما أكثر فتكاً وقساوة.
***
سُررت بهذه الشراكة الروحيّة والإبداعّية ، مع جواد الاسدي كما كان سروري دائما (أنا المولود في قرية سرور ، وهو القادم من كربلاء ، أليس ثمة دلالة في هذا الحدث السحيق أم مفارقة قدريّة ساخرة؟) بعلاقتي معه التي تربو على الربع قرن وفق الحساب الضوئي للعدد الفلكي ، ورغم ذلك يمكنني في زحمة الأزمنة ودمويّتها وثقل خطاها ، أن أتبيّن بدء تلك العلاقة منذ (صوفيا) وحتى الشام وبيروت و…لخ.
حين كانت لنا أحلام كثيرة وواقع قليل ، وحين كانت الأخّوة الروحيّة والفكريّة وهذه الأخيرة على شططها وأوهامها ، تحل محل أخوة القرابة والدم والطائفة ، كنا عائلة واحدة مبعثرة في الأرجاء.
في البرهة الراهنة علينا أن نتمسك كالقابض على الجمر ، بتاريخ تلك الأخوة والصداقة وندافع عنها بكافة الأسلحة المتاحة لنا ، بالفن والشعر والجمال والصلات الحميمة الإنسانية اللانفعيّه كما هو سائد وكاسح ، في ظل هذه الهمجيّة الظلماء ، وكل هذا السُعار الطائفي والعرقي البغيض.
(نشيد الصحراء كونشيرتو والحجر) كما قدّمها جواد الأسدي بالفعل أوركسترا مهيبة لكن لا تخطئها عين السخرية السوداء ، للخراب العربي والبشري.
* * *
تعويذة الحسي
(المطر يحيط بالكوخ.. يحاصره بعالم كامل من المعاني والأسرار، الإشاعات، فكر في ذلك: كل ذلك الكلام الذي يهطل لا يتاجر بشيء لا يقاضي أحداً. مغرقاً الغصن الكثيف الأوراق للشجرة الميتة، مالئاً الخلجان وجذور النباتات بالمياه، غاسلاً الأماكن التي جرّدها البشر من الطبيعة على التلال.. لا أحد قد بدأه ولا أحد سوف ينهيه. انه يتحدث كما يشاء، المطر. فطالما هو يتحدث فاني سوف أصغي إليه).
هذا المقطع لتوماس ميرتون يورده المؤلف ديفيد ابرام ، في مطلع أحد فصول كتابه المدهش “تعويذة الحسي” الذي يدعو ويحلل بعمق عبر التأمل الفريد والمصادر والمصبات المعرفية والفلسفية المتعددة والمتنوعة في جغرافياتها الروحية والمكانية من (الشامان) والفلسفات الآسيوية والشرقية حتى الظاهراتية وميرلو بونتي وهايدجر … والخ يتأمل علاقة الكائن بالكون المحيط وحيواته عبر الإصغاء إلى الطبيعة والجذور وتمظهراتهما الضاربة في كل عناصر الكينونة التي أوشك التقدم التكنولوجي والعلمي أن يحطم آخر نفس لتلك العلاقة الروحية الحميمة وذلك الإصغاء المتبادل بين الكائن والطبيعة ، بين البشري والمقدس، ليحيله إلى كومة تجريدات وأوهام قاطعاً الصلة مع أي بعد جمالي وإنساني. متخبطاً فيما يظن انه يتقدم وسط متاهة الوجود التي تبتلعه دوائرها اليومية الجحيمية المتناسلة من غير هوادة ولا رحمة.
فيما سبق كانت بعض الخطابات الأدبية تلهج بما أسمته أنسنة الطبيعة ولكن تجلى عبر الملاحظة والتأمل الأعمق ان الإنسان هو الذي يحتاج بإلحاح إلى أنسنة لوحشيته المتنامية والذي حسب المؤلف الفيلسوف والرحالة ديفيد ابرام نتيجة طبيعية لهيمنة نموذج الوعي الغربي الذي ارتكب كل تلك الابادات الوحشية في حق الشعوب والمقدسات الروحية والأخلاقية لفرض نموذجه الوحيد ، وبتر الصلة العظيمة مع الطبيعة الأولى التي تنزع الى الوحدة والتكامل. ذلك النموذج الذي أحال فكرة التاريخ الى خبرة خارج إطار الطبيعة و(يميل الى تقليص المكان الى مجرد مسرحٍ تؤدى عليه الدراما الإنسانية. إن التاريخ ينظر إلى الماضي بمنظور السير الذاتية والأمم. انه يبحث عن المبررات في وعي وطموح شخصية الرجال وتخليدها عبر الكتابة).
“تعويذة الحسي” كتاب من الغنى والنضارة الشعرية والفلسفية بمكان شاسع وبعيد حيث لا يمكن تصنيفه في خانة جنس كتابي فهو إذ ينطلق من (الايكولوجي) فلكي يربطه بفلك المعرفة والتأمل ويعيد لحمة الحسي النبيل بالروحي العميق في كل الأطوار والطبائع والثقافات.. انه زاد المترحل المفعم بالغياب والحنين.
نسجل هنا في سياق هذه الإشارة، الإعجاب بالصيغة العربية التي ترجمته عبرها الشاعرة والكاتبة ظبية خميس، تلك الترجمة التي ترقى الى مستوى الحدث الثقافي لكتاب لم تعرفه العربية من قبل.. إشارة تقدير الى صديقة المغتربات والليالي الموحشة (كل تلك الليالي همزة الوصل بين مدائن التيه) كما تعبر ظبية وعبر مختلف حقول إنتاجها المعرفي عرفت الكاتبة كيف تحول الألم والإحباط الى إبداع واختلاف وعرفت أن الثقافة والأدب بالنسبة لها ليس للوجاهة والشهرة وإنما هاجس وجود ومصير. وهي تواصل ذلك بالتجديد والبحث المعرفي والجمالي عبر مكتبة العالم وعبر الحياة..
ظلت هكذا مع قلة غيرها في خليجنا وبحرنا ، في صحراءنا اللامتناهية.
* * *
الفلسفة والصحة العامة
منظرو الطريقة (التاويه) الصينيون ، يضعون ضمن متنهم الفلسفي الداعي إلى حياة صحية جسداً وروحاً ، نبذ التوتر والعيش بطريقة طبيعية وفق جريان مياه الحياة في تدفقها وتشعبها ، عنفها وسلامها ، راحتها وشقائها …أي أن يقذف الكائن نفسه في خضم المجرى الطبيعي للحياة ، ويعيش الأطوار المتناقضة بالروح والقابلية ذاتها . ولا يرتهن بمعارف ووساوس أفكار مسبقة معلبة ترتد فتكاً وتدميراً ، وتعرقل المسيرة التلقائية الأكثر نضارة ، والتي من الممكن أن تفضي إلى نوع من سعادة وهناء .
الفسلفه التاوية ، خاصة على لسان علمها الأساس (لاوتسي) الذي إليه ينسب إنجيلها المسمى ( تاوتي تشينج) في القرن السادس قبل الميلاد ، لا تدعو على جاري ركني عائلتها الفلسفيه والروحية (الكوفيشيوسيه) و(البوذية) إلى تجنب الحياة المتعويّة من جنس وطيب طعام وملذات دنيوية أخرى ، عبر إماتة الحواس التي تقتضي تمارين الزهد والتقشف القاسية ، والترفع عن كافة الإغراءات ، حتى الوصول إلى الصفاء المطلق او (النيرفانا) تلك النقطة العصية التي تنحل فيها التناقضات ويضفر الكائن الفريد بوحدة الوجود حين يعيش في خيمة السلام الروحي الاقصى .
انتشر أتباع هذه الفلسفات والمؤمنون بها في أنحاء العالم ، خاصة الاوروبي الامريكي ، بعضهم حقيقيون فاعلون معرفياً وحياتياً وبعضهم نَصْب واستغلال وتسطيح للابعاد العميقة لتلك الفلسفات وسط جماعات تبحث عن طيف عزاء ينتشلهم من كوابيس حياتهم اليومية المضجرة .
(التاوية) اذ تتقاطع مع تلك الفلسفات في عناصر وطرق كثيرة ، تفترق في هذا المنحى ، اذ تذهب الى التوحيد الهارموني بين الملذات السماوية والملذات الارضية . وبهذا التناغم يوحد الانسان بين متطلبات حياته الروحية والحسية في وحدة متكاملة .
هذه العائلة العملاقة من الفلسفات الآسيوية والشرقية والتي تأثر بها لاحقا فلاسفة وعلماء غربيون ، أثبتت الكثير من التجارب صحة بعضٍ من طرق معالجاتها لمعضلات البشر وآلامهم ، كما في طرق الحكم … فالفلسفات الصينية القديمة كانت جزءاً من بنية الحكم والدولة وكان كهنتها المرشدين النظريين للاباطرة والحكام ، تبعا للعهود وطبائع الحكم والحاكم .
لكن هذا لا ينفي أن الكثير من عناصر المتون لتلك الفلسفات ، ضارب في أعماق (اليوتوبيا) كأي فلسفة في تاريخ الانسانية ، وان كانت تنحى منحى التجريب والتمرين اليومي والحياتي على بعض تعاليمها ، لا ينفي عنها ذلك الجانب الصميمي ، وإلا استحالت إلى ((نصائح)) أو طرائق إرشاد في الصحة العامة ، وذهب لاهوتها وجدلها حول الكينونة ونشوئها ، طبيعتها ونموها وانحطاطها في الزمن والتاريخ ، مذاهب من التعقيد والأغوار النظرية ، ربما تفوق في بعض جوانبها جدل الفلسفة الإغريقية في تلك الأزمان .
***
كيف للفرد المسكون بالقلق والتوتر ، في الصميم من وجوده المضطرب أصلا، طبيعة وفكراً أن ينفض عنه شرط وجوده القاسي ويعطي نفسه هكذا ، لمجرى الحياة الطبيعي ، بعد جلسات من التمرين على التأمل والتنفس والاسترخاء ، من الرياضة الروحية والجسدية ؟
ربما هذه الطرق والإرشادات ، تخفف من غلواء القلق وثقل الهموم والزمن ، لكن أي فلسفة أو طريقة ما تستطيع أن تستل تلك الحشرة التي تفترس الرأس والقلب ، حشرة الوجود وعدوان البشر وحروبهم اليومية الصامتة وتلك المدججة بالاسلحة والصراخ ؟!
ربما تلك الطرق بأبعادها الجماليّة والإنسانية ، تخفف من غلواء القلق وسطوته، وتبطيء مسيرة اللهاث والظمأ لتلك الحشرات والهوام ، حشرات الوجود وهوام البشر المفترسة . مثلها مثل أي معرفة أدبية جمالية ، ومثل السباحة في البحر المتلاطم أومياه الينابيع في سفوح جبال القوقاز ..
لكن الوصول إلى ذلك السلام المنشود مسالة بعيدة وعصية أيما بعد وعصيان .
* * *
الشعراء المترجِمون
تحفل الخارطة الثقافية والشعرية ، عالمياً وعربياً ، بتلك الطائفة من الشعراء المترجمين ، الذين إلى جانبِ إنجازهم الشعري والإبداعي ، نقلوا أهم الاعمال والعلامات الشعرية والنثرية، في عصرهم والعصور الاخرى ، ذات التأثيرات المختلفة على أنماط التعبير الشعرية والكتابية …
فكأنما الترجمة بجانب كونها الحوار المعرفي الأكثر حسماً بين الثقافات والشعوب ، فضاء آخر للمبدع يتنفس من خلال رئته الهواء الأكثر غنى وتكثيفاً للتجربة الروحية والكتابية …
تحفل الخارطة الشاسعة للثقافات المختلفة بالأسماء الكثيرة التي تؤسس وتؤرخ لهذا السياق المعرفي والجمالي ، عبر لغاته المتنوعة المتباينة .
عربيا من الشعراء والكتاب نذكر على سبيل المثال : يوسف الخال ، ادونيس ، سعدي يوسف ، توفيق صايغ ، جبرا إبراهيم جبرا ، عبداللطيف اللعبي ، فاضل العزاوي . ومن ثم بول شاؤول ، محمد بنيس ، حسن نجمي ، هلال الحجري ، أمين صالح ، عبده وازن ، عيسى مخلوف ، جمانة حداد ، ظبية خميس ، عادل اسماعيل ، ميلود حكيم ، محمد عيد ابراهيم ، شارل شهوان …. الخ.
****
ما قرأت مؤخرا في هذا السياق ترجمات لأسماء أضافت إلى الترجمة نحو العربية مثل كاظم جهاد وبسام حجار ، ومن الجيل اللاحق إذا صح التعبير سامر أبو هواش .
الأول في أكثر من كتاب ، آخرها ما كتبه (ريلكه) من شعر باللغة الفرنسية لتكملة مشروع ترجمة أعمال ذلك الشاعر الكبير المترحل بين الأماكن واللغات . كاظم جهاد الذي أصدر ديوانه الشعري الأول (يجيئون أبصرهم) في وقت مبكر ، أواخر السبعينيات .
صار في السنوات الأخيرة واحداً من أعلام الترجمة في تجليها المواظب المسؤول والعميق عبر قدرته على نقل الكثير من النصوص ذات الطابع التركيبي الملتبس بالمعنى المعرفي ، وإجلاء تلك العتمات الوعرة ، التي عبر الترجمة إلى لغة أخرى يمكن أن تتحول إلى سور يحجب حتى القراءة المدربة الواعية ، عن الدخول والتقاط لآلئ النص الخبيئة ..
بهذا المعنى نقرأ ترجمات هؤلاء الشعراء الأقران وقد حولوا الأصول المترجمة إلى بهاء العربية وأنساق جمالها الخاص وأضحت (النصوص) جزءاً من نسيج هذه اللغة ، بإيقاعها الضارب الأصيل بالمعنى التاريخي والإبداعي..
بسام حجار عبر عزلته كاهن شعر وترجمة ، كاهن موت ، وصلت كتبه المترجمة على ما يربو الستين ، كمّاً لا يخطئه الكيف والنوع ، من محاضرات هايدجر (الفلسفية) وحتى روايات جورج سمنون ، ومواطنيه باللغه الفرنسية وآخرهم الكسندر نجار في (رواية بيروت) مرورا بعشرات الكتب والمؤلفات ذات القيمة الفكرية والفنية العالية .
يحفر حجار طريقه الصعب الخاص وسط تهافت القيم وسيطرت زمن الاستهلاك وحروب الطوائف التي تتناسل مجزرة تلو الأخرى . من غير كلل ولا رجفة ضوء تلوح في جنبات هذا المشهد المفعم بأسباب انهياره وحتفه.
****
في رواية (على الطريق) لجاك كرواس ، التي ترجمها لأول مرة إلى العربية في حدود ما أعلم ، سامر أبو هواش والتي اعتبرت بعد الحرب العالمية الثانية مع قصيدة (عواء) التي ترجمها سركون بولص ، (مانيفستو) جيل (البيت) الجيل الهامشي أو المنبوذ المندفع ضد كل ما تمثله المؤسسة الرسمية الأمريكية والأوروبية التي في نظر هذا الجيل الناقم ، قادت وتقود البشرية إلى مهاو سحيقة من الخراب ، وضد لغات الأدب السائد ، باحثة عبر التجريب الأسلوبي والحياتي المتشرد فوق (أرض الاحتمالات والمجهول) عن أفق آخر سيترسخ لاحقاً عبر أعمال وأسماء كثيرة .
أبو هواش في ترجمته هذه الرواية وغيرها، يتميز بوضوح لغته وصفائها وعبر القدرة على نقل تلك المناخات المتشظية والمبعثرة بين دفتي هذه الرواية الطليعية.
ترجمات كاظم جهاد الأخيرة ورواية (على الطريق) من إصدار دار الجمل والتي يشرف عليها الشاعر والمترجم خالد المعالي ، الذي يندرج اسمه ضمن سياق الإشارات السابقة ..
الترجمة الجيدة بهذا المعنى ترقى إلى مستوى الإبداع الحقيقي الخاص حسب عالم الجمال الايطالي (كروتشه).
* * *
حافة النسيان
” نظرت إلى ذلك الشفق الأغبر الجمري بدأ قوس الشمس ينبجس من الرمل كتلة حمراء يكشف عراء المكان بكل عدميته، حتى كدت أسمع هسيساً لبزوغها الخرافي ”
هذا المقطع الآسر الأفعواني العميق ، استُل من نسيج الرواية الجديدة لأحمد علي الزين : ثلاثية عبد الجليل غزاله (حافة النسيان) .
التي تضرب ببطلها المعذب الشريد في أعماق سجن صحراوي تضرب في صحراء ذلك السجن الرهيب كما في صحراء الوجود البشري برمته .
إذ ليس السجين والسجان وجلادوه في ذلك التيه الجحيمي الذي يتخبط الجميع في اتونه الملتهب بالشمس الحارقة وبانفجار الهواجس والأعماق البشرية ، إلا صورة تختزل هذا الوجود لجماعة بشرية بعينها ، وإن خرجت عن التعيين والتحديد لتقول للكائن والمشاعر الدفينة التي يمكن حدوثها في كل زمان ومكان. ليس إلا ذريعة لرواية الكائن في ذروة التوتر والمأساة في الانكسار والعدم الساحق للمكان والبشر والعلاقات.
في خضم هذه الفخاخ المنصوبة سلفاً كقدر تراجيدي يتخبط شخص الرواية أو شخوصها في جلبة المصائر التي لا تغرب عنها شمس الصحراء الفاجعة . حتى الذكريات تتحول إلى جزء من هذا التداعي والضياع إلا في ما ندر..
في هذه الرواية – القصيدة، يذهب أحمد علي الزين بعيداً بعد روايتيه (خربة النواح) و(معبر الندم) في تعميق رؤيته للوجود والعالم ، وصقل أدواته الفنية التي يأتي التأمل في مقدمتها جارفاً مسار السرد إلى مهاوي المكان وغوامض النفوس المضطربة حيث البشر ،والمكان ،الصحراء ، يشكلون كتلة واحدة بمرايا متعددة لهذا العالم المخيف حقاً ..
يتأمل الرواي في المكان كما في البشر ، في أعماق المرآة المضرجة لهذا الوجود الواحد والمبعثر في الوقت نفسه . تسوقه تأملاته وتداعياته إلى مناطق الشعر ورهافة المخيلة الجريحة
” صخرة حانية فوقي كجناح ، لكأن يدا جاءت بها من سلسلة جبال الغربان ، وزرعتها أثناء نومي بالقرب منها مجموعة أخرى من الصخور لها أشكال تشبه التي أصيبت بالتحول ، صخرة الغزال ، وأخرى طائر عملاق وصخرة تشبه مارداً مبتور اليد يحمل في يده الباقية كرة .
وصخرة تشبه قبة مسجد عتيق وأخرى أنثى حانية عريها فكأنها أصنام آلهة قديمة أو البشر أصابهم الفناء ورحلوا تاركين خلفهم آلهتهم بتعثر واستحالة حملها ”
هذه المناطق الشعرية التأملية تكاد تغطي معظم صفحات الرواية ، من غير أن تخسر مسار سردها وأحداثها الدرامية وما تتركه من متعة ضرورية ، اذ أن المتعة الجمالية في الفن تنبجس حتى من أثناء أكثر النصوص خرابا ويأساً..
هناك تلك المقاطع ، على الأخص ، التي تصف وحدة السجين وهروبه في بيداء الضياع والقسوة ، مهوماً من غير أمل تلفحه الرمضاء ، تطارده أشباح الجلادين والقتلة ..
وسط دوامه ذلك (العدم المحسوس) الذي تستقبله الصحراء بكل مهابة والنيزك الذي يذبح العتمة السماوية . وأضواء القمر المؤنس الذي ليس في مداه إلا الهباء وتجسيد آخر للعدم المحيق.
هذا الجزء من الرواية يشهد بصدق ويغوص في حقيقة الوجود البشري (العربي خاصة) ونوازع العدوان والانحطاط .
بانتظار جزءي الرواية القادمين .
* * *
مختارات
أقرأ مختارات من الشعر الأمريكي بعنوان “ديوان الشعر الأمريكي” لمؤسس مجلة (الشعر) الشهيرة ، وهو من إصداراتها ضمن مشروعها الأساس وطموحها في ترجمة شعر العالم بمختلف تياراته وجغرافياته وأساليبه الكثيرة المتعددة على مساحة الكون البشري.
أخذتْ (شعر) على عاتقها مشروع التثوير الشعري والتنوير الفكري وإن كانت العبارة الأخيرة غير دقيقة، لكنها ليست ببعيدة عن مؤسسي مجلة (شعر) وانشغالاتهم وهواجسهم، وربما التنوير الرؤيوي هي الأقرب الى تلك الفترة المبكرة التي إجتُرحت فيها مغامرة المجلة والتي شكلت مفصل تحوّل هام في حركة الشعريّة العربيّة. سواء عبر إبداع تلك الثلّة من الشعراء والأدباء والتي التفت حول المجلة، أو عبر نقل شعر (الآخر) وتعريبه..
(ديوان الشعر الأمريكي 1958) الذي “نقله” إلى العربية يوسف الخال (عرّاب الحركة)، كما كان يطلق عليه آنذاك.. طرح في مقدمته لهذا الديوان، كونه آثر طريقاً معيناً في النقل والترجمة، ارتضاه أكثر من غيره من أساليب وجهات المترجمين، وهو نقل الأصل بشكل لا يبتعد كثيراً عن (الحرفية) أو النصيّة، وإن أعطى نفسه بعض الحريّة المحسوبة، وفق ضرورات اللغة العربية وخصائصها الأسلوبيّة، والبنيويّة.
وحسب الخال، فان تبنيّ هذه الوجهة في الترجمة سيحافظ أكثر على تقديم الأساليب والتيارات الأدبية الغربية، الى العربية، بوضوح أفضل من التدخل الذي يكاد يخفي الأصل ويمحيه عبر التحويل والتدخل الذي يفضي وينتج كتابة أخرى وأسلوباً آخر.
إننا إزاء رؤيتين في الترجمة أو النقل من لغة أخرى ولو وقفنا عند محطة شعر، فنجد أن هناك رؤية أدونيس التي تختلف كليّا عن رؤية الخال، وكلاهما، شاعران كبيران.. حيث نلاحظ بوضوح أن أدونيس يعتبر الترجمة خيانة جميلة، فينقل الأصل ضمن مناخه الشعري ومفرداته، أي ضمن الروح الأدونيسي وعالمه.. هكذا في جُّل ترجماته الأساس من سان جون بيرس، إلى إيف بونفوا.
القارئ ربما لا يصدر حكم قيمة، انه يقرأ ضمن ذائقته الجماليّة وضمن حساسيته في استقبال النص الآخر.. وقد سال حبر غزير حول هذه المسألة بين الأدباء والمترجمين العرب وقبلهم في الثقافات الغربيّة وغيرها.
ربما ليس ثمة حكم قيمة، هكذا، بالمطلق أن هذه الرؤية الترجميّة، أفضل من الأخرى.. رغم اعلان يوسف الخال في مقدمته عن تبني وجهة النظر تلك، إلا أننا نقرأ الكثير من ذلك الشعر المنقول ضمن خصائص البيان العربي وحساسيته، واستطاع الشاعر المترجم أن يحتفظ بتلك الشحنة الوجدانيّة، وذلك اللهب الأصلي، في الكثير من النصوص الشعريّة التي تصدى لها.
* * *
خمسون عاما على تأسيس مجلة “شعر”
خمسون عاما مرت على تأسيس مجلة “شعر” الطليعية في التحديث الادبي والتجديد هذه الخمسون هي عمر الجيل اللاحق على ذلك الجيل التأسيسي الذي واصل حفريات البحث لمن سبقوه، بجرأة ومغامرة، اجترحت تلك الثغرة الحادة في الادب واللغة العربيين عبر اراض سكونية وعرة من الانكفاء على الماضي بقداسة انماطه وقوالبها الجاهزة.
خمسون عاما ليست عادية، انها أرخبيل أزمنة ضوئية متراكمة من الأحداث والتحولات الكبرى في الوعي والمعرفة والتاريخ.
عالميا، ما زالت آثار المجزرة الكونية وجراحاتها الغائرة، وتشكيل خارطة القوى الجديدة والافكار والعلوم والاشكال للحقبة اللاحقة اوروبيا وعالميا.
وعربيا، لم يمض على قيام الدولة العبرية الا سنوات قليلة، وكانت الأرض العربية على حافة زلزال من الطموحات الثورية والانقلابات والمشاريع والغضب على الاوضاع القائمة والموروثة من الحقبة الاستعمارية بأنظمتها الثيوقراطية التي أوشكت على الانقراض والافول أمام زحف الافكار والاحلام الجديدة.
فترة التوترات والغليان مندفعة كالصاعقة، وما هو ثوري وتقدمي في السياسة، محافظ حد الرجعية في جبهة الادب والافكار المؤدلجة التي من فرط أدلجتها الدوغمائية تتبنى اليقين اللاحق بالغاء الوعي النقدي المخالف والغاء اي تعددية ممكنة محل اليقين السابق المذموم والمنهار.
في هذا الجو الزلزالي على كافة الاصعدة تأسست مجلة “شعر” اللبنانية العربية عبر طليعتها المتنوعة المشارب والافكار لكنها المنحازة دائما الى التجديد الادبي والفكري الطليعي الذي تمور به تلك المرحلة عالميا. والى تحطيم كافة أشكال التابو وفتح المجال شاسعا للتجريب والتيه والابتكار، في اللغة والرؤى.
كانت الحرية هي كلمة السر الجامعة بين أفراد ذلك الفريق التأسيسي للمجلة الذي ذهب به الطموح الابداعي المشروع والمنطقي، الجنوني العاصف الى اقتحام المرحلة الجديدة في الادب والشعر العربيين والتي تقف على عتبة الانعطافات الاساسية في تاريخ الادب، او هي في العمق منها.
***
كانت مجموعة “شعر” ورمزها القيادي يوسف الخال بشخصيتها المتسامحة المقنعة ونزوعه الأبوي “بالمعنى الحر” والرسالي كما عرفته عن قرب وان في فترة متأخرة من تلك المرحلة. كانت المجموعة المتحلقة حول المجلة تعي ان المناخ الادبي مشبع بعناصر التحول حتى الانفجار، فأطلق شرارة هذا التحول الذؤي سيصيب البنية الشعرية والثقافية العربية في الصميم كما تعيش نتائجه البرهة الراهنة. كانت “شعر” مسكونة في الهم الادبي والابداعي مبتعدة في حدود الممكن عن الاستقطابات الايديولوجية التي تعج وتفيض بها المرحلة برمتها. عكس مجلة “الآداب” ومنابر أخرى لعبت دورا أساسيا في هذا السياق، اذ كان وضوح التوجه القومي السياسي بتنظيراته وشعاراته وأهدافه عالي النبرة والخطاب.
لكن من يستطيع الزعم ان “شعر” بتبنيها أكثر للخطاب الشعري والثقافي كانت بعيدة عن ذلك التوجه في الكثير من عناصرها كما يقول خصومها الذين ذهب بهم الاتهام والتخوين الى حدود غير ديمقراطية ولا منطقية كعنصر من سمات تلك المرحلة الكاسحة بالهواجس والاحترابات النظرية تجاه كل ما هو مفارق ومخالف اذ تحول الخطاب اليساري القومي والماركسي، على نبل اهدافه، الى سد منيع لا يأتيه الشك حول المستقل المفروش بجثث وزهور الثورة القادمة لا محالة.
***
نحن الجيل الذي وصل الآن الى الخمسين من عمره، وهو عام تأسيس تلك المجلة الرائدة التي أضاءت مع غيرها، الكثير من دربنا الأدبي والحياتي المثخن بالجراحات والحروب وكافة انواع الشتات والتصدع والانهيار.
نحدق في تلك السنوات وكأنما على شفا هاوية قيامية ستجرف الجميع الى حلقات اعماقها السحيقة. كم من المشاريع والاحلام والثورات انكسرت بداية الطريق او منتصفه لا فرق. كم من المفاهيم والتنظيرات الواثقة استحالت الى غبار وحطام؟. كم من الحروب والمجازر العبثية المجانية التي ما زال اوارها يشعل على الارض العربية ويلتهم اليابس والاخضر إن مازال من بقايا لهذا الأخير. لبنان الذي تأسست على أرضه تلك المنابر والطموحات والمفاهيم نال قسطه الاكبر وما زالت الاحتمالات مفتوحة على صحارى القسوة والضياع.
ماذا تبقى في وعينا وكتابتنا من مجلة “شعر” محاولة الإجابة تحتاج إلى بحث اكثر تمعنا من هذه العجالة. لكن هناك الكثير مما تحبل به وتعيشه لحظة الكتابة العربية الراهنة. كانت “شعر” سباقة الى طرحه عبر الترجمة والابداع. اشكال تعبيرية كان طرحها مستهجنا كقصيدة النثر وغيرها اصبحت الآن الخيثار الأوسع في الساحة العربية. هذا لا يعني بالطبع عصمة الاطروحة لكن ليس من غير دلالة حقيقية. وربما الخيار الابداعي والجمالي الذي تمسكت به “شعر” للتغيير وجافت من أجله السياسة باشكالها السائدة المباشرة، اصبح الان ما يشبه طريق حياة ووجود في ظل الحصر الطائفي والتهريج المفتوح على مصراعيه الذي انحطت بسببه السياسة إلى أرذل السلم المعرفي وادناه. حين نقرأ المشهد الشعري والثقافي العربي الراهن نقرأ عناصر التأثير لمجلة “شعر” بإيجابها وسلبها اذ ان هذا الاخير جزء عضوي في أي تأسيس أو مغامرة. ويبقى الكثير أمام الزمن الذي من غير رحمة يكتسح الافكار والاجساد والجماد. “شعر” في قلب أي سجال ثقافي عربي عبر ذلك الارخبيل المهول من السنين وعبر المستقبل.
* * *
احتفاءً بالثقافة .. احتفاءً بالشعر
تقدم (نزوى) هذه المرة عدداً خاصاً حول الثقافة بمناحيها وتجلّياتها المختلفة في سلطنة عُمان ؛ وذلك بمناسبة مسقط عاصمة الثقافة العربيّة.
هذه الثقافة التي لم تغبْ يوماً عن هاجس المجلة وشجنها وهمها، هي التي انطلقت أساساً من أفقها بطموح التأسيس عمانياً والمساهمة الفاعلة عربيّا، ولتكون رافداً ثرياً في هذا السياق…
وإذا كانت الثقافة لا تحدها مناسبات وفصول أو (رياح موسميّة) هي المفتوحة في تكوينها وجوهرها على آفاق روحيّة وتراثيّة، راهنة، ومستقبلية لا تنتهي ولا تنضب. ولا يمكن تصور أي تقدّم حقيقي على صعيد التاريخ إلا إذا كانت (الثقافة) أساساً تكوينيّاً وبنيوياً في خلقه وصنيعه وطموحه، على نقيض (العلمويّة) التي تروم تقدماً يلغي ويهمش الثقافة بمركبها الشامل العميق، الذي يحتوي الدين والآداب والفنون بأفرعها المختلفة..
التاريخ البشري يعلمنا هذه الدروس التي أصابها الضمور والإهمال وبغلَبَة علم القوة وبطش إغرائها الرهيب، بأن الكيانات الحضاريّة التي تتمتع بقدر من العافية والصحة النفسيّة والروحيّة، هي التي استطاعت أن تحقق هذا التوازن الصعب بين المادي والروحي بين المعلوم والمجهول بين العلمي البيّن الدقيق وذلك المتواري خلف جسور الغيب الأزلي.
إذا كان هذا الوعي بلا موسميّة الثقافة واستمراراً وتكثيفاً له، بجلاء الصورة أكثر حول الثقافة العمانية ودفع الحوار بين أطرافها ومناحيها المتعددة، أجناساً وتوجهات وأمزجة وميولا…
جلاء الصورة في الكتابة والحوار بحدود الممكن الواقعي حتى وهو ينزع إلى الطوبى والأحلام – مع (الآخر) العربي وغيره الذي ما زال يتابع مساراً نمطياً في النظر إلى ثقافة بلدان بعينها، على أنها الأقل إبداعاً وحركة ونزوعاً إلى الإضافة والابتكار.
نوع من استيهام تراكم عبر السنين وأخذ يكبر مع التعزيز المرضي بالتميّز (القُطري) الذي يتجاوز التقاط الخصائص التاريخيّة والثقافيّة والمكانيّة التي تغني الحوار وتثريه، إلى نوع من عنصريّة ضمنيّة مبطّنة، أو علنيّة على السواء..
آثرت (نزوى) أن تقدم مساهمتها في هذه المناسبة بتقديم هذا العدد الخاص إن صح التعبير، الذي يتضمن مشهداً أساسياً لهذه الثقافة عبر أسماء وأصوات وسجالات من (أجيال) مختلفة ربما تسهم في جلاء الصورة وتوضيحها وتقديمها، وليكون عدداً أكثر مرجعية للباحثين والمطلعين من أراض وبلدان مختلفة…
كما آثرت منذ بداية انطلاقتها قبل اثني عشر عاما، الترفع عن الدخول في مهاترات وعصبيّات عمياء يتقنها البعض كنمط سلوك بزعم امتلاك الحقائق كاملة من غير نقصان، وليعبر عن ذات موحلة موبوءة بالحقد ومسكونة بظلام الجهل والانحدار القيمي، وصل بها الشطط إلى المطالبة بإغلاق المجلة… وان تكون مفتوحة (نزوى) لكل الاتجاهات والخيارات الفكريّة والأدبية التي تحمل قيمة إبداعيّة في ذاتها مع غض النظر عن الجنس والعمر والاسم والمكان، أو تنبىء بهذه القيمة في مستقبل قادم.
كان هذا هو الخيار المفتوح على احتمالات ومكابدات تحاول الانتصار لروح الإبداع والهجْس به رغم الإخفاقات الكثيرة التي تحيط عادة بأي تجربة إنسانيّة لا يعرف صعوبتها الخاصة في هذا المجال إلا الفاعلون في إطارها بما تبقى من إيمان بثقافة مفارقة ومختلفة…
ولنترك مسألة التقييم إيجاباً وسلباً بوضوحه المبسّط، ونمضي في الطريق المؤدي إلى الغابة المفعَمة بضباب التباسها الجميل.
الشعــر والزمن
كتب (بورخس) ذات مرّة نقلاَ عن آخر، ربما هو نفسه، في لعبة مراياه ونموره بمتاهته المعهودة، التي هي متاهة الكائن في الأزمنة المختلفة.
كتب أن الشعر كالزمن، إذا سُئلت عن معناه سيطرت الحيرة والارتباك والغموض ؛ وإذ لم تُسأل فثمة معرفة ما بهذه « الحقيقة» الروحيّة البالغة البساطة والتعقيد.
إذا تجاوزنا التعريفات المدرسيّة التي، حتى أفضلها، في ضوء الأطروحة الآنفة، لا يفي ولا يحمل بالطبع سمة ردّ ناجز وجواب، على سؤال لا يفتأ يتناسل حول مسألة الشعر الجوهريّة كما في ماهيّة الزمان
«الشعر الحقيقي لعنة الولادات الصعبة».
عبارة جميلة، لكن ثمة لعنات يحملها القدر الولادي، كأن تولد في هذه الأرض المروّعة ولا توجد في أخرى!
في العمق ربما لا يوجد جواب إلا إحساس الضرورة وحدس جوهري بقهر الغياب والاحتجاج على ذلك الانحراف الأزلي لوجود العالم على هذا النحو من الظلم والقبح وانعدام العدالة. لهاث ضار وراء الظلال الهاربة لجمال مرعب وحنون يشبه المغيب على شاطىء هذا المحيط الذي أتأمله الآن مفكراً في هذا الفراغ المدلهم وحيواته الغامضة.
الشعر«لغة الروح العلياء» أو هو «سيد الكلام»
لكنا نبقى نطارد أطيافاً شبحيّة في الجبال الأكثر نأياً ووحشةً من إمرأةٍ عاشقةٍ تنتحر هجراً ويأسا، أو رجل يحتضر وحيداً بعد معركة خاسرة.
ضرورة الشعر
حين يضيّع الإنسان مكانه في العالم، كما عبّر سارتر في وصفه للإنسان المغترب أو المنفي، يصبح الشعر ضرورة وجوديّة وحياتية، نوعاً من عزاء وملاذ في ظل اكتساح أزمنة القتل وقيم القطب الواحد أو الرؤية الواحدة مهما كان مصدرها، اللاغية لأي تمايز وفرديّة ولأي تجلٍ روحيّ في الوجود.
الشعر في مقدمة الفنون الأخرى، تزداد ضرورته إلحاحاً، ومنذ سحيق الزمان، كان التعبير الشعري والنثري على السواء، إذ لا أقيم وزنا ذا بال لهذه الثنائيّة المفتعلة غالبا، كان ضرورة وصلاة وعلامة وجود أعمق حتى في الأزمنة الأقل وحشيّة، والأكثر براءة ونضارة وعاطفة من زمننا الراهن المليء بالأكاذيب والادعاءات الفارغة حول «التقدم»(??) والاكتشافات والعبقريّة التي هي في عمقها ذات منحى تدميري مضاد وساحق للإنسان والروح وكل القيم النبيلة والإنسانيّة.
هذه الضرورة الوجوديّة للشعر والفنون الأخرى التي تحدث عنها أدباء وفلاسفة، بأشكال مختلفة، تظل أكثر إلحاحاً وتماهياَ بجوهر الكائن المغيّب في زحام الحياة اليوميّة وضوضاء الدعاية والإعلام والحروب والمغيّب وراء كل ما هو سطحي وبليد. مع غض النظر عن «الوظيفة» والجمهور وحجم النشر، التي لها أسباب تراجعها من جهة، لكن في الضفة الأخرى، يبقى إنجاز القلة والأفراد، والشعر والأدب هو بالضرورة هكذا، هو علامة العافية والصحة الروحيّة حتى لو حمل أقصى سمات العزلة واليأس والخراب، يبقى نوعاً من ملاذ وعلامة يحيل ويدل على العزلة كما على التاريخ والاجتماع..
إلى ناقدٍ صديق
إذا كان الكاتب حين ينجز نصاً ما يصبح مُلكا لقارئه بمعطيات استقباله المعرفيّة والذوقيّة ويكف عن أن يكون رهين شخص كاتبه وتصوراته وهواجسه الخاصة…. لكن هذه البداهة لا تعفي من ملاحظات كثيرة ربما في مقدمتها نفيك لما يمكن أن يكون إنجازاً إبداعياً لنصوص تشكل على ما أزعم وما أشار إليه نقاد كثيرون من أقرانك متن التجربة الشعريّة تحت مقولات غريبة على النقد بمعناه الطليعي المنفتح على أكثر من مدار وتجربة : مثل، المركزية والتماسك، مع غض النظر عن الكيفيّات الابداعيّة لهذه الأقانيم وكأنما ذلك النوع من التشظي داخل جسد النص الذي يستدعي الحكايات الصغيرة والمشاهد والحوادث و…إلخ
في مجرى التجربة الشخصيّة والعامة مشمولة ضمن مناخه النفسي واللغوي ومذابه في السيرة الشامله للنص الذي يحاول أن يحفر مجراه من غير مسبقات معرفيّة جاهزة، كأنما ذلك مثلبة وتفكك غير صحي إبداعيّا… وبمثل هذا المفهوم الذي يشبه حتميات النقد الكلاسيكي ربما يتم إعدام الكثير من تاريخ الحداثة الشعريّة والروائيّة وحتى السينمائيّة، والأمثلة لا تحصى، ولا أعتقد أن مثل هذا الذي أصبح من العلامات التي لا تحتاج لكبير عناء في قراءة الأدب والفن، يخفى على ناقد أريب بمصادره وأدواته المتعدده مثلك..
طبعاً هذه ملاحظة حول تطبيق مفهوم ما على تجربه أدبية بعينها وليس حول حريّة القراءة وذائقة التلقي التي هي بداهة تختلف من ناقد أو قارئ إلى آخر…
ألا ترى أحياناً أن التماسك والوحدة والانسجام بالمعنى البراني مفسدة إبداعية وادعاء وتحذلق؟
ألم تكن بعض الذوات التي طوح بها الألم بعيداً تتموضع في المتشظي والمتبعثر الذي يشي بنواة وحدة داخليّة صلبة، تنتظم في النهاية الكليّة للتجربه في مناخ وسياق…
أليس من حق الشاعر أن يقيم في شبهه التخوم بين الشعر والنثر؟
أليس ثمة إنجاز أساسي في متن الحداثة الشعريّة
هو الانحراف عن المركز التقليدي للبناء الشعري وذهاب نحو المجهول وبحث في الأنقاض والحطام؟
جهات الشعر
كنا خارجين من مطعم (الأكروبول) اليوناني على جادة (السان جيرمان) بباريس، أدونيس وقاسم حداد. ومتذكرا هذه الواقعة العرضيّة، حين راح قاسم يحدّث عن مشروع الموقع الشعري الالكتروني الذي ينوي إقامته مع آخرين على الشاشة الزرقاء التي بدأت تغزو العالم العربي آنذاك.
لم تكن الصورة واضحة لدى «أدونيس» بأهميّة هكذا عمل على الصعيد الشعري والثقافي، أو هكذا… أما أنا فلم أكن بعيداً عن ضبابيّة المشهد ولا جدوى الموضوع برمّته..
قاسم علّق بأن الانترنت، هو الكتاب المستقبلي للمستويات المعرفيّة والعلميّة بما فيها الشعري والثقافي.
عشر سنوات مرّت على هذه الحادثة الصدفويّة الحميمة و«جهات» تستقطب الرياح الشعريّة والأدبية من كل الأجيال والمشارب والأصوات. محور سجّال وحيوية إبداعيّة توحّدت في مداره الجغرافيات المكانيّة والروحيّة على الخلاف والتمايز.
صارت عصب هذا التواصل المعرفي المضيء في حلكة هذا العالم الاستهلاكي الذي يرمي إلى تحطيم ما تبقى من روح إنساني وإبداعي ويجرف الجميع في غاب القطيع وقيمه.
فلم تكن منجزات العلم التكنولوجي في معظمه إلا تكريساً لبربريّة الحضارة وعنفها الذي تتواضع أمام وحشيته ما وُصف بالعصور البدائيّة المظلمة.
تحيةً لجهات والساهرين على تحريره وتطويره وحمايته، كمرجع جديّ للأدباء والباحثين، وواحة نضرة وسط جلبة هذا الفضاء الدموي المجْدب.
? ? ? ?
أيها الحب
أيها الحب
كيف أستردّك من جديد
سماء معجونةٌ باللهاث
وأرض معلّقة في فراغ الكوكبِ
عظْمةً تَتَدحرج
بين أشداق وحوشٍ تكنولوجيّة مَسْعورة
? ? ? ?
هذه الشموعُ المشرفة على الفناءِ
هذه المنارةُ البائدة
التي تركها الراحلون إلى البلادِ المجهولةِ
هاربين من الحرب..
منذ شهور، منذ سنين
تواجه عصْف الوحشة والريح
وما زالتْ تحلم بقادمين
ستجودُ بهم الآلهةُ
ذات زمان
? ? ? ?
آه، لو التفافة من قلبكِ الحنون،
التفافة واحدة فقط، لعبرتُ برزخ الشقاء الكبير الذي أعيش، وتعيش جرذان كثيرة بأحجام كبيرة – نحو (النيرفانا) حيث تنحلّ التناقضاتُ وتقطنُ السعادة الأبديّة.
لكن حتى لو تعثّرتْ قافلةُ النْظرة في الطريق، فلا حلَّ للعاشق إلا الذوبانِ في سرابه الخاص.
? ? ? ?
ألبس ساعةً معطوبةً
لأضللّ الوقتَ
مجتازاً عقبةَ الحياة الكأداء
باتجاه الموت
والموتَ باتجاه الحياة.
سيف الرحبي
?? بطبيعة الحال تنطبق هذه الملاحظات حول (التقدم) الذي أنجزته الحضارة الغربيّة عبر العقلانيّة العلميّة والتكنولوجيّة المفرطة، ذات النزوع التدميري والعدواني والذي تحدث عنه فلاسفة ونقاد من (نيتشه) وحتى (فالتر بنيامين)، ان ما يعطي هذه الاشارات بعض مشروعية وإلحاح لكتاب لا ينتمون بإطلاق الى تلك الشروط والمقومات ، هو هذه الهيمنة الكونيّة التي تلقي بثقلها الكابوسي على كل مدينة وقرية وحقل ما فتئ يغطس في ليل الحروب التكنولوجيّة التي بلا هوادة ولا رحمة تفتك بالجميع من خارج مراكزها تحديداً.
* * *
أسطورة المتنبي
يكمن سر المتنبي أولا ، في قوته الشعرية الاستثنائية، في طاقتها المدهشة وجموحها وتدفقها. هنا يكمن سر أسراره وفرادته التي كانت جوهريا هي الأساس في صنع أسطورته وتعميمها على هذا النطاق الواسع الذي لم يحظ أحد من أقرانه الكبار بمثله، وان تقاطعوا معه في الموهبة الفذة وعلو الهامة الشعرية.
من هذا المنطلق الشعري الذي غذته التفريعات والوقائع الحياتية والتاريخية الملتبسة التي زادت بالطبع في ذيوع صيته وشهرته دافعة إياه الى هذا الأفق الأسطوري الايقوني أكثر من غيره، بالاضافة الى كثرة اللغط واختلاف الآراء النقدية، التقييميّة الكثيرة حوله.
حياته المليئة التي تختلط فيها الوقائع بالخرافات والأحلام التي لم تتحقق على مستوى طموحات المكانة والمجد من خارج الشعر ومجده وسلطته، رغم وعيه انه الأبقى من الأباطرة والدول، لكن الشعر ظل كأثر يخترق الأزمنة والأجيال والأماكن المختلفة، نبع هذه الأسطورة وفحواها، حتى ولو كانت تلك الوقائع والخرافات التي أحاطت بشخصه وحياته وبصلاته بأصحاب الحكم والأمر، في مرحلة شهدت أفول الامبراطورية العربية بشكل مأساوي مدوٍ.
ربما هال الشاعر هذا الأفول وهذا التشظي والانحطاط الذي آلت إليه أحوال الأمة، فدخل في استيهامات الطموح والسلطة والنفوذ. وربما رأى في سيف الدولة الحمداني بقايا كرامة وضوء فشكل له المثال الأرضي المفتقد، في أمة هكذا حالها، فتوحد المادح بالممدوح على ذلك النحو الشعري الآسر والعميق.
قصيدته الملحمية على سبيل المثال في واقعة (الحدث الحمراء) التي خاضها سيف الدولة ربما من القصائد الخالدة، في تاريخ الشعر البشري برمته حتى ملاحم الإغريق الشهيرة ستحتاج الى إسنادات كي تستطيع أن تجاري هذا العلو والإعجاز النادرين.
تلك الملحمة التي توزعت فيها المعارك على جبهات شتى، جبهة اللغة بما تنتجه من الدلالة والمعنى، الزمان والمكان، البطولات، كلها تنصهر في أتون تلك الملحمة التي تتوحد فيها اللغة الشعرية بالحدث والمعيش توحد الموت بالحياة في ذلك المشهد المتلاطم الرهيب.
مديحه المبالغ فيه لنفسه صادر من نفس نرجسية متعالية، وعودنا الكثير من الكبار على هذه النرجسية حتى في العصر الحديث (نيتشه) مثلا. وسبق للويس عوض أن عمل مقارنة في هذا المجال بين الشاعر العربي والفيلسوف الألماني: إنها (أنوية) المبدع وليس غيره، وإن أسفـّت أحياناً في ردود فعل عابرة مع الخصوم.
هذا فضلا عن أن أشكال المديح والهجاء ليست من الصفات المذمومة في معايير تلك الأزمنة، صارت كذلك مع بزوغ الأزمنة الحديثة و”ميلاد الإنسان الحديث”، فلم يعد باستطاعة شاعر حقيقي أن يتصور ثمة شعر مديح لحاكم أو دولة مهما كانت قوتهما. إلا من بعض الكسَبَة أو الكتَبَة.
أبو العلاء المعري الشاعر ذو المنحى الفلسفي العدمي غالبا، يقول عن نفسه “وإني وإن كنت الأخير زمانه.. لآت بما لم تستطعه الأوائل”.
طموح المتنبي وسعيه الى مناطق النفوذ والسلطة في غير الحالة الخاصة لسيف الدولة لا شك جره الى مواقع لا تليق بمكانته، وجره الى شعر ضعيف في الكثير منه لأنه لم يصدر من أعماقه الروحية وسحيق نفسه القلقة المعذبة، بل قيل لأهداف محددة سلفاً. هناك قصائد كثيرة في هذا المجال لا تختلف عن مديح الآخرين عادية وتداولاُ وربما تبقى مطالعها وتورياتها مثل مديح كافور “كفا بك داءً أن ترى الموت شافيا”.
وحين ارتد المتنبي على كافور كان هجاؤه القاسي أقرب الى التعبير الابداعي الشعري من مديحه، لأنه يعود الى عرينه الأساس، التمرد والنقمة على المحيط والعالم.
كتب الكثير شرقاً وغرباً وقيل الكثير حول شاغل الدنيا والناس.، فالأسطورة والأسطورية التي اكتنفت المتنبي وجعلته على هذا النحو الضبابي المربك المتناقض. والتناقض في جانب أساسي صفة ليست مذمومة في الشاعر كما في الفيلسوف، فهو خارطة متناقضات شاسعة ومحتدمة بالملائكة والشياطين، بالخير والشر، بالقبح والجمال، بكل ما تمور به الحياة والتاريخ والنفس من زخم متناقضات تشكل معين تأمل وإبداع لا ينضب.
التناقض بهذا المعنى شرط اثراء وإبداع مقابل الانسجام البراني، شرط العقم والإفقار.
حتى التقلبات المزاجية تحمل بداهة الشاعر ذي المزاج المتوتر العصبي تجاه كل ضعة وبشاعة في الوجود.
طبعاً ليس كل تنناقضات المتنبي تنتمي إلى الشرط الأول، لكن جوهر روحه المعذبة، وشاعريته الفذة تندرج في هذا السياق، حتى ولو قصد وخطط لشيء يجافي هذه الروح.
يبقى المتنبي بإنجازه الشعري الكبير أولاً، ووقائع حياة ومرحلة مفصلية، مثيرة وغامضة ثانياً. وبسبب قدرته في التعبير الذاتي عن زمنه وعصره على نمط أولئك العباقرة في تاريخ الإبداع، استطاع أن تكون الأزمنة والمخيّلات، مهما شط التباعد والتناقض، بيته الأبدي.
* * *
الرأسمال المتوحش
من السمات التكوينية للرأسمال المتوحش ، معاداته المتطرفة للقيم الأخلاقية والإنسانية، الثقافية والجمالية . أي معاداته للإنسان والطبيعة والفن، وتركيز طاقته القصوى على الربح ، السريع خاصة، الذي يقود بطبيعته الى الجشع والاستحواذ وسحقِ الآخرين من أبناء جلدته وغيرهم، في حالة الرأسمال العالمي، كالشركات العملاقة المتعددة الجنسيات التي تمسك بعنق الكون ، حتى آخر زفرة ونفَس.
وإذا كان هذا الرأسمال المتعدد الرؤوس والمفاصل والجهات، تختلف تجسيداته من بلد الى آخر، ومن دولة الى أخرى، فهو في البلدان المتحضرة يمكن للقوانين والتشريعات أن تكبح جموحه الرهيب في الاستحواذ والسحق، لصالح مكتسبات تبلورت واستقرت عبر أجيال ومعاناة. وهي ثمرة التطور الحضاري الطبيعي والمؤسسات المدنية التي تقر لمن هم في أطرها المجتمعية، بتلك المكتسبات الحقوقية والإنسانية.
هذا الرأسمال هو غيره في البلدان التي تخلفت عن ذلك السياق الحضاري المدني الحقوقي. فهو في هذه البلدان يستطيع أن يخترق ويفتت ويتحايل على القوانين والتشريعات- إن وجدت- وكثيراً ما تُصنع تلك القوانين في ضوء مصالحه وأهوائه ، حين تتكون وتنبني المؤسسة من عناصره الفاعلة أو ممن يحملون لبَ عقليته و”رسالته” الظلامية، فلا يجد أمامه من يحاول كبح بعض غلّوه في الاستغلال والفتك، حتى ولو دفع البلد والمجتمع الى قرار هاويات سحيقة، تعتمل في أحشائها أصناف الغضب والأوبئة وكافة الاحتمالات الخطيرة التي ربما تقوّض بنية الاجتماع ، ناهيك عن المضي نحو مستقبل أفضل..
هذه العقلية التي تقود الرأسمال في البلاد العربية، تتقاسم تلك السمات التي تنفث سموم الانحطاط الشامل، الذي يسحق البشر والحجر. ونجد تجلياته في كافة الصُعد وأوجه الحياة حيث الحطامِ والأنقاض.
البشر في الشوارع بمظهرهم الرَث محنييّ الرؤوس تفترسهم المشاكل والهموم، تداهمهم الشيخوخة والأمراض في مُقتبل العمر، المُصادَر سلفاًَ جرّاء هذه الهيمنة الوحشية. طرُز المعمارِ خاليةٌ من أبسطِ ذوق جمالي، تدفعك الى الحنين على سكنى الأسلاف ومرابعهم على “فقرِها” وبساطتِها.
معمارٌ ومدنٌ أُقصي منها الجمالُ والذوق وسُحقت فيها الطبيعة “الأم الرؤوم” التي دِيست وانتهكت ، في صالح الكتل الأسمنتية الضخمة المرتفعة بوقاحة واستفزاز، التي يمليها ذلك الرأسمال الطفيلي الذي همه الأساس التراكم الربحي الريعي السريع.
مدينة مثل لندن مثلاً ، على فظاعتها ، مزنّرة بحزام ضخم يمتد بعيداً من الحدائق والطبيعة الباذخة. وكذلك سائر المدن الأوروبية . وإذ لا سبيل الى المقارنة على كافة الأوجه مع تلك المدن والحواضر لشقة الخلاف واتساعه ، فمدن الشرق الآسيوي مثالاً لمن يمتلك رؤية ومشروعاً حضارياً على طريق التقدم والمنافسة الحقيقية.
في البلاد العربية إذا ثمة من بقعة خضراء نبتت تلقائياَ تُستأصل من جذورها لتبسط الكتل والعمارات الموحشة كامل هيمنتها وجبروتها، جبروت ذلك الرأسمال الجاهل الذي لا راد لقَدَره التدميري تجاه البشر والطبيعة.
* * *
الخطابة (علم) الدجل
إذا كان علم الخطابة والسياسة بمختلف تجلياته في العصور المعرفيّة القديمة (أرسطو والفلاسفة الفسطائيّون) على سبيل المثال الذين اتخذوا من الجدَل الخلاّق طريقاً ناجعاً للوصول إلى كشف غوامض الأمور وتذليل صعابها…
فكان علم الخطابة والسياسة هو الأسمى والأخطر لديهم ، ففي العصر الحديث ، العربي خاصة والبلدان المتاخمة ، انقلبت الآية ونزل هذا العلم من عليائه إلى أسفل السلّم المعرفي وأرذله ، واستحال إلى ضرب من فنون الدجل ومباريات النفاقِ والتهريج فوق شاشات هذه الحلبة الكونيّة التي وحّدتها البربريّة الحديثة..
يتبارى المتبارون في المجالات كافة ، يشحذون الأدوات ويجيّشون الحشود البلاغيّة التي تستند دائماً إلى براهين الضحيّة الكبرى : الحقيقة والعدالة والمساواة و….لخ ، لدحض حجج الخصم ودحرها خارج الواقع والتاريخ. الخصم الفكري والديني والعسكري والأدبي ، لا حلّ أمام حشود بلاغة الكذب وسطوة التكنولوجيا إلا نهايتة (الخصم) وتحطيمه بهزيمة ساحقة لا تبقي ولا تذر.
من هنا تنتفي في هذه الخطابة الصوتيّه العالية ، الاحتمالات والنسبيّة والشك ، إذ لا مجال إلا للحسم والجزم النهائي في الخطابة المعصومة من الخطأ والمندفعة دوماً نحو الصواب و”الحقيقة” التاريخيّة والراهنة.
حتى لو كان القاتل ، ما زال يتدفّق من ساطوره كمامن لسانه ، شلاّل الضحايا والمنكوبين .. لايفقد تلك القدرة البلاغيّة والإستيهاميّة ، ولا يخالطه ارتباك أو تلعثم أو ظن .
ونرى المتحدث الخطابي فوق المنابر ومن أعماق الاستوديوهات الفاخرة ، نادراً ما يتوقف أمام فاصلة أو نقطة اشتباه أو استفهام ، منقضاً كالصاعقة على الطريدة المدّعاة : الحقيقة ، (في الحقيقة) الواقع (في الواقع)، خالقاً من الغثّ بضاعة سمينة ومن القاتل ضحيّة بامتياز .
***
إذا كان من نقطة مضيئة عبر هذه الوسائل والوسائط الإعلاميّة وإنجازات التقنية ، يحاول صاحبها الإبلاغ والتوصيل كشهادة صادقة ومفارقة ، فلا بد أن يضيع ويتلاشى في هذا الخضّم الهائج للمتبارين المحترفين على الحلبات المختلفة .
وحتى المتلقي ، عدا القليل جداً يكون هو الآخر ، تائهاً و(مطعوجاً) في الخضمّ المتلاطم نفسه .
هذا السلاح الفتاك ، هو الجزء المكمّل أو ربما المسبّب وربما أشياء أكثر خطورة للمذبحة التي نرى ونشاهد ونسمع على مختلف الصُعُد الماديّة والأخلاقيّة والروحيّة.
***
هذه الدعاوى الخطابيّة حول العدالة والأخلاق وثنائية الحق والباطل ،الخير والشر ، بتلك الإطلاقيّة هي أكبر مشوّش وحاجب حد التدمير، لتلك القيم النبيلة.. وهذا الهجوم المعنوي الذهني ، أكثر إبادة لإنسانيّة الإنسان وفطرته وذاكرته ، من الإبادات الماديّة المباشرة ، بحيث يبقى مشدوداً طوال يومه وغده بتلك “الخطابات” المقدمّة على ذلك النحو الباهر البرّاق ، وهي ليست خاوية فحسب كما يحصل في الأدب “اللغواني” اللفظي الفارغ من الداخل ، وإنما مملوءة بالسموم وخلاصات الكذب والتدليس عبر التاريخ .
***
لم يبق شيءٌ على قدَميه
عدا وعل جريح
في غابةٍ محترقة
 
* * *
صحراء المسافة
قدمهما المذيع على انهما باحثان وخبيران في مجالهما .. لحظات وانفجرت حنفيّة الكلام والزعيق على مصراعيها.
بعد أن أنهى الأول ديباجته الصِداميّة ، ابتدأ الثاني بالرد (شعر كل ما قاله شعر) ، أي أنه بلا معنى ولا قيمة ولا فائدة .
ومتحدث آخر يوصم صاحبه بـ (الفلسفة) والتفلسف حيث تندرج الدلالة في نفس السياق !!
هكذا تتراجع المعرفة الفكرية والجماليه ، ليس في الشعر والفلسفة ، وإنما في جميع المجالات والاقانيم أمام اكتساح خطابة الجهل والتعميم ، اذ لم يبق متحذلق أمّي على الأرض العربيّة إلا وأدلى بدلوه وسارع في طرح رأيه الجامع المانع ، وفق ديمقراطية الشاشات المزهرة في هذا الفضاء المليء بالهوام والجوع والحروب ، والمليء بالمعضلات الكبرى والصغرى المرتطمة دوماً بصليل الخطابة الناعق.
أمام طبيعة هكذا (خطاب) ليس الشعر فحسب يصبح مثْلبة وثغرة في البنيان اللفظي الشعبوي الذي يربض على الأرض العربية بصيغ مختلفة عبر السنين ، وإنما المعرفة الأدبية والانسانية وكذلك العلميّة ، بالمعنى الابتكاري العميق ، والذي ما زال غير موجود في ديارنا المجيدة ، المولودة ( العلميّة) مع الأولى من رحِم واحد لأخيلة ورؤى ضاربة في القِدم والحداثة.
***
بعد المصرع التراجيدي الذي لقيه سقراط ، كره تلميذه النجيب إفلاطون ، الخطابة الشفويّة التي كانت وسيلة الفيلسوف لإقناع الناس ودفعهم إلى الحق والخير والجمال.
لكن تلك الخطابة التي دار السجال حولها استمرّت سلالتها النبيلة إلى العصور اللاحقة في أمم وشعوب كثيرة منها العربيّة . ولا نجد أبسط مقارنة لها مع هذا الانفجار (الحداثي) للشعبويّة الرعاعيّة التي لا تذهب إلا نحو ترسيخ الجهل بإقصاء المعرفة الحقيقيّة والفنون ، مُسوّقه كافة أوبئة التعصّب الدينيّة والطائفيّة والعرقيّة تحت أقنعة الخبرة والبحث التي يضيع في دخانها الكثيف ،
أي صوت عميق يحاول أن يكون شاهداً حقيقيّاً على المجزرة العربيّة ، والكونيّة التي ينام البشر ويصحون على إيقاعها الدموي ، الذي بفعل جاذبيّة التكرار وسحر الرؤية للمشهد الكارثي البعيد ، أصبحت موسيقى الحياة اليوميّة وطعامها وزيّها ..
بهذا المنحنى القاسي تنفصل الوجدانات والعواطف عن وقائع المشهد ، واستطاعت التقنية والخطابة الجاهلة والمؤدلجة ، أن تحيّدها بتحويلها إلى فرجة ، نضارتها نموذج للحياد الذي تمليه صحراء المسافة الصارمة التي حاول مسرحيّاً الألماني (بريخت) كسر سلطة إيهامها ، كبرت عبر الزمن والتقنية وانحطاط القيم وتحوّلت إلى وحش اسطوري يبتلع عواطف الجميع.
***
عطفاً على الخطابة الكلاسيكيّة ؛ على مستوى اللغة العربيّة ، حفظ لنا التاريخ عن الاسلاف منذ ما سُمّي بالجاهلية الأولى والثانية وحتى العهود الاسلاميّة المشرقة (العلمانيّة) في تعاطيها مع الآخر . حفظ درراً وأسفاراً إبداعية مفعَمة برؤى الفكر والشعر والتأمل والإشراق …
أي مقارنة تتحول إلى مهزلة مع هذا الهَذر المعاصر الذي يعمق اغترابنا عن لحظته (المعاصرة) لنتقرّب أكثر من تلك العهود الغابرة الأكثر معاصرة كتلك الخطب والاحاديث والنصوص الشفويّة التي قيل الكثير منها في خضمّ وأعقاب ملمّات ومنعطفات كبرى ، فكانت المعبّر الفكري والفني عن تلك المآسي والمنعطفات .
***
أن تبقى المعرفة الانسانية والجماليّة ، الشعريّة في طليعتها ، غريبة وهامشيّة يسومها الجهل والثرثرة في هذا الزمان ، فذلك قَدَرها وربما شرطها النابع من تركيب حدْسي رؤيوي لاغائي خاص…
ومتى كانت بهذا المعنى إلا غريبة منذ تحوّل البشر في صميم تكوينهم الكياني والاجتماعي إلى بنيان الربح والخسارة والمنفعة بأكثر معانيها فجاجة ومباشرة.
لكن حتى الغربة والاغتراب مسألة (نسبية) وتختلف من زمن إلى آخر مثل الخير والشر وحجم المجزرة.
* * *
اللجان
لجان ، تتبعها لجان ، تنبثق عنها لجان ، مسبوقة بلجان ، مولودة من اللجنة الأم ، اللجنة الكبرى الحاضنة الأصل ، التي انفجرت عنها كل هذه اللجان ، أهرامات من اللجان التي تولد بدورها مؤتمرات لا أحد يجادل في أهميتّها وحسمها لشؤون الواقع والتاريخ حسماً مبرماً وكليّاً نحو المستقبل ليس (المشرق) وإنما الأكثر إشراقاً ورفاهية …
وإذا ثمة التباس ما أو تخيّل عثرة صغيرة ، أمام هذا الإندفاع والصخب الاستعراضي نحو المستقبل ، فلا بأس أن تولّد المؤتمرات الحاسمة بدورها ، ندوات ، توضح وتعبّد وتسهّل الطريق الواضح أصلاً ، نحو حل ما تبقى من مشاكل وإشكاليات ، والسُكنى المطمئنّة في قلب التاريخ والحضارة والمستقبل.
***
لجان ومؤتمرات ، ندوات وشاشات ملونة تلك هي البيئة الحاضنة الخصبة التي ينشأ عليها الطفل العربي ويشب ويكتهل ويشيخ ….
وسط هذه الغابة من اللجان يستقبل الحياة ، من الروضة حتى القبر …
يكتشف أحياناً ، أن هذا كله ليس إلا لعبة ، مصيدة ، وُضعت وأُحكمت حلقاتها على هذا النحو ، لتستهلك حياته ، جوهرها الأساسي الذي يغطيه غبار اللجان وتفاصيلها وأخبارها ، التي تتناسل باستمرار ..
ويحدث أن يعي بشكل ملموس من معاناة المعيش وقسوته ، أنها بالفعل مصيدة ، وأن حياته وأمله الحقيقي ، يتلاشى ويضمحل … يقف لحظات ، أمام شاشته السوداء الكالحة ، يحاول أن يتدبّر سُبلاً أخرى للحياة ، خارج المصيدة ومعطياتها المحكمة . لكن هذا التفكير ، وهذه المحاولة لا تلبث أن ترتطم بجدران الواقع الصلبة ، فلا مخرج من هذه الدوامة المفترسة : إنه وحيد وأعزل أمام قوة متطاولة شبه مطلقة ، يظل يرفس حالماً بالهروب نحو الطريق الآخر للحياة الحقة ، أو حتى نحو المجهول . لكن خيال عزيمته يخذله ، حين يتذكر أنه مسؤول عن آخرين ، عائلة ، أطفال ، أبوين عجوزين بحاجة إلى رعاية . ينكسر الخيال ، تتهشم العزيمة ، يرتد إلى قناعته العتيدة السائدة ، أن ليس ثمة أفضل مما كان ، وسيأتي يوم تنصفنا فيه عدالة التاريخ والقدر ، والأحوال لا بد أن تتغيّر نحو الأفضل في هذا العالم الذي أصبح (قرية كونيّة) ، ويرتاح مما دعاه سارتر بشقاء الضمير..
***
يحدث في الأغلب الأعم ، أن الكائن (العربي في حالتنا) لا يعي ولا يقف أمام نفسه ثانية واحدة . لقد أصبح جزءاً من نسيج لعبة اللجان المرسومة سلفاً ، لجان القضيّة الفلسطينية ، التي تناسلت إلى فلسطينات كثيرة بالطبع . اللجان الإقتصادية ، والاجتماعية والثقافية . وحتى ((الوجوديّة)) المعنيّة بالحل الجذري لمشاكل الوجود الميتافيزيقيّة المقلقة لتعيش الجماعة العربيّة من غير صداع ولا قلق ولا يحزنون . وهذا هو الأفضل لأجل الصالح العام ، وأن يعيش الجميع في كنف اللجان والمؤتمرات ، وسط خميلة من الأحلام الورديّة والكلام الفارغ .
 
* * *
القاهرة .. بيروت
وقناة ((الحرة))
عتب عليّ بعض الأصدقاء المصريين، على ما ورد في مقابلة تلفزيونية لقناة “الحرة” مع الشاعر جوزيف عيساوي، في بعض فقرات المقابلة، حيث التطرق إلى مصر، سواء عبر الكلام عن طفولتي الثانية في الفضاء المصري، القاهري خاصة. والتي اعتبرها دائماً النقلة النوعية من بيئة يَسِمُها الانغلاق والواحديّة في النظر والتفكير بتلك الفترة من تاريخ عُمان، إلى فضاءٍ مفتوحٍ يصخب بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية، الذي ترك بالغ الأثر في التكوين المعرفي والوجداني… وكان البوابة التي دخلتُ من خلالها إلى ما عرف بالحداثة والتجديد…
من نافلِ القول أن المكان القاهري مارس عليّ بعد المكان العُماني سطوته العاطفية، وتلك الجاذبية الروحية التي لا ينضب معينها على مدى الزمان المتقلب السريع. مما ظهر جلياً أثره الحاسم في الكثير من الكتب الشعرية والنثرية وعلى صعيد السكنى والمعيش.
* * *
ربما عتب البعض حول نقطتين وردتا في الحوار المتلفز والذي يتبعُ صاحبه خطاً فيه نزوع الإثارة والاستفزاز كي يستقطب أكبر قدر من المشاهدين العازفين أصلاً عن البرامج الثقافية والمعرفية الجديّة، المنصرفين نحو الإسفاف واللغو بمناحيه السياسية والفنية، حيث استخدام بعض أدوات تلك البرامج الإثارية حسب قناعة المقدم، يكسب موقع مشاهدة أفضل ويخطف منها بعض متاعها وضوئها، والتي هي ليست قناعتنا بالتأكيد.
عتب بعض الأصدقاء حول نقطتين وردتا في ذلك الحوار المتشعب:
الأولى – حين سألني مقدم البرنامج عن تلك الفترة البعيدة في الزمن والذاكرة، عن شعور الصدمة الثقافية حين انتقلت من عُمان الى القاهرة. وهو سؤال أصبح نمطياً من فرط تكراره، وكان جوابي: أن القاهرة ليست باريس كي تُحدث هكذا صدمة.. وكان قصدي أن الوضع الثقافي المصري والعربي ينتمي إلى شجرة أنساب واحدة عبر اللغة والتاريخ. فأحمد شوقي والبارودي وحافظ ابراهيم على سبيل المثال جزء من الذاكرة الثقافية العُمانية وكذلك أسماء ورموز مصرية أخرى وعربية، كلاسيكية وحديثة، هي جزء عضوي لا يتجزأ من هذا المركب الثقافي والمعرفي. عائلة واحدة بروافد وخصائص مختلفة ومتنوعة. وهذا الاختلاف ضمن الوحدة التي لا يمكن أن تنفصم عراها وتتفكك نهائياً كما يحلم البعض، إلا بالتصفية المادية والانقراض. يمكن أن تضعف كما هو حاصل في ضوء هذا الهجوم الكاسح على وحدة الهوية الثقافية في أزمنة الانحدار الذي تعيشه المنطقة كلها.
هذا التنوع مصدر إثراء روحي وثقافي، كما هي الوحدة الحقيقية التي تتوطدُ بهذا التنوع والاختلاف..
نقطة ثانية أتى عليها العتب والالتباس وهي حين أجبتُ على ما أظن، حول سؤال الفرق الثقافي بين بيروت والقاهرة، على أن الأولى كانت مسكونة بالسجال الثقافي وما يعنيه من انفتاح أكثر على التجريب الأدبي والمغامرة. وهذه حقيقة تاريخية لها ملابساتها وعناصرها الكثيرة. منها أن المؤسسة الثقافية في القاهرة، مؤسسة قوية متماسكة حول منظومة قناعات ورؤى، ليس من السهل اختراقها بسرعة. ولا أقصد المؤسسة الإدارية الرسمية، بل تلك المؤسسة من الذوق والمفاهيم الأدبية النظرية والإبداعية المراتبيّة التي لا تقبل التغيير إلا ببطء وضمن منظورها المركزي. فعلى سبيل المثال جيل “السبعينات” في مصر وما تلاه نال من الهجوم والإقصاء الشيء الكثير من تلك المؤسسة التي هي حديثة وتجديديّة وفق معاييرها وأطرها. وأذكر أيضا ما دعي بالجيل “السوريالي” الذي كتب الكثير منه بغير العربية ضمن تكوينهم التاريخي والتربوي، جيل جورج حنين، ورمسيس يونان، فؤاد أنور، وألبير قصيري. أقصي رغم أهميته الإبداعية والتاريخية، خارج نسيج الثقافة المصرية..
منذ تلك الفترة حتى اللحظة الراهنة وهذه المؤسسة لها امتدادها وان ضعفت تحت ضغط السجال والإبداع لأجيال الثقافة المصرية اللاحقة. عبدالمعطي حجازي وآخرون ما زالوا يناقشون مشروعية قصيدة النثر، وما زالوا يمانعون في إعطائها شهادة الولادة والاعتراف، بعد كل هذه الأزمنة والتحولات، حياةً وإبداعاً!!
بيروت أيضاً لها شروط مناخها الخاص الذي أفرز ذلك السجال الحيوي. بيروت الحاضنة والمختبر للتجربة الثقافية والسياسية العربية بصورة عامة بما فيها المصرية الطليعية وليس اللبنانية فحسب. وهو الدور الذي لعبته مصر قبل السبعينات، في مطلع القرن العشرين بشكل شامل وخلاق. وتلك مسائل بحاجة إلى نقاش متشعب بعيداً عن هذه العجالة.
يبقى أن المسألة تطرح في ضوء وقائع التاريخ الأدبي والثقافي العربي لكل بلد على حدة وفي السياق الثقافي الشامل العميق، الذي يغتني بمنابعه ومصباته الكثيرة، وليس بادعاء مركزيات متوهمة، وخارجة عن نطاق التاريخ ووقائع الاجتماع..
تبقى علاقتي الوجدانية والمعرفية بمصر، قضية حيوية بالنسبة لي، غير قابلة للمزايدة والإدراج في النقاشات التي تحركها نزوعات مرضيّة تحاول الاصطياد دائماً. علاقة هي من النأي بمكان بعيداً عن الحسابات الضيقة والمصالح الآنية، كما يعرف بعض أصدقائي المصريين الذين اقتسمت معهم خبز الحياة والمعرفة منذ زمن سحيق.
تبقى جزءاً من ذاكرة النبع الذي لا ينضب وإن جفّت كل القنوات والمياه.
 
 
* * *
النسمات المنعشة
الثامنة صباحا أخرج من البيت باتجاه المقهى القريب الذي أجده مفتوحا رغم شكوكي حول ذلك .
طلائع الصيف بدأت في التوافد بشكل تدريجي بفضل الأمطار الأخيرة التي غمرت البلاد والعباد وخلفت بهجة وضرراً رغم أنها لم تستمر على أشدها إلا ساعات في جوف ليلة مظلمة …
أجلس على الطاولة مع كوب الشاي والقلم والورقة ، مستمتعا بآخر النسمات المنعشة .
لا أحد في المقهى ، لا أحد في الشارع . سيارات تمر بين الفينة والأخرى …
وهكذا بدأت استدعي لقطات من رحلتي الأخيرة إلى قطر لحضور مهرجانها الثقافي الفني والمشاركة في ندوة (الأدب والمنفى) .
ومن ثم جئت إلى أبو ظبي لحضور الحفل الباذخ لتوزيع جائزة الشيخ زايد رحمه الله . في المبنى المقام حديثاً لمعرض أبو ظبي للكتاب..
إثر العودة من ندوات ومهرجانات صاخبة بالأفكار والكلام والأصدقاء ، دائما ذلك الحزن وتلك الكآبة التي تعقب صخب الاحتفالِ والانطلاق الصداقي المحتشد بالحنين إلى الوجوه الصديقة ، بعد غياب . تلك الوجوه القادمة من بلدان وأصقاع شتى، يحدونا إليها اللقيا والمسامرة ، أكثر من حضور الندوات والمهرجانات التي تتحول أحياناً كثيرة ، إلى ذريعة . هذه اللقاءات التي نحلم دائما أن تكون حميمة ، حرة وإبداعية أكثر من المؤتمرات المسيّجة باللوائح والأوراق المحدّدة سلفاً .
***
كثيراً من الندوات واللقاءات ليست ترفاً ثقافياً وسياحياً بل تقع في القلب من محنة الواقع والتاريخ ، فندوة (الأدب والمنفى) مثالاً ، تندرج في هذا التصور إذ أن برهة الراهن العربي تستدعي المنفى والاغتراب بكافة أشكاله ووجوهه المتعددة في مراياها المُدماة المكسّرة ..
منفى واغتراب على الصعيد الحضاري والتاريخي والسياسي عن الذات والعصر . غياب عن الفعل الحقيقي المؤثر على مسار الأحداث والتاريخ . بالإضافة إلى المنفى بالمعنى الوجودي طبعا . برهة الراهن العربي في حروبها الكالحة اللا مجدية واللامثمرة على المدى البعيد والقريب ، إلا مزيدا من العقم والدمار . وتلك المستترة التي تفتك عبر الكراهية وانعدام العدالة في أبسط مستوياتها ، قادمها (لأنني لا أجرؤ أن أقول مستقبلها) ربما أكثر التباساً وخطورة من الحروب الواضحة الصريحة .
هذه البرهة بالفعل برهة منفى واغتراب بامتياز . هذا “المنفى ” بداهةً لا يستدعي تحديدات جغرافية واجتماعية بتوصيفاتها الجاهزة كالبلاد الأم والبلاد الأخرى التي يُفترض أن تكون غريبة . انه أكثر إشكالا وعمقا.
****
أفكر بأن المهرجانات الثقافية في بلدان الخليج والبلدان العربية على أهميّتها ينبغي ان تكون تعبيرا عن الحراك والحيوية الثقافية الإبداعية لهذه البلاد وتجسيدا لها عبر الحوار والسجال حول إشكالياتها واختلافها ، وليس بديلا برانّياً فضفاضاً مثل مهرجانات التسوق والسياحة التجارية .
وهذا الفرق الجوهري تناط عبء مسؤوليته على المنظمين وتصورهم ورؤيتهم حول الثقافة والفنون بالدرجة الأولى وعلى المشاركين الفاعلين في هذا المجال.
****
القط يتسلق الشجرة
الأيام تنام هانئةً في أحضان
بارئها
بينما مهد الطفل يتأرجح بين أشباح الحروب القادمة
***
الشجرةُ تهزها أنسام الصيف
هادئةً تتأمل ذاتها
تتأمل الفصول التي كانت واضحةَ
المعالم والذكريات
قبل أن تبتلعها الرمال الغاضبةُ
وتتلاشى في مهّب الجهات
* * *
من أصيلة الى مسقط
من (أصيلة) أغادر عائداً الى مسقط، قبل انبثاق ضوء الشمس الذي سيغمر أمواج المحيط الكبير المتلاطم، ذلك المحيط الذي ربما وقف أمام أمواجه المتعاظمة ذات يوم (عقبة بن نافع) حائراً مرتبكا كما يتضح من عبارته المعروفة لدى المؤرخين، وهو على صهوة جواده مع ثلة من الفرسان القادمين تواً من تخوم الصحراء العربيّة (ليتني أعرف ما وراء هذا الماء).
مات مقتولاً وهو لم يعرف ما وراء ذلك المحيط، لكن أحفاده عرفوا وبنوا واستوطنوا حيناً من الدهر غير قصير.
أغادر أصيلة ، دائما وفي نفسي شيء منها، مسٌ من جمال وألفة ووداعة: هذه القرية التي أضحت مدينة، تضج بالعمران والسياح وقت الصيف، ويغمرها الهدوء حين يأتي الشتاء عدا عصف المحيط وصخب أمواجه العاتية.
مهرجانها الثقافي الفني الشهير، ساهم بشكل حاسم في انتقال هذه القرية من المجهول الى المعلوم عربياً وعالمياً، ثمة كتّاب من العالم من طراز جورج أمادو وليوبود سنجور وغيرهم الكثير ممن جاءوا وحاضروا وعاشوا في ربوعها فترة من زمن هذا الصيف الثقافي الجمالي. وكان السيد محمد بن عيسى مؤسس هذا الانتقال والتطور والانتعاش.
أغادر (أصيلة) يأخذني السائق الى الدار البيضاء، ساعات حتى أصل، أقطعها بين قراءة كتاب رفائيل البرتي، الذي أهداني إياه مترجمه الصديق خالد الريسوني، وبين النظر والتحديق في خضرة الشمال وغاباته وحيواناته وفلاحيه الفقراء…
أفكر في المسافة: أقول لجورج سمعان الذي ألتقيته في المطار، أحس كأني ذاهب الى الصين… كل هذه المسافة أرض عربية، تتكلم لغة واحدة… التاريخ والجغرافيا مهما كان غناهما لا يستطيعان إسناد الحاضر بوقودهما المتجدد، إذا لم يسند هذا الأخير نفسه.
بعض الأجانب لا يكاد يصدقُ ان العرب على هذه المسافات الشاسعة ببلدانها وشعوبها يتكلمون لغة واحدة.. وهي ما تبقى من إرثهم الكبير، المتنوع في الأزمنة والأمكنة عبر التاريخ المتراكم على هذه الأرض الثكلى…
المسافات الطويلة أضحت مرهقة، رغم محاولة تبديدها في القراءة، والكتابة أحياناً.. ثمة حصْر وإكراه، أحسه قاسياً في تلك العنقاء المعدنيّة وهي تحلق في السديم بين الكواكب والسحب والذكريات.
ثمة حياة تتطاير شظايا في الوهم والأثير..
مع العمر والتكرار، يفقد الواحد منا (طبعا) تلك الإندفاعات الحيوية الصاخبة ويحلم بالسكينة والهدوء لكن حين يلوذ بهما بعض الوقت، يحلم بالطيران والتغيير من جديد.
هذا الجدل المعقد في النفس بين حلم الاستقرار، والخوف من التأسّن في المكان الواحد والتبلّد في مضائق العادة اليوميّة وتسوياتها التي لا يستطيع الكل الخضوع لمتطلباتها الخانقة.
قبل إنبلاج ضوء الشمس أغادر أصيلة لأصل مسقط بنفس الوقت في اليوم التالي حيث طلائع الضوء بدأت تتسلل الى الجبال والتلال والمدينة الوادعة التي ما زالت في سباتها العميق..مسقط وأصيلة بينهما صلات قربى تاريخيّة وعمرانية بسبب الاحتلال البرتغالي لكلا البلدين وغير ذلك..
ثمة مسافة ويا لها من مسافة.
* * *
مواكب الأحداث
الأحداث تتسارع دوماً، تتسارع وتتكاثف بشكل عاصف حتى لا يكاد يستقر منها في الذاكرة إلا نتف أطياف لأحداث غابرة، رغم أنها نفسها أحداث الأمس واليوم واللحظة..
لا يكاد الحدث في هذا الموكب المندفع نحو هاوية النسيان ، ينبثق في فضاء الواقع وقنوات الإعلام والوعي ويخلق تلك الجلَبة والبريق الكارثي أو ما ينذر بذلك، إلا ويسارع حدث آخر ونازلة أخرى لتدفعه الى التواري إن لم يكن المحو والاختفاء. ليتصدَّر الجديد المشهدَ ومساحة الخطاب بثاً وتحليلاً واختلافاً بين متصارعين واقعيين وافتراضيين… يرفس الحدث الآخر ويزيحه في هذه السلسلة اللامتناهية من وقائع الحياة البشريّة، أو من هذه المسخرة الأرضية العابثة بالمصائر والتوقعات.
أحداث ووقائع سياسيّة واقتصادية، اجتماعية ، وثقافية.. السياسية طبعا هي محل الصدارة والسيادة والهيمنة وبصفتها التعبير المباشر عن الصراع الاقتصادي، كما أن الحرب المسلحّة هي التعبير والاستمرار المكثف لصراعات سياسية وعقائدية، أخذت منحى العنف العاري وأدواته وفصاحة هذه الأدوات التي يحل صليلها محل أدوات الخطاب وصليله، حيث يبقى هذا الأخير تابعاَ وشارحاً جلبة المذبحة وصراخ الضحايا والأبرياء، مسوّقا كل طرق شرعيّة القتل أو “الشهادة” التي يقوم بها ضد الطرف الآخر من أبناء جلدته وعائلته وقضيته في الحالة العربيّة الراهنة وجوارها القريب.. أو ضد عدو فيه من صفات الوهم والاستيهام أكثر من تشخيص الواقع والحقيقة.
يتصدر الحدث السياسي بهذا المعنى ونوازله التي تتناسل في لحظة لتحتل الساحة كاملة أو شبه كاملة، إذ، تتراجع الأحداث الاجتماعيّة على شاشات الفضاء وصفحات الصحف بكافة أنواعها دعك من تراجع (الثقافي) حدّ الطرد والإمحاء والتلاشي، فمهما كانت الأهميّة الجوهريّة في تناول الشأن البشري المأزوم والمستهْدف في أعماق وجوده المادي والمعنوي.. مهما عظم شأن الحدث الثقافي والفني الحقيقي لا يمكنه أن يحتل إلا أطراف المشهد الإعلامي وحواف اهتمامه وبالتالي اهتمام المتابعين والمتلقين. ومهما صغر شأن (السياسي) لابد أن يرتفع الى سدة الواجهة والاستئثار وهو لا يمكن إلا ان يكون صغيراً في بلدان لا وزن لها على صعيد التاريخ بكافة صُعُده، إلا ما يريد (الآخر) القوي أن يلبسه لها ويخضعها لمنطقه، وهي في معظم الأحوال ، ترفع رايات الانتصارات المجيدة لمنتجها الوحيد من مذابح لا تطال، غالباً ، إلا الأخوة والأقرباء، في رقعة الأرض المشتركة، وما يتبع ذلك من خراب وفقر ومن ضغائن وأحقاد، لا تمحوها الأزمان بسهولة كما تمحو الصورة الأحداث والنوازل واحدة بعد أخرى بذلك الشكل السريع.
تبقى أطنان الخطابات المسوّقة على نحو مخيف وكابوسي لفرقاء تلك البلدان التي يراد لها أن تكون خالية من الوزن الحضاري والمعرفي والانساني وأن تستمر .. يبقى ذلك التذاكي والتفاصح والدوران في خواء الكلام وفراغ اللغة المُهانة والمعذَّبة مثل بشرها.. علامة الانحدار الأكيد..
* * *
انحطاط الموسيقى
الحضارة الغربية هي من أكثر الحضارات احتفاءً وتقديراً للموسيقى لدرجة رفعها إلى ما يشبه المقدس ، بإعطائها الذروة الروحيّة والوجدانيّة بين الفنون الأخرى.
هكذا منذ أفلاطون الذي كان يعتبر الموسيقى بلسماً وعلاجاً حين تعصف به الأمراض والأزمات .. نزهة روحيّة بين ضفاف الجمال والأبديّة..
وحتى (شوبنهور) الذي بوَّأها المكانة الأسمى رغم تجريديتها البالغة ، كونها تمثل حقيقة الوجود في كافة تجلياته ، تجسد ” الارادة كما تتجلى في الوجود عبر سائر سكناتها وحركاتها”
وهكذا معظم الفلاسفة والفنانين على امتداد الإرث الحضاري الكبير…
البارحة ، كان (عيد الموسيقى العالمي) في باريس حيث كنت موجوداً ، غصت الشوارع والأزقة والساحات الشاسعة الجميلة بحشود البشر، العازفين والمتحمسين والمتفرجين ، حشود ضخمة ، هدير وقصف وضوضاء ، لا حدود لرعبها وفظاظتها ، تسمى موسيقى ، تحتفي تحت هذه اللافتة بعيد الموسيقى ، اختلط الحابل بالنابل في هستيريا جماعيّة من الصراخ والإزعاج وخراب الذوق .
ولم يعد للفرد إلا أن يلوذ بغرفة الفندق ، لكن أين منه الهدوء في هذا الكرنفال الذي يخترق صخبه أعتى الجدران والخرسانات؟
ليلة من الحزن والأرق واللعنات ، هذا ما يخلفه هذا العيد العالمي ، بعد ان انحطت الموسيقى ، ونزلت من مكانتها تلك إلى هذا الدَرْك من العنف والابتذال..
بقيت هناك بضع حفلات خاصة مميزة مثل حفلة الأوبرا في حديقة (اللكسومبورج) وحفلات أخرى لها علاقة بروح الموسيقى العظيمة وقد سبقت هذا اليوم الخاص ببضعة أيام لتترك الساحة كاملة لاحتلال الموسيقى الغوغائية.
وهي الكلمة الأكثر تعبيراً ، إذ أن هذا النوع من “الموسيقى” ليس لا علاقة له بتراث الموسيقى السامية والرفيعة ، وإنما لا يمت بصلة إلى الموسيقات الشعبية والتراثيّة التي تتجلى فيها أنواع أخرى من الإبداع الروحي والعاطفي.
ما يحصل من انحطاط موسيقي على الصعيد الأوروبي ،ينسحب بالضرورة على سائر البشر الآخرين ، وبشكل أكثر قبحاً وفجاجة مثل الموسيقى العربيّة التي انسلخت كليا عن تراثها وإنجازاتها الحديثة ، والقديمة ، ودخلت عصر الغوغاء والغرائز الرخيصة بكامل عدتها وعتادها ..وإذا كان في الغرب الاوروبي مؤسسات وأفراد ما زالوا يكافحون لحفظ روح الموسيقى الحقيقية ومكانتها الخلاقة ، فمثل هذه المكانة تبدو انها أفَلَتْ على الأرض العربيّة عدا القليل القليل الذي لا يكاد يذكر في هذا الخضم المتلاطم من الانحدار الشامل.
 
* * *
 
 
 
نزهة الخيال عبر المرض
“لسنا سوى غبار ورماد من نجوم منقرضه”
فلكي فرنسي
لحظة المرض ، وأنت وحيد ، في أي مدينة أو صَقع مقذوف في خضمّ هذا العالم المترامي ببشره وسرعته ، بصخب آلاته الهادرة في الخلاء لمراكمة أرباح المتخَمين حارمةً إياك من لحظة هانئة لنوم عميق..
وحيداً مُلقى على كنبة أو سرير ، أو على الأرض العارية ، لأنك تعاني من آلام في الظهر أو المنكبين ، تفترسك الهواجس والأوهام التي تعشب على أرضها الخصبة كل صنوف الأحلام المذعورة والكوابيس ، أكثر من افتراس أوجاع المرض ذاته وتأثيرات الأدوية .. تتمنى لو تعود إلى العصور الأولى تأكل الأعشاب وتتداوى بها وتسبح في نهر الابديّة …
هكذا مُلقى ، هشّاً وضعيفاً ووحيداً … بالأمس كنت تنشد هذه الوحدة ، وهذه العزلة التي تصفها بالمضيئة والمثمرة روحيّاً وإبداعيّاً . وتعزي إليها كل ما استطعت انجازه (إذا كنت أنجزت فعلاً) ، بعيداً عن لغط القطيع وإكراهاته الكثيرة المتنوعة … لكنك الآن في قلب هذه الهشاشة في قلب هذا الانكسار ، عبثاً تحاول تجميع قواك المبعثرة ، واستحضار آخرين عبروا محناً واختباراتٍ جسديّة ونفسيّة أكثر عنفاً ومكابدة ، في قلب هذا الانكسار الفيزيقي المتبوع بضعف استجابة الحواس وجموح الروح والمخيّلة ، تحاول إعادة النظر في أمور شتى لكنها تهرب منك ، وعلى الارجح حتى لو أمسكت بها لا تملك أبسط امكانيات الحلول ، لكنك لا تستطيع إلا تقليب وجوهها والشرود في احتمالاتها المتناقضة…
في هذه اللحظة أنت وحيد وعار أمام العالم وقسوة الاحتمالات والذكريات التي تحمل في تراكمها انقضاض قسوة أكبر .. تحاول أن تتبيّن خيط ضياء عبر تلك الأرفف والمنعرجات للجبال الصماء الجاثمة في الواقع والمخيّلة ، بأغاني أسلافك الرعاة منحدرين نحو القرى والسفوح … وعبر البحار القريبة ، تحاول ان ترهف سمعَ الروح ، إلى أمواجها وأسماكها وطيورها المهاجرة ، إلى صخب بحّارتها الراحلين باستمرار نحو اللُجج البعيدة.
وتلك المرأة التي تطويها دائما شراسةُ الغياب.
في هذه الحضرة من الأوابد وحضور الأنثى والحيوانات الرحيمة التي يستدعيها الخيال المتُعب تحس بعزاء ما ، بخيط حنان يتسلل من شقوق النوافذ المغلقة وتقول: ( إن الامور ليست بذلك السوء)
الخيال دائماً ، هذه الهبة السماويّة الرائعة المنقذ الأخير – يشبه الحالة التي يرميك فيها القدر وسط أقوام لا تشبهك بل هي نقيضك على طول الخط – من وحول الواقع وهرج الحياة الغارقة في القشور والمظاهر والنفاق .
الخيال في المرض كما في الصحة ، لكن في الأول أكثر ضرورة وإلحاحاً لتجاوز عقاب المرض والتاريخ ، والنزول من ذلك المهد الهذياني للطفل المريض المتأرجح في الفضاء اللانهائي للمحنة..
وحين تفقد بوصلة الخيال أو يتعطل نشاطها ، تغرق في لجّة الوهن والإحباط وتغادرك تلك الحيوات الرحبة السخيّة ، التي تلوذ بها كتميمة وملاذ . وتستسلم للحقيقة الأكثر عمقاً وثباتاً : الهشاشة والضعف والغروب . حقيقة الكائن المُلقى منذ الولادة على قارعة القدر والطريق ، حتى ذاك القاطن في الفلل الفخمة والبيوت الفارهة.
أنت الآن وحيداً وملقى في نار الإحتمالات لهذيانات الحمّى والوحدة ، وحيداً حتى لو كنت محاطاً بالكثرة الكاثرة ، لكن عينك ما زالت على ذلك الخيط المتسلل من النوافذ المغلقة .
ما زلت تحلم . مازالت الحياة تشكل لك إغراء نزهة أو قراءة كتاب تجد فيه بعضاً من اشلاء ذاتك ، وصحبة امرأة قادمة من ضفاف المجهول تشبه تلك المرتجفة حبّاً بين صفحات الكتاب.
***
يحمل لي صوت (الصفرد) مع أذان الفجر
أحلامَ بشر قدماء
يلعبون الغمّيضة في الوحل والمياه
ويحمل أيضاً
ضجيج بحّارة يتنادون للرحيل.
* * *
 
نعمة النسيان
النسيان على صعيديه، الحياتي والمعرفي، حظوة عميقة تحفها الموهبة والدربة والمراس.
على الصعيد المعرفي – لولا ما دعاه (نيتشه) بالنسيان الخلاق- لاستحالت المعرفة إلى نسخ وتناسخ من غير إضافة وابتكار، من غير ملامح خاصة شخصية، مكانية وروحية، يضيفها المبدع إلى الخضم المتلاطم من الأبداعات التي حققها أسلافه من البشر قاطبة.
القراءة والهضم، النسيان والمحو، عناصر التجربة الحالمة دوما بالجديد والمختلف، حاضنة الوجود برعونته وتعقيده.
على عكس الحفظ والنظم على مثال ونمط لا يحيد أو يزوغ الكاتب صوب مغامرة أو طموح اختلاف يؤسسه نسيان المثال مهما كانت عظمته وقوة بنيانه وسطوته.
حتى تلك الرؤية التي يميل نحوها الأرجنتيني (بورخيس) التي تحيل الكتابة إلى إعادة قراءة، هي في العمق قراءة نسيان وهضم، قراءة بعيدة الأغوار ومتعددة المستويات، بحيث أن الرضى السابق يستحيل مع اللاحق إلى شيء مختلف ويقف على ضفة زمن آخر ولغة أخرى.
نعمة النسيان في المعرفة ربما يجسدها حدث الشاعر العربي الذي لزمه كي يقول شعرا أن يحفظ آلاف الأبيات التي أبدعها أسلافه، وحين حقق ذلك لزمه أن ينسى ما حفظه كي يقول شعرا حقيقيا. وعلى النمط نفسه في الحقول المعرفية الأخرى.
القراءة والحفظ والهضم، ومن ثم النسيان الخلاق، وقود الكتابة الحقيقية. ومن غير القراءة بهذا المعنى، تستحيل الكتابة إلى سطوح فارغة ولعب تقنية وشكلانية بالمعنى الرديء للكلمة، فاقدة “الجوهر” والروح..
في الحياة الواقعية يكون النسيان نعمة بحق، فتراكم الأحداث المؤلمة والمفرحة على السواء، وهذه الأخيرة تتحول مع الزمن إلى مؤلمة وأكثر جراحا وتمزقا..
تراكم الأحداث والذكريات وثقلها على الروح والجسد تدوخ منه الجبال الصماء الرهيبة التي رغم هذه الرهبة وهذه الصلابة الأزلية، من يعرف بما تنوء به من تراكم الجراحات والذكريات كشاهدة على توالي الحقب والأجيال؟
الكائن البشري رغم عبوره على هذه الأرض، يحمل شيئا من ذاكرة ذلك الأزل الجريح…
النسيان يجدده، يخفف بعض أثقاله التي نسجتها عنكبوت الذاكرة في خضم العواطف المتناقضة والجامحة..
النسيان، نعمة النسيان، تلفح الكائن الجريح بنسمات تنعشه وترفده بمياه جديدة، تنتشله من وهدة الماضي والذكريات، تشرع نوافذ بالهواء المتجدد كي ننسى بعض ما عانينا حبا وكراهية، كي نظفر بلحظة حياة جديدة، بلحظة انتصار على سطوة الذكرى والذاكرة والماضي المفتوح دوما على مدارات الحنين… النسيان لمن يستطيع مكابدة زحف الذكريات الكاسح..
النسيان، نعمة النسيان، كما يرد في هذا المقطع، الرمزي- الواقعي لأحد فلاسفة “التاوية” الصينيين.
” يحكى عن رجل يدعى هاتسو يعاني من مرض النسيان في خريف عمره، فتراه ينسى عند المساء ما حصل له أثناء النهار، كما تراه ينسى في الصباح ما قيل له أثناء الليل. على الطريق كان ينسى أن يمشي، وفي البيت ينسى أن يجلس فلا يعي ما حصل له قبل دقائق وما هو حاصل معه الآن. كانت عائلته تضيق ذرعا من هذه الحال فأحضروا منجما كي يعرف سبب هذا الداء، إلا أنه لم يعرف السبب، ثم أحضروا (تشامانا) أو كاهنا كي يفعل شيئا من أجله ثم طبيبا لكنه لم يشفيه.
أخيرا جاء كنفوشيوسي يدعي قدرته على شفاء الرجل. وعندما قام الكنفوشيوسي بامتحانه وتعريضه للعناصر الطبيعية، طلب إليه الرجل أن يلبسه، وعندما كان يجوعه راح الرجل يطلب الطعام، وعندما كان يضعه في غرفة معتمة راح يسأل عن النور. زف الخبر إلى العائلة بشفاء الرجل.
عندما استفاق الرجل استشاط غضبا وطرد زوجته من المنزل وعاقب أولاده وراح وراء الكنفوشيوسي وهو يحمل منجلا بيده. أمسكه أهل القرية وسألوه عن مصابه فقال: كنت في الماضي أنسى، كنت صافيا وحر غير عابئ بوجود العدم والسماء والأرض، أما الآن فقد أصبحت واعيا كل هذه العقود من الربح والخسارة وحب وبغض. أصبحت موجودا في غموض ما بعده غموض. الآن أخاف من المستقبل، فهل سأحظى بلحظة نسيان واحدة بعد الآن؟”
* * *
هواجس السفر الليلي
تغادر المكان أو البلاد ، من فندق أو منزل بإتجاه المطار لتنطلق بك طائرة الليل الموغل في هواجسه وأمطاره ويأسه المضني من هذا التكرار للرحيل الذي لا يستقر على حال ، و لن يستقر يقينا إلا عبر صرامة النهاية الحتمية التي تضع الخاتمة لهذا المشهد المسرحي المتناسل والمفتوح على الوقائع والإحتمالات .( طيران منتصف الليل ) رواية سانت إكسوبري الذي كانت خاتمته ، الإختفاء والتلاشي مع طائرته في خضم المحيطات والآماد.نهاية فيها من القسوة والعذوبة العنصر الإستثنائي حيث لا أثر يتركه المترحل المغامر غبر مفازات الفضاء . لا شئ يثقل على الأحياء الباحثين عن الأسباب والتفاصيل المثيرة . أتذكر إكسوبري ، كإشارة إحتفاء إلي هذا النوع من النهايات المأساوية ، التي لا ترفع المأساة كشعار وإعلان وإنما ممارسة وجودية في الحدود القصوى.
***
تغادر المكان ، الليل والمطر ، الأصدقاء على عادة تسميتهم وذكريات عابرة كغيرها .في كل رحلة تغالب وتكابد كي تستطيع عبور المسافة ، بين المكانين العابرين . تتذكر ( كل رحلة إنتصار )لكن ذلك لتحميس الذات وتنشيطها .لم يعد فرح الإكتشاف ، لم يعد الخارج يعطي الكثير بل لم يعد إلا أقل القليل إن لم تكن القسوة في كمال بهائها . . الداخل ربما في ألق عزلته حتى في الليالي الموحشة المنذرة بالخطر , يمكن للكائن الفرد أن ينتظر بعض الإمداد الحيوي للروح المهددة باليباس. أن ينتظر يد الرحمة تمتد من أقاصي الذات التي لا توغل في عزلتها وظلالها الشفيفة إلا لتعانق الرؤى والكون الشاسع بمخلوقاته أحياءاً وأمواتاً وطبيعته المشعة دومآ بالعزاء والحضور الجمالي الفريد .. ربما إنتصار الرحلة بهذا المعنى ينبلج من تخوم الجغرافيا الداخلية الروحية للكائن وليس العكس ، إذ ليس المكان أو الجغرافيا الخارجية إلا وسيلة وأداة . الداخل هو مربط الفرس في هذا السياق , فرس الروح والحقيقة الهاربة على الدوام..لكن ماذا لو لجئنا إلى عيادة محيي الدين بن عربي , وهي أكثر من عيادة بل مستشفى كوني يغص بالجرحى والمصابين والبروق الحدسية ، والذي أبدع ضمن محيطه المعرفي الشاسع عبر الأجيال ، أبدع ( فن الأمكنة ) حسب محمد المصباحي . مراتبها ودرجات الأحاسيس تجاهها ، إذ أعطى ما يشبه الكمال لموطنة الأندلسي الأول ، وهناك شروحات وافية لهذه المراتبية في ( الفتوحات المكية ) التي أنجزها في المكان الأكثر قداسة مكة الكرمة . والمكان لذاته وسيلة للراحة من تعب الطريق ، والإبحار في رحلته الضاربة في الأعماق والأقاصي .. الصوفي الكبير الذي فتح التصوف على الفلسفة ونقله نوعياً من الدروشة و(الشطح )المحدود ، ينطلق من إيمان وأحاسيس شبه واضحة في الأماكن والأفكار ..الكائن المعاصر الذي تشظت رؤيته وأماكنه وهذه الأخيرة ربما إستحالت إلى التشابه والتماثل وإلى الغياب .بحكم آليات التوحيد القسري الذي تمليه قيم حضارة كونية مهيمنة .. صارت مشاعر الإنسان ( الحديث )أو( المعاصر )قلقة حتى إنعدام الخيار الجمالي المنحاز للأمكنة والجغرافيات . صار الأدب وهو يؤشر إلى أعماقه ومشاعره في الأغلب يميل نحو برودة الحياد والموضوعية . هنا يحتدم التناقض والتشظي . كيف تكون العواطف والمشاعر موضوعية ؟ .. لكن مهما كانت الفروقات وهي كثيرة فمقولة إبن عربي من البداهة بمكان(المكان رحمة حيث كان لأن فيه إستقرار الأجسام من تعب الإنتقال )لا نفقد الأمل ، نظل نحلم بمثل هذا المكان إذ ليس تحقق هذه ( الرحمة ) فمن الممكن أن تتحول إلى نقمة وإضطراب أفدح من قلق الطريق ومتاهاتها .
***
نغادر المكان من فندق أو منزل تجاه المطار أو محطة القطارات في الصباح الباكر أو في منتصف الليل ، نكابد جبل الإحباط والألم ، نتسلق تضاريسه الوعرة ونعد النفس بوعود ومفاجآت حتى لو تحققت ، لا تخرج عن نمط العادة والرتابة . ونحلم بمكان الرحمة المستقر ، بإنتصار الرحلة .لكننا نعود للقول ، أي رحلة وأي إنتصار ؟ شيئ ما يلوح من جهة غامضة ، بإنتظار يد الرأفة في خضم الطريق .ومن غير أن يكون الفرد منا ذلك( العارف )أو المريد والسالك هكذا ..فقط وربما ( الطريق) هي نقطة الوصول ، العبور في حد ذاته من غير أمل في الوصول إلى الهدف المنشود .فيتلاشي المكان في سراب الطريق ، تبتلعه متاهة الميناتور ) كمستقر رمزي وواقعي أخير .
* * *
حذاء سندريلا
تحدثوا كثيراً حول (أنا) الشاعر خاصةً، وكتبوا قديماً وحديثاً، أريق حبر وتبارت أقلام في تناول هذه الظاهرة الأنويّة، في أحقيتها وشطحها وفي اختراقها لمألوف التواضع وقيمه.
لكن ما لم يختلفوا عليه، هو مكانة الشاعر أو الكاتب في زمنه والأزمنة الأخرى، لم يختلفوا في أهميّة إنجازه الإبداعي وطليعيّته وعلامته الفارقة.
هكذا منذ المتنبي وأبوالعلاء المعري وأبوتمام وقبلهم، وحتى نيتشه وفيكتو هيجو ، وأدونيس الذي قال أنا نرجسيّ هذا الزمان و… الخ من كتاب الحداثة بمختلف مشاربهم وأمزجتهم وأعمارهم.
هناك (أنا) ، المبدع الذي تنمّ عن حالته الكيانيّة الروحيّة، عن ترفعه في مواجهة قبح العالم وانحطاطه.
أنا، المبدع المتفجرة من فضاء عزلته الحزينة، لكن المحصّنة، المشفوعة بمكانة إبداعية؛ وإن اختلف النقاد والقراء في التعاطي والتقييم، فهذا الخلاف لا يزيده إلا ألقاً وتوهجاً.
الأنا، الممسكة بجمرة بحثها وتميّزها تجاه التهميش الذي تحاول تكريسه مؤسسة الذوق السائدة في كل الأرجاء والأزمان، وإن بدرجات متفاوتة.
* * *
بهذا المعنى أصبحت هذه (الأنويّة) المذموم ظاهرها ومفهوم استخدامها السائد، صفة عضويّة أصيلة في الشاعر والمثقف، وضروريّة، على عكس “التواضع” الزائف المتكلف الذي يطمح صاحبه الى إرضاء الجميع بالطالح والصالح، إن وُجد هذا الأخير، كغاية وهدف.
لكن تلك الأنويّة الخلاّقة تنزل أحياناً كثيرة من عليائها وأَنَفتها، إلى الأسافل والحضيض، حين يتقمصها الأدعياء والطفيليون. وأولئك الذين لم يعرف لهم تاريخ الإبداع أي مأثرة كتابية على صعيد الأدب، وأي موقف إنساني على صعيد الحياة.
ربما كتبوا بضعة “نصوص” أو “قصائد” في مطلع العمر المراهق المنقوع في الترف الجاهز، لم تكن إلا ظلاً باهتاً لأسماء شكلّت حيزاً من نسيج مرحلة بعينها… وربما استمرّوا في الكتابة على المنوال نفسه، إذ لا يمكن أن يحدث تغير وتطور، في غياب الموهبة والتجربة الحقيقيّتين.
رغم هذه المسيرة البائسة، ما زال يسكنهم وهم الريادة والكشف والإشراق وفي ضوء هذا الوهم، كحالة مرَضيّة بالمعنى السيئ للكلمة، والبالغ الخفة والإدعاء، يتحوّل ذلك النوع من (الأنويّة) السامية إلى مهزلة، هي جزء من مساخر المشهد الذي نقرأ ونشاهد ونعيش.
* * *
في مثل هذه المشهد الذي تغيب عنه المعايير والقيم الفنيّة والأخلاقية، يسهل أن يصبح كل شيء نهباً لهذا الصنف من الأدعياء وتتشابه أبقار الليل. الظلام في هذه الحالة يحتكر المعنى ويسوّقه وفق سطوته الماديّة والإعلاميّة.
هذا الصنف يمكنه أن يدعي ويحتكر الحقيقة الإبداعيّة ويوزعها على مسطرة مزاجه وهواه. ولا شيء أجلى وضوحاً من هذا الاحتكار الذي جلبه من عالم المال والمضاربات، قرين الجهل والأنا السطحيّة التي بداهة، تتناقض وتتجافى على طول الخط وعرضه، تلك الأنا، المبدعة التي أشرنا الى بعض صفاتها، والتي لا تنفصل عن التواضع بالمعنى الخلاّق: الاثنان ينتميان الى سلالة القيم النبيلة.
* * *
هذا الصنف النافذ، ونفوذه هنا من علامات انحدار التاريخ، يجافي حياة وسلوكا، في العمق، أي منحى روحي وأخلاقي مختلف، فهو مندمج ومتماه حتى العظم، لهذا الاندفاع الهمجي الاستغلالي الإستهلاكي، الذي يجرف المجتمع، وإن حاول أن يرتدي لباساً آخر، هو الثري المنعّم، كأن يقدم نفسه بملابس الفقراء وعاداتهم. هذه التفصيلة السلوكيّة تحمل بعدها الرمزيّ في منظومة الدجل الشاملة.
وهو متمسك بثقافة السماع والإشاعة مقابل ثقافة التأمل والإبداع. ولا باس أن يسحب معه الصوفيّة والسورياليّة فكل شيء أضحى مستباحاً لهذا الصنف الذي هو ليس عجيباً ولا غريباً. وإنما جزء من صيرورة القيم وتحولاتها..
صاحب مؤسسات، ويلعن المؤسسات الرسميّة ويدين مجرد التعامل معها، صاحب تاريخ يغالي في نضاليته حتى التطرف، سارداً مواقف بطوليّة كأنه يتحدث إلى موتى أو أطفال حضانة لن يتاح لهم مغادرة تلك الحضانة يوماً من الأيام.. هو الذي شرّد أفراداً وعائلات، وقعت في دائرة نفوذه، في المغتربات والأصقاع.
وهو في مطلق الأحوال ليس نداً ثقافياً وإن حاول افتعال المعارك والاتهامات كمبتغى وهدف لتكريس ريادته المتوهَّمة. فهذا “الجنس اللئيم من الأقزام” كما قال نيتشه، من النافل أن نشخّص لديه عنصراً معرفياً يستحق السّجال والنقاش “فثقافته” التي هي من غير ملمح هوية ما، ليست تقليديّة ولا حديثة ويمكنها أن تكون الاثنين معا، ليس كمعطى معرفي، وإنما حسب ما تقتضيه الحالة الانتهازيّة والمقام، فهي عائمة على سطح الأشياء، لكن عومانها لا يمنعها من قدرة خاصة على ممارسة الإفساد والتدمير على الكثير من الأقلام الواعدة.
وهو في نهاية المطاف وبدايته أقرب الى مزرعة لتفريخ أنواع جديدة من العقد النفسية والميكروبات السامة.
هذه بعض صفات تشبه ماركة حذاء سندريلا الخرافي، من جهة التطابق الحتمي. وإن ثمة ظلم لحذاء سندريلا الأنيق فنقدم اعتذارنا سلفاً..
وإن لزم الأمر سنقدم صفات ووقائع كشهادة تتعلق بالأمانة المعرفيّة والتاريخ الذي يسومه الهوان كل سائم ومدعٍ، على هذا النوع من ماركات أحذية زماننا الجميل.
 
* * *
يد المحبّة
في أزمنة الانحطاط والزحف الإعلامي الكاسر، الذي جاء ليكرّس تلك الأزمنة وقيمها الزائفة وجهلها، والتي هي أكثر فتكاً ومحاولة استئصال لما تبقى من أبعاد جماليّة وإنسانيّة على هذه الأرض التي تحاصرها الحروب والأوبئة من كل جهة وصوب.
في هذا السياق ، الظلامي يكثر أدعياء الثقافة ومتطفلّوها، فيالق جهل ورذيلة وانعدام ضمير، ويطفح المستنقع بعَفَنه وضَغائنه على شكل كتابة تتلقفها بشهية مفتوحة منابر بعينها، أصبحت مرتعاً للارتزاق الثقافي والنَّصب بكل أنواعه وأشكاله .
في مثل هذا المشهد الذي أصبح نمطّيا، ينعدم أي حوار معرفي وأخلاقي، فأي إنسان لديه بعض احترام لنفسه، ولمفهوم الثقافة والمعرفة إلا أن يلوذ بالصمت وعمل ما يمكن عمله في هذه البقعة المحاصرة.
وفي البقعة نفسها ، هذه المساحة التي لم يأت عليها الجفاف، ولن يأت مهما تكدّست أسلحة الفساد وتشعّبت، طالما هناك نبض روح وحياة لن تعدمها الأرض حتى بعد خسوفها … في المساحة الضيقة الواسعة، سعة الروح الحرّة، المحاصرة (بين هلاكين) يعود ذلك الحوار المعرفي القرائي البسيط والخلاق بين عناصر وحيوات، لا تستطيع الحياة والتنفّس خارج خضرة الروح هذه، أو خارج الفسحة المضيئة للفكر والإبداع عبر أجيال الماضي البشري، وعبر هذا الحاضر الذي يوشك على الموت اختناقاً وقهراً، لولا هذه الفسحة التي يتيحها الخيال والحلم ، هذه اليد العاشقة الحنونة في زمن القسوة والانهيار الشامل..
كل صباح حين نصحوا من نوم لا شك ، مليء بالمغارات والكوابيس والأشباح العنيفة، نصحوا على كثير من انعدام توازن ودوخة رأس، نحاول لملمة الأشلاء المتناثرة، على مسافة دنيا العرب والعالم ، عبر اللجوء الى قراءة من نحب والكتابة، إلى سموّ الموسيقى والصداقة أو ما تبقى منها ، لنعاود صياغة يومنا بكلفة ألم وقهر أقل، أو هكذا يحدونا الحلم والتفكير.
في قلب هذا المشهد نلجأ إلى هذه المساحة المحاصرة أكثر مما كانت في الماضي البعيد، رغم سيادة المفهوم الحديث الذي يدّعى عكس ذلك ، ونمد يد المصافحة للصداقة المعرفيّة والشعريّة ..
نمدُّ يد المصافحة كما الغريق في حفرته المائية المتلاطمة، لكن ليس إلى قشّة، وإنما إلى خشبة خلاصٍ ومحبّة، أو شيء في هذا المنحنى الروحي والأخلاقي.
وهذا ربما الرد الأقوى والممكن على أزمنة الانحطاط العربيّة وغير العربيّة.
* * *
فرقاء الحروب
أتذكر ، حين كنت في باريس ، منذ سنوات ، أقيمت ندوة للشاعر المعروف عبدالوهاب البياتي ، الزائر للعاصمة الفرنسية ..
كان مكان الندوة قاعة في (افينوهوش) أحد الشوارع الفخمة في الحي السادس عشر ، الذي يقطنه غالباً أثرياء العالم والدبلوماسيون .
ذهبت صحبة صحفي مصري ، . وكان الحضور يطغى عليه الطابع السياسي والرسمي .. ونفر قليل من أهل الشعر والصحافة
حين دخلت مع الصديق المصري ، محاولاً اختراق الصفوف الأنيقه لذلك الحضور اللاثقافي واللاإبداعي حين علق صاحبي ( يا سيف بيجيبوا الصحة دي كلها منين؟)
هذه العبارة أو التعليق الطريف ، دائما تحضرني وتلح في الحضور ، كلما شاهدت جمعا من الساسة والدبلوماسيين العرب ، يطلون غالبا من الشاشات الصغيرة والكبيرة والمتوسطة ، ومن غير حاجة إلى شاشات ووسائط هم المتواجدون والمنتشرون في كل الأمكنة والذكريات والأحلام ، يحتلون برهة الزمن العربي الذي نعيش ونشاهد ..
نشاهدهم هكذا ، حتى عبر المشاهد الاكثر كارثية ودمارا ، وفي أركان ذلك المشهد وزواياه المعتمة ، بتلك الصحة الفائضة وذلك اللمعان الذي أدهش الصديق المصري في الشارع الفرنسي الراقي … بِدل فخمة منتقاة من أرقى بيوتات الأزياء الاوروبية وكذلك الأصباغ والعطور وكامل عدة (السربال) .
وجوه ضاحكة وسعيدة في خضم المشهد القيامي ، العراق فلسطين لبنان ليست إلا نماذجه الطليعية .
أسارع القول منعا حتى للالتباس الساذج ، أن تلك السعادة الغامرة في لقطة الساسة العرب وجوارهم الاقليمي في خضم ذلك المشهد المأساوي العام ، ليس مصدرها الإيمان والصلابة في وجه المحن والأزمات كما في بيت المتنبي الشهير في سيف الدولة (تمر بك الابطال … الخ) وإنما بالنسبة لهم أن تلك الأوضاع التي أخرجت شعوب العرب من حركة التاريخ ، ليست إلا فرجة ونزهة سياحية ومالية يجب التعامل معها واستثمارها على هذا النحو المفيد ..
فهم مستثمرو حروب وتجار شعارات وأزمات بامتياز .
من نافل القول أن يذهب التفكير والتحليل ، إلى غير ذلك كأن يدرج ضمن أنساق وخطط واحتمالات ، إلا ما يصب في هذا الاتجاه ..
وفي ضوء هذا ، ليس من باب الإشاعة والمبالغة ، ان فرقاء الحروب في أكثر من بلد عربي يتقاتلون في النهار ويسهرون معاً في الليل ليحسبوا بَروِّية وصفاء مزاج ، حسابات الأرباح والخسائر ، وما يعود من نفع على العائلة والأولاد الذين هم بالطبع خارج رحى الدماء المسفوكة والخراب …
الذين هم بالطبع بعيدا في مناطق آمنة وسعيدة .
عبارة الصديق المصري صالحة على هذا الطراز من الساسة في كل مكان . من قاعات أوروبا الفخمة حتى المناطق العربية المنكوبة ..
وبالمناسبة إن ندوة الشاعر البياتي رحمه الله ، كان نشيدها حول ثورة الشعوب وأحلام المستقبل ، مما يجعل منها نقطة انطلاق صالحة لمقاربة الاجتماع السياسي العربي دائما .
* * *
حوار طرشان
طاولات مستديرة وأخرى مستطيلة وعلى كافة القياسات والمقاييس، يجلس المتحاورون في الشؤون البشرية المختلفة. من حوار الحضارات والثقافات والأديان الذي أصبح في البرهة الراهنة العنوان الأكثر بروزاً بين الشرق والغرب وبين أطراف الشرق نفسه وأقرانه الآخرين وبين هذا وذاك.. كأنما بعد أن اتسعت المسافات والفجوات بين الأطراف والجهات البشريّة في مختلف أنحاء هذا الكوكب المنتحب، وبلغت حدود الانفجار والحروب والقتل ومستوى الإبادات العشوائيّة كفعل متعمد أو رد فعل يأتي على وتائر أكثر فتكاً وعنفاً.
كأنما فجأة اكتشف العالم الحاجة الملحة الى “الحوار” وبطبيعة الحال أن المعرفة المتبادلة بين الشعوب والجماعات تقلل من احتمالات الحروب والكراهيّة التي يمليها سوء التفاهم والجهل بالآخر أي آخر مختلف ، حيث يتم إصباغ كل صفات الشر والهمجيّة عليه، مما يجعل التصفية اللاحقة امتداداً منطقياً وطبيعياً.
لكن مع الأسف البليغ أن الملاحظ مع كل هذه الكثافة في طاولات الحوار وعناوينها الإنسانية، والأخلاقيّة، ليس ثمة ما يتغير وينعكس على وعي وسلوك الجماعات المتنازعة والمختلفة، بل تزداد الفجوات والشروخ وتزدهر الكراهيات والاحتراب، وكأنما هذه العناوين والطاولات ليست إلا تزجية فراغ لمتحاورين يلتقون من بلدان مختلفة ومتباعدة.
كأنما الذوات البشريّة بلغت مبلغاً من التشظي وشقة الخلاف وأوهامه الدينيّة ، الأيديولوجيّة والتاريخية، لا يمكن رأب صدْعه. أو أن هذا النوع من أساليب المعالجة والذي يتسم كثيراً منه بما يشبه الدوران الديماغوجي المنتفخ الأوداج للكلام وغياب الصدق والمعرفة الحقيقيّة.
هل يمكن فتح كؤّة يدخل منها خيط ضوء في هذه الجدران المتعاظمة الصماء، على رغم العالم الذي أضحى قرية أو عزبة بفعل تطور التكنولوجيا الاتصالية وحقائقها واستيهاماتها؟
 
* * *
مزرعة الكراهية
لغة الطفولة ومناخاتها ومفرداتها، ربما هي القادرة على إنقاذ ما تبقى من مستنقع الكراهية الكبير، الذي تتلاطم مياهه وهوامه السوداء، بطوفانات تكاد تغرق العالم وما تبقى من مكتسباته القيميّة والروحيّة.
كأنما الكراهية والحقد والضغينة هي دين العالم الجديد، مهما تعددت الأقنعة والادعاءات، الجامع المشترك لبشرية الكوكب الهرم الذي تفترسه الهواجس والأوهام من كل حدب وصوب، خاصة في المجتمعات التي تشهد نوعا خاصا من تحولات اجتماعية وثقافية، تجعلها أكثر في مرمى عواصف الحقد والضغينة وأوهام التنافس الهمجي المنفلت من عقال أي معيار حضاري وأخلاقي.
كأنما الكائن في هذه الحالة يريد الاستحواذ على كل شيء، مادة وقيماً رمزية، وسلب قرينه أو هكذا يفترض، في المواطنة والإرث والدبيب الروتيني على هذه الأرض المشتركة. تنتفي قيم التسامح والتضامن التلقائية المتوارثة رغم التشدق بعكس ذلك، ويرمى بها في أقرب صندوق للقمامة.
أمام هذا الوعي الإقصائي المدمر في نهاية المطاف، لجميع الأطراف و”الفرقاء”.
أن يتوهم الكائن، أي كائن بأن له الحق في الاستحواذ والنفوذ والهيمنة، من غير خلفيات أو قنوات شرعية تؤهله، من غير معايير يحتكم إليها، ومن غير قدرات، فتلك هي مصيبة المصائب، التي ستقود إلى هاويات وإنهيارات لا حصر لها. الأعمال الدموية والعسكرية واحدة من مظاهرها.
هذا الإحساس، مجرد الإحساس بهذا الحق المتوهم، والذي يقابله إحساس يتطور ويبلغ أقصاه بالظلم والغبن، في شعوره بأن الآخر يبغي سحق أي حيز مستحق له على أرض الواقع والخيال.
تبني هذا الوهم القاتل بين أبناء البلد والمكان الواحد، بداية الانجراف الى الهاوية. تحاول القوانين والدساتير ضبط هذا الاندفاع الهمجي، وتنجح في لجم بعض نزوعه الإستئصالي، لكن المصيبة في تبني هذا الوهم او هذا الوعي نفسه، في تبني هكذا قناعة، في محاولة احتكار الهواء والرزق والرمز، رغم كل الأطر والقنوات التي تحاول تسويق قيم الفضيلة والتسامح وتذكير البشر ليل نهار، بالموت والفناء وعقاب الآخرة. يظل هذا الوعي وتفريعاته علامة الرعب الأكيدة.
* * *
ربما يحاول الفرد أن يهرب من فيضان هذا المستنقع الكوني، المحلي، للبغضاء والكراهية، يحاول الاحتماء بالطبيعة والفن والإرث الروحي ليطفئ نيران ردود الأفعال في أعماقه، التي تولدها مسارات الحياة اليومية، وألا ينجر الى هكذا معارك، وهمية بشعة، لا قيمة لها.، باطل الأباطيل وقبض الريح كما ورد في العهد القديم.
يحاول أن يحتمي بالطفولة وطقوس البراءة التي توشك على الغروب النهائي، أمام هذا الزحف الكاسح.
في تلك البقاع القصية من الذاكرة والخيال، حين كانت الأشياء والكائنات تغتسل بندى الصباحات التي تسقع في حقولها الديكة وتستيقظ الطيور.
حين لم يكن ذلك الفصل القاسي بين الطبيعة والبشر، فكانت الحيوات تتمازج بزهو الطفولة الأولى للزمان.
من يستطيع أن يتذكر “مجنون قريته” ، الذي يتنزه وسط هذيان الجبال، الخالي من كل تلك الأهداف والهواجس العدوانية، يذرع القرية جيئة وذهابا، متمتما بحديث يبدو غامضا “للعقلاء” والمتزنين لأنه يخرق اتزانهم المفتعل، ويقذف عليهم أسئلة الحكمة الحرة والجنون؟
هل هذا النوع من التذكر الماضوي القروي، ضرباً من العودة الرومانسية الى المنابت والجذور؟
ولماذا لا تكون كذلك طالما انها لحظة انعتاق من وطأة الراهن بشخوصه وأكاذيبه وتقنياته المدمرة للأعصاب.
 
* * *
الشيخ والبحر
أقرأ، رواية (همنجواي) الشهيرة (الشيخ والبحر) (أو العجوز والبحر) وفق ترجمات عربية سابقة، أستعيد متعة السرد وغنى التجربة الحياتية والفنيّة لدى واحد ممن شكلوا منعطف الفن الروائي في القرن العشرين، ودمجوا على نحو خلاّق واستثنائي بين الحياة وتحولاتها الحسيّة التجربيّة الحادة والمغامرة بالمعنى العميق، وليس الشعاري اللفظي، وبين الأدب، فكان هذا الصنيع الجمالي الفريد..
اذا كانت هذه الرواية القصيرة هي أكثر شهرة بين رواياته الكثيرة التي تنطلق من أماكن وجغرافيات متعينّة، خاض الروائي غمارها وأقام فيها بشغف حياة، على شفرة الموت، حيث الحروب الطاحنة والأوبئة والخطر المحدق من كل الجهات… كل ذلك زوّد الروائي المترحّل بحب واندفاع أكبر للحياة وملذاتها الحسيّة والروحيّة..
فكأنما هذا الشعور الملح بالعبور والرحيل يجعل الكاتب (يأكل الحياة) على غرار عبارة (سلفادور دالي) في أكل الجَمال..
(الشيخ والبحر) تنطلق من (هافانا) بكوبا هذه هي جغرافيتها البحريّة مثلما كانت (ثلوج كلمنجارو) تنطلق من أفريقيا.. ذلك الصياد المسّن الذي يصارع الأقدار العاتية وأمواج المحيط ، ضعف الجسد وبداية تدهوره، بتلك الإرادة التي كأنما قُدّت من صخر وفولاذ..
يعتريه أوقاتاً كثيرة اليأس والضعف. سوء الطالع الذي يفترسه مثل ظل قتلة غامضين، مثل تلك القطعان من أسماك القرش التي تأتي إليه وحدانا وجماعات، بعد أن ظفر بطريدته وحظه الوفير في الصيد والحياة.
انه يقاوم بقوة الأمل ويأسه، الصيّاد الشيخ يدافع عن حقه في الحياة والوجود، لكن تلك المفترسات الضاريّة لا تترك له مجالاً وتسلخ سمكته الكبيرة حتى العظم والنخاع.. لا يستسلم سيحاول مرة أخرى ما دام على قيد الحياة.
تستطيع (الظروف)، أن تسحق وتدمر، لكنها لا تستطيع هزيمة روحه وسعيه الإنساني والجمالي.
قصة طويلة أو رواية قصيرة حسب تعبير النقاد، واقعية حد الرمز الشفيف العميق الغور، ورمزيّة حد الواقع العاري والصريح.. ذلك الحوار البالغ الرهافة بين الصياد والسمكة التي نازلته بنبل وجمال وكبرياء تمنى لو لم يكن الطرف المعتدي، لكن هذا هو قدره.. أو ذلك الحوار، في وحشة المحيط الجاثمة مع الطائر الصغير الذي يحطّ متعباً على قارب الصياد. ما الذي أتى به بين ضواري الليل والمحيط والبشر؟
(الشيخ والبحر) تقطير لروح الكاتب المنتحر الذي قاوم العدَم والموت بالمغامرة والكتابة والحياة، لكنه وقع آخر المطاف بين أشداق حوت العدم الأسطوري وأقراشه الكثيرة، وإن بإرادته الحرة!
أقرأ رواية (الشيخ والبحر) من جديد بتوقيع الأديب المعجمي، والمترجم العراقي علي القاسمي، وهو إذ يثني على من سبقوه يفند الترجمات السابقة في مقالة طويلة حول رؤيته ومفهومه لهذا المجال.
لكني كقارئ بدت لي هذه الترجمة أكثر قرباً من ذائقتي واستقبالي لنص بهذا المستوى من الخطورة، وأكثر دقة وبهاءً.
* * *
طاعون الحروب
في رواية (الطاعون) يستيقظ “بطل” الرواية ، أو بالأحرى إحدى الشخصيات الرئيسية ، في صباح من صباحات مدينة (وهران) الجزائرية ، حين كانت جزءاً من الجمهورية الفرنسية ، والمنتظمة في عقد يتلألأ بجمال المتوسط الشديد الزرقة ، مع مدنهِ البحرية الأخرى ، طنجة ، الاسكندرية ، اللاذقية ….الخ.
– حين يستيقظ متوجها كالعادة إلى مكتبه حيث يعمل ، يتعثر في طريقه بفأر ميت :
كانت تلك العلامة الأولى لزحف الوباء واكتساحه المدينة التي تختزل العالم وتجسده لحظة المحنة والشروع في التحلل والانهيار ، أمام هذا القادم الذي سيفتك بحياة البشر والطبيعة ويحيلها إلى حطام ..
في مفتتح رواية (كافكا) المسخ يستيقظ (سامسا) من نومه ليجد نفسه وقد تحول إلى صرصار او حشرةً . لقد فقد آدميته وإنسانيته ودخل طوراً آخر مختلفاً ، يعيش الحياة بعينيْ مسخ وهواجس حشرة كانت ذات زمن كائناً بشرياً كامل الصفات والملامح بين بني جنسه وبيئته الجغرافية والثقافية ..
وفي قصة أخرى (لكافكا) يقول القط للفأرة وهو يمزقها بين مخالبهِ (لماذا لم تغيري إتجاهك ؟)
لدى (كافكا) يتحول الواقع إلى رمز وإستعارة أما (كامو) صاحب الغريب والطاعون ، فيلج فضاءاً آخر على صعيد التقنية الفنية المنبثقه من طبيعة وعيه بالوجود والعالم ..
الطاعون ليس ذاك المرض الذي يشكل وقوعه في بقعة معينه ما يشبه الإبادة الجماعية ، فبجانب ذلك الواقع المادي والحسي ، يتخذ في العمق أبعاد الافتراس الروحي ،العاطفي ، وما يربط البشر من وشائج وصلات تشكل جوهر الإنسانية وفحواحها .
يختار الروائي الفرنسي لحظة التوتر الكبرى في المدينة الجميلة ، لحظة المأساة في أكثر وجوهها حدة ليمضي في رحلة بحث وإستقصاء في تضاريس النفس البشرية معرياً ، كوامنها الخبيئة في سطوع الكارثة .
(كامو) أقرب في تحويل الرمز إلى واقع نعيش تفاصيله اليومية وأبعاده ، كأنما حمولة الرائي في هذا المقام ، لا تحتمل استعارة ومشتقات رمزية أقرب إلى الذهنية ، وإنما تنفجر على هذا النحو المتشظي في المبنى الروائي العام والشخوص وأقاصيصها الفرعية التي يزخر بها العمل .
مثل تلك الحكاية التي يرويها عن رجل كهل عاطل ، هوايته الوحيدة إغراء القطط كي تأتي إلى نافذة منزله ، وحين تفعل ما يريد يبصق عليها ..
هكذا كل يوم على هذا الحال ، وحين ينتشر الطاعون وتلاقي القطط حتفها ، يصاب بحزن شديد ويموت هو الآخر .
لقد فقد مبرر وجوده ، بفقدانه هذه الممارسة أو الهواية اليومية العبثيّة ، ولا يستطيع التعايش من غير ضحية يمارس عليها الإذلال والبصاق.
***
شخصيات كثيرة ومتنوعه تزخر بها الرواية كما الواقع الاجتماعي ، من الطبيب (ريو) وزوجته ، وهو يحاول علاج المصابين ، إلى الشخصيات الأخرى تكشف محنة المرض المدلهمة بالموت المحدق ، كل أقنعتها وخباياها لتتواجه بالقسوة والحنان ، مع مصائرها التي ستقررها (صدفة) الموت أو البقاء على شفير حياة محتملة ..
في لجة هذه الاحتمالات المتناقضة والعبثية تنسج الرواية خيوطها ومناخاتها كما تنسج الحروب التي نعيش ونشاهد ، أشراكها ومصائرها .
هذا الاختبار الأكثر قسوة للنفس وامتحاناً للوعي وما تبقى من قيم تطوح بها الحروب إلى هاوية الانفجار ، انفجار كل شيء ، الدماء والأخلاق ، القرابات والأرواح ، والأديان ، كلها تتحول إلى قربان لآلهة الحرب الغامضة ، الواضحة حيث ،
(لا نسب اليوم ولا خلة اتسّع الخرق على الراقعِ)
فلا حرمة لأي شيء دينيّ غيبي ،بشري وضعي ، أم أب ، أخ أخت ، طفل ، زوجة ، حبيبة . استباحة لا يحدها سقف ولا حدود ، رغم غابة القوانين المعاصرة ودعاوتها.
كل شيء تمحقهُ آلة العنف الجهنمية المدعومة بأفضل ثمار العقلانية الحديثة :
ترى أين وصلت رؤيا الكارثة في طاعون (كامو) ومسوخات كافكا والاخرين ، أمام واقع الاوبئة والحروب القائمة ؟!
* * *
 
إرث العائلة
على غير هدى، كان يتخبّط بين البرك والمستنقعات، في ضواحي النخيل الآسنة.
يبدو أن فصل الصيف العاصف بريح الغربيّ قد أشرف على الأفول، مما يترك لخريف الموز وأشجار البردي، المتساقط الأوراق، مخلفاً ذلك الفراغ الكئيب الذي تتركه عادة، الفصول والبشر في رحيلهم الذي لا ينقطع على مرّ الأزمان.
(أليست الفصول ومظاهرها تعطي فكرة عن عبثية الطبيعة والحياة التي لا تستطيع إلا تكرار نفسها؟)
على غير هدى كان يتخبط، ثوراً وحشيا، في عَماء المكان، في يده يلمع السكين، أو نصل خنجر يلمع في مختلف الجهات، لا أكاد أتبيّن على نحو واضح؛ أكان سكيناً أم خنجراً، أم ساطور جزار؟
كانت آلة قتل حادّة ومضيئة تتدلىّ من يده الهائجة بالشكيمة والغضب..
متعثراً بين البرك الآسنة والأوراق الجافّة، باحثاً عن طريدته في منحدرات النوم واليقظة.
ليست هناك أهداف أو هدف واضح للقاتل ولا لجريمة المقتول، والذنب الذي ارتكبه جرّاء ذلك. شبحٌ يطارد آخر وسط ذلك الديكور الهشّ الذي خلّفه الصيف لخريف سريع يلمع بين أشجاره نصلٌ أكثر سرعة في مضائه وشدّته التي تخطف البصر وتجعل البدن يرتجف صريعاً قبل أن يصل إليه.. ربما ورثه القاتل عن أبيه، عن جدّه، فصار إرث العائلة التي ربما، ينوي القاتل أن يصفي ضحيّته بإسم مجدها وشرفها المهدور بين القبائل والشعوب. وربما أن القاتل لا يملك مثل هذا الدافع الجماعي لنواياه العدائيّة، فكان دافعه مطلق شخص للقتل. ولا يدعي أي شيء خارج هذا النزوع المحتدم داخله، كأن يلصقه بصوت الجماعة المهدورة كرامتها، فيكون معبّراً عن هدف يخرجه من الحيّز الشخصي إلى الجماعي وربما القومي والإنساني العام، الذي لو قُدرت له الدعاية والنشيد، لدخل حيّز، التقديس والخلود..
في يده الخنجر اللامع، بلطة الجزّار الذي يحصد مئات الرؤوس يوميّاً، من غير أن يرفّ له جفنُ رأفةٍ بل بلذة شبقيّة عارمة..
قبل أن تنزل بلطة الجزّار على الرأس الغارق في مياه النوم وأوراق الخريف، كانت صرخة تنفجر لتطفو فوق المياه التي يسبح على موجها جسده المثقل بالهواجس والذكريات.
* * *
 
 
خريف عابر
المطر ، نعمة المطر التي تنشر ظلال رأفتها على البشر والحجر والجروح الطرية النازفة التي اقترفها جلادون وقتلة ، أصدقاء وأُخوة وأبناء عمومة..
المطر المتحدر من شِعاب وقِرب جبلية ، صفاء النبع في مرآة الروح والوجوه المتلألئة لفتيات ينشدن فتنة الورد المتفتح في صباح الخراب …
يتدفق المطر على المدينة التي دمرتها الكراهيات والحروب ، وأحيتها الأغاني والأحلام الشعرية رغم انكسارها ، وأحيتها انتفاضة الرماد .. فينيق الرماد .. سمندر النار .
يتدفق المطر قبل بزوغ فجر المدينة ، بطلائعه البحرية يسبقه قصف الرعود والبروق الهائجة ، وحوشاً حنونة انطلقت من عقالها وهاهي تنشر غلالات وَدْقها والحنين .
يسوق المطر قطعانه البهيّة نحو سفوح النخيل المتمايل على الشطوط ، وذاك المتمايل حد الإمحاء في الذاكرة (كان في الماضي يحلم بلمس البروق وقضم الرعود) وعلى الجبال الأرزية المليئة بشجر الحور والبلوط والكستناء سادرةً في منلوج هذيانها الطويل ..
على الارض العطشى والقلوب الكليمة كأنما الرأفة ، كأنما حنان الآلهة بعد غضب طويل ..
البحر يطبق هديره المحب ويلتحم بطلائع الرعد : نشيد أزل يغمر الكينونة بأكملها ، مجبراً أفاعي الجحور على التأمل والإصغاء ، ناسية غريزة الإفتراس ، كما أجبر البشر على النسيان المؤقت غاسلاً قذارة الشوارع والنفوس بعصفه المتلاطم في الاماد والفصول ..
المطر والموسيقى ينسكبان من شعاب المخيلة من متاهة الحب والظنون .
أي سعادة تغمر الكائن وهو يصغي إلى الإيقاع الروحي ، للمطر والموسيقى إلى الأصوات الموزونة بميزان الجمال الهاذي بأبدية الفقد والغياب .
يتجوهر الكائن في هذه اللحظة وينسى كونه سريع الاندثار .
في هذه اللحظة المقتطعة من جسد الخلود العابر ، توأمه المترنح بين شموس ِ ومحطات الزوال .
المطر والموسيقى وأصدقاء يعبرون العمر تباعاً تاركين طعم الألفة والجراح .
* * *
مجد الحيرة
الحيرة – ربما أعظم انجازات الانسان على هذه الارض .
الحيرة ، ليس الوضوح والحسم ، ولا المستقبل المُمّجد في كل الأدبيات والخطابات عبر التاريخ.
إن تلك الكلمات تنطوي على خدعة كبيرة تنبع من جذر التكوين الأول لعِلة الوجود الأزليّة .
***
السؤال البديهي الذي ينسف تلك المنظومة المستقرة من التصورات ، هو أي وضوح يوصل إلى جنة المستقبل في هذه الغابة الأكثر غموضا وتعقيداً ،من العناصر والوقائع تاريخاً وراهناً ..
وإذا كان تاريخ الكائن برمته لم يفض إلا إلى هذه الهاوية الفاغرة دوماً وأبداً من الالتباسات والقلق واللهاث والحروب العبثية .
الوضوح قرين التبسيط هو ما أقصده ، وليس ذاك الذي ينجزه المغامر الباحث ، والمؤَرّق بالمعرفة الحقة ، وضوح الصحراء الخاطف الذي يقذف صاحبه إلى التباس أقسى وحيرة أعمق
***
(المستقبل )
كل شيء للمستقبل . يلهج الفرد والجماعة ، الدكتاتورية والديمقراطية ، الذكي والأهبل الأكثر سعادة يقيناً ، في رؤيته للأمور والأحوال .
يلهج الجميع بتلك الكلمة الأكثر فتنةً وسحراً ، وفي الوقت نفسه شموليّة وقمعاً وواحة أوهام ..
الحياة تتسلل من ثنايا الأصابع والروح ، هاربة من غير عودة ، باسم المستقبل..
لنرجئ كل شيء من أجل المستقبل … المجازر والاستباحات والتنازلات اليومية واللحظية من أجل المستقبل.
القلة القليلة التي تسحق البقية بسعادة وترف من أجل المستقبل.
الثري البخيل يكدس أمواله للمستقبل ، صانعاً فقره المدقع حسب بيت المتنبي . والكاتب العاجز عن تسويق عشر نسخ من كتابه يكتب من أجل الذين يولدون من رحم المستقبل ..
كل شيء للمستقبل ونحوه ، وإليه الحج والحجيج ، ونحوه تندفع البشرية لترعى عشب الجنان الموعودة
***
لكن هذا الدكتاتور الساحر المهيمن ، أين يسكن ، في أي كوكب ومحيط وأرضٍ مزروعة بكل هذه الجاذبية والأحلام ؟! أليس الماضي هو المستقبل وهذا الأخير هو الماضي يجدّف في بحر الأجداث الهائج بالكوابيس والخيانات والهذيان ؟
وأي مستقبل لهذا القادم من الظلام الكثيف والذاهب إليه منذ لحظة الولادة وما قبلها ، بحيث لن يستطيع حمل أي شيء معه في هذا العبور القلق السريع عدا أوهامه وجراحاته البليغة ..
أي مستقبل ، أي ماض وراهن تروج له الصيغ الجاهزة للوعي المتداول ، المشرق السعيد ظاهراً والمظلم المخيف جوهراً وباطناً .
***
وحدها (الحيرة) نجمة التائهين بعد طول أسى وتشرد في دروب كثيرة .
وحدها إكليل الوجود المضطرب ، أنشودة الحقيقة الهاربة على الدوام .
وحدها كذلك رغم أن التاريخ لا ينجزه إلا الحسْم الذي يصل إلى ضراوة الفعل الدموي الوحشي لسماسرة المستقبل .
وليس رهافة الحيرة ونبلها .
***
اليمامة تهذي
والبحر سهل ناعس للعشب
حين أخذته في فمها
بحنان الأم الشبقة
لحظة الانزلاق في الكهف الطحلبّي
رنّ جرس الباب
لتطلَّ برأسها
هامة الانتقام.
 
الضباع تلهث وراء طرائدها
قلتُ أسلّي نفسي بالمشي، رغم سحُب الدخان والتلوّث التي تلف المدينة، وتطبق عليها من الجهات الأربع.
أتسلّى بالمشي، ربما يبددّ كآبة توغل أكثر في الأيام الأولى لدخول البلاد.
لم يعد فرح اللقاء كما كان، لم يعد ثمة فرح على الإطلاق. تبّدد في الغبار المتراكم الراكض من غير هوادة..
الضباع تلهث وراء طرائدها في الخلاء.. الزمان لا يلهث، طرائده هي اللاهثة المنتحبة على الدوام. إنه على عرشه الوارف مسترخٍ يرقب خراب العالم والحيوات، ساديّا، موضوعيّاً، وعلى نحو رفيع من صرامة أزليّة.
? ? ?
قلت أسلّي نفسي بالمشي، مشيتُ عبر الشارع الممتدّ حتى الميدان الصاخب، انظر يميناً وشمالاً، مستنفراً قُدُرات الحواس جميعها. أتفادى المركبات بأنواعها والعابرين على غير هدى. أحاول ملاحظة التغيّرات التي تصدع المكان وتنسف معالمه..
لا شيء يذكر.. المشهد على حاله الكرنفالية كأنما يحتفل بموته، كأنما يشيّع هذا الموت بحطام أصوات وضحكات جاد بها الزمان أخيراً في غمرة هذا الاحتفال الجنائزي المتقشف والخالي من المهابة التي تمنحها اللحظات الكبرى..
? ? ?
في كل مدينة عشتُ فيها، أو لم أعشْ، تكون الأيام الأولى منذورة لمثل هذه الأحاسيس القاتمة، لمثل هذا التشظي الكئيب..
أرى قطعانَ الضباع، أشتمّ رائحتها العَفِنة التي تطبق على المدينة..
أراها تطارد ضحاياها من غير لهاث مسترخيةً هادئةً، وقد اختطفت مزاجَ الزمن، أو إنها إحدى كتائبه الطليعيّة في التدمير..
بهذا المعنى حتى الزمن انحطّ، نزل من علياء سؤدده، بوسائله الراقية المهيبة، المرئي منها والخفيّ، نزل إلى التحالف، أو التجنيد لهذه المخلوقات الشائهة الممسوخة القذرة..
تُرى هل هناك فرق أساسي بين وسائل راقية رفيعة، وأخرى وضيعة صغيرة، إذا كانت المحصّلة، المحق والتدمير، تدمير روح المكان والبشر والقيم وتحويلهم إلى مشتقّات ضباع وامتداد غرائز رخيصة، وخرائب؟
ربما هناك فروق كبيرة تشبه تلك التي تفصل بين موت تراجيدي كبير وآخر تخلَّت عنه العناية كما في الأساطير، فصار موتاً غُفلاً لا يكاد يلحظه العابرون على أديم هذه الأرض..
لكن المدُن التي أشير، يجدر بها موت آخر، موت آخر وحياة أخرى.
? ? ?
كنتُ بالفعل أنوي الحديث عن تسلية المشي في أزمنة الكآبة، الذي ربما يساعد كنوع من علاج، مثل السباحة في البحار الشاسعة الزرقاء.. وأن أصل عبر هذا المشوار الى بيت صديق أو مطعم أتناول فيه وجبة العشاء، مستمعاً إلى الموسيقى، ذلك الفن الأكثر غنائية حسب (هيجل) والأقرب إلى الكمال وفق (نيتشه) وأن أذكر في طريقي بعض علامات وأسماء لأماكن حميمةٍ قضينا فيها أوقاتاً سعيدة.
لا أعرف ما الذي جرف القلم المرتبك أساساً إلى هذه الحالة المشهديّة القاتمة.. هواجسَ آخر العام المحتدمة بالنهايات؟
لكن ما الذي يجعل آخره يختلف عن أوله، عن وسطه، في جَلَبَة هذه المواكب وزحمة هذا الغبار؟
* * *
 
 
ضيافة ا لجبل الأخضر ***
وأنا أحدق في مشاهد الثلوج الكثيفة ( بسيبيريا) عبر صور فوتوغرافيّة …
تلك الأراضي والمفازات الجليديّة التي يلفها غموض الأساطير والوقائع المرعبة ، مُشَكلة في اتساعها الجغرافي 8% من مجمل مساحة الكوكب الأرضي … وفيها تقع أكبر بحيرة في العالم بحيرة (بيكال) المأهولة بالحيوانات النادرة وبالأساطير..
يمكن للمتأمل كونَ السديم الجليدي المتجمد القاسي ، أن يستحضر الطرف النقيض ، إن صح التعبير ، كونَ الصحارى بغموضها أيضا وسديمها وقسوتها ، من رحم الصحارى الهائل ، الربع الخالي ، حتى الصحراء الكبرى وبقية أفرع العائلة الصحراويّة العملاقة على أرض البشر والحيوان …
صحارى الجليد ، وجليد الصحارى ، تتحد صورها المروعة على نحو جمالي آسر ، تتآلف وتتآخى حتى الذوبان الكامل ، في المخيّلة التي تقرع صنوج الأمداء لتوحّد النقائض عبر فضاء صورها ومواكبها الاحتفالية التليدة ، لينتهي الموكبُ بسعادة أو مذبحة .
تتآخى وتتوّحد عائلات الكوكب الكبيرة ، تسافر في الليالي المدلهمّة وفي الأحلام والتداعيات الهذيانيّة ، لنشاهد ذلك العناق الصوفيَّ الغريب بين صحارى العالم الشاسعة على تباعدها وتناقضها الظاهري الصادم ، في ما يشبه وحدةَ وجودٍ ولّم شمل متشِّظٍ بحنينه الأزلي ، بين أطراف الطبيعة وأرجائها ، إذا استحال ذلك على الانسان …
يمكن أن نشاهد سفر الجبال وترحلها لتتآخى وتتحد مع جبال أخرى على ذلك النحو من النأي والحنان والقسوة …. الجبل الأخضر في عُمان مثلاً تلك القمم العالية ، ذلك النشيد الطويل من الأزمان والنحيب ، يتعانق ويتحد مع جبل من جبال صحارى الجليد السيبيريّة … تلك الضيافة التي لا تسعى إلا لغاية الجمال ووحدة معانيه وأصقاعه ..
يمكن استدعاء كواكب أخرى خارج المدار الأرضي ، لتتسع ساحة هذه الضيافة الخياليّة الواقعيّة كأنْ تحد بعض تلك الأجرام العظيمة الشأن والمقام ، تترحل عبر أكوانها الأثيريّة ولغاتها ، لتنجز حنين اللقاء والعناق …
طبيعة الكوكب الأرضي ، وتلك المعلقة في فراغ السماوات ، وفق رؤيتنا المحدودة ، لكل كوكب صحراؤه الرمليّة والجليديّة ، جبال خضراء وجرداء فظة ومدمرة، لكنها تختزن كل ما هو سري وشعري ومتعال …
ما أشبه جبال عُمان بجبال القمر ، تلك التي وصل إليها العلم ، وإذا لم يصلها ستقتحمها المخيلة التي لا حدود لها ولا تخوم .
مخيّلة البشر الأوائل كانت أكثر ثراء واقتحاماًً للعوالم المجهولة من الانسان المتأخر أو الحديث ، الذي حُدَّ خياله وأُحرق بستان طبيعته الأصلية تلك التي توصله بجذور أسلافه الأوائل .. وأمعن هذا التدمير معْوله ، حين تم فصل البشر عن الطبيعة التي حولها “العقل” المتغطرس أداة استعمال لمصالحه وغاياته ، لنَهَمه وشراسته …
كان بعض العلماء الانتربولوجيين الروس في الماضي ، يطلقون على سكان سيبيريا ، (أولاد الطبيعة الأصفى والأطهر بين فئات المجتمع) كان ذلك في الماضي ، وكذلك بقية مناطق العالم المماثلة ، قبل أن تدوس وتمحو وتبيد ، أحذية الغزاة ، وأطماعهم من كل صوب وصنف ولون.
* * *
إلى أين تذهب؟
تقف الحيرة أمام الصفحة البيضاء، يسيل ارتباكها وتلعثمها خطوطاً وألواناً، أقواساً قزحيّة حائرة هي الأخرى ومغمورة بدماء الأفق والصحراء والمغيب.
تقف الحيرة أمام الصفحة البيضاء، كما وقفت أمام عتبات كثيرة، عتبة المنزل مثلا، ذلك السقف المعلق في الفراغ بأضوائه ونوافذه المنهارة… إلى أين سنذهب! إذ خرجت ، الى أي الأماكن والمستنقعات والشرور الآدمية، ستقودك قدماك.. ليس من مكتبة هنا ليس من بحر وأصدقاء وأحلام مجهضة سلفاً، لكنها مسليّة، وتساعد على نفاد الوقت، عتاد الوقت الثقيل..؟ وتلك المرأة التي رحلتْ من غير أمل في العودة “غبار الموت عراها حتى من الروح”.
ليس من شيء عدا هذا الخواء الفاغر شدقيه من الأزل، إلى الأبد، وعدا سماسرة، نفايات مدن وخلجان تضربها الفيضانات باستمرار، قدموا لامتصاص ما تبقى في ضرع هذه الأرض الموشكة على الغرق النهائي والجفاف.
تقف الحيرة أمام الصفحة الفارغة الملساء، كما تقف أمام كل تفاصيل الحياة والموت، التفاصيل والجزيئات الأكثر خطورة من الكليّات البالغة التركيب. تسفح الحيرة دمها من جراح لا تفتأ تنزف منذ بدء الخليقة، منذ الغراب الأول معلم البشر المستنير، وحتى النملة الحائرة أمام ثقبها في الرمل، بعد ان تاهت عن السرب، والطائر في سمائه المليئة بالحفر والغبار.
السمكة التي ابتلعت طعم الصياد متخبطة في حيرتها، والسلحفاة المترحلة في ليل المحيط وسط الضواري والهوام، كما يقف الرجل الوحيد أو المرأة الوحيدة ، حائرة، مرتجفة من صقيع الداخل ولهب الظهيرة في الخارج الجاثم على الصدر والأعماق.
تقف الحيرة أمام صفحتها مرتجفةً من هول المشهد وتدافع الأفكار والأخيلة والهواجس، كأنما تريد أن تلخّص ذلك الهول القياميّ، في جمل وكلمات تفرّ منها وتعاندها، طيوراً صاخبةً، جارحة، طيور الطوفان التي لا يقر لها قرار على ظهر الموجة المزبدة أو في تلك السواحل السحيقة الشاسعة.
تقف الحيرة تفّاحة الحيرة على الطاولة كما عبّر شوقي أبي شقرا… تقف أمام العاشق والمعشوق، أمام العضو، وليد التمساح، وهو يدلف كهفه المليء بالطحالب المائيّة والارتعاش.
الحيرة، ملكة الوجود المتوجة بغار المجد والحقيقة والألم، الغابر، وذلك المقبل من صروف الدهر والأيام.
* * *
عصافير الوادي
كان يمشي على الطريق الذي يفضي إلى البحر.. في المساء الكئيب الذي تميل فيه الشمس الى الغروب، كان يمشي، الرطوبة العالية وغمغمة حشرات الصيف التي تموت لاحقاً ، متيبسِّة على جذوع الأشجار العارية.. وعلى مقربةُ تلك الجبال التي يتطلَّع إليها حين يرفع ناظريه عن المدى البحري الفسيح، الجبال التي تشكل طوقاً على المدينة والذاكرة.
كان يمشي على هذا النحو، حين انشقَّ المكان عن وادٍ ينحدر من شِعاب الجبال حتى يصل البحر.. بين ضفتيْ البيوت الباذخة أيما بذخ ولمعان، كان الوادي ببقايا نخيل وأشجار سمر وغاف، كان الوادي رغم وجوده السحيق على هذه الأرض، يبدو في هذه الغابة الإسمنتية، انه طارئ، ووجوده على مضض.. علامة على أزمنة مضى عهدها، لكنها عصيّة على التلاشي النهائي والانقراض..
تقترب أكثر من صحن الوادي، تحدِّق فيه أكثر ليأخذك مع المدى البحري وشآبيب الجبال اللامعة بصفرة المغيب، وتغرق في هذا الكون الحلمي، رغم الحرارة العالية، ناسيا المدينة التي تطوقه بلهاث سماسرتها وسباق بيوتها الفارهة.
تقف على الحافة ، هكذا، تستجدي حنان هذه الطبيعة البليغة في سكونها وصمتها، كأنما هذا الصمت وهذا السكون المتفجِّر بالهواجس، إعلان احتجاج على انتهاك حرُماتها الأزليّة..
* * *
تحدّق في الوادي.. شتلة عصافير، تطير بفرح وصخب من القاع الأغبر، إلى ذروة الشجرة التي لا تتبيّن نوعها، لكنها على شيء من خضرة وحياة رغم الجفاف، ربما لقربها من البحر، وربما أن الطبيعة تدافع عن وجودها بشراسة ومعرفة نجهل الكثير من أسرارها وحيواتها..
تتطلع إلى العصافير والشجرة والوادي الممتد بين جباله وبحره، وتتساءل: هل هذا هو الموسم الذي كان في الماضي يأتي فيه طائر (العقعق) و(المفشيش)؟.
الأول كنت تصطاده بالبندقيّة، بندقيّة (سكتون) أو صمع.. والثاني تصطاده بـ(المشبكة) ربما هذا هو موسم تباشير القيظ ، حيث النخلة تبدأ في توزيع هداياها الأثيرة على قلوب العمانييّن؟
لكن هل بدأت التباشير، هل بدأ القيظ؟
وهل ما زالت طقوس المواسم والحصاد؟
* * *
في ركن من أركان الوادي، تلمح امرأة بلباسها التقليدي تلملم أشلاء الشجر اليابس في أكوام صغيرة، (تحطب)… تتخيل أن هناك قطيع أغنام يثغو بصخب في الجوار.. وأن الرعيان والقطعان الأخرى تنحدر مع أغانيها على السفوح، لتجتمع في هذه البقعة من الوادي الفسيح حتى كأنه من غير نهاية.
تمسح بعض العرق المتجمع على جبهتك وجسدك المثخَن بالحرارة والرطوبة وتعود الأدراج الى شقتك المليئة بكراتين الكتب وحقائب المسافرين، كأنما هي التخليص الأكثر كثافة لحياة جيل من المشردين والحمقى.
تعود الأدراج ، تاركاً الوادي والمرأة والعصافير في رعاية البحر والأبديّة.
 
* * *
تاريخ الأيام
أصحو من نوم ، غالباً ما يكون مليئاً بالأحلام والكوابيس .
أراضي غائمة ووجوهٌ لا تكاد تخرج من العتمة إلا لتبتلعها الجبال والغياب
أتقلب في سريري بكسل وتوتر، الظلام يضمحل في الخارج ليتدفق تيار الضوء الجارح ، والمكيفات تهدر وتحشرج.
رَفْس أجنحةٌ على حافة النافذة وفوق الأسلاك ،حيث ينام زوج الحمام حتى الصباح الذي يبدأ أيضاً بصياح الغراب التايلاندي الكثيف في هذه المنطقة بعد اختفاء الغراب المحلي ، وصمت (الصفرد) ذلك الطائر الضارب في البيئةِ الدكناء بأنغامه الفريدة.
أصحو بتوتر وتكاسل ، أحاول تنشيط نفسي بالصراخ والغناء وبأحلام بدت واهنة ، عن عملِ أدبي قادم ، وسفر وعلاقات ..
أدلف الحمّام أغسل وجهي وأحلق ، أنظر إلى التجاعيد في المرآة .
الماء ما زال ساخناً ، وهو هكذا ليل نهار.
أنتزع زجاجة ماء صحي أشربها مع تفاحة وقرص لتضبيط الضغط العالي .
أفتح الباب نازلاً السلم نحو السيارة ، أحيّ القطة التي ما زالت نائمة أمام الباب تتوسل الهواء البارد المتسلل من داخل الشقة …
أرى قططاً أخرى أمام أبواب الجيران الغرباء الذين لا يعرف الواحد منهم الآخر ..
القطط منبطحة بطولها هكذا .
أمضي مباشرة نحو مكتب العمل في مؤسسة عُمان التي تتبعها (مجلة نزوى) أحاول أن استكمل ما بدأته من كتابات وقراءات سابقة .
أشرب الشاي أشرع في قراءة ما يصلني من رسائل ومواد، من أصدقاء أعرفهم واقعاً وحياةً، وآخرين عبر المراسلة والقراءة.. هذا الصباح أقرأ رسالة إلكترونية من سميرة المنسي التي رمتها الأقدار كفلسطينية ، هذه المرة إلى (بوليفيا) البلد الاكثر فقراً ونأياً في أمريكا اللاتينية تقول : أن الوضع متوتر جداً وترقّب إنقلاب عسكري في البلاد . إلى أين أذهب هذه المرة ؟.
رسائل الأصدقاء بالنسبة لي فسحة حياة راهنة ومستعادة ، من خلال بعضها أكسر شيئاً من الشعور بطوق العزلة الروحية ، وأسرح في بستان حيواتٍ ماضٍ يمنحني متعة العيش والحلم من جديد … طبعاً بعض الرسائل تكون كارثية وثقيلة .
أقضي مطلع النهار حتى بعد الظهر في المكتب على هذا النحو، وقليلة هي الزيارات الشخصية مما يتيح مجالاً أكبر لممارسة معرفية ومهنية ، حيث إن وجودي هنا متقطع وليس مستمراً …
ويمنحني أيضاً ممارسة لذة الضجر . في مثل هذا المناخ الاجتماعي والبيئي تصبح الذاكرة ، الذكريات والأحلام تحتل الكثير من عناصر المشهد الراهن ، يصبح( الفلاش باك) بإضاءته الخافتة وصمته الإستعادي هو العنصر الرئيس في هذا الفيلم الحياتي اليومي .
أعود إلى البيت للأكل (سمك مشوي) غالباً في هذا البلد البحري المترامي .
أرتاح قليلا ، اتسطّح في الغرفة ذات الستائر السوداء الحالكة التي تمنع أي خيط ضئيل يتسلل من النافذة ، فمثل هذا الخيط يكفي لإضاءة المكان إضاءة ساحقة.
الشمس من فرط سطوتّها وقوتّها كأنما هي أقرب مسافة إلى هذه الأرض أو كأنما على رأسِ كل فرد شمسهُ الخاصة .
أتذكر نزار قباني حين زار عُمان ، كان في جلسة ينظر إلى لوحات تشكيلية، حين قال للفنانين ، لماذا هذا التجريد و (التغميض) ولديكم كل هذا السطوع المتدفق حدّ الرعب؟.
بعد استراحة منتصف النهار أذهب إلى المكان البحري . مياه وأشجار ، غربان محلية وتايلاندية ، نوارس وحدءات تحلق في الفضاء الطلق ، والكثير من الأجانب العاملين في الحقول المختلفة .
أقرأ مثل (الخواجات) قريباً جداً من مياه المسبح و البحر ، أكتب ملاحظات لأعمال أدبية ، معظمها لا يتحقق .
أقضي المساء كاملاً في هذا المكان المائي البحري العائم .. المياه تعيد لي بعض توازن مفقود منذ الأزل ، تبدد بعض كآبة مقيمة ، تجدد نفسها بأشكال مختلفة . أجد نفسي في هذه الحالة متماهيا مع طقوس وشعائر الأقوام القديمة التي ما زال بعضها موجوداً كالمندائية ، حيث الأعراس تقام في قلب المياه ..
أعود إلى المنزل ، أشعل سيجاراً بعد ان امتنعت عن السجائر العادية ، صرت أُدخنه ليس على طريقة الناس (الشيك) وإنما الناس القرفانة التي تريد أن تشفط وتنفث أي شيء.
طبيبة الاسنان قالت : إنه يسبب سرطان اللثة . إذن عليّ أن أختار بين سرطانين . لكن الطبيبة أردفت مطمئنة بعدم إمكان حدوث أي شيء سيء ، حيث إن عمها الذي كان يدخن كل الأنواع مات عن عمر الخامسة والتسعين…
ربما لا تعرف الطبيبة إن هذا المبلغ من السنين أكثر فتكاً من السرطان ..
ألتقي (داليا) التي هي الاخرى تحمل شيئاً من مزاج البحر المضطرب أحياناً والهادىء أحياناً أخرى ، وهو جميل في كل حالاته خاصة حالة الاضطراب والهيجان ..
أحافظ على هذا المثلث الهادىء في حياتي اليومية لأن مشواراً واحداً ربما يطيح بمزاج اليوم بسبب الحرارة في مسقط ، كما يدمره بسبب الزحمة والتلوث في القاهرة ..
فترة الليل أقضيها غالباً بمشاهدة الأفلام الجديدة ، وتلك التي شكلت جزءاً من ذاكرتنا الأدبية والسينمائية . أشاهد بعضها عشرات المرات مثل الكتب التي لا تنضب مياه ثرائها ، وإنما تتجدد بالقراءة والمشاهدة . .
يوم واحد في الأسبوع لكسر هذا المسار الذي أصبح على هذا النحو الآلي ،هو يوم الخميس أو الجمعة.
انزل مبكراً إلى مقهى(كوستا) قريبا من المنزل . أكتب المقال الأسبوعي وألتقي بعض الأصدقاء..
بطبيعة الحال ، كي لا تبتلعني هذه الآلة الصامتة لهذا المسار الخالي من فرح اللحظة الحقيقية إلا ما ندر (فما تقدم ليس الا اجراءات احترازية لمنع أو تأجيل الانهيار الحتمي) الحقيبة دائماً جاهزة ومستعدة للرحيل .
* * *
منزل الواقع ، بيت الأبدية
البيت المنزل، الدار ، الديار، منازل الفتى ومضارب القبيلة والأحبة والجماعة ومن ثم الدِمن والأطلال والذكريات.
يمتلك الكائن عادة جذره المكاني ، مركز الروح والعواطف، المرجع حين تزأر عاصفة الشتات. يمتلك بيتاً يعود إليه ولا يستطيع أن يستلبه منه أحد، حتى ولو استُلبت الأرض، يبقى في الذاكرة والحنين.
البيت منزل الحياة الواقعية والأحلام ، مكان المسامرة والمنادمة ، المساكنة والزواج… بيت الواقع والميتافيزيقيا.. الشعراء سفحوا أخيلة ودموعاً، قصائدَ ملحمية خلدها الزمن حول المنازل والديار في حياتها العامرة أو بعد التهدّم والخراب.
(لاهوتيو) الحضارات القديمة ، الفرعونية على رأسها ، وما بعدها على مر العصور، تحدثوا عن البيت الرمزي بيت الخلود والأبدية. أمام منزل الحياة الفانية ولم يعيروا أي اهتمام لهذا الأخير، لأن الاحتفاء بالزائل والعابر خدعة الجاهل وابتعاد عن المسائل “الجوهرية”.
(باشلار) الفيلسوف الحديث كتب عن بيت واقعي، بيت الطفولة والشباب، منزل الألفة والحنان في مهب الفصول وعصف الثلوج والذكريات. منزل يمتلك كل صفات الواقع، أثثه بأجواء الرمز وجموح الخيال..
متن الشعر والكتابة بؤرته المكان في تجسداته المختلفة. حتى الزمان الذي يبيد ويُفني ليس في بعض الوجوه إلا الحركة في تضاريس المكان وأعماقه وجنباته. شعر المكان الحاضر وذلك الذي توارى في الضباب وبقيت ثلوُمه وعرصاته التي تشبه فلولَ سحبٍ لغروبٍ كاسر..
الشعر العربي طليعة الشعرية العالمية. في بحثه المضني عن المكان الغائب. تلك الحرقة وذلك التشظي الجمالي. يجدد دائماً بحث الغياب، يخترع الجنة الآفلة أحياناً. إرثٌ كبيرٌ وغنيٌ تمتد أواصره الى شعر ما قبل الاسلام حيث “اللحظة الطللية”. والشعرية بلغت ذروتها المأساوية والجمالية. الشاعر العربي الحديث على خطى أسلافه يسكن البحث عن المكان الغائب ، يسكن اللغة.
جيلنا الشعري من أهم سماته ، انخلاع المكان الواقعي . صارت ذاكرته شتات أمكنة ومدن وبلدان. صار يسكن شتاته وتبعثره ولا أمل في العودة إلى المكان الأول أو أي مكان، ذاك الذي أضحى بعد بحثٍ مرعبٍ في لمِ شمل الروح المتصدعةِ المرتجفةِ برداً وضياعاً ، في ذمةِ التلاشي والغبار. لا أمل في العودة إلى رحم التربة الأولى إلا عبر صدفة الدفن في المثوى الأخير. وبهذا يحسم القدر حربه لبيت الثباتِ والقرارِ والأبدية.
هكذا يحاول الواحد أن يتذكر مركزه المكاني والروحي كنوع من ملاذ وحماية من نوائب الدهر وتقلب الأحوال التي هي سمة اللحظة للصيرورة البشرية والحياتية، فيقع في خضم تلك الأماكن والمساحات الرجراجة، الضبابية التي لا يستطيع تعيينها إلا كذكرى عابرة لمكانٍ عابرٍ وبشر عابرين.
يحاول الخروج من هذه الهاوية المدوّخة التي لا قرار لها، ملتفتاً إلى البيت الأول بيت الطفولة والأمومة وطزاجة العناصر الأولى التي تفتح في بدئها على العالم. لكن هذا البيت العتيد لم يعد له في الواقع أي صلة إلا صلة النسخ ربما والخفوت والنقصان. فهو في هذا المنحى يشبه النماذج الافلاطونية الخالدة التي تتولد منها الأشياء والكائنات المجبولة بقدرها الجديد، كونها أطياف تلك الهانئة في سماء الأزل الأولى. الجماد له روح أيضاً فهو في هذا السياق مشمول برأفة النظرة الافلاطونية للوجود. أو بقسوتها لا فرق.
* * *
ما أثار هذه الخاطرة العابرة حول المنزل – المكان – تلك الورقة ، الإشعار الذي استلمته بالأمس يطلب مني الرحيل من شقتي التي أقطنها منذ أكثر من اثني عشر عاماً، بغية تدمير العمارة وتحويلها الى جديدة بأسعار مضاعفة.
الحدث في حد ذاته عادي، فعلي أن أبحث عن “ملاذ” آخر. لكني فكرت: منذ سكني في مسقط غيرتُ عدة شقق وأحياء واستقر بي المقام في هذا الحي الذي يسكنه وافدون وغرباء وهو ما ينسجم مع نمطي في الحياة، العيش بين غرباء ، وتأصيل الغربة السحيقة في النفس، وأمل الموت أيضاً بين غرباء إن أمكن..
نقطة أخرى ، هي أنني لا أذكر أي مكان سكنت فيه كل هذه الفترة من الزمن، مما جعله مكاناً استثنائياً يفترض عاطفة خاصة.
جعلني حدث الانفصال هذا أسرح في ماضي الأمكنة الكثيرة والبلدان والشوارع والأزقة. وتذكرت الرفقة والأصدقاء الذين اقتسمت معهم زاد هذا الانشطار والتشظي الجميل في المكان الذي كنا نحاول لملمته في اللغة والشعر. جعل مني ذلك الشبح الهائم في دهاليز الذاكرة ، مثخناً بوفود الأمكنة والوجوه..
في زمن الإقامة في هذا المكان المهدد بالانفصال، نسيت تماماً أن المنزل ليس ملكي وأن من الطبيعي أن أغادر في أية لحظة ، خاصة وأنا أشاهد وفود الجيران المتغيرين باستمرار. لا يستقرون على حالٍ زمنيٍ متواصل، فكأنما العمارة أحياناً محطة عابرين وليس ساكنين ومقيمين.
وحدها القطة التي تستجدي هواء المكيف المتسلل من تحت الباب شاهدتها أطول فترة من كل الجيران. وربما ستورث الإقامة لنسلها الذي خلفته في فناء العمارة.
رغم هذا ورغم توقيع شيكات الإيجار كل ثلاثة أشهر بدقة السماسرة والملاك المعهودة وخاصة في بلدي عُمان، لم أفكر أنني سأنفصل عن هذه الشقة وقد مرت السنين بهذه السرعة الصاعقة.
* * *
يبدو أن الذاكرة حين تصعقها أحداث بعينها، رغم عاديتها لدى أناس آخرين، تفلت في براريها لتستعيد وتستدعي، لا تفيدها كل تلك التجربة والحنكة ، ولا تنجدها وتحدُّ من اندفاعها بل على العكس تتحول الى كثبان تدفعها العاصفة لتتناثر وتتداعى في الرأس..
أسرح في دروب الذاكرة ، أتطلع في أشياء الصالة المبعثرة والمعلقة كتمائم قبيلة بدائية توشك على الظعن. يستقر نظري في المكتبة ، التي تجمعت على هذا النحو بفعل هدايا الأصدقاء المبعثرين في أرجاء العالم ، قبيلتي الحقيقية وملاذي المتوتر، الحنون. وكتبٌ أخرى اشتريتها بعناية وانتقاء المحب… يقيناً لن تنزعج وتغضب كثيراً، فشخصياتها وعوالمها أدمنت الرحيل الرمزي والواقعي.
وهي (الكتب) مثل تمائم القبيلة المترحِّلة تبقى بعدها، بعد أن يفنى أفراد القبيلة ليتوارثها النسل اللاحق، ويحتفظون بها ، أو تُرمى في قعر القمامة..
وحكايتي مع المكتبة هي حكاية الحياة نفسها بحاجة إلى حديث طويل وصمتٍ أطول.
 
* * *