مرحى يا شجرة (الغاف)
ذات البأس التليد
اضحكي عالياً
وأنت تحدّقين في نجوم الظهيرة المشرقة
بذلك الخواء الشاسعِ
بالأسرار البهيّةِ
التي لا يدرك مداها
غير طيور تعبر باستمرار غدرانَك الوارفة..
٭  ٭  ٭
الموج يتدافع أمامي
بغيوبه وزَبَده
كقطيع كباشٍ بيضاء فاجأها الهياج
٭  ٭  ٭
القمرُ، سرَّة امرأة يضيءُ سفوحاً
وودياناً، غائرةً في الذاكرة
٭  ٭  ٭
ذلك الصبيّ الذي راودته الجنيّة
عن نفسه
ومضى معها في المفازات والسهوب
لم يعدْ بعدُ من رحلته الطويلة التي
أخذت أحداثها تتسع وتكبر في الخيال (كما في الواقع)
الذي يسردها كل صباحٍ
كما تسرد الجداول رحلتها الجبليّة
في أعماق الظلام
٭  ٭  ٭
ثمة روح تدفعكَ للخروج إلى العالم
وسط جَلَبة هذه الحروب والضغائن
ثمة روح خبيئة تبزغ من رهافة الأثير
تحلّق مع عصافير الشجرةِ
التي تحدّق في انكساراتها
كل صباح
(١)
نعم هذه هي البلاد
هذا هو الوطن العربي التائه
بين خرائط ومسافات.
أي لعنةٍ مخبّأةٍ بين ضلوعنا
أيُّ صرخةٍ يتسلّقها جوعى ومقاتلون
في حروب عبثيّة؟
أيّ كوكب يتداعى في الرأس
بمثل هذا العتوّ والانهيار؟
أيّ قطارٍ مندفع في براكين الدم
تشيّعه النظرات الوجِلةُ
ليتلاشى في هباءِ الدخان
أي قارب يضمحل في هيجان
الغروب؟
إن هذه الحمرةَ التي تصبغ أفقَ العالم
هي دمي
إن هذا الغبارَ الذي يسدّ منافذَ الكون،
ليس ذاك القادم من المرّيخ
إنه رفاتُ موتاي
وأحلامُ أجيالٍ مزّقها الثُكْلُ
ودمّرها الطوفان.
وهذا الصراخ المتفجّر من فوّهاتٍ غامضةٍ
هو صراخ أطفالٍ يولدون.
ماذا تبقّى في زوّادة الراعي
يهشُّ الغَنَم في السفوح
ماذا تبقى من ضوءٍ لنجمةٍ
تستهلّ نشيدها بالبكاء؟
أم تُرى أن الدمعَ تحَجَّر في المآقي
كعجوزٍ نسيتها الأزمان؟
أي طريق أكثر رأفةً لهذا الحتف المحيق
أي طريق أكثر اختصاراً
للإبادة والامحاء؟
لقد أنجز الجلاّدون الطريقَ والخارطة،
أولئك القادمون
من عصور الفظاظة والظلام
وتركوك في قلب المذبحة
جريحاً ، ترفسُ تحت هول الانتظار..
شاخصين الأبصار نحو غيمة جفَّ ضرعها
تدير الرأس عن أي استغاثةِ
أو أنين .
(أنتم أبناء الأرض رتّبوا أموركم
على هواكم ، حلوا عن سمائي
لم أعدْ أحتمل فظاعاتكم وغباءكم)
تقول السماء وهي تظللُّ المذبحة
بظِلال قليلةٍ شاحبة ، تعبر حدَبَة
الأرض المتقيئة كدبْرة حمار تحتله الأشباح والذباب.
(٢)
حسناً:
ها أنت في البلاد التي لا تزال تحلم
بالعودة إليها
وما زال الحنين يأخذك نحو وجوهها الألف
والحدائق المعلّقة في الغبار
من طريق المطار شعرتَ بالحمّى
تعصف بعظامك المتعَبَة
من طول الرحلة،
وعلى باب العمارة التي نشأتَ في ظلّ أشجارها،
يقف (السيكلوب)
ذو العين الجهنميّة
ملوّحاً بالترحيب والسلامة.
تمضي في الشارع
لا تحس إلا بروائح موت قادم
قَتَلة وشحاذون يجوبون الساحات
عربات معبّأة بالجثث والحيوانات .
تذهب للسهر في المطعم الذي
تبدّى كجُحْر حّياتٍ نافقةٍ ..
تتلوى تحت وقع النميمة والقُتام
ولا عزاء ينقذك
من هذه الأشداق المفتوحة على الحطام.
في الصباح التالي تستيقظ
مع رأسٍ يتطوّح بعيداً
عن جثته الهامدة.
(٣)
هذه الأسطر التي كتبتُها ذات دهرٍ، ربما ثلاثين سنة أو أربعين أو مائة… تحت شجرةٍ تهزها ريح الغربي، أو صخرة جاثمة في الوادي.. وربما في ذلك (المجلس) الذي يستظل به رجال القوافل، هرباً من ظهيرة قاهرة.
هذه الأسطر، الأوراق القليلة التي تشكلَّ سؤالاً فقهياً حول الحمل والولادة، البكر والثيّب…الخ تنتصب أمامي صلْبةً، حالمةً، كأنما الزمن لم يأت عليها، الزمن المتسلل كثعبانٍ خبيء يزحف بتؤدة بين أشجار الموز في ضاحية النخيل النائمة.
(٤)
عصافير كثيرة
بستان عصافير يحطُّ على أركان
الشجر الباسق
وعلى مقربة يبني النحل مملكته البهيّة، تتطاير العصافير في الحلم، يسقط عصفورٌ شبه ميّت أكاد أتلقّفه بيدي،ـ وأصرخ في الصِبية الحُفاة ألا يقذفوا الحجر نحوها، ويتركوها تنام وتمرح في رحاب الله الخضراء الشاسعة.
(٥)
هذه هي المدينة الثانية أو الثالثة أو…
التي تسكعت بين بواباتها الكثيرة، وأزقتها المفعمة بالقِدم والثورات، تحت وابل أمطار الفجر والنسيم الطلق، مع أصدقاء لم يعودوا أحياء ربما…
بحثت في الأنقاض والوحول التي تغطسُ فيها أقدام العساكر والنساء الجميلات، عن التفاتة أو فكرة هاربة من خيالٍ محاصرٍ، تعينك على صوغ الألم والقصيدة…
هذه المدينة التي سبقتك إليها الأحلام والأمنيات، تمضي في موكب جنازات لا حصر لها، وجوهٌ أطفأها الذعر والترقب عبر السنين العجاف..
الأنهار جفّت كما تجفّ الدماءُ على أرض الرسالات، وفي العروق المثْخنة بغياباتها وجراحاتها.. ووسط هذه الخرائب والأشلاء لا تستطيع استعادة ذكرى تسعفك على قضاء الليل بأقل كلفةٍ من الكوابيس والدمار.
المقاهي هجرها روادها الأوائل واستحالت مرتعاً للسماسرة والشرطة السريّة، وثمة همهمة ضباع تلعب مع فرائسها العاجزة الجريحة، تنحدر من جهة الجبل، لتذكرك بأن الأمور، أُنجزت بضراوة قلّ نظيرها، وأن لا مجال لاستحلاب أمل ما، إلا بما يشبه استحلاب الحنجرة الميتة، ريقاً يبعث فيها دورة الحياة والكلام.
لقد أنجزت الأمور بضراوةٍ
وقرع السُقوط الكبير
طبولَ الهاوية.
(٦)
أنتم يا من تحتلّون كل شيء
على هذه الأرض المحتشدة
بالذهب والرغبات
نصبتم أعلامَكم الحمقاءَ
على كل تلّة ومدينة
فوق كل بحرٍ أو صحراء
وبلغتم الكواكبَ البعيدة
جيوشكم البليدة سيّرتموها
في كل الاتجاهات.
لكنكم لا تستطيعون
حتى الاقتراب من تلك الجنان الخضراء
الوارفةُ
لروحٍ حرّة وقلبٍ طليق.
(٧)
ماذا تعني هذه الوجوه المتقاطرة
في نومك
منذ بدء الخليقة
حتى آخر ميّت شُيّع في تخوم الأمس
ألا تكل من الترحال في ذاكرة الآماد؟
وتلك الزيارات المفاجئة في جوِّ يعبق
ببخور المآتم
وولائم الغبار
وجوه مقبلة
وأفواج يطويها صلفُ الغياب
وجوه صافية أموميّة حنونة
وأخرى قادمة من أقصى كهوف الخسّة والجحيم..
إلهي خفّف هذا المدَّ الهادرَ
لبحور الموتى
يتدفّق في ليل رجلٍ وحيد.
(٨)
النجمة المحمولة على كتف سماءٍ شعثاء
تضيء دروب رحّالةٍ
يقطعون الآماد السرمديّة
بحثا عن حقيقة الوجود.
(٩)
ترمقني الغيمة العابرة
أمام النافذة
بعزيمة الذاهب إلى حقول النسيان.
(٠١)
الشاعر المحكوم عليه بالنفي والإعدام
والمرأة المحكومة بالعطاء والحب
كلاهما
قطرةُ مطرٍ في ربيع الخراب
(١١)
النظرةُ التي تشيّع الميّت المحمولَ
على آلته الحدْباء
والراحل في راحلته وهي تندفع
نحو المجهول،
لا تشبه النظرات جميعها، تاريخ النظرات منذ أول عين انفتحتْ على هذا الخلاء الكونيّ:
إنها الانفصال القاسي عن هذا التاريخ،
التفاتة مذعورة قذفتها
الأعماق السحيقة لأحزان الكائن في مختلف عصوره،
دمعةً الطفل المقذوف في وهادٍ موحشة..
خلاصة الألم وعجز الأبجديّة.
(٢١)
لا شيء يعوضني عن غيابكِ
في هذه اللحظة،
التي تنتشر فيها كتائب الفجر، حزينةً، مكسورةً تتقدم نحو مدينة مهجورة.
لا شيء يعوضني، لا سهرة البارحة الحميمة
مع الرفقة التي تقاطعت بهم المصائر:
كنا نرى أرواحنا ترتجف في مرآة ذلك الليل
الذي تنسجه جَلَبة الشاحنات والهزائم،
وذلك العواء الفاجع لكلاب متوحشة
تحتل المزابل والثكنات..
لا شيء يعوِّض عن غيابك المصنوع
من ذهب التذكرّ وأغصان شجر السدر
الضارب في صحرائه العاتية.
(٣١)
مرتجفاً شجر الحور، طوال الوقت،
يهتز، حتى حين لا يكون هناك هبوب ريح،
دعك من العواصف والأعاصير التي كانت بالأمس تقتلع الجذورَ والحياة في شواطئ آسيا..
مرتجفاً شجر الحور بفعل عاصفةٍ خفيّة
تجتاح كيانه الضارب في الغياب، فلا يعرف
هدأةً ولا سكينةً، كأنما القدر قذفه
في بركان قلق دائم الاشتعال.. وربما
بفعل نبوءة متواترة في تلك السلالة الشجريّة
التي تسكن البحر والعاصفة.
(٤١)
يعود المسافر
إلى موطن طفولته ليشاهد عن قربٍ
نعاجَ روحه
تثغو في بساتين الدِمن والخراب
(٥١)
محمولة على الأكتاف والقلوب
أيتها الثورات والانتصاراتُ
التي أحرزتها بسالةُ رجالٍ خارقين..
لكن بعد قليلٍ
ستنزلين من عليائك
إلى الطبيعة النافذة التي نُحت من ترابها الكائنُ
وهو يغطسُ
في مستنقع أوهامه الأزليّة
(٦١)
المجد لك أيها السديم
المجد لك أيها التيس الجبليُّ
للشَبَق الصافر على هضاب الغِبطة والهياج
لعصا الراعي
يطلع من عروتها شفقُ الصباح
المجد لك أيها السقوط المقدّسُ
لنيزكٍ
يضيء في طريقه ظُلمات الهاويّة
المجد لكِ أيتها الأجنحة
تحملين زهرة المسافة
من أكمةٍ إلى غابة
ومن بحرٍ إلى محيط.
(٧١)
بدأ الشتاء
الشتاءُ يبدأ متأخراً هذا العام
شتاء القاهرة
شتاء بيروت التي فاجأتها الحربُ
ومضتْ تعانق قدَرَها
بجَمال من أدمنَ الفجيعة والحياة..
المطرُ يهطل من النوافذ
الطيور تحلِّق، حاملة في مناقيرها
خريفَ القادمين من القرى المجاورة.
حبال الغسيل تتأرجح في فضاءٍ جَهْمٍ
من الذكريات
وعلى مسافة هذا الطمي المائيّ
تطفو أصواتُ الباعة والمؤذنين
كطيور كسلى تستيقظ من سُباتها الثقيل:
ويمكن رؤية المشهد على شكل أحذيةٍ وعرباتِ
تتعثّر في البرك والمستنقعاتِ.
التي خلفتها سيول اليقظة الأخيرة للفصول.
(٨١)
أنت الآن بين سماوات
تتفتّح زهوراً وينابيع
تتطلع من النافذة
ويراودك حلم المدينة
التي تُولد من خيالات رحّالة يجوبون الآفاق
من غير هدف
مدينة فائقة الجمال
تولد هكذا
بحدائقها، بساتينها ومقاهيها
بعيداً عن الرقابة وأحلام الجلاّدين…
رغم السُحب السوداء
والاهتزازات العنيفة أحياناً
ورائحةٍ بشريّة منتنة
تتطلّع من النافذة
وتسرح في حدائق السماء الزرقاء
حيث مسكن الآلهة
محاطةً بنسورها الفارهة
(٩١)
سلاماً أيها النسر
نَبْلةَ القدر
قبطانَ الفضاء
تترحل فوق الأرض المقصوفة
بالحروب والطاعون
وعلى طرف منقارك الغاضب غالباً
شبح ابتسامةٍ ساخرة
(٠٢)
بين حدِّ الليل والمطلق
واحتدام بروق مدلهمة
تقطع طيور الروح
رحلتها السرمديّة
(١٢)
يتطاير غبار طَلْع السماء
كشظايا روحٍ
أنهكها حلم الحلول بمركب معشوقها
المستحيل
(٢٢)
وسط أجواء المجازفة والخطر
حيث الذئاب تعوي جائعةً
إلى افتراس أثداء الأمهات…
والبروق ترسل صواعقَها الغاضبةَ
في المنحدرات الأكثر رعباً
لسقوط الكائن
ويكون الموت
قابَ قوسين أو أدنى،
تشرق الروح بسناء سعادةٍ ممكنة.
(٣٢)
ها أنت تعود إلى الديار
التي هجرت
تمنيت وأنت تسمع نداء المذيع
باقتراب نهاية الرحلة،
أن تعود القهقرى
من حيث أتيت
أو إلى رحمِ أمك
أو تختفي البلاد من الخارطة
ويسود الهدوء
بمحوٍ صاعق
كما مُحقتْ أقوام عادٍ وثمود.
(٤٢)
الغريب يعود الى قريته
عاريا كما ولدته أمه
لأنه ميّت وقتيل
حنين العوْد إلى البدء
جرفّه
سابحاً في مياه الأحشاء الزرقاء
ميمماً شطر حارة الوادي
حيث ترقد رفاتُ الأسلاف
(٥٢)
يعود من سهر اليومين الفائتين
مثْخناً بجراح الصداقة والنبيذ
ينتحي جانباً
ويغرق في شميم الذكريات
التي هي ليست إلا جماجم وعظام
ورأس سمكة يهذي في الغروب
(٦٢)
محمولاً على براثنك أيتها الحياة
على أناملك الرشيقة
تجوس جسد العاشق
كمنجل يستأثر بالحديقة
أدافع عنك دائماً
باليد العزلاء الوحيدة
ضد الأقوام
التي تحيلك إلى أنقاضٍ وحُطام
(٧٢)
آبار الذاكرة
تتموّج مياهها الغزيرةُ
بدويّ الصواعق وزَبد الرعود
ولا تتركني أنام…
منبلجاً يا فجر حياتي الأخير
(٨٢)
نَفَر من الجنِّ وآخر من الإنس
يرتدون ملابس معتمة
وقبّعات على حوافها تلمح خيوط شمسٍ حارقة،
في حانة مقذوفة مثل كهف
بين الجبال العالية والوهاد
يجلسون
في الجو دخان سجائر
أحاديث غامضة عن اقتراب الحشْر
والبشر الذين يتحولون إلى ماعز يباع في الأسواق
عن حروب البترول
واغتصاب الأمّهات
في حانة بين الجبال الشاهدةِ
على المصائر والأهوال.
(٩٢)
مع أول رشفة شاي
وانبلاج عبارة…
أتذكرها الآن
في ليلٍ فاضتْ أنقاضُه وتوحّشت أحلامُه
(وما الإصباح منه بأمثلِ)
أصباحٌ أضحت مستوطنة للأحقاد
والسرطان
(٠٣)
يا رياح السموم الذريّة
ويا عواصف الجليد الكاسحة
اقتلعي هذه الأقوام من أمام كوخي
ذررّيهم في المسافات والآفاق
لا تبقي لهم حرثاً ولا نسلاً
ليكونوا عبرةً للأقوام اللاحقة
(١٣)
أيها المتوحّد
كم ضياء عزلتك مبهج
وفريد
وسط هذا العالم المتفسّخ
كعجلات عربة هرِمة تحترق
(٢٣)
طائرة ترتطم ببرج
تتبعها أخرى
وفي ركن قصيّ من العالم
قنابل تنفجر وشموس تستعر
من وقعها ترتجف السماوات السبع
وعصور الجليد
وفي الركن نفسه
رجل يقبض بأسنانه
على جروح الوحدة والانكسار
(٣٣)
أين ذاك الحمار الذي كنتَ تقوده
مهللاً شاحجاً مع طلعة كل صباح،
يبعثر الحصى في سيره كمفردات رهيفة،
ويُغرق جسدّه في الماء حتى المنتصف، فارداً
أذنيْه، محدّقاً في الأفق،
وعقاعق خضراء تملأ المكان.
وكان في الظهيرة يسترخي واقفاً
تحت شجرة السدر بعضوه المتدلّي
وعينيه المغمضتين، حالماً بأنثى وحشيّة
تركض في السهوب بحثاً عن ظل شجرة..
في المساء حين يعود من تجواله الشبقيّ
الصاخب، يتكوم هادئاً، ودموع صافية،
دموع النبع الجبليّ تنسكب من عينيه الناعستين،
تتجمدّ في المآقي وتفيض على عظام الخدّين،
متسلّقةً الجسدَ خيطاً لألاء،
حتى تلامس الأرض
(٤٣)
ساجية هي المقبرة
هدوء مشوب بأمل الانفجار
انفجار بركانيّ يدفع بصبر الأشلاء إلى السطوح.
مناديل ورقيّة تتطاير في الفضاء
مناديل الموتى الذاهبين
في نزهة موتهم
المنسحبين أفواجاً من الحياة
بأقدام غارقة في الوحل
ووجوه عفّرها غبار الأزمان
لا أثر يدل على هذا الانسحاب
عدا النجمة المنطفئة، نجمة الرماد
أمام البوابات السبع لعالمٍ قضى نحبَه
قبل أن يولد.
(٥٣)
المريض يهذي
إنه يهذي أكثر من أمس
هذياناته ترتفع سحائبَ سوداء
لجيش مهزوم يسوقه المنتصرون
إلى اسطبلات الأسْر:
إنه يرى نفسه من غير أن يرى شيئاً
ربما رأى نجوماً ومجرّات تتوارى كالدخان
خلف هذيانه المريض
وكأنها على مقربة من الثقوب السوداء
وحيوانات جريحة تحملها الوديان نحو البحر
ورأى جنازته تخترق الأزقة
تلك التي شيّع فيها جنازة أبيه وأمه قبل سنين
ورأى المشيعين يتناوبون الحمل والأدعية
وأحياناً ضاحكين كأنما في حفلة عرس،
عرس الواويّات التي وُلدت قبل التاريخ
نائحةً على ذرى التلال المحيطة.
(٦٣)
ها أنت أيها الغريبُ
قد عدتَ إلى مرابع الطفولة
بعد أن وصلتَ أطراف النهار
بآناء الليل
حالماً بالعودة
بعناق النجم المضيء على شرفة الطين
والنخلة التي زرعْتها اليد المباركة للملاك
ها قد عدتَ:
تجمّع الأهل والأقارب
من كل فجّ وحارة تجمعوا
سفحوا دم الذبائح، أكلوا
تبادلوا أحاديث كثيرة، وذكريات
لكنك بقيتَ شاخصاً بصرك نحو النجومِ
التي يسّاقط نورها الميّت فوق الهضاب
كالضحكة التي انطفأتْ
قبل أن تطلقها مجلجلةً في الفضاء..
لقد جفّت مياهُك أيها الغريب
وروح الملاك غادرت الأحبّة والمكان
(٧٣)
تلك الطُرق الملتوية بين جبال وشعابٍ
تتناسل أطيافها في الخيال الطِفلِ،
لتفضي إلى قرى معلّقة في فراغ الأطواد
الباهضة، أو إلى صحراء تبتلع النسرَ
والزمانَ كما يبتلع القرشُ صغارَ الأسماك
في طريقه إلى مأدبة في أعماق الأوقيانوس…
تلك الطُرق الأولى، هي التي أفضت
إليك بأسرار الوجود المقذوف
في سحيق العَدَم الأزلي.
(٨٣)
النخلة الوحيدة أمام البيت
تحيط بها غابة أشجار غريبة
جُلبتْ من خارج المكان،
تحلم بعائلة النخل والجذور
بالأطفال والخِراف السارحة
بين الجداول والنجوم..
ما الذي رماها في هذا البلقع الخاوي
بين أكوام الخراسانات والنحيب
من شنّ عليها هذه الإبادة الأكثر فتكاً
من جميع الحروب؟..
نخلة نجران التي بجّلها العربُ القدماء
نخلة مسجد الوادي
وقد سُفحت حولها الهدايا والنذور..
النخلة تحلم بالرحيل
بالإعصار الذي سينتزعها من الموت المتْرَف
ويصحبها إلى حيث تريد
(٩٣)
قاتلوا كثيراً
ناموا على الأرصفة
وتحت ضجيج البراكين
القطارات مرّت على الأجساد النازفة
وألقتْ بها في مهبّ الفيضان
النساء لوّحن من البعيد…
ولأنهم في وطيس المعركة
لم يستطيعوا اختلاس نظرة إليهن
حتى أشرفت نجمة المتحاربين
على الغياب.
(٠٤)
النيازك تمخر عُباب السماء
تتبعها مذنّبات صغيرةٌ
كديناصورات تتمرّن على الركض
التماسيح في هدأة الظهيرة
تزحف تحت ركام النهر
والحمام الزاجل يحمل البريدَ السريعَ
إلى مخلوقات الكهوف
النخيل الهائم في الفضاء
يتحدّث بلسان الغيب:
تلك واحدة
من العلامات الكثيرة
لانبلاج العصور السعيدة في التاريخ.
الصورة