صباح زوين
الكتاب: ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه))، شعر.
المؤلف: سيف الرحبي.
الناشر: ((منشورات الجمل))، 2000.
يجيئنا سيف الرحبي دوما من قصي الأمكنة والأزمنة، رحالة لا سقف له سوى الشعر، ولا مرقد سوى محطات المصادفات والمجازفات الخيالية الداخلية التي تستحيل في حياة الشاعر صورا وكلمات. يجيء سيف الرحبي من المدن الكثيرة، هو المتنقل المستمر، ليراها تارة منكوبة وتارة أخرى مزدهرة كما عرفت في تاريخها القديم، شاهدا على تطورها كما على انكسارها. ولا تستوقف الشاعر الجغرافيات فحسب بل المرأة أيضا التي تظهر في كتابته كأحد عناصر الطبيعة المتدفقة الى المخيلة حمما بركانية. الا أن هذه المرأة، وعلى غرار المدن والأمكنة الكثيرة المختلفة، سرعان ما تدخل عالم الالتباسات، فتضحى الأولى من نوع الأشباح، والثانية انقاضا.
عالم مزدوج وهجين، تتآكله الريبة والخوف، غني بالعناصر الطبيعية والألوان والحالات البشرية المتراوحة بين التطرف والهدوء. بل ان كتابته لا تستكين، مغامرة في ادغال المجهول، في بواطن العقل الدفينة حيث تنبت الأشكال والمشاعر المتنافرة وأنماطنا الحياتية العادية، فالقصيدة هنا نشيد احتفالي طويل. إنها الاحتفالية بالإنسان الأعزل والإنسان الماضي قدما في حياة لا جدوى منها ولا حتى من تفاصيلها الجميلة، انه نشيد الألم والعزلة والموت والحرب والترحال الأبدي. مرثية الكائن المسكين الذي ينزل من أحشاء الكوابيس لتواكبه في مشواره البائس، في تيهه المحتوم، يدور حول محور لا يراه ولا يعرفه، ونقطة البداية متصلة بنقطة النهاية، كان الشاعر أمام جحيمية اللاخروج واللادخول. ولانه في جحيمية الوحدة، ولان الوحدة تجيز كلما لا يعقل وتكسر حواجز الداخل، نراه يفتح أسوار أعماقه لتنطلق منها الحالات والمشاعر متفجرة صاخبة متناثرة في اتجاهات اللغة الشتى. ساخط وشرس ولا وداعة طالما ان المعاني لم تكتمل. لا تنجز المعاني ولا تتخذ لها شكلا ان لم تنبثق من دائرة المرأة التي أضاعها الشاعر في احدى المدن، خلال ترحاله الكثير وأضحت في غيابها رمز المكان ورمز الزمن في مروره الأليم، أضحت مرآة المدينة ووجه الصحراء. والمرأة لدى الرحبي مصدر تفاعل المخيلة وما يحوطها اذ تتقد الصور الغريبة على صفحة الوجه الشاحب غيابا. واللافت لدى الرحبي المزج المنسجم بين رؤى الهلوسة والفانتازيا والصور المادية من الواقع. والمزج  ذاك من جمالية خاصة بشاعر يعلم كيف يتعاطى اللغة الرمزية أو الاثيرية، واللغة اليومية الحديثة في الوقت عينه. لا يتم المزج على حساب الكتابة التي تحافظ على إيحائها المفترض وعلى مناخها الملحمي- الاسطوري الكثيف، جاعلة من المادة كلها شريطا حياً وحادا من سلسلة الحياة البشرية منذ ولادتها، مروراً بصورها الاسطورية المشتركة بلوغا الى البشرية بحداثتها الفكرية والتقنية.
الأرض دوما الأمكنة المتمدنة أو البدائية التي ترسم خرائطها الذهنية والعاطفية. المساحة الجغرافية التي تمد الشاعر بإشاراتها البشرية الأولى مضافة الى رؤاه الغزيرة. بوثنيتها، أي بشموليتها الانسانية. يلمس سيف الرحبي، عبر شاعريته الفياضة، وفي إرهاف وشفافية، كل العناصر التي تحوطه ليجعل منها أشعة متلألئة تضيء الحروف والكلمات كـ((النيازك)) أو كـ((البحيرة المسحورة)). يرى الشاعر الى الأرض بإنسانها فياضة متكاثرة، مفعمة حركة وحيوية بلوغا الى النشوة الاثيرية القصوى، بل الى الاحتراق كـ((العشب المحروق)) وقد يكون البعث بعد ذلك، وما اليه. القصيدة مع الرحبي سحيقة في الزمان، وبالتالي في المخيلة الانسانية المشتركة، تذهب الى الفقر، حيث العلامات والرموز، حيث((الكهف)) الذي تختبئ فيه ((ثعابين)) الرأس في صورها الجحيمية وصور النعيم. الا ان التنقل حاضر على الدوام، وصورة المغيب والرحيل كذلك، ونعود بذلك الى صورة المرأة التي تجسد المفاهيم الثلاثة على أفضل نحو كما ((ينزلق العدم)) أو ((كأقوام غابرة))، فهي الغرابة وهي الألفة، والاشارة التي من أجلها يبدأ المشي، ولا يتوقف الشاعر عن السعي. ها هو ((يمشي في الحقول)) المفتوحة أمامه الى ما لا نهاية. يسير وراء المرأة- السراب. يمضي الى أقصى التصوير والرؤى ولا يكتفي بمنحى الغرابة اذ يعرف كيف يغرف من حقيقة قائمة بين الالتباس والوضوح. يرسم وجها يتلون بتلاوين مائية صافية وطرية، حيث الرأس مترنح بالنعاس، أو حيث تميل المرأة على ((كتف طائر يعبر الحديقة في الصباح)). امرأة قصيدة الرحبي مترنحة بين القسوة والليونة. ((المجيدة)) العابرة في ((الفراغ الكبير))، واذ يضع الشاعر أمام ناظريه تناقضات الحياة فيرفع لحظة مجد المرأة قبالة عبث الوجود وفراغ معانيه. لا يأنس الشاعر الى منطقة تعبيرية واحدة، ولا يركن في مطرح جامد، بل يستنزف دورانه حتى ((الفراغ)) الأكبر أو حتى الرؤيا الأخطر ((ربما رأى طيوراً وحيوانات تسبح في الضوء نفسه))، وقد نقول ان ذروة جحيمية سيف تتبلور في ((ملحمة)) القصيدة الاخيرة ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) ففي هذا المقطع الطويل تخرج اشارات الذاكرة البشرية من أعماق الشاعر، جاعلة من الكتابة حيزها التاريخي والاسطوري  بما تحمله المخيلة من دفق كلامي يعبر عن ((الضمير الخبيء)) للانسان منذ بدائيته الغابرة الى ازدهاره العقلاني والمادي. انها بالأحرى، وفي شكل خاص، قصيدة الدمار الذاتي والحروب التي انهكت الانسان في روحه كما في جسده. كأن الطائر رسول الآلهة، اشارة المعاني مجتمعة، المغزى والسر الدفين، الحامل على جناحيه الرموز السرمدية. الجندي والطائر، أي الانسان ومشهده أفقيا وعموديا عبر الأزمنة، الانسان ورموزه الأساسية الأولى: الآلهة والملوك والشعراء والكهنة والأنهر. ((كان النيل يجري حاملا الابدية في خرجه، وكان دجلة والفرات يوم لم (…) تكن حضارات)). يعبر الزمن خريطة سيف الرحبي غير الثابتة فالشا مرثية الانسان الذي بنى حضارته على ((اهرامات لا مرئية من الدم)) والذي رأى ((المواكب تمضي بالجنائز والمجد)). ليس في اليأس يكتب الرحبي مرثيته الملحمية بل في الوعي الحاد للمصير والتاريخين الواقعي والاسطوري، متشبثا بالحلم وبالطائر الأزلي الذي ((بقلبه وريش أحلامه البسيطة لم يسقط في بحر السلاح الهادر)).
مشهدية شعرية متعددة الطرف كتبها سيف الرحبي برحابة نفس متواصل تدعمه لغة أصيلة.
النهار/ لبنان/ 2001