حلمي سالم
من بين الأصوات الشعرية الشابة، التي تتألق في الحياة الشعرية في الخليج، يسطع صوت سيف الرحبي بجملة من الاشعاعات والاضاءات الخصوصية المتنوعة.
ديوانه الأخير ((رأس المسافر))- الذي صدر عن دار توبقال المغربية- هو ديوانه الرابع، فقد اصدر من قبل: نورسة الجنون، دمشق 1981- الجبل الأخضر، قصص/ شعر، دمشق 1983- أجراس القطيعة، باريس 1984.
* كأن الريح تحتي*
وسيف الرحبي صديق عزيز قديم، عرفناه، في القاهرة في اوائل السبعينيات، منذ كان فتى يدرس في الثانوية العامة ويختلط بالشعراء اليمنيين والبحرينيين الذين كانوا يعيشون بالقاهرة، مثل عبدالعزيز المقالح وحسن اللوزي وعلوي الهاشمي وغيرهم من المثقفين.
في هذه الأجواء التقينا، لكنه ما لبث أن غادر بعد الثانوية العامة، وانقطت بيننا السبل حتى فوجئت به يناديني بغتة في أحد شوارع دمشق في صيف 1981، لأعرف منه انه يدرس في جامعة دمشق. انقطعت بنا السبل ثانية، حتى التقيته- مصادفة كذلك- عام 1985 في مقهى ((كليني)) بباريس، لأعرف منه انه يقيم بها منذ عامين، وانه يدرس اللغة الفرنسية ويراسل احدى مجلات الخليج، وانه غير مستريح.
وقضينا معا، بباريس، أطول أوقات علاقتنا المنقطعة الطويلة.
عندما عدت الى القاهرة، عرفت انه رحل الى لندن، ثم الى المغرب، ثم الى بلده عُمان، ولست ادري اذا كان مازال مقيما ببلده، أم هاجه الحنين الى الترحال ثانية.
انه، اذن، شاعر قلق لا يقر ولا يقيم، يذكرك مرة بشعراء ((التروبادور)) الجوالين، ويذكرك مرة ثانية بقول المتنبي ((على قلق كأن الريح تحتي))، ويذكرك في كل مرة بمرارة الانخلاع عن الوطن.
* من الغربة الى الاغتراب *
يمكن اعتبار الترحال الدائم والاسفار المستمرة، هي ((المفتاح)) الأساسي لتجربة سيف الرحبي، منذ عمله الاول، حتى ((رأس المسافر)) خاصة. ان هذا المفتاح سيضع أيدينا على دروب الغربة والاغتراب التي تسير فيها النصوص الشعرية سيرا مكثفا حيا مختزلا.
إن الانفصال عن الأرض/ الوطن، ينتج الشعور ((بالغربة))، لكن الشعور بالغربة وحدها لا ينتج الشعور ((بالاغتراب))، الا اذا امتزجت هذه الغربة بعناصر غربة الانسان الوجودية والسياسية والمعرفية والحضارية، فتصبح ((الغربة)) الجغرافية ((اغترابا)) اجتماعيا وايديولوجيا شاملا، اوسع من المعنى ((الوطني الجغرافي)) يقول:
((من التفاتة ذئب أرى في ضحكته هجرة الاسلاف،
انفجرت هذه الطرق التي لا ينام فيها المسافر
إلا ورأسه مسنودة على معضلة)).
ويؤكد الشاعر نفسه هذه الحقيقة- الغربة التي تلد الاغتراب- في أحد حواراته الصحفية- بقوله ان ((الانفصال المبكر عن قريتي وبلدي وأمومتي التي ارتبط فيها ارتباطا بالغ العمق، وسم التجربة عندي بسمات الانفصال والحنين والعودة الى الاصول الاولى:
((كنت اعبر الرصيف نحو الضوء الذي
انفجر فجأة من تحت اضلعي،
شاردا في أزقة الذكرى حيث يتسكع الحيارى
والمشعوذون على ضوء الشموع التي أوقدتها
المرأة التي دوختني عبر القرون،
اصعد السلم الخشبي الذي طالما
تدحرجت في ثنياته
كل طفولة أيامنا المعشبة
* وجدان المكان *
هذه، اذن، نوستالجيا للوثة الحنين) الى الوطن والأم والبراءة الاولى في الزمان القديم. على ان هذه اللوثة تجد نفسها عبر عدد ملحوظ من العوامل النفسية، لتصور لنا بطريقة واضحة وطأة هذه الغربة وعمق هذا الاغتراب.
من أهم هذه المجسدات الاهتمام الفائق ((بالمكان))، وهو اهتمام يبرز لنا في ((أجراس القطيعة))، ليترسخ ويشمل في ((رأس المسافر)) هناك كان يقول:
((الوجوه الهاربة في ضباب يتلاشى،
المشاريع الوهمية، مقهى اللاتيرنا،
زكام الافلاس الحاد، قبعات تطير في الحلم،
ويتلقفها رجال ما قبل التاريخ)).
وهنا يقول، بطريقة الرصد والتتبع التي تشي بعمق الانفضال وضآلة الانسان الغريب:
((ما بين شارع الشهداء في الحي السابع والسان ميشيل
تحلق حكمة اليوم بانفاق المترو)).
المكان – اذن- فاعل جوهري وعنصر حاضر من عناصر تكثيف الغربة والاغتراب، وميدان لتصوير الذات في مضاهاتها بأشياء ومفردات المكان.
على ان فاعلية المكان لا تكتمل الا اذا قرنت فنيا بفاعلية ((الزمان)) في مزيج شعري، ينقذ المكان من ان يبقى مجرد ((جغرافيا))، بل يجعله، مكان التاريخ الوجداني للشاعر. ومن هنا، فان جدل الزمان والمكان سمة مهمة من سمات التجربة الشعرية، في تضافرهما لتصوير الرعب والاحباط والاستلاب:
((كل صباح حين تنهض من نومك
الضارب في القدم
فتح نافذة تدخل منها موسيقى،
ورجال يحملون على اكتافهم
قوارب
تسطع فوقها شمس مريضة)).
* فضاء الصخب *
الصورة الشعرية غير المألوفة، هي ابرز منجزات العمل الشعري عند صاحب ((رأس المسافر))، بما تنطوي عليه من جرأة ودهشة وخصوصية. وهذا ما اشار اليه الشاعر اللبناني  جودت فخر الدين حينما كتب ان ((ميزة سيف الرحبي تكمن في قدرته التصويرية. اذ تبدو لدى الشاعر طاقة وافرة على اجتراح الصور الحادة، الصور التي تتجدد من أمام القارئ باتجاه متصاعد يسمو بها الى فضاءات من الصخب)).
هذه الصورة المدهشة، تستعين بالعديد من الخبرات والتقنيات الشعرية، لكي تحقق نفسها بهذا الشكل المتفرد: بالسريالية التي لا تصدر عن المنطق المعتاد للتصوير تارة، وبالسيولة التخييلية الداخلية تارة، وبالمزج بين الممكن والمحال، العقلاني والفانتازي، الموضوعي والذاتي، الملموس والتجريدي، تارة، وبأداء ينطلق من الجزئي والنثري، خلق الكلي والشعري، في كل التيارات، لنقرأ:
((وهناك رؤوس وهمية،
تطل من النوافذ على بقايا الثلج
الملتصق بالحواف،
وكأنما تطل على قسمتها الاخيرة في ميراث الأجداد)).
* حضور الثعبان *
هذه الغربة وهذا الاغتراب، في اطار من الصور المبتكرة، ينتج عن حضور مجموعة من العناصر أو المواد، التي تتركب منها تقنيات الأداء الشعري.
من هذه المواد الاولية سيادة بعض الالفاظ والمفردات التي تشكل نواة أساسية للتعبير، بما يحمله من دلالات سابقة، وما يشحنها به المبدع من دلالات جديدة. وأبرز مفردة في ((رأس المسافر)) هي مفردة ((الافعى)) ومشتقاتها، فلا تكاد تخلو قصيدة واحدة من الثماني والعشرين قصيدة التي يحتويها الديوان من لفظة الافعى او واحدة من عائلتها. ان سيادة لفظة الأفعى تعني سيادة حزمة من الدلالات: الشعور بالنعومة الملساء المؤذية، الشعور باللدغ المباغت، السم، الخديعة، الزحف الخفي والتلون:
((الغيوم تلد التوقعات،
ولا هواء يطوح بالافاعي التي تحبل بها الظلمة الحادة.
صمت الجهات وطرق الذكرى)).
* * *
ومنها اشهار الحلم، والوهم كأسلوب أساسي من أساليب التعويض او المقاومة من ناحية، او لتجسيد الاحباط والهزيمة والانهيار من ناحية ثانية:
((وهكذا ايضا أحلم انني قائد اوركسترا،
في جزر تشتعل فيها النيران)).
والحلم هنا – عادة – حلم غير تبشيري، بل ينضح دائما، بالمفارقة والتضادات غير المتوقعة، لكنها تصب في كل حال باتجاه اصطناع واقع مغاير.
* * *
ومنها نزوع التصوير الشعري الى ((الشيئية)) عبر التركيز على رصد الموجودات والأدوات والكائنات، لا على رصد المشاعر المحكية الداخلية مباشرة.
هذه الشيئية ستضع يدنا على مسلم مهم آخر، هو المنظور الاجتماعي ((الانثربولوجي)) للتصوير الشعري. اذ سنجد دائما اتجاها نحو الحديث عن القرون الغابرة وميراث الاجداد والجذور والاسلاف والتاريخ والعظام والحفريات والبشر المحنطين والديناصورات والعشائر القديمة، وغيرها من اشارات ثقافية وحضارية وتاريخية واجتماعية، مما يمكن أن نعتبره مصدرا من مصادر التجربة الشعرية عند الرحبي.
* * *
* الارث والعصر *
على ان من أبرز هذه المواد الأولية، المقارنة الدائمة بين الماضي والحاضر، بين الميراث والعصر. في هذه المقارنة يستخدم الشاعر أسلوب تداخل الازمنة، مصورا بحدة واضحة- ساخرة أحيانا- التعارض بين الغابر والقائم، أو مستدعيا التاريخ ليصنع الماضي في قلب الراهن:
(( في رؤياك الاخيرة:
ابن عربي يسرق قبعة من طفلة
ولا يتغذى من لهاث الشجر الطالع من عمق المحيطات)).
كأنه يريد أن يقيم نوعا من ((حوار الحضارات))، او نوعا من السخط على الماضي والحاضر معا، او يقارن بين الوطن المتأخر والغرب المتقدم، في نقد لاذع لكليهما: لتأخر الذات، ولعقم التكنولوجيا وقهرها للانسان.
هي تجربة متميزة، بحق، العلم الشعري فيها عمل أصيل، لا تقليد فيه، يحفل بمزج حي وصحي من العناصر التشكيلية الجديدة:
بدءاً من تقنية الحلم/ الوهم، الى الغربة والاغتراب الوجودي والانساني والحضاري، الى صراع الارث والعصر، الى الاستعانة بالصوفية العربية، الى اللغة الصادمة، الى السريالية والخيالات الحرة، وانتهاء بجماليات المكان، والنزوع الانثربولوجي ((الاجتماعي)) الشعري النابض بمخاض التاريخ الانساني.
ولهذا كله، كان يوسف الخال محقا حينما كتب قبل رحيله ((ان حداثة سيف الرحبي ليست حداثة افتعال، ولو كانت كذلك فلا تستحق دمعة حبر واحدة، انها انفجار الوعي والحساسية الجديدة في تعبيرها عن شقاء الانسان في غربته ومنفاه، نقرأ ذلك في لغة شعرية متميزة وسط فوضى الهويات الشعرية السائدة)).
أما سيف الرحبي نفسه، فانه- بصدق الشعراء الحقيقيين- يقول عن غرض الكتابة الشعرية عنده ((يكفيني ان اكتب كرجل حزين يحلم ببعض الأسفار وبعض الصداقات)).
أما نحن، فإذا أردنا ان ننتخب جملة تلخص عمل سيف الرحبي، فلن نجد أدق من القول بأنه يسعى الى الكشف عن مظاهر اشكالية ((المستقبل الواقع في مأزق الولادة))، كما قال بحق سيف الرحبي، هذا الشاعر الذي يعيش على قلق كأن الريح تحته، تلهمه الابداع المتفرد.
الشرق الأوسط 23/11/1985م