أسماك السلمون التي تولد على مصبات الأنهار وتنطلق إلى بحار ومحيطات لا حدود لهما، بجانب صفاتها الفريدة وحنانها وحسيتها الطافحة بشهوة الذكور والإناث، حين تقضي حياتها على هذا النحو العارم الكثيف، ويدركها إحساس الموت والزوال، وأنه قادم لا محالة، تقفل راجعة من حيث أتت، إلى مصبات الأنهار، لتموت في مرابع ولادتها الأولى..
كذلك الفيل، هذا الكائن الخرافي الضخم المترحـّل في ظلام الأساطير والغابات، حين تبدأ هواجس المنيّة في افتراسه، ينفصل عن قطيع الفيلة وينتبذ مكانا قصيا ليموت وحيدا، مثلما يسكن المبدع عزلته وحقيقته الداخلية لحظة الارتطام القصوى بالعالم، بعيداً عن صخب الجماعة وطقوسها.
* * *
في ألمانيا حسب الأنباء، أغارت مجموعة من أسماك القرش على التوصيلات والأسلاك الكهربائية المُوصَلة عبر أعماق البحار إلى مدن البشر، فأعطبتها، أحالتها إلى مِزق متناثرة.
كان ذلك احتجاجها العنيف على غزو التكنولوجيا لقعر دارها، لعرينها الذي تناسلت فيه السلالة جدا بعد آخر. إشارة انتقام الطبيعة وغضبها ضد العبث بمكتسباتها العظيمة عبر العصور.
* * *
ما تبقى من الأصدقاء بدأ في التلاشي تدريجيا، فما إن أحل في بلد حتى أخرج دفتر التليفونات، يظل بجانب السرير أياما، كلما أمد يدي بغية الاتصال، يجتاحني احباط، رغبة مُجَهضة سلفا. أظل أحدق في السقف والفراغ حتى تضمحل همة الاتصال. أمضي في الشوارع التي تحفظها قدماي من غير قصد.
* * *
طافت عــرّافة الأزل على العالم، تتفقد موتاها، عابرةً بهم دخان الأزمنة.. يترك الفنانون والشعراء آثارهم لوهم الخلود، قاذفين أجسادهم على قارعة الاضمحلال الأكيد.
* * *
النبتة التي غذتها الفصول لتغدو شجرة منيعة باسقة، جاء الخريف ليعريها حتى من الذاكرة، يا لراحة البال، لم تعد لها ذاكرة، لم تعد لها أوراق ولا أحلام.. هكذا جذع وأغصان ناعسة مفتوحة على الهواء والطيور، حتى ينقضي الفصل الأكثر صراحة وعمقاً، وتعود إلى أحلامها وذاكرتها المرهقة.
* * *
السمكة التي تتقلب في البحيرة الصغيرة..
أمن ألم أم نشوة ؟
تبتكر إيقاعها خارج السرب
المندفع نحو البحر؟
* * *
لم نفكر في شيء لم يفكر فيه الأقدمون، عدا أن حركة الطائر لا تشبه نفسها في كل مرة يطير.
* * *
مرحى، مرحى لهذه الريشة البصيرة تطير من ضفة إلى أخرى.. لهذه الخفة المتحررة من أعباء العصور.
* * *
نوافذ مفتوحة وأخرى مغلقة، ماذا تخبئ تلك المغلقة للبشر المستهلكين المكشوفين، الذين لم تعد لهم أسرار ولا أعماق.
* * *
لماذا حين نغادر المكان أو نهمّ بمغادرته، قبل يوم، لحظات، يزدهر وتتجدد رؤيتنا إليه، يكون أكثر جمالا كأنما نراه للمرة الأولى، حتى عيوبه وإشكالاته التي كنا نكابدها تختفي تحت وطأة هذا الشعور بالفقدان والحنين إلى حيوات وأشياء، توارت أو ستتوارى بعد قليل لتدخل في نظام الغياب الصارم، الأكثر تماسكا من كل الحضورات الماثلة.. بعد قليل سأودّع المقهى والمرأة، والسرير وهذه النافذة التي أطل منها إلى العالم. أرفف المكتبة. كم من مكتبة غادرنا. كتب تشردت وضاعت مع تشردنا وضياعنا.. سأودع التفاصيل والعادات التي تمليها شروط مكان بعينه. رغم ما ألم بنا من ضجر تجاهها. حتى عناصر العادة اليومية التي تضغط ونحلم بكسرها دائما كيلا تعوق انطلاق مخيلاتنا في الفضاء الرحب، تكون موضع وَجْد وذكرى، والتي ستتناسل في أمكنة أخرى، ضمن معطيات مختلفة ربما.. الكائن لا فكاك، يسكن منزل تناقضاته ونزوعاته المتصادمة التي تؤلف مجمل كيانه المادي- الروحي.
* * *
ظل الضحيّـة القاتم
يطارد جلاديه حتى آخر زقاق على الأرض التي تلتهمها الحرائق.
صرخة الشهيد، ارادته المثخنة بالجراح،
تلتفّ على عنق القاتل حتى آخر قطرة
في دمه الفاسد

فجـــر
الفجر يزحف بعتاده الثقيل
خوار ثيران تُنْحر على مقربة
الجيران يولولون على أسرتهم
الجيران الذين لا أعرفهم.
الظلام يطبق من جديد؛
إنه فجر كاذب
لكن جلَبَة الثيران تزداد حضوراً
وتشتبك بالعواء الفظ
للشاحنات والكلاب.

وحدها الديكة تحاول إنقاذ المشهد
بما تبقى من ترانيم
تسمح للحالم أن يرتاد مياها بعيدة
في الذاكرة.
كل بزوغ قيامة جديدة

عيون الثعالب
هذا الليل الذي تضيئه عيون الثعالب
هذه النار التي تلتهم عظام الموتى
وهذه التربة الهرمة
يتصارع عليها الأعداء
دثريني بشالِك الأسود
الذي ورث النورس
رائحته البحرية.

أنثى باذخة
النبع ينسكب من خاصرة الجبل
ماؤه الماسي
خفقة نسيمه تهب على الإنسان الأول
هلوساته
وهذه الشجرة الظمأى من قرون
تسكن أحلامه كأنثى باذخة.
وربما لم يكن هنالك نبع ولا شجرة
فقط
هذا الخيال المأخوذ بصدمة الغياب

الجبل الأخضر
من ذرى الجبل الأخضر
المتاخمة لحدود الغيب،
كان القناصة يرون الحيتان
تتدافع في الهواء، مثنى وثلاث
صقيلة، بيضاء، مرحة
ذلك المرح الذي يأتي بعد رحلة
في أعماق المحيطات.
على صفحة بحر (الباطنة) النائي
كان البدو يرون الحيتان
ترقص في الهواء
ويقولون:
هذه سيوف جيشٍ مسْلَطةٍ
باتجاهنا..

ولادة عسيرة
هذه الكلمات الغاصّة في القلب
المرتبكة، المصطدمة بالجدار
الكلمات التي تجزُ الأحشاء
بضوئها القاطع.
هذا الطائر الذي يغني في
ظلام الثكنات.
الكلمات النائحة
كذئاب في ليل قرية مهدّمة،
تحلم بالهواء الطلق
تحلم بالنجوم.

بّـحــــار
البّحار الذي تحطمت بوصلته
وانطفأت نجمة مساره العاشقة؛
قذفه المدار الاستوائي
إلى قعر ذاته
ليكتشف رعب الأعماق

عصفور
عاد العصفور الصغير
ليغني وسط الخرائب.
الفضاء يردد لحنه
وكذلك القتلة
على رؤوس العمائر والثكنات

الفيلسوف
على سرير احتضاره
ينام الفيلسوف
مصغيا إلى الموسيقى والشعر
من نافذته المعتمة
يتأمل الشجرة المورقة
التي كانت في غمرة الربيع.
يرسل نظرات متعبة، حزينة
كأنها التحية الأخيرة
لسر الكون المستعصي على التفسير


واقعيـــة
رأى (فريدريك نيتشه) ذات صباح
حوذيا يجلد حصانه على الطريق العام
كان الشتاء الألماني في ذروته
وكان المارة يندفعون إلى المصانع.
لم تسعفه عدميّته تجاه الخلق والتاريخ
لم تسعفه السخرية المريرة
وعبث الوجود.
انهار مبنى إرادة القوة
أمام اللحم الحي وهو يتلوى تحت السياط.
صرخ الفيلسوف صرخته الأخيرة
وكأنما الألم البشري السحيق
انفجر من حنجرة واحدة.
بعدها، دخل في غيبوبة المرض
حتى نَزْعه الأخير
تاركا قرن العبقرية البلهاء يرفس
تحت مطرقة أفكاره الصادمة.

بدايات لا تنتهي
صدمة البدايات
محنة المخيّلة
أي الطرق تسلك
في البحث عن الكنز الخبيئ بين الكلمات
هذه الغابة التي تسرح فيها النمور طليقةً
من غير سياج
سَحَرة يطيرون في ظلام دامس
معسكرات اعتقال ومحميّات ذرية
خزانة الملابس التي تحسبها مغارة مليئة بالقتلى
أو كهفا تفقس فيه الآزال
مدن وقارات تسوقها الغرائز الوحشية كالقطيع.
هذا اليمام الهادل على شجر الأراك
وجه المرأة المتلاشي في الضباب
صبر أيوب،
عزلة يونس في بطن الحوت.
الجبال الصحراء الطفولات الآفلة
الموت الولادة
الغسق الهاذي خلف السحاب
صدمة البدايات التي لا تنتهي.

هــواء عــذْب
استمتع بالهواء العذب
بمراقبة الطيور والحيوانات
وسحب تعبر سريعة على شرفتي
بالنظر الى القمر في الظهيرة
كأنما يستريح من أعباء العمل والاضاءة
والنخلة التي يفترسها الحزن
يوم كانت سيدة المكان.
بالطائرات تحمل المسافرين إلى الشرق القصى..
بالقراءة لشعراء منتحرين:
(خليل حــاوي..جــورج تراكل..ديك الجن.. ماياكوفيسكي. يسنين.. تيسيرسبول).
أحاول استعادة اللحظة
التي استطاعوا فيها تنفيذ القرار
هناك محاولات فاشلة
الفشل الذي يؤسس انتصاره الخاص
الخالي من زهو الانتصار
كالتحديق في عيون الضحية
في الأغوار البعيدة للجراح.
قطفوا زهرة موتهم ورحلوا
بعثروا وليمة السراب.
كيف لم تُلقِ الحياة بثقلها فيتراجعون
كيف لم تُلقِ الذاكرة بظلها
فيذهبون للانتظار؟
كان البحر هادئا
والطقس أروع ما يكون
أكملوا القصيدة بالغياب
تركوا الموسيقى مفتوحة
لترشد أرواح الموتى
تركوا لوحات لأصدقاء ماتوا في الحرب
وأحجاراً بحريةً
جلبوها في ليلة عاصفة

غنيمة كل يوم
من الخلجان الصغيرة على بحر عُمان الشاسع
الخلجان التي صَنعَت عقده اللؤلؤي حتى إفريقيا
يد ماهرة نحتتها بين الجبال
يد عملاق خرج من أسطورة بابلية
ظفرت مخادعها التي لم تطأها قدم الإنسان،
التقط المحار والحصى المغمور بألوان قزح
ريش الطاؤوس المبعثر على الجنبات
غنيمة كل يوم
أشتمّها فتغمرني أنفاسكِ
البعيدة

عاصـــفة
الحيوان ينزف على باب بيتكِ المشرّع
على احتمالات الريح
يرفس وسط خيالاته الدموية
الحيوان الذي ربيّتِه
حارس ظلك الوحيد
يغمض عينيه ليجتاز العاصفة التي لفظته
على جبال من جليد
لا يستطيع احتمال غيابكِ
لا يستطيع الحياة

الخطــــيئة
تتبديّن في الضوء القاسي
للمغيب
وكأن روح الطائر الجريح سالت
في دمائك
وحيدة مهجورة في الضفاف
تقولين:
الأفق سينكسر على رؤوسنا
من فرط رهافته
والدنيا لا تدور.
تمحين الخطيئة بالحب
بالجسد الناضح بالرغبة
ولا شيء يسبق اللهاث نحو الذروة
عدا الموجة التي تغمر الفراش بالزَبدْ.
محمولة على الجناح الخافق في الفراغ
جناح الهذيان السعيد
أحلامكِ التي تسبق المستكشفين
إلى الجزُر المستحيلة

مطــر
في حديقة (سانت جميس)
الزهور والموسيقى
جسدكِ المبلّل بالمطر
أفواج السياح بآلات التصوير الغبيّة،
تنتفض الأعضاء في قُبلة
كأنها الأبدْ..
تشرحين لي أحوال البط المقتلع من أواسط آسيا.
السناجب تتقافز بين الأكمات
والبرق بلسانه الوردي
لسان أفعى النهر
يلحس الطرقات

بســــتان
البستان
الذي يصدح على موجه طائر أعماقك الغريب
البستان الذي روته دموع بشر وآلهة
ينتظرك
كصحراء فقدت صبرها
صحراء تنهشها هواجس الإنتقام

عشـّــاق أضاعوا الطريق
تلك المياه المتدفقة التي تستحم فيها
أوقاتك المشمسة
الأيادي الخضراء المجبولة من مطر الروح
أحجار الساحل الملوّنة
يقذفها البحر مع زفرات فجره الأولى
ملائكة على شكل أحجار صافية
تأوهات عشاق أضاعوا الطريق
الى المعشوق
أضاعوا الزاد والغَنَم، دخلوا في المتاهة.

جـــــزيــرة
مدائنكِ كثيرة
أراها في نومي
كما ترى الطيورَ المهاجرةُ البحار المدلهمة
يجدّف على صفحتها بحّارة من «صحار«
أولئك الذين أوصلوا المسعوديّ
الى سواحل زنجبار
مدائنك الضاجة بمخلوقات وروائح وأطياف
تحملينها في الذاكرة التي تشبه جزيرةً
انفصلت للتوّ عن محيطها العاصف

ذكــرى
أتذكّر
وماذا بقي لي غير الذكرى
بعد أن أحاطني البدو بالخيام والبغام؟
أتذكر
المساء والغروب
وآهة الفجر بعد طعنته اليائسة
خلفها ينهمر الصبح والموسيقى
والقهوة المصنوعة بمزاجكِ الرائق

رســــالة
عزيزتي:
البارحة أمطرت
بينما الناس نيام
خلسة تمطر، بعد أن تحوم السُحب المحتدمة
لأيام مشرئبة الأعناق والأطياف
لا تكاد تحدق فيها الأعين العطشى
إلا وتضمحل حافرةً أثرها الموحش، لتمطر
في أراض أخرى مخضّلة بنعمة المياه وبهاء
المواسم التي لا ينقطع فيضها.
السحب التي طال انتظارها ونُحرت من أجلها القرابين وأقيمت الصلوات في أعماق الأودية الممحلة.. حتى الأطفال والمسنون والأرامل هرعوا حاملين أكياس الطحين والقمح إلى المسجد الغارق بين فجاج صخريّة وعرة.
السحب التي منذ كنا صغاراً، لا نجرأ على النظر إليها، كيلا تتلاشى،
وتُبقى على الأمل البسيط للحقول والأفلاج
التي تتلوى وتئن كحشد من الجرحى والمصابين
في حرب عبثيّة.
أمطرت سريعة في ليل النيام، سرابها الماكر استدرج الجميع إلى شراكه وجعلهم يحلمون.
إنها الحياة، نراها في مرآة سحب عدميّة
تلعب بأحلام البشر..
* * *
اليمامة تعرف بحكم الخبرة، أن قدرة فعل الخير لدى البشر محدودة مع ذلك تطارد صيادها وتهدل بالهداية.
* * *
مضى الزمن الذي كان فيه الصِبية يتحلقون حول المدفأة وشفاههم ترتعش على لهب الحكايات.
لم تعد هنالك مدفأة. لم يعد برد ولا حكايات، لم يعد هنالك وادٍ مياهه تسيل مع الغروب، ذاهبة للمطلق. لم يعد الجن ولا الظلمة التي تتآمر اشباحها بعذوبة وفزّع. لم يعد ثمة صِبية. لم نعد نحن. لم يعد العالم.
* * *
مدن تحترق
وأخرى تحوم في سمائها الكواسر
* * *
خطر له، أن الزمن في خضمّه اللانهائي
هو ذلك المحيط المتلاطم، وليس البشر سوى حشرات حائرة محكوم عليها بالموت سلفاً، تجّدف في مستنقعاته اللزجة.
* * *
المرأة التي تستلقي على أديم المياه المتموج في البركة، ويدها إلى أعلى ملفوفة بضمادات نظيفة تجعلها أكثر إثارة وفتنة..
الجرح الظاهر، ربما يقود ويذكّر بوحدة الجرح الخبيئ في ظلامه الناسك الحنون.
الشهوة قرينة المأساة غالباً.
* * *
في الخلاء الذي تفيض وحشته وتشخب من كل ثقوب الفضاء المحيط.. القسوة في أعتى صورها وأكثرها اختناقا، تنزل المرأة ديمةً،، على الأرض التي هجرتها الرحمة ورمت بها إلى أقصى درك
في الجحيم.
نظل نحدق في وثن الجمال الفريد حتى الإغماء
* * *
افترقا في الحلم بعد عناق طويل لينتقلا الى الواقع.
تلك قصة الطرد الشهيرة للجد الأكبر وذريته التي مازالت تصارع أمواج التيه؟
* * *
صباح الثلاثاء.. الطقس مازال باردا جدا. استعيد اليوم الذي كنت فيه داخل كابينة التلفون حين راحت تعتم تدريجيا حتى تلاشت الحروف أمامي نهائيا ولذت من جنون الإعصار بأنفاق المترو.
أنزل إلى مطعم القطار، ثلاث جميلات أمامي مما جعلني أبطئ، إحداهن يابانية، خطر لي على الفور فيلم أوشيما (امبراطورية الحواس).
أنتظر مكالمة من خليل على ضوئها يتحدد موعد الطبيب اليوم أو غداً وأقرأ:
لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى
مزارُ ولكن الغضى ليس دانيا
* * *
لما رأى لـبدَ النسور تطايرت
رفع القوادم كالفقير المعدم
* * *
مشرق نهارك هذا اليوم وأنت تمضي الى مجهولك اليومي من غير أن تفكر في شيء حتى ولا محطة تصل إليها أقدامك..
الطرق تشبه بعضها حتى تخالها طريقا واحدا من غير نهاية، والأشجار أفرغت حمولتها الأخيرة من الدمع، ربما تذكرتْ أول مسافر مر عليها، أول طائر حط على غصنها عبر رحلته الطويلة.
* * *
البارحة، كان عيد الميلاد، جاءتني أكثر من دعوة لهذه المناسبة.. لم يعد عندي أي إحساس احتفالي بأي مناسبة جماعية مهما كان منبتها ومبررّها. ذهبت لأشاهد فيلم (الشعب المهاجر) تلك القصيدة السينمائية حول الطيور. سموات وأراض حالمة وكابوسيّه تجتازها الطيور المهاجرة باستمرار، ترتاح قليلا لتستأنف الرحلة الأبدية..
كم من قناص وحشي فتك بها. كم من عواصف وانهيارات ثلجية، من براكين وجوارح وصحاري هرمة ليس عليها أي نبات أو علامة حياة. كم من الجنان والمدن في رحلاتها الشاقة على مدى الأكوان.
هكذا من غير بيانات ولا كلام ولا إعلانات ولا كلمة شكر وامتنان من أحد.
* * *
لا يثق إلا بالوهم، بعد أن عزت عليه الحقائق وشفّت حتى تلاشيها بالكامل.
* * *
يفسحون الطريق لمزيد من الجنائز هذا اليوم.
* * *
عناق فريد بين شجرة اللبلاب والحائط، هي تسند هشاشتها على صلابته، وهو يسند صلابته على هشاشتها الغضة.
* * *
تفتح النسمة شرايينها للرعد
كي تتحول هي الأخرى إلى عاصفة هوجاء.
* * *
الشجرة العارية أمامي.
كم من الفصول مر عليها، كم من خريف
يسكن أحلامها في هذه اللحظة؟
* * *
أمحو أيامي كي أحييها على خارطة أوهام أخرى.
* * *
يخضج المطر في الخارج،
فتخضر الوحشة في أعماقي
* * *
ليس للغياب مكان بعينه، انه الأمكنة جميعها، المدن والقرى والدساكر، المحطات ومخدع الجنس السائل بلعاب اللذة الناقصة.
وهذا الصخب الذي يكتسح المدينة نهاية العام!
* * *
البحر يلفظ أعشابا وطحالب وقناديل ميتة، يلفظ جثثاً، وفاكهة متفسخة، البحر هذا المساء، يجدد نفسه يتطهر مما علق به من عفن الأزمان. ضرع الأرض الكبير المحتشد بالخير والجمال والشدة، يقذف أحجاراً بركانية مشعة..
الشناجيب تسرح مرحة بلون الذهب، والقمر يتزحلق فوق تلال السماء متعثرا
بأجسام الشُهب والكواكب السيارة.
مالك الحزين يرفع نخبه عاليا
لهذه الليلة القمرية المدهشة.

********
الشــــــاعـــر
الى داليا .. بعد سنين ومجازر

أرضٌ وسماءٌ
سماءٌ وأرضٌ من الضحايا
تضطربان تحت أنامله.
يجلس الشاعر في ركن المقهى
يقذف جملته المرتبكة في مدلهمّ الليالي.
كانت الحربُ قد بدأت في رأسه
وامتدّت الى هشيم العالم.
يحدّق في فنجان القهوة بتلاله الداكنة. أحلام ذئاب تندفع نحو طرائدها المتـْرَفة
وعول تعشق ضوء القمر
بحّـارةٌ يعبرون المحيط الهنديّ
مدفوعين بالرياح الموسميّـة
نحو ممباسا
حيث أقام العُـمانيّـون ممالكهم البهيجة.
وهناك أيضاً كواكب أخرى تلمع في ليل المخيّلة:
نخلة ترتجف تحت ضلع الفيضان
فأسٌ نسيَها حطابٌ في أزمنة بعيدة،
زهرة تركها العاشق قبل رحيله.
البراكين التي تجاور أنهار الجليد في إيسلندا
وقوس قزح البلدات وقد اضمحلت بسكانها قبل قليل.
يرمق طرف فنجانه
يرى المصائرَ تتداعى كسفنٍ تقتربُ
من جبلها المغناطيسي.
ينظر الى الفنجان الذي اختفي
وربما استحال الى جملة شعريّة
تجــــدّف في ليل النسيان.

مســـاء جنائزي
في ضياء المساء
في بهو البحر الفسيح
في الفراغ الفاغر شدقيه كهاويةٍ في مضيق..
يتحوّل الفضاء المحتدم بالهوام والأسلاف.
غابة صياح وعويل.
الغربان تسبح في اصفرار المغيب
مالك الحزين يمد عنقه نحو سماء الرحمة،
وحيدا يحمل عشّــه المتناثر
من جزيرة الى أخرى
على مفارق بحار مهجورة.
الحمام والزيزان تغرق في صمت كئيب.
وهناك طيور أخرى تولول
كاتمةً صرخة الرحيل.
الفضاء بكامله يتمدّدُ
كجنازة تسيّجها الجبال
مشيّعوها طيور قذفتها الصدفةُ
وضيق الحال.
وحده الموج أطلق المساء سراحه
مزمجراً في الكهوف الغائرة
كنيرانٍ مضطرمة