د. خليل الشيخ
رئيس قسم اللغة العربية – جامعة السلطان قابوس

آثر سيف الرحبي أن يتوقف في مسيرته الذاتية ” منازل الخطوة الاولى” الصادرة عام 1992م عند ملامح من طفولته ، لهذا جاءت التسمية الفرعية لتلك السيرة “مقاطع من مسيرة طفل عماني” ولا شك ان اختيار الطفولة والتوقف عند ملامحها يشير الى مجموعة من الامور ، فهذا  الاختيار يعطي للطفولة ما تستحقه من وزن ويتناسب مع اهميتها في تشكيل الشخصية ورسم آفاقها وتحولاتها في المستقبل، لتتشاكل ” منازل الخطوة الاولى ” في هذا السياق مع العديد من نصوص السيرة الذاتية في ادب العربي الحديث التي تحتفي بالبطولة وترسم تجلياتها بصدق وبوح جميل ولكن تلك السير الذاتية “تحتفي بالطفولة لاهميتها الخاصة ، بقدر ما تشير الى ان التوقف عند مراحل التجربة، اذا صح تسمية مرحلة الطفولة بالبراءة محفوف بالكثير من الصعوبات التي تجعل من كتابة سيرة ذاتية تقوم على الصراحة والاعتراف أمرا محفوفا بالكثير من المخاطر لان تلك الصراحة تتعارض في الكثير من تجلياتها مع الخطاب الاجتماعي القائم على الكتمان وضرورة الاستار لهذا كان من الطبيعي ان يجد الباحث في مجال السيرة الذاتية في الادب العربي الحديث ظاهرتين تنبثقان من تلك الاشكالية ، وهاتان الظاهرتان هما:
كثرة السير الذاتية ذات الابعاد الفكرية والمعرفية لان الحديث عن الرؤى الفكرية وتحولاتها واسباب تلك التحولات ونتائجها لا يتعارض في احايين كثيرة مع مسألة البوح الشخصي وما تنطوي عليه من تجارب شخصية متصلة بالحياة الاجتماعية للآخرين .
وكثرة السير الروائية التي يقوم فيها الروائي بتحويل حياته وتجاربه الى خطاب روائي يمزج بين السيرة والخيال على نحو يصعب فيه التفريق بين الذاتي والمتخيل ويكون من ذلك كله خطابا روائيا يخرج على مسألة التعاقد الذاتي وما ينطوي عليه من رغبة ذاتيه صرفه بالبوح والاعتراف ورسم صورة نامية للذات في ضوء مواجهتها للحياة .
واذا كان طه حسين يختار لسيرته الذاتيه عنوانا ، يستمد ايقاعاته من ايام العرب وما تنطوي عليه تلك الايام من تحولات واختلافات كما نبهت فدوى مالطي دوجلاس في كتابها الصادر بالانجليزية بعنوان “العمى والسيرة” ويختار جبرا ابراهيم جبرا “البئر الاولى” عنوانا للسيرة التي يكشف فيها عن طفولته تمثل مستودعا خرجت منه مواهبه في الشعر والرسم والكتابة لتحمل البئر دلالات نفسية واجتماعية ودينية وليكون الصعود من اعماق البئر الى العالم ، معادلا موضوعيا لرحلة جبرا في بحثه الدائب عن التميز والفرادة فان “منازل الخطوة الاولى” تضع المكان في موضع الصدارة وتضع خطوات الطفل في ذلك المكان في المقام الثاني وتضع الطفل وهو بؤرة المكان والحركة في موضع المسكوت عنه .فالسيرة اذن اعني “منازل الخطوة الاولى” تحتفي بالمكان وترسم في اثناء وصفها لتحولاته ، تحولات ذلك الطفل الذي سماه سيف الرحبي ، اتساقا مع تلك الاجواء المكانية سعد، لان الشاعر ينتمي الى قرية تسمى سرور، فيبدو من الطبيعي ان تعاد تسمية الطفل في ظلال مناخات مكانية دالة .
واذا كانت هذه التسمية تؤدي الى زعزعة التطابق المعروف في عالم السيرة الذاتية بين الكاتب والسارد والشخصية ، كما تؤدي الى تغييب مفهوم التعاقد في السيرة فان “منازل الخطوة الاولى ” تعود الى عملية التماهي والكشف عن ماهية سعد ، وترفع القناع عن وجهه عندما يقول سيف الرحبي في ختام سيرته ، متحدثا عن نفسه ، لا عن سعد بوضوح: “وهذه الخطوة هي التي قادتني اوائل السبعين من هذا القرن (بالتحديد) نحو الرحيل الى اماكن كانت بالنسبة لي أنا القادم من الطرف الاقصى لشبه الجزيرة العربية ، كما تقول الجغرافيا ، في تلك الفترة المبكرة ، مغمورة باشراق فريد ، كانت جنة الحلم الاول من فرط حضورها في مخيلة طفل(ص64).
واذا كان سيف الرحبي يتحدث في النص السابق بضمير المتكلم ، المفرد فانه سيعود في السطور الاخيرة ليتحدث بضمير الجماعة “لقد قصفنا المسافة باحلام الشعراء والاكيد انها قصفتنا ، فمكمن الخطورة كلها في تلك الخطوة الاولى (ص67).
سيتكرر ذلك الحديث او على الادق سيكون سيف الرحبي قد عبر عن ابعاده في النص الافتتاحي الدال الذي يقع خارج السيرة ، ويجيء بمثابة كلام امر يفترض وجود قوة غير مرئية تجعل مسألة تنفيذ الكلام امرا حتميا.
على مدار السنوات
برؤوسها الباتة في الصخر
اشجارا تغالب حتفها في الريح
علينا ان نقتحم الامكنة والمفازات
كي نفوز بلمسة اشراقة
كاشباح موج متطاير في الظلمة
لا نكاد نعبر المحيط بقواربنا الشراعية
والصحراء بالجمال التي اعطبها
قيظ المسافة ألا وتتلقننا الضفاف الاولى
لكننا ابحرنا من غير احلام محدودة
فوق الحطام والجثث
والعيون مصعوبة الى الخلف
باتجاه الجزر التي وصلها الازديون
بعد خراب سد مأرب
والتي لم نصلها ابدا
يلفت النظر في هذا النص الذي يحدد حركة التحولات في “منازل الخطوة الاولى ” والسيرة هي في مجموعها حركة تحولات لا تهدأ ، تنتقل عبر خطوات قصدية وغير قصدية الى نقاط متحركة غير قابلة للتوقف اقول يلفت النظر في هذا النص مجموعة من المسائل :
أولا : يجني تحديد الرحلة ومستوياتها عن طريق الكلام أمر يفترض كما أشير من قبل ، قوة غير مرئية تجعل مسألة التنفيذ حتمية .
ثانيا: يحدد الكلام الامر ضرورة الوعي ، صيرورة الوعي ومنظور الرؤية التي تتم عبرها عملية مواجهة العالم ، فالحركة اقتحامية من جهة وهي حركة مخاتلة تتحرك في الظاهر الى الامام ولكنها تسير في الحقيقة الى الوراء.
ثالثا: يطرح النص بوضوح طبيعة العلاقة بين ماضي الذكرى ، وحاضر الكتابة عنها ، بكل ما تنطوي عليه هذه العلاقة من تعقيد واشكالات فتتهادن اللحظتان لتغدو تحولات الشاعر في الحاضر وحركته في المكان تفتش عن لحظة زمنية هاربة وعن مكان يتشكل في اطار نوستالوجي.
اذا كان هذا النص الافتتاحي سكونا بالحركة والتحولات ستقوم علاقة مع النصوص الاخرى على اساس من التشاكل لان المنصوص الاخرى التي اختارها سيف من تجربته الابداعية ليختتم بها مسيرته ترسم حركته في المكان العربي وغير العربي، ولا غرو ان تذكرفي تلك النصوص مدنا مثل: طنجة وحارة القصبة بالجزائر ، ودمشق واثينا وبحر الشمال بلاهاي وان تكون الامكنه في تلك المدن مغلقة صغيرة فهي اما ان تكون غرفا او بنسيونا او مقهى او منزلا وبهذا تتعالق النصوص مع اجواء السيرة وتغدو في كثير من الاحيان قادرة اما على تسيير ابعادها او تعميق اجوائها او اعادة تصوير ظلالها ليكون ذلك كله عزفا على ايقاعات متعددة لاخراج لحن واحد متشابه .
نحن اذن امام سيرة ذاتية لطفل عماني ، مسكون بالحركة ، التي تشكل مؤشرا على قدرة الذات على تجاوز الازمات ، ولعل الرحلة تشكل نقطة الانطلاق الاولى في بناء الذات عند سعد ، لهذا لم يكن غريبا ان تجيء العبارة التالية في بداية السيرة :
“فكر سعد” انه لا بد ان يرحل الى مكان اخر ، لا يعرف الى أين لكنه لا بد ان يرحل ، ص14.
تتعدد مستويات الرحيل في “منازل الخطوة الاولى”  فثمة رحيل باتجاه ارض الاجداد، يسافر سعد في هذا الرحيل بصحبة الكبار ، وتكون عملية الرحيل مؤشرا على رغبة الخطاب الاجتماعي في توثيق العلاقة بين الطفل والمكان بكل ابعاده الجغرافية والتاريخية واذا كان التذكر في رأي نيتشه لونا من ألوان التحرر فان التذكر هنا اعني تذكر الاب لذلك المكان، يغدو على النقيض لونا من ألوان تمتين الارتباط بين الطفل وارض الاجداد وسيكون الرحيل نحو جبل يدعى لسان الطير “منازل ص17” حاضرا في نص شعري بعنوان “ذكرى” يهديه الشاعر الى والده ويحمل عنوان “ذكرى” (مدية واحدة ص72) ولكن الفارق بين استعادة الطفل سعد لتلك الحركة في “منازل الخطوة الاولى” واستعادة الشاعر لتلك الحركة يتمثل الفارق بين منظور الطفل الذي كان يرى للمرة الاولى ما لم يكن من قبل وبين الشاعر الذي يقيم علاقات جديدة بين متخيلات الذاكرة ، لتجيء الخواطر المستبطنة محملة بالدلالات فتلوح حسرات تفيض بالشجن على زمن ولى الى غير رجعة:
كانا جبلين تستريح بينهما صرخة
الرعاة
كانا منحوتين من بازلت العناق (…)
كانا جبلين منحوتين من بازلت القرون
يذوبان في رأس المسافر
مثل مجرة سقطت بسكانها بالبحر
وكان اسمها ، لسان الطير
(مدية واحدة 72،73)
وهناك رحيل اخر او حركة اخرى للماء الغزير في الوادي ، وهي تحمل بين ثناياها الخصب بالمفهوم الشامل لهذه الكلمة وترسم “منازل الخطوة الاولى ” ما نتج عن حركة  المياه الهادرة ، ويتحدث عن حركة اخرى تزامنت مع حركة الماء في الوديان وهي حركة الغجر الذين يرتحلون دائما ويتحركون على نحو حلزوني ، تحركهم حاجاتهم واشواقهم ويسعون الى ان يتحرك الناس نحوهم.
سيتوقف سيف الرحبي في قصيدته “بورتريه لسرور” عند تلك المناخات وسيتذكر وهو يحصى ايقاعات الحياة في قريته حركة الغجر:
ولن يعود الغجر حاملين فوانيسهم
على  امتداد الهضاب
وكذلك صائد الوعول وعراف المياه
لن يعودوا الى بيوتهم هذا المساء
ولكن القصيدة ستكون غير متفقة مع الأنا التي تقص السيرة ، وتسعى الى نقض عناصر المشهد وتقويضها ، لتعود القرية تنبثق من حواف الاسطورة وليس من الذاكرة التي تسعى الى الاسترجاع .
ولكن اكثر الحركات اهمية في “منازل الخطوة الاولى” تتمثل في حركة سعد ، فهذه الحركة هي لحظة البداية والنهاية معا في تشيكل المنازل وهي تشي في مجملها بذات تنمو وتسعى الى اكتشاف العالم.
تبدأ حركة سعد الحرة باكتشاف القرية ، وتتبع جريان الوادي وملاحظة اثر الجريان في حياة القرية المعلنة والخفية.
وتأتي حركته تجاه الكتاب حركة جوهرية ، لان هذه الحركة بما ستثمره من نتائج على صعيد التجليات المعرفية ، ستربط سعد الذي سيغدو سيف الرحبي في النهاية ، من خلال تقنية سردية مفاجئة حيث يتلاشى الطفل ويتجلى الشاعر فجأة مكتمل الحضور والابعاد اقول ان هذه الحركة ستربط سعد بحركة القرية الذاهبة صوب الماضي المعرفي وبأهلها يقرأون كتب الدين وقصص البطولات واسفار الملاحم منكسين رؤوسهم خضوعا واعجابا بأولئك الغابرين الذين ما زالوا غذاء للقلب ووقودا للذاكرة مثلما ستربطه برياح الحاضر الذي بدأ يهب على القرية ممثلا “بالافكار الجديدة ” التي يأتي بها في الاغلب طلاب البندر او زملاؤهم القادمون من خارج البلاد.
ومن هذه الحركة ستتولد مجموعة من التغيرات ، اثر اكتشاف لمكتبة والده وكتبها الموزعه بين الفقه واصول الدين والتاريخ والشعر . وستنتهي حركة الذهاب الى الكتاب ، بختم القرآن الكريم ليجيء تعبير “منازل الخطوة الاولى” عن تلك الحركة يشاكل السير الذاتية العربية المعاصرة وهي تحتفي بتلك اللحظة وتعدها لحظة فاصلة بين حدين من حدود الحياة ، حيث تبدأ لحظات البراءة بالاختفاء التدريجي لتحل محلها لحظات التجربة بالتدريج.
واذا كان سعد يدون تلك اللحظة من خلال مشاعر يمتزج فيها الاحساس بالفخر الشديد ، بمحاولة بلورة لحظات الوعي الاولى وهي ترى مجتمعها في سكونه وتحولاته الاولى، فان قصيدة “بيتنا القديم” تقوم على مواجهة ذلك البيت وتحليل مستوياته المؤثرة في ذاكرة الشاعر ومخيلته بكل ما تنطوي عليه تلك المستويات من قيم معرفية واجتماعية.
ادخل بيتنا القديم بيتنا المأهول
بخيول ضامرة يتجول بين صهيلها
شبح الاجداد
السروج والبنادق معلقة على الجدران
وكأنما في ماتم
غدا عيد الاضحى..
(مدية واحدة :34 –35)
ستحتفي “منازل الخطوة الاولى” وهي تتحرك في القرية بالأمكنة التقليدية فيها ، ستتوقف عند البيت وترصد حركة الانتقال من بيت الوادي الى بيت ذي علو حصين ويجني هذا الانتقال ثمرة من ثمرات التفاعل بين حركة جريان الماء وبين اهل القرية ، ثم ستحتفي بالمسجد “مسجد الفج ” ومن الملاحظ ان السيرة تحرص على تبيان طبيعة المكان الخاص بكل من البيت والمسجد وتبين علوهما وارتفاعهما لانهما يمثلان المكان الطليق ، فالبيت هو الملاذ الاجتماعي والنفسي في حين يشكل المسجد الملاذ الروحي الامن وفي المقابل ستتوقف عند الحصن وتبين ارتفاعه وطبيعته ونوعية سكانه ، لان الحصن يجيء في السيرة مرتبطا بموت الحركة وتلاشيها لانه يجيء في السيرة مرادفا للسجن ولكن موت الحركة البدنية في السجن سيقود الى تحرك ثقافي غني وستشكل القراءة فيه حركة ذهنية حرة تعوض عن انعدام الحركة في المكان ، ولكن الذهاب الى الجن سيجيء في السيرة تجسيدا لما كان الطفل سعد يتحلى به من قوة جسمية ، واعتزاز بالذات واذا كان ذهابه الى هناك قد حد من حريته وحركته المكانية ، فان السبب الرئيسي في ذهابه الى هناك، كانت تتجلى في محاولة بعض الاطفال الحد من تلك الحرية ، وفي المقابل سيدفع سعد ، ثمنا لعبته مع حيوانات القرية ضربه لها ، ثمنا باهظا تمثل في كسر فكه ، والذهاب الى مكان مغلق اخر هو المستشفى البسيط الذي ستكون اقامته فيه عقوبة لذات تسعى اى توسيع افاق حركة حريتها . وفي خضم ذلك تتولد حركة اساسية مهمة في عالم سيرة ذلك الطفل تتمثل في الانتقال التدريجي من عالم القوة الى عالم التأملات ومن اكتشاف حركة العضلات الى اكتشاف حركة الوجدان وقد كان حضور المرأة البسيط اللاذع في الوقت نفسه يجمع بين التجليات الروحية والحسية وبين التأملات العميقة الباطنية التي تنبثق من الاعماق وليس غريبا ان يتزامن هذا التحول ببدايات الوعي الاجتماعي العام على اللحظة العربية المعاصرة وما كانت تعيشه من هزيمة قاسية عام 1967.
ولكن حركة الرحيل الكبرى في “منازل الخطوة” التي ستفضي الى تحولات مهمة تتمثل في الرحلة الى المدينة .لقد ظلت القرية تبدو مكانا وديعا ، مسكونا بهاجس الماضي ، مترعا بمشكلاته ، مشدودا في وقائع حاضره الى سطوة ذلك الماضي وقد رسمت السيرة ابعاد ذلك المكان على نحو لا يكاد يخالف جمالياته في السرد العماني ، بشكل عام، ولكن شخصية سعد تظل تشكل بنية متحولة ستتجه الى عوالم اخرى ، بدأت بالذهاب الى عالم المدينة .
تجيء عملية الارتحال الى المدينة في السيرة تجسيدا لرحلة ذات مناخات اسطورية ينتقل فيها الطفل من البراءة والانطلاق الى عالم التجربة والافاق الغامضة .
كانت الشاحنة التي ستنقل الاسرة الى المدينة تربض في ازقة القرية مثل حيوان اسطوري ، وكان السفر ملحمة انسانية باهظة الثمن ، وكان انفجار اللغم وما اسفر عنه من موتى وجرحى ضريبة التحولات والوصول الى عوالم جديدة.
كان الطفل يتبع وهو يتذكر القصص والاساطير الشعبية احلام يقظته وهي احلام تتمحور كلها حول الرحيل ولكن الشاعر يستيقظ فجأة وهو يصف المكان الجديد على لسان الطفل ، الامر الذي يسقط المسافات الزمنية بينهما:
“ويمكن للحالم ان يتخيل فيها “مسقط” حياة ليلية بهيجة حياة مدينة بحرية بمناراتها وقلاعها المضاءة باشباح القراصنة والغزاة العابرين ” ص83 – 84.
في المدينة يعيش سعد حركة تتوزع بين اماكن ثلاثة هي :
البيت والمدرسة والمسجد ويجيء توزعه بين تلك الاماكن بداية تكوينه المعرفي واسئلته الكثيرة التي ترتحل به الى الماضي:
“سجالات تدور رحالها غالبا بصحن المسجد المطل على البحر بين الطلاب والاساتذة الشيوخ  في تخوم الماضي المتموج بمرصعيته ومرايا حجراته الوضيئة” ص84.
مثلما يعيش سعد في اماكن اخرى كالشاطيء مثلا بدات افاقها واسئلة تطرح ابعادا مغايرة لتلك الاماكن لتبدأ عملية التغير في ذهنية الطفل لقد فجر الشاطيء في نفس سعد اسئلة صار الرحيل وحده ، يمثل مشروع الاجابة عنها ، وصارت الخلوات البحرية والتطلع خلف الافق تمزق صفاءه النفسي وتشتت ابعاد ذلك اليقين الذي ظل يعيش في رحابه.
واذا كانت سيرة الطفل تنتهي بمشهد الوداع العاطفي المؤثر حيث يبرز وجها الاب والام في ذلك المشهد ، فان ثمة سيرة اخرى تبدأ بالظهور هي سيرة الشاعر الذي ارتحل عن المكان جغرافيا، ليسكن فيه على صعيد التشكيل الفني فيبدأ الحنين الى المكان العماني ، واعادة بنائه في ظل مواضعات خطاب شعري متباين المكونات.
واذا كانت العودة الى الوطن تمثل النهاية السعيدة التي تفتح مشهدا جديدا ، فان هذه العودة تظل مسكونة بهاجس الرحيل ، لان الرحيل صار يشكل نقطة الثبات الوحيدة في عالم متغير.
جريدة عمان بتاريخ 21 سبتمبر 2000م الخميس