دلدار فلمز حسن
يواصل سيف الرحبي تجربته الشعرية بمجموعة تحمل عنوان «يد في آخر العالم» وهي صادرة عن دار المدى في دمشق- بيروت. وتميزت تجربته الشعرية منذ البدايات حين نشر ديوانه الأول في الثمانينات بعنوان «نورسة الجنون» واستمر فيها مصدرا الدواوين التالية: الجبل الأخضر- أجراس القطيعة- رأس المسافر- مدية واحدة لا تكفي لذبح العصفور- رجل من الربع الخالي- ذاكرة الشتات- مقالات- منازل الخطوة الأولى- سيرة المكان والطفولة/ الجبال/ معجم الجحيم- مختارات شعرية.
ويختلف مشروعه الشعري عن جملة النصوص العربية الحديثة، هو ذو معالم خاصة محاورها العزلة والقلق والخيبة، و«يد في آخر العالم» امتداد لتلك الأجواء حيث مناخات الصحراء المترامية على الأطراف وهو يكتب الأحلام على غيمة الصباح بينما الآخرون مشددون إلى نسور وهي تعبير البراري الممتلئة برائحة النباتات «الشيح والقيصوم والهندباء». وهو يشغل في نصه على أساس أنها أصداء تلك الموجودات الموزعة بين ثنايا الحياة والفناء ولا يستسلم إلى الركون في نصه بل يقدم تحولات لكن بحذر شديد معتمدا بذلك على تداعيات تلقائية حيث تتداخل المفردات بعضها مع بعض دون أن تكشف عن نقاط الاشتباك جلية، واضحة:
تلك قصارى أيامهم
ينزل المطر على الصحراء
يصغون لثغاء الماعز
والطيور المهاجرة التي دمرها التعب
فانسكبت في حياض الصحراء
يصغون إلى حنينهم
ينفجر مع البرق، صواعق تقصف الطرقات (ص 40)
ويستمر الرحبي حصرا في تقديم مناخات مرتبطة ومنسجمة، وإذ لا تخلو تلك المناخات من رائحة رحلاته إلى أماكن متعددة في العالم ويمزجها بانكسارات الزمان، حيث تلامس آفاق النصر ستاثر الظلام والعزلة إلا انه مهووس ومستسلم إلى سلطة الذاكرة بكل قوتها وطغيانها وفيما يقترب أحيانا إلى التفاصيل، ويظهر هذا الشيء بشكل واضح في القسم الأول من الكتاب حيث يشغل ثماني وسبعين من صفحات الديوان في ثمانية عشر مقطعا دون أن تحمل تلك المقاطع عنوانا واحداً.
وفي هذا الجزء يطغى عليه الإحساس، إحساس اللهفة إلى تشكيل الموجودات والإفصاح عن القلق والخيبة. ويتحدث عن أمور فاتنة بين مقاهي العالم تارة،  والرجوع إلى الذاكرة حيث تلذذ باسترجاع حلم مدهش وغريب، وهو يهب إليها عندما يضيق به العالم فيجد ملاذا في تلك التفاصيل الفنية المهمة المخزونة في الذاكرة، وفي اغلب الأحيان هي تفاصيل عمومية.
والرحبي يبادر في كتابة نصه خارج السياق المعروف في بنية النص، إنما كل جملة لديه تنبثق ضمن إيقاع موسيقي تهفو إلى الوحدة وتناغم مكنوناتها بعضها مع بعض. وبه يحقق إيقاعا متحركا يوازي الأبعاد والمعاني ، ومن خلالها يثبت أن كل نص إبداعي له رؤيته المنفردة في تخييل العالم:
انظري إليه يا إنيفا
إلى عينيه الحزينتين
كوريث محتمل
تدوران في محجريهما
طفلة غاضبة
إلى عزلته حتى وهو في السرب
انظري إليه يا إنيفا (ص 76)
ويكمل الصفحات المتبقية من المجموعة بمقاطع لا تحمل أيضا أي عنوان، وهي احد عشر مقطعا، بالإضافة إلى نصين، الأول بعنوان «عمرو بن قميئة» والثاني يحمل عنوان المجموعة نفسها. في المقاطع يتحدث عن جسد جريح ناسيا خلفه آلام جرحه، ولكن لا يستطيع أن ينام قريرا من شدة اغترابه في العالم:
ناسيا خلفه السنوات
أي نسيان هذا (ص 81)
عندما يستيقظ في بداية النهار يزيح أطراف الستائر ليرى ثورا هائجا يهاجم النافذة، ويفهم أشياء عديدة ضمن إيقاع خاسر إلى درجة يفقد الإحساس بلذة النصر عندما يسقط خصمه في العراك حيث الرغبة المؤجلة مسكونة في الشفتين وأطراف الأنامل، وهو يرى بياض الأعشاب عند الصباحات في مياه البحيرة فجرا، ويرجع إلى ودائع الصبا التي سرقت منه عند البحر:
تمور الرغبة في شفتيك، وأطراف أصابعك،
وتحتشد كمن
يرى أعشابا وصباحات في بحيرة مسحورة (ص 87)
وفي «عمرو بن قميئة» يتحدث عن امرئ القيس في رحلته الشهيرة، ويستحضر سفرهما في الصحراء، وفيها كان امرؤ القيس كملك أعمى ومهزوم حيث لا حاشية ولا أتباع، وكان طريقهما طويلا يمتد عبر الصحراء وما يبغونه بعيدا كأنهما يمشيان إلى أسراب في الأفق:
«كنت صديق الشاعر في الملك
رفيق المتاهة
الصحراء تمتد والطريق ابعد من سهيل»
في «يد في آخر العالم» يلوح سيف الرحبي بعيدا على أرصفة القطارات ومحطات السفر حيث تهب رياح الوحشة على صدره من خلال قميصه المفتوح، وحيدا يحاور غيمته الجريحة بين المحطات وبائعي اليانصيب، وروحه الكسولة تحلم بساعات الغسق الاستوائية، أن يجتاز رائحة الأنثى، وان يلامس الغرباء، بأنامل مترفة بالنعناع، كما يلامس الفاكهة في السرد والحكايات، لكنه يبقى مسكوناً بالشوق وعناقيد الحنين، وتبقى أنامله بائسة ونادمة، يرتب من خلالها المحبة في المدى البعيد بين جزر ومدائن:
المحبة
تلوح من بعيد
نحو جزر مستحيلة
ومدائن لم يبق من أرومتها
غير طعم الغياب
تمنحني مساءاتها
الثقيلة وجوها
وتمنحي قهوة الصباح (ص 93)
هذا هو سيف الرحبي يحدثنا عن يده في آخر العالم من خلال نص فيه غنائية مختلطة بالفرح والحزن معا.
هكذا يضيف إشارات جديدة إلى تجربته الشعرية تغوي بالقراءة، محققا رغبة في التوغل نحو فضاءات الوحشة، تاركا مجالا للتخيل بقدسية صوفية حديثة يعيد الرؤيا إلى تراكمات الكون الضائع وعويل يديه الوحيد والمتروك في آخر العالم.