إصدارات شاعر  يلعب النرد مع النيازك
الكتاب: رجل من الربع الخالي
المؤلف: سيف الرحبي
الناشر: دار الجديد- بيروت- 1993
عدد الصفحات: 73 صفحة من القطع العادي
يوسف أبو لوز
بعد ترحله الشعري والجغرافي، وبعد تنقله المديد كما قامة القصيدة، وكما ارتفاع اللغة إلى اقتطاف النيازك، يعود سيف الرحبي إلى قراءة المكان الأول قراءة شعرية، القصيدة هنا تعود إلى مهدها أو تبدأ من مهدها، كانت تجربة سيف الرحبي قبل ذلك تجربة شاعر منفي بامتياز. مأوى قصائده كان في المقاهي، وحجرات الأصدقاء، ومحطات القطار. كانت قصيدته (وربما ما زالت) تكتب في الليل عبر زجاج عربة قطار يذهب سريعا إلى المجهول وتركض في عكس اتجاهه الغابات والجبال.. قصيدة سيف الرحبي مخلصة للمكان الذي هي فيه، إنها تسقط مثل قطرة الضوء عل الورقة وتتحجر هناك. الآن سيف الرحبي في المطارح الأولى، والذكريات القديمة تستيقظ في الروح والقلب طازجة، حية وكأن الزمن لم يتحرك طيلة كل تلك السنوات و«الربع الخالي» الذي يقرؤه سيف الرحبي، ليس ربعا خاليا بالمعنى الفيزيائي للكلمة، بل هو مملوء بحياة ذلك الصبي الذي يرى «التحولات الرهيبة للرمال وهي تبتلع قطعان الجمال»، ويرى «تحولات الجن وهذيانات السحرة».
عندما ينطلق الشعر من مسقط الرأس أو من تلك الأماكن الأولى التي «كان قد ضيع المرء نفسه فيها أول مرة»، يكون للشعر فتنة أخرى غير تلك الفتنة المألوفة التي يبتعثها في الأشياء. يصبح شعرا آخر، ويكون له مذاق آخر. المذاق الأول الذي تأبد في مكوثه تحت اللسان.
في «رجل من الربع الخالي» يعود سيف الرحبي إلى نفسه أو يغرف من نفسه مباشرة، والشعر في هذه الحال يروي، ويصف، ويشفف المكان- الشعر هنا في هذا الربع (الخالي- الممتلئ)، يعيد الاعتبار للمنسيات ويبحث عن تلك التفصيلات التي لم تكبر ولم يغيرها الزمن، ذلك أنها تفصيلات بقيت في مكانها، وكأن المرء لا يتغير، أصلا، إذا بقى في مكانه الأول. المنفى والرحيل والسفر الدائم هو الذي يغير ويحول ويختبر الجسد والروح، لكن الحجر والشجرة والذئب والرمل والنجم والفصول والسراب والبروق والفرائس وعظام الأجداد.. هذه كلها لم تتغير هناك في «الشيبة- من أوعر مناطق الربع الخالي وأخطرها».. بقيت كل تلك الملامح في رحم الجغرافيا كما لو أنها تريد الابقاء على بياض القصيدة ونصاعتها.
العودة إلى المكان الأول اختبار للذاكرة أيضا. والقصيدة في هذه الحال مثابة مفتاح سحري لبوابة الذاكرة، حيث لا مكان للنسيان في الشعر، وحيث التذكر هو استعادة للحياة الأولى بكل حرارتها، وليس مجرد استرجاع شريط من الصور والمشاهد المتناثرة في أركان الرأس. عندما يتذكر سيف الرحبي البندر والقرية واثر البداة ومواقدهم المرشوشة بالريبة، فهو هناك لا يسترجع مشاهد «سينمائية» وحسب، بل يعود إلى رحم الحياة، يعود كله إلى هناك، ذلك الـ«هناك» الذي يعني له البذرة أو الصيحة الأولى. أو الدمعة الأولى. أو نقطة الدم الأولى.
ما الذي ينهض من الربع الخالي أيضا، غير تلك المشاهد، وغير تلك التفصيلات غير القابلة للصدأ أو النسيان؟.. ينهض الذئب بكل دلائله وإيحاءاته ينهض ذئب حقيقي في ارض حقيقية. ذئب مرتبط بالطفولة، وبقي مرتبطا بالشاعر وبالقصيدة.
«والآن ..
أقف فوق أقصى مراحل النسيان
حيث الجبل والذئب ينتحبان بأفظع الذكريات
والأغاني تصعد من أفواه بنات آوى
مطرزه بالنجوم
وجدت افقا يعيد الي اسمي القديم
ملفعا بوجوه غائبة
وأخرى ستغيب»
والذئب أيضا في مكانه. كما الشجرة والجبل وكثبان الرمل في الجبل الوحيد. جبل الذكرى، الجبل الذي لا يقوى عليه النسيان
هناك إذا بكى الذئب، فانه لن يخشى أحدا من أن يرى دمعته البرية التي ترن على ملاسة الحجر، ولن يكف عن تقديم نصيحته إلى الشاعر، كما لو أن الذئب والشاعر شقيقان خاسران تحت سماء بعيدة وملبدة بالأحلام والفقدان «استمعوا إلى نصيحة الذئب قبل فوات الأوان».
ليست مجموعة (رجل من الربع الخالي) مكرسة كلها إلى مكان عماني بعيد وناء وملموم على ذاته مثل حجر الشاعر الجاهلي، الأول، هناك انفلات من هذا المكان، وتجاوز له، وتصعيد لمكانته وذكراه، ذلك أن الالتصاق المطلق بالمكان هو ذوبان فيه، وما الذي يتبقى للشعر عندما يذوب الشاعر في الحجر الأول، ولم تعد له مقدرة على رؤية الحياة الأخرى وهي تتحرك في الخارج، وهكذا يراوح سيف الرحبي في مجموعة هذه القصائد بين المنفى ومسقط الرأس، لكنه في الحالين أمين على ذاته الشعرية. قصيدته حديث النفس إلى النفس، قصيدة هادئة، وتحت سطح هدوئها تمور عوالم من حياة أخرى هي حياة الشاعر.
قصائد سيف الرحبي هي أيامه ولياليه هي حياته المتعددة، والجارية، والمتنوعة والمجربة. الحياة التي لم يكن متأكدا انه ذاهب إليها، إلا بعد «الحرب» مباشرة، وعبثا، يحاول الرحبي أن ينأى بقصيدته عن سلاطة لسان الحرب، يحاول أن يمنع الحرب من التسلل إلى نصه، لكن ما من جدوى .. كما ما من جدوى لأي شاعر آخر يحاول أن ينظف لغته من دنس الحرب، تلك الحرب التي وضعت أوزارها على الشاعر، وقد غادرت من كل الأماكن، لكنها غادرت بعدما خدشت روح الشاعر، وظل هذا الخدش  ينز بدم ارجواني يشبه السدى.
في شعر سيف الرحبي فقد وخسارات وحزن معتق. في شعره راية من الرماد واللوعة الداخلية المكبوتة التي لا يسمح لها بالإفصاح عن ذاتها إلا في القصيدة، عندما تكون القصيدة تنهيدة صامتة. انه وعلى هذا النحو يضعنا أمام أنفسنا عندما يقول «نشعر بالإثم من أخطاء لم نرتكبها»، ويقول «لا ندين لأحد، عدا أرجلنا الثكلى بالمسافات».
تلك هي قصيدة الرحبي، قصيدة ذات «معرفة خاصة»، فقد دفع من اجلها حياته كلها، وما زال يدفع الثمن يوميا وفي النهاية، ما جدوى أن نكتب الشعر من دون أن نجرب الحياة .. ونجرب طعم ذلك الفقد، أو طعم ذلك «الفراق الذي خبرناه في الحب».
«ما من امرأة أحببناها
إلا وسبقنا إليها الأعداء
ما من بلد قصدناه
إلا وهد أركانه الحريق
ما من جرح ضمدناه بعيوننا
إلا وانفتح على مصراعيه»
وعلى الرغم من أن قصيدة الرحبي تشبه السرة المضمومة على «أخطاء لم يرتكبها»، وعلى الرغم من كل هذا (الصمت) في الشعر، إلا انه شاعر يشاكس الحياة، ويلعب النرد مع النيازك، شاعر يقف في لحظة القصيدة، ويعتقد أن الشعر هو تدوين للحياة، وان الشعر هو «سرد روائي» آخر لأحوال العاشق ولأحوال المرأة الواقفة بانتظار وردة من مجنون أو من مشّاء، أو من فتى عماني أمضى حياته كلها في تأمل وقائع الليل والنهار، «حيث تتقاطع طرق الشمال والجنوب بكراهية، والقطارات تسرح في خيال النائم كالذئاب».
يوسف أبو لوز
مجلة (الشروق)- الشارقة