شوقي بزيع
لكاتب: سيف الرحبي
الناشر: دار الجمل – ألمانيا
شعرت وأنا اقرأ مجموعة سيف الرحبي الأخيرة «الجندي الذي رأى الطائر في نومه» بان هذا النوع من الشعر، إضافة إلى تجارب أخرى قليلة، يصالح قصيدة النثر مع نفسها من جهة ومع الهدف الذي ترمي اليه من جهة أخرى. وإذا كانت تجربة الرحبي منذ أعماله المباشرة تشي بهذه المصالحة وتسهم إسهاما حقيقيا في إخراج قصيدة النثر من مأزق الشكلانية والافتعال والتصميم الذهني البارد فهي تقف في المجموعة الجديدة على قدمين واثقتين وتحقق قدرا عاليا من الخصوصية والتميز والاتصال الحار بالحياة. على أن هذا الاستنتاج يظل فرضية نظرية أو يقع في دائرة التقريظ والمجاملة السائدة إذا لم يستند إلى جملة من البراهين والتوضيحات التي سأحاول إيرادها بإيجاز في هذه المقاربة النقدية العجلى.
أول ما تنبغي الإشارة إليه في هذا السياق هو أن قصائد المجموعة برمتها تحيل إلى المصدر المكاني الذي خرجت منه ولا تظل معلقة كمعظم النماذج الشعرية الجديدة في فراغ الأفكار ورخامية التأليف ومجانية المعنى. فمنذ القصيدة الأولى «ضربة شمس» وحتى الأخيرة «الجندي الذي رأى الطائر في نومه» تنعقد في سماء المخيلة ظلال عالم حقيقي قوامه الصحراء والموت والجفاف و«الجبال التي تشيخ في عرينها»، وفق تعبير الشاعر. لكن هذا العالم لا تنسجه المخيلة وحدها ولا ينبت في عهده التأليف الصرف بل تنهض عناصره المادية من قلب ذلك النتوء الوحشي الممتد بين بحر عمان والربع الخالي. انه عالم مضروب بأكثر من شمس ومهدد بهذياناته الكثيرة التي تحول كل لحظة إلى رفات والتي تحيل الجغرافيا نفسها إلى قبر واسع من عظام الموتى. والشمس نفسها التي ضربت رأس البير كامو في رواية «الغريب» ودفعته من دون إرادة أو قصد إلى ارتكاب فعل القتل هي التي دفعت سيف الرحبي إلى إطلاق صرخته الحائرة في بداية المجموعة «ماذا تريد مني/ هذه الذئبة التي لم تعد وديعة كما كانت/ تنشيط أكثر كلما امتدت الآلة إلى ممالكها الفسيحة في الظلام ../ أي هذيان شمسي يدفعني لتقليب رفات الموتى/ أخوتي في الرضاعة والمصير».
وهي الشمس نفسها التي حملها عبدالرحمن منيف أسئلته الممضة في روايتي «النهايات» و«مدن الملح» وغيرهما من أعماله.
القصيدة إذا ليست مجرد اشتغال على اللغة ولا تكرارا رتيبا لنص جاهز ولا نموذجا تطبيقيا لفكرة مسبقة عن الشعر بقدر ما هي مساءلة قاسية لهذا المسرح الأرضي المثخن بالرمال والجروح والذكريات النازفة من الرأس حيث النظرات المتجمدة والشاحنات التي تعبر في ليل حالك والغربان التي تصيح على الرؤوس. أن نصف هذا العالم منتزع مما تراه العين وتلمسه راحة اليد وتجيش به أحوال المكان ولكن نصفه الآخر يتولد من الحمى التي تعصف بالجسد ومن المتاهة الضارية التي ترد كل حلم على أعقابه. هكذا يضرب سيف الرحبي في خصوصيته المحيلة التي لا بد وان يستند إلى تفاصيلها كل شعر حقيقي ويغرف من مياه وأحجار وكائنات هي مياهه واحجارة وكائناته. لكنه فيما يفعل ذلك يشعرن العناصر التي ينطلق منها ويستند إليها ويخرجها بضربة الشعر الحاذقة من محليتها وراهنيتها لتتهادى مع الآخر المهجوس بفضوله ورغبته في التعرف إلى ارض غير أرضه وذات غير ذاته المغلقة.
كل شيء يتحول في هذا العراك الضاري إلى صورة هاذية أو طيف أو بحث عن المطر المحتبس لذلك فان المرأة، أو شبحها، هي وحدها ما يمكن أن يعول على حضوره. والشاعر الذي يحتاج أكثر ما يحتاجه إلى «حديقة تحد من فيض الصحراء» لا يملك سوى مخاطبة «إيفا» التي هي رمز لحواء في الوقت نفسه، بالطريقة نفسها التي خاطب بها أسلافه القدماء ارواح نسائهن المرفرفة فوق الحصى المشتعل «لو كانت تمطر يا ايفا/ مر دهر ولم أر فيه أمطارا/ عدا الأمطار التلفزيونية طبعا/ تقضين على الحافة/ تستقين النجوم التي كان الذبياني/ يرعاها في ليلة البطيء والثقيل/ .. تقفين على الحافة/ تنظرين إلى شعاع قرن قادم». كان المرأة والشعر وحدهما هما ما يعود عليه في هذا الجحيم الترابي الذي لا يكف عن التحديق إلى فردوسه المتواري. غير أن المرأة عند سيف الرحبي لا تحضر بمفاتنها وتفاصيلها ومسمياتها الجسدية الصغيرة كما عند الكثير من الشعراء بل عبر تلك القوة السحرية المشتهاة التي تبلل الأحشاء الجافة وتهب على عطشها هبوب الصبا على النخيل الأعزل. إنها تخرج من الشوق نفسه، من الحارجة إلى حضورها ومن الرطوبة التي تثيرها جمالية الخطاب الانثوث في الكناية والتورية. وفي عملية تماه أخرى مع الأسلاف تتلبس المرأة المناداة شكل الحمامة التي ناداها أبو فراس الحمداني من وراء قضبان سجنه أو شكل «يمامات اللوى» التي نسب العرب أبياتها الريقية إلى الجن: «أيتها اليمامة التي تلجأ إلى نافذتي/ من قيظ الصحراء وعصور الذرة؟ ترفقي بصوتك الذي لا أكاد المحه/ إلا كشبح جريح/ ترفقي به/ كي لا تنهار السماء على ذروة الجبل».
ثمة سمة أخرى يتسم بها شعر سيف الرحبي، وفي هذه المجموعة بوجه خاص، تتمثل في أفادته الظاهرة من فن السرد وفي تحويله القصيدة إلى ما يشبه الحكاية أو القصة القصيرة. وهو ما يظهر جليا في قصيدته الطويلة «الجندي الذي رأى الطائر في نومه» حيث ينتظم الكتابة حيك قصصي متنامي المعالم وشبهة حكائية لا يقلل السرد من شاعريتها المتدفقة وتموجها الانسيابي، وكما يحلم جندي محمود درويش بالزنابق البيضاء والحياة الرافلة بالطمأنينة والبياض بعيدا من تذابح السلالات وكوابيس الحروب يتقمص سيف الرحبي صورة الجندي القادم من «جرح البشر السحيق» لكي يطير فوق الخرائط والحدود وبحيرات الدم. وهو حلم لا يطير إلا بجناحي الحب ولا ينعتق من كوابيسه إلا مصحوبا بصورة المرأة وتجوالها الأثيري في فضاء القلب والنص.
أن كل شعر حقيقي هو اكبر من شكله بالضرورة. ولأنه كذلك فان شعر سيف الرحبي لا يحول شكله إلى عائق ولا يذكر إلا بجوهر الكتابة. أن ما فيه من توتر ونبض واختلاج حار لا يدع لقارئه فرصة السؤال عن الإيقاعات الخارجية والأوزان المألوفة بل يدفعه دفعا للتخلي عن المسبقات وللطيران في فضاء المعنى وشعابه الكثيرة.
الحياة- لندن