فتحي عبدالله
قدم الشاعر سيف الرحبي اقتراحين كبيرين لنموذج قصيدة النثر في الثقافة العربية‏,‏ الأول يمثل الرغبة في القطيعة والانفصال عن المتخيل الاجتماعي للجماعة العربية‏,‏ وقد استخدم في هذا الاقتراح الخيال المديني الحديث‏,‏ الذي تم دفعه إلي مناطق إنسانية جديدة‏,‏ تناسب اللحظة المعاشة‏,‏ بكل ما يحدث فيها من اضطرابات وقلق روحي وكوابيس حتي في اليقظة‏,‏ وكانت اللغة حادة وشفافة وأكثر مادية ولا تعتمد علي التراكيب الموروثة‏,‏ بقدر ما كانت عفوية وتلقائية‏,‏ تتقاطع مع مفردات الشارع والأشكال المدنية الجديدة‏,‏ وكان البناء في معظمه سرياليا يعتمد علي تقنية اللقطة السينمائية التي تجمع مالا يجمع مع تمايز مفردات هذه الصورة‏.‏قد كان الشاعر في هذا الاقتراح أكثر انتماء لكونية الشعر وعالميته‏,‏ إذ عكست النصوص تمرد الشاعر وفوضويته وخروجه علي الأنساق الاجتماعية المهيمنة بكل ما تشمل من عادات وتقاليد‏,‏ فعاش حياة التسكع والتشرد والانتقال من مدينة إلي أخري‏,‏ كان الشاعر في هذا الاقتراح يهرب من التراكم الاجتماعي ليؤسس لحداثة من نوع ما وقد ظهر ذلك في الدواوين الأولي نورسة الجنون‏,‏ أجراس القطيعة‏,‏ رأس المسافر‏,‏ مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور‏,‏ وكان هذا النموذج الشعري أقرب إلي الشعرية الجديدة‏,‏ التي تتخفف من أداءات الرواد وأكثر اقترابا من المعيش واليومي والفاعل في سلوك الجماعة‏,‏ وأكثر تخففا من سلطة التاريخ الجمعي الذي يمارس دوره في جميع الاختيارات اليومية المباشرة‏,‏ مما جعل من تلك النصوص علامة فارقة في قصيدة النثر وفي تاريخها المكتوب‏.‏
أما الاقتراح الثاني‏,‏ فقد كانت دوافعه شخصية وذاتية خالصة إذ اقترب الشاعر من الرؤية العدمية التي تتساوي فيها كل الأشياء والأفعال‏,‏ ووجد نفسه مفردا في مواجهة العالم‏,‏ لم يعثر الشاعر علي منقذ من هذا الحالة‏,‏ يربطه بالحياة وما يحدث فيها من تقلبات كثيرة سوي الحنين إلي مكان الطفولة والميلاد‏,‏ بكل ما فيه من أساطير وطقوس‏.‏
وفي هذه التجربة استخدم الخيال البدائي الفطري ممزوجا بالتقنيات الحديثة لكي يصل إلي درجة الصفر الإنسانية‏,‏ حيث الأشياء واضحة وقاطعة ولا تخضع لقانون الصواب والخطأ بقدر ما تخضع لاحتياجات الإنسان وغرائزه الأساسية‏,‏ وهنا حدث التآخي بين جميع الكائنات من إنسان وحيوان ونبات‏.‏ ووصلت التجربة في ذروتها إلي أنسنة الجماد‏,‏ وخاصة الجبال والوديان التي تلعب دور المثير الشعري في مخيلة الشاعر ورؤيته بحضورها الأسطوري وجبروتها بل وسيطرتها النهائية علي مجريات الأحداث‏.‏ إن الجبال لدي الشاعر تقترب من الأماكن المقدسة‏,‏ بكل ما يحدث فيها من قسوة وقوة أو حنان أحيانا أخري‏,‏ ربما تكون بداية الخلق أو منها بدأ النسل البشري وفيها بدأت الصراعات والهروب إلي الأماكن الأخري‏,‏ حيث بدأ العمران والزراعة إن هذه الروحية المعذبة لا تعكس رهافة الشاعر وإنسانيته فقط‏,‏ ولكن تعكس أيضا مأزق الإنسان الحديث وعدم صلاحيته لقيادة الكائنات‏,‏ وقد وصل سيف الرحبي إلي الإحساس بالخراب العام لكثرة الحروب بين بني البشر علي أشياء إذا تم توزيعها بالعدل سوف تكفي الجميع وهو في هذه التجربة يكشف عن العنف بين الجماعات والقسوة المتبادلة‏,‏ لا فرق بين بدائي ومتحضر‏,‏ الجميع سواء في القتل والتعذيب وكأن العالم كله قد تحول إلي ربع خال ويمثل هذا الاقتراح الدواوين التالية رجل من الربع الخالي جبال‏,‏ يد في آخر العالم‏,‏ الجندي الذي رأي الطائر في نومه‏,‏ مقبرة السلالة‏,‏ وهذه التجربة علي أهميتها تتكرر لدي الشاعر وربما بنفس العوالم والمفردات وإن اختلفت في الأداء قليلا من ديوان إلي آخر‏,‏ وبها بعض الرومانسية والطفولية الثورية سواء في الأداء أم الرؤية إلا أنها تظل إحدي الافتراضات الشعرية الجديدة‏,‏ التي تخلص الشعر من ابتذاله العام وهشاشته المصنوعة وضعف الخيال أو موته‏.‏
وفي ديوانه الأخير مقبرة السلالة تتوزع التجربة علي ثلاثة محاور‏:‏
الأول‏:‏ شعرية الموت
وهي ليست رؤية تجريدية تأملية لفعل الموت عبر الحقب والصراعات‏,‏ بقدر ما هي إحساس خاص لارتباطها بموت أمه‏,‏ يكشف من خلالها عن الحكايات الأسطورية والطقوس التي تصاحب الموتي حتي يصبح هذا الوحش غير المتطور أو المدرك أليفا لدي البشر‏,‏ إن الموت حالة وجودية حادة تفضح تناقضات السلوك الإنساني ورغبته في الخلود‏,‏ وقد استخدم الشاعر تقنية كتابية جديدة‏,‏ يمزج فيها بين النثر المحض القائم علي الإقناع وسرد الوقائع العينية كما هي مع آليات الشعر المعروفة حتي يصل إلي معرفة سر هذا الموت‏,‏ ذلك الغامض‏,‏ الدائم الانفلات‏,‏ والذي يحدث بعبثية نادرة ولا تملك تجاهه سوي الاستسلام والخضوع‏.‏
وهكذا في مجمل النص كله‏,‏ دون تخوف أو تردد‏,‏ في بناء متماسك‏,‏ لا يخضع لهندسية صارمة ولا عفوية خالصة‏.‏ إن هذا البناء الذي يعتمد المقطع يعطي الشاعر حرية كبيرة في ترتيب المشاهد المتعددة والمختلفة الأداء‏.‏
إن هذا النص لا يخلو من الرثاء‏,‏ وإن كان موت أمه علامة علي موت أشيائه الخاصة وسؤال كبير حول المصير الإنساني بكامله‏,‏ خاصة أصدقاؤه الذين يموتون فجأة‏.‏ ثم يعقد مقارنة حضارية بين مفهومين للموت في الثقافة العربية والثقافة الغربية وذلك من خلال الرمز الحاضر للموت وهو المقابر‏.‏
أسطورة الحنين إلى الصحراء
الثاني‏:‏ شعرية الصحراء
تمثل الصحراء بالنسبة لأبنائها العنصر الفاعل والممهيمن في رؤية العالم‏,‏ فهي التي تحدد طبائع الأشياء والسلوك والاحتياجات الخاصة وكيفية مواجهة المجتمعات الأخري وهي بالنسبة للشعراء الفطرة الأولي والخيال الخاص الذي لم تخدشه الأشياء المصنوعة وهي سر الأسرار‏,‏ ولا أحد يستطيع أن يسيطر عليها وهي النقاء في كل شيء سواء المادي أم الروحي وهي القاسية التي لا ترحم أحدا وفيها تكون الفصاحة والإبانة وفي غيرها تكون العجمة واختلاط الألسنة‏,‏ وتمثل التوحيد في شكله البدائي‏,‏ علي حين يزدهر في التجمعات البشرية الزراعية والصناعية التعدد والاختلاف‏.‏ والصراع في الصحراء واضح وبسيط لا تعقيد فيه ولا التباس حتي أصبحت الصحراء بطبيعتها أمثولة شفرية في ذاتها‏.‏
والصحراء بفعل طبيعتها المفتوحة‏,‏ دائما ما تستقبل الغرباء من كل الجهات‏,‏ ودائما ما يرحل أبناؤها ويهاجرون إلي أماكن أخري طلبا للعشب والمياه‏.‏
وتتحول الجبال في تجربة سيف الرحبي إلي أسطورة خاصة نظرا لطبيعة عمان الجغرافية‏,‏ فالجبال هي المصهر الإنساني وهي أداة اختبار الرجال والنساء‏,‏ وهي الرحم الذي تولد منه الحياة وهي المقبرة التي تضم الجماجم والعظام وبقية الرفات‏.‏
أما قصيدة الصحراء فإنها تكشف التناقض بين ما تمثله الصحراء من نقاء وثبات وعدم تغير وبين بني البشر وما يمثلونه من اختلاط وتقلبات حسب ظروفهم ومعيشتهم وتغير منظوماتهم الحاكمة من جماعة إلي جماعة‏.‏
الثالث‏:‏ عذاب الكائن البشري وعزلته‏..‏ ربما تكون مأساة الإنسان
الحديث في ذاته لا في صراعه مع الآخرين‏,‏ خاصة بعد أن رضي بالتشيؤ وباع قوة عمله في سوق العمل بعيدا عن رغباته وأشواقه‏,‏ وقد تخلص من العلاقات العائلية التي تعيق حريته الشخصية وطموحه في العمل والاعتقاد وأصبح لا تحركه إلا اللذائذ الخاصة ومن هنا أحس بالوحدة والعزلة‏,‏ إلا أن الشاعر العربي مازال مرتبطا بدرجة ما بعلاقات مع الأهل والجيران ومحيطه الإنساني سواء القبيلة أو العائلة وهذا ما يجعل وحدته نظامه وعزلته فاعلة‏.‏
أما الألم الإنساني والوحشة الغريبة التي يعاني منها أبناء الصحراء الجديدون الذين اختلطوا بمعظم الجنسيات البشرية في معاهد الدرس أو في المطارات أو في الهجرات الطويلة أو في وسائل الاتصال الحديثة فإنهم أمام اختبار حقيقي لمشاعرهم وعواطفهم الجديدة وأمام تحديثها عن طريق المعرفة والسلوك المادي الذي يتقاطع مع العالم أجمع‏.‏
والمؤكد أن شعرية سيف الرحبي بكل اقتراحاتها إحدي النماذج الحقيقية لقصيدة النثر لأنها تتجاوز أزمة هذا النوع وترتبط بفضاء إبداعي كبير تتجاوز فيه جميع أشكال الإبداع الإنساني دون أن تعلي من قيمة شيء علي شيء وإنما تنحاز لما تريده وللأداء الذي يناسب دون النظر إلي القديم أو الحديث وإنما النص الذي يتقاطع مع لحظته الراهنة‏*‏