أحمد يوسف داود
1- تقديم لعله لا مسوّغ له‏
عام 1981 أصدر الشاعر العربي العماني المدهش سيف الرحبي مجموعتيه الأوليين في دمشق: (نورسة الجنون) و(الجبل الأخضر)، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين وكنتُ في السادسة والثلاثين.. وكان الشعر يومئذ بالنسبة لنا –وآمل ألا يزال بالنسبة لكثيرين ممن يستحقون صفة “شاعر”- إحدى القضايا الكبرى التي ينبغي ألا تقارب إلا بتقديس وإيمان، وعلى قاعدة من الذكاء الكبير اللماح.. والانفعال القوي بمجريات حركة الحياة.. وقلق البحث الأصيل عن معنى الوجود الإنساني وغايته في المجتمع والطبيعة والكون.. وامتلاك الموهبة المقتدرة.. والأدوات اللغوية المتميزة.. وتقنيات الأداء المتفوق.. فالشعر تعبير عن روح العالم الذي يكاد النزوع الاستهلاكي المريض يقضي على روحه في ظل النمط الحضاري العبثي القائم.‏
وبكل ثقة يمكن التوكيد على أن سيف الرحبي هو واحد من أوائل قلة عرب أظهروا خلال ربع قرن مضى أنهم قد امتلكوا بجدارة تلك (الجذوة الإلهية) التي من دونها لن يستطيع الكائن البشري أن يبدع (نار الشعر المقدسة)، أو أن يكون (شاعراً)، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وما توحي به من ثقلِ حضور في الكشف عن حقيقة الوجود ومعناه، ومن متعة الاحتراق الجميل الجليل في إطار عملية ذلك الكشف المتواتر: خطوةً بعد أخرى.‏
ولقد كان سيف الرحبي (عابر قاراتٍ!) وبلدان، ولا يزال، سواءٌ على المستوى الشخصي أم الثقافي أم على المستوى الإبداعي. لقد درس في القاهرة، وأقام مدداً متفاوتة في عدد من البلدان العربية والأوربية، وهو لا يزال –منذ أن عاد إلى عمان- يتنقل زائراً، من حين إلى آخر، بين بلده وبين هذا البلد العربي أو الأجنبي.. أو ذاك، لأسبابه الخاصة المختلفة. ولقد عرفته في يومٍ ما من أيامِ أحد عامي 1980 أو 1981 في دمشق –ربما في إحدى السهرات ببيت صديقنا الشاعر بندر عبد الحميد على الأرجح.. وربما مكان آخر بمناسبة أخرى- وأعتقد أننا صرنا صديقين حقاً، وكنت معجباً بما سمعتُهُ من قصائده الأولى أو بما قرأته، لا أتذكّر بالضبط، غير أنه أهداني (نورسةَ الجنون) حين التقينا مصادفة عند أحد مواقف الباصات في قلب دمشق، ولا أزال أذكر جيداً ملامحه السمراء الوسيمة وضحكته الطلقة المحببة وهو يعاتبني على لم نلتقِ منذ مدة، ثم يخبرني أنه قد يسافر قريباً جداً إلى باريس.. وسافر فعلاً قبل أن يهديني (الجبل الأخضر) الذي كان عليّ أن أسطو على نسخة منه من بندر عبد الحميد، ثم لم نلتقِ بعد ذلك!‏
غير أننا تراسلنا مرتين أو ثلاثاً بعد عودته إلى عمان، ووصلني منه مجموعتان له هما: (منازل الخطوة الأولى) و(مقبرة السلالة) الصادرة هذا العام /2003/ والتي قراءتها هي موضوع هذه المقالة. أما بعض أعماله الأخرى فقد قرأتها، استعارةً، من أكثر من صديق.‏
وإذا كانت مختارات من أعماله الأدبية قد ترجمت إلى عديد من اللغات العالمية: الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والهولندية، وسواها.. فلا شك لديَّ في أن هذا الصديق الذي لا يمكن أن ينسى، والذي كان قلق الإبداع يحركه بقدر ما يحركه النهم إلى المعرفة، قد تلقى الكثير من ثقافات البلدان التي عاش فيها أو قرأ من نتاجات مبدعيها.. وتمثل ما تلقى وما قرأ. ويظهر هذا التمثل في مواضع كثيرة من أعماله، وذلك في الوقت الذي تظهر فيه هذه الأعمال مرتبطة (بالمحلية) أعمق ارتباط كيما ترتقي إلى العالمية بمنتهى السهولة واليسر.. ذلك أن (الذات المبدعة) هنا تنتقي –في مجادلتها للحياة والوجود- ما هو دالٌّ على المشترك الإنسان من بين (المفردات) التي يشكل تركيبها المضّطرد حقيقة تجربة هذه الذات في نطاق المحيط الذي ليس إلا إحدى صيغ الوجود، وصورته الجزئية المنفتحة إجمالاً على كليته. وسنرى هذا بوضوح كافٍ عند قراءتنا اللاحقة لـِ(مقبرة السلالة).‏
لكننا، قبل البدء بهذه القراءة، سنورد ثبتاً بأهم أعمال سيف الرحبي مرتبة حسب تواريخ صدورها خلال الأعوام الاثنين والعشرين الماضية.. وهذه الأعمال هي:‏
1- نورسة الجنون، والجبل الأخضر-مجموعتان شعريتان- دمشق /1981/.‏
2- أجراس القطيعة –مجموعة شعرية- باريس /1984/.‏
3- رأس المسافر-مجموعة شعرية- الدار البيضاء /1986/.‏
4- مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور –مجموعة شعرية- عمان /1988/.‏
5- ذاكرة الشتات –مجموعة مقالات- /1991/.‏
6- منازل الخطوة الأولى (سيرة المكان والطفولة) –نثر وشعر- القاهرة /1993/.‏
7- رجل من الربع الخالي –مجموعة شعرية- بيروت /1994/.‏
8- جبال –مجموعة شعرية- بيروت /1996/.‏
9- معجم الجحيم –مختارات شعرية- القاهرة /1996/.‏
10- يدٌ في آخر العالم –مجموعة شعرية- دمشق /1998/.‏
11- حوار الأمكنة والوجود –مجموعة مقالات- عمان /مسقط/1999/.‏
12- الجندي الذي رأى الطائر في نومه –مجموعة شعرية- كولونيا /بيروت/ 2000/.‏
13- قوس قزح الصحراء –تأملات في الجفاف واللاجدوى-ألمانيا، وبيروت /2002/.‏
14- مقبرة السلالة-مجموعة شعرية- كولونيا /ألمانيا/ /2003/.‏
ويعمل سيف الرحبي الآن رئيساً لتحرير مجلة (نزوى) الفصلية العُمانية، ويكتب في عدد من الصحف والدوريات العربية، لكن الشعر يظل هاجسه الرئيس، وميدان إبداعه المفضل والأرقى.‏
2- هيكلية مقبرة السلالة:‏
تنقسم هذه المجموعة شكلياً إلى ثلاثة أقسام رئيسة يختمها سيف الرحبي بقصيدتين مستقلتين مضافتين.‏
ويحمل القسم الأول العنوانَ الذي أعطاه للمجموعة: مقبرة السلالة (محاولة أولى)، أما القسم الثاني فيحمل عنواناً طويلاً نسيباُ هو: “الحِصان المربوط على نخلة بأطراف البلدة”، بينما حمل القسم الثالث عنواناً أكثر طولاً هو: “الديكة وحدها تحاول إنقاذ المشهد، وتعيد مياهاً بعيدة في الذاكرة”.. وأخيراً تأتي القصيدتان المضافتان تحت عنواني: “الشاعر” و”مساء جنائزي”.‏
والقسم الأول هو محاولة في رثاء السلالة البشرية، ولكن.. انطلاقاًُ من حدث استثنائي بالنسبة للشاعر هو موت أمه، حيث ينفتح السؤال حول المفارقة –أو المفارقات- الكبرى في عملية الوجود كلها حيث تؤول المصائر كلها إلى الموت، لغز الألغاز.. ومحور السؤال الرئيس الذي تتناسل منه التساؤلات الفرعية التي تكاد لا تحصر ولا تحصى في أطر مشاهد الحياة الكلية وانحدار عناصرها إلى ذلك المصير الملغز القاتم.‏
وإذا كان سيف الرحبي يبدأ هذا القسم بنص نثري سردي/ ذاتي وعام في الوقت ذاته، ومحوراه: الأم والمقبرة/ فإنه سيكرر ذلك مراتٍ أربعاً، بتنوّع في الطول، كما في زاوية رؤيةِ المسرود عنه، لكن القارئ لن يحسَّ تقريباً بهذه الانتقالات بين النثر والشعر، بل إنه سيراها كضرورات فنية ومضمونية تقتضيها طبيعة النص وحدته الإجمالية.‏
غير أن سيف لن يفعل ذلك في القسم الثاني الذي يقدم فيه ثلاثين (لوحة شعرية) –إن جازت التسمية، تلخصها عناوينها.. وما تحويه هذه اللوحات يكاد لا يزيد عن نوع من الطواف الذاتي المعتمد على ملاحظات حول مختلف عناصر الوجود المتنوعة –بما فيها التذكرات والتمثلات والتأملات- حول الموضوع الأساسي الذي حُفِر عميقاً، وبأسى شفيف مدهش، في القسم الأول.‏
أما القسم الثالث فقد افتتحه الشاعر بجملة ملاحظات متباينة الطول، وتعمد أن يجعلها ما بين الشعر والنثر، وتناول فيها مسائل ومشاغل يمكن القول إنها تلامس إلى حد بعيد علاقة الكائن الإنساني، وبعض من الكائنات، بالزمن وبما تفرضه دورته من انتهاء إلى الموت.. إضافة إلى مقاربة لبعض صيغ هذا الموت المحتوم. وكذلك فعل في ختام هذا القسم ذاته. وبين الافتتاح والختام المذكورين، أضاف عشرين (لوحة شعرية) أخرى، تنهج نهج الثلاثين التي تألف منها القسم الثاني، وتعمق أهدافها، وتزيد في التنوع الذي تطرقت إليه.. وتزيد –بالتالي- في الكشف عن الاتساع والعمق في معاناة (الذات الشاعرة) للمفارقة الإشكالية المأساوية: مفارقة ما بين الحياة والموت من تشابك وتواشج صميميين لا فكاك للمخلوق من أسارهما، أينما وُجد ومهما فعل!‏
وبعد هذه الأقسام الثلاثة تأتي القصيدتان القصيرتان المضافتان لتختما هذه المرثية الفريدة بقسوتها الجليلة والمؤثرة بقدر ما فيها من (حقيقية) ومن إثارةِ جمال شعريٍّ يفيض بالعذوبة المريرة.‏
إن قصيدة (الشاعر) –وربما عنى سيف الرحبي “ذاته” بصورة مباشرة، أو إحدى صيغ تجليات هذه الذات في مرآة معاناتها أو مرآة ما فرضت عليها التجربة الحيوية والفنية أن تكونه.. بهذا العنوان –إنما هي تلخيص إجمالي لرؤية المصائر في الوجود الكلي انطلاقاً من علاقة الذات الشاعرة بالتأمل في ما هو محليّ. وهي –أي هذه القصيدة- تؤهل لقفلة الختام الأخير في القصيدة الأخيرة: “مساء جنائزي”، والعنوان بكل من كلمتيه الاثنتين يشي بما يؤكّد (العامّ) في التأسيس البدئي الذي حواه القسم الأول والذي تمّ بناء على واقعة لها صفة (الخاص) بالنسبة للشاعر. وهكذا، يمكن اعتبار هاتين القصيدتين نوعاً من (الجواب) على (القرار) كما يقال عن الموسيقى، وبذلك يتكامل البناء الهارموني لهذا الديوان الثريّ ثراء مدهشاً وفريداً بجلال جمالياته المأساوية التي لا يمكن لأي قارئ إلا أن يثق بأن كل ما فيه يخصه شخصياً، جملة وتفصيلاً.‏
3- لغة الشعر في (مقبرة السلالة):‏
حين نقول كلمتي (لغة الشعر) هنا، أو في أي مقام للنقد أو المراجعة النقدية، فإننا نعني جملة متكاملة من الأمور ذات الصلة بالقصيدة، أو أي شكل آخر من أشكال الأداء الشعري المكتوب.. وفي مقدمتها:‏
–  قاموس مفردات الشاعر، وأسلوب صياغاته التعبيرية الشعرية.‏
–  الصورة الشعرية، وتركيب سلاسل الصور، ومدى اتساقها عبر تلك الصياغات وصولاً إلى الدلالة العليا للنص، أو بالأحرى: إلى مركب الدلالات المحمول فيه.‏
–  الرموز والبنيات الترميزية +الإيحاءات الثقافية والسيكوÿÿ4;ÿÿÿÿ08ÿÿ#1ÿÿ0;&#ÿÿ10;ة المÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿ578;مدة من الثقافة الخاصة لمجتمع الشاعر، أو مما يقع في دائرة (المشترك) الثقافي الإنساني العام.. ضمن الأمرين السابقين.‏
–  الجماليات المتشكلة من ذلك كله في النص الواحد، أو العمل الشعري الكامل، بيانية كانت تلك الجماليات أم غير بيانية.. مع ملاحظة وجوب أن تظهر الجمالياتُ البيانيةُ نظيرتَها غير البيانية لا أن تكون كأنما هي مستهدفة بذاتها ولذاتها.‏
–  تقصّي المستوى الذي يبيحه البناء النصي من كيفيات التلقي لدى الشريحة الأوسع من قراء النص أو العمل المتكامل.. وبالمناسبة، هذه مسألة لا نرى أن نقدنا الشائع يوليها عنايته إلا في القليل النادر إلى درجة أنه يكاد يكون منعدماً في ذلك النقد.‏
– الوظيفة الأعلى المحمولة في النص أو العمل.. وبتعبير آخر: طبيعة التجربة وخلاصة الرؤيا لدى الشاعر كما تدل عليها محمولات نصه أو عمله. وهذه سنفرد لها فقرة مستقلة تلي مباشرة ما نحن في صدده الآن.‏
ومن المفيد أن نشير هنا إلى ما نراه من فرق بين (الدلالة العليا) وبين (الوظيفة الأعلى) للنص أو العمل الشعري، فالدلالة تشير إلى طبيعة وقفة الذات الشاعرة مع نفسها خلال التجربة المعيشة ومستوى (الجدار القائم بذاته/ مقفراً وصلباً/ كأنما استعار روح الجبل المجاور/ اللوحة في وسَطِهِ لا تقول إلا حيرتها، أمام غزارة هذا الفراغ/ الجدار بمزاجه الدموي لا تغيره الألوان/ ولا تلك البنفسجات المفكرة في الأصيص، والكؤوس المرتبة بنظافة على الرفوف/ الجدار المحروس بعناية الوحشة/‍‍!!).‏
أما النص الذي من الفصل الثالث فيحمل عنوان “الفيلسوف”:‏
*على سرير احتضاره/ ينام الفيلسوف، مصغياً إلى الموسيقى والشعر/ من نافذته المعتمة، يتأمل الشجرة المورقة، التي كانت في غمرة الربيع./ يرسل نظرات متعبة حزينة/ كأنها التحية الأخيرة، لسر الكون المستعصي على التفسير).‏
ويلاحظ القارئ بسهولة ويسر أن هذه النصوص، التي تمّ اختيارها بعشوائية متعمَّدة، تقدّم نماذج غير عادية للصياغة التعبيرية الشعرية، على المستوى الاستعمالي اللغوي المحض.. وتؤكد صحة ما كنا قد أثبتناه قبلاً لأسلوب سيف الرحبي من ميزات، لا يعمد هو –غير تحقيقها- إلى إدهاشنا بها أو إلى صدم ذائقتنا البيانية بتصنيعها، بل هو يسجل فيض بوحِهِ حسبما سبق وقلنا، فإذا به يقود تلك الذائقة إلى مستويات عليا جديدة، تشع فيها الروح الحداثية بقوة: من داخل البيان التراثي الرفيع ومن حوله وفيه، وإذا بنا نشعر بنشوة الفرادة في إطار التطوير الواسع للجماليات التعبيرية التي تحتفي بها أصلاً تلك الذائقة، من خلال مثل هذا الأداء الذي يرى أي قارئ أنه يقدم (السهل الممتنع) في أحد أرقى أشكاله المعاصرة، وأعلى ذراه الحديثة.‏
ولعله سيكون أمراً مسيئاً أن نعمد إلى تشريح هذه النصوص أو سواها، لأن التشريح من أجل أن نؤكد صوابية ما ذهبنا إليه سيقتل روح النص. غير أننا من جهة أخرى سنشير إلى اعتماد سيف في صياغة لغة هذه المجموعة على كمّ كبير جداً من عناصر الحياة اليومية ومفردات الموجودات.. وعلى تذكّرات ما يناسب (موضوعه) هنا منها ومن تمثلات العلاقة بها سواء عبر التجربة أم عبر القراءة أو السماع، أي عبر تحصيل الثقافة. وسيف –خلال الصياغة- يسبغ ماتجيش به روحه من انفعالات على تلك العناصر والمفردات فإذا بها تصطخب بالحياة كي تحمل محصلات رؤياه ورؤيته لذاته في الوجود، وللوجود ومعناه، بتواتر لانتقال التركيبي: من الجزئي إلى الكلي دون صخب أو تفلسف أو تصنّع أو ادعاء.‏
وربما قدمت بعض الملاحظات المنهجية، ذات السمات التطبيقية، على أساليب التصوير الفني ومحولاته الترميزية والدلالية، في النصوص المقبوسة أعلاه أو في بعضِ سواها، إضاءة كافية هنا لإيضاح حقيقيّة ما ذهبنا إليه بخصوص أساليبه في الصياغة اللغوية الشعرية وميزاتها وتميزها.‏
وإذا أعدنا النظر بسرعة في النص الأول وجدنا الصور التالية مع رموزها وإيحاءاتها الأسطورية، تتمازج بما هو واقعي لتقودنا إلى (الذاتي) جداً، والذي يلخص كلية المصائر العامة الحتمية:‏
1- التوحد. 2-الجلوس في (مواجهة البحر)، مع ما لكل من البحر ومواجهته من ثقل إيحاء رمزي وترميزي. 3-المياه مواكب/ ولنلاحظ: ليست أمواجاً!/ وهي تحف الذات الشاعرة بالسديم. 4-السديم يقود المخيلة إلى زمن (طفولة العالم الأولى)../ ولنلاحظ أيضاً: ثقل الانتقال التعبيري مع ثقل الصورة رغم شدة ارتقاء الشعرية في التعبير عن هذه الوقفة، أما الوظيفة فهي نوع من تصنيف الدلالةِ وأهميتها في (الخارج): الحياة الاجتماعية، الحياة الإنسانية، حركية الوجود وهدفيتها ومعناها.. إلى آخره مما يقارب ذلك أو يشاكله.‏
إذا اعتبرنا الأمور سابقة الذكر نوعاً من (الدليل المنهجي) لقراءة “مقبرة السلالة” فإن أول ما يمكننا توكيده هو الاتساع الكبير غير العادي في قاموس مفردات سيف الرحبي. وبالطبع نستطيع أن نقوم ببعض العمليات الإحصائية التي تثبت ذلك، لكن هذا لن يكون شيئاً ذا جدوى ما لم نتبصر في أساليب الصياغة التعبيرية الشعرية التي يضع فيها سيف هذه المفردات ليكوّن منها تلك الفرادة المتميزة في نصوص هذا العمل، وهي تتوالى ممسكاً واحدها بالآخر في نسيج بنياني محكم، يقود الخاص فيه إلى العام، والذاتي إلى الموضوعي، والشخصي إلى الوجودي الكلي..‏
حيث التعابير تبدو بالغة البساطة، لكنها البساطة الحافلة بالشفافية والعمق وقرب المأخذ وبعد المرمى وقوة التأثير، حتى لكأن سيف لا يكتب شعراً بل هو يبوح بآلام روحه وأوجاعها فيفيض الفن الشعري فيضاً يجتذب الموجودات إلى الذات الموجوعة المفجوعة بقدر ما يدفع تلك الذات إلى معانقة تلك الموجودات والتماهي معها ومع مترابطاتها المختلفة، فيجمع التعبير الشعري لديه بين المتناقضات من جهة وبين الجزئيات والكليات من جهة أخرى جمعاً يحيل الكلام الأليف إلى ما يشبه الموسيقى الصرف ذات السمة الجنائزية الهامسة بأسى يثير في القارئ الخشوع الجليل، والفاتن رغم كل ما يحمله من الإحساس بآلام معضلة الوجود الكبرى: الموت الذي يفترس فرح الحياة. لنقرأ هذين المقطعين من القسم الأول مثلاً: إنه يقول في ص12-13:‏
* أجلس في مواجهة البحر/ وحيداً، تحفّني مواكب المياه بالسديم/ يومَ كان العالم في طفولته الأولى/ لا يعرف سكين الجزار/ ولا انشطار الذرة/ ولا يعرف الطبقات../ يوم كان حلماً في ذاكرة الغيب/ وقدماً من غير سقفٍ ولا أزمنة/ أجلس على الرمل المصبوغ بدم السلالات/ تلك التي مرت من هنا، على السفن الشراعية المثلثة/ أرقب البواخر العملاقة ترمي فُضُلاتها على المياه العربية/ أرقب النجم المرتجف، تحت القمر الطالع بحشوده الضوئية. /الأبدية ترعى ظباءها في السديم../ الأبدية النازفة تحت شرفة القرصان/.. ثغاء ماعز في الطريق/ ديكة تطير بأجنحتها في الأحلام/ الليل ينزل بثقله على المكان /يحمل النعش والنجوم/ وبيديّ هاتين حملته إلى بيته الأخير). ثم ما يلبث أن يكمل بعد مقطع واحد:‏
* البحر أكثر وحشة هذا المساء/ النوارس انطفأت في الهواء المحتقن كنذير قيامة/ الجمال على موعد مع مغيبه /الجمال الأكثر عزلة من متاهة/ من نعشٍ نحمله على رؤوسنا/ على قلوب تكابر مصارعها/ في ليل القرية القاسي/ بين الأطواد الهاذية بالنيازك..).‏
ولنضف إلى هذين المقطعين نصاً قصيراً من القسم الثاني، وآخر من القسم الثالث، فربما كان في ذلك –ولو أطلنا قليلاً في الاستشهاد- مزيد من الأدلة على ما ذهبنا إليه، يقول النص من القسم الثاني، وهو يحمل عنوان “اللوحة”: بساطتها /5-ثلاث صور مأساوية ومركبة عن واقع العالم الآن، والمتناقض مع ما علينا تخمينه من نقاء تلك (الطفولة الأولى). 6-العودة القوية الموجزة والبسيطة المدهشة إلى وصفِهِ بصورتين كلتاهما مركبة –7-العودة إلى الذات الشاعرة تقرأ الماضي، والواقع والكون والأبدية وحيوانات البيئة.. في مجموع صغير من الصور المركبة/ البسيطة، ذات الإيحاء القوي بكوارث علاقة الإنسان بذاته وبمحيطه وبالوجود. 8-اختتام المقطع بثلاث صور يتراكب فيها التخييلي الكوني/ المعاين والمؤسطر في الوقت ذاته/ مع ما هو ذاتي محض، ليعطي التركيب التصويري الجزئي هذا –والمتناغم ببنائية أخاذة مع ما سبقه –تلك الدلالة التراجيدية الوجودية الكونية الشاملة والمفجعة لما هو ذاتي محتوم، وإنما جرى التآلف معه إلى حد تناسيه رغم فاجعيته التي تقص بها كل ثانية من زمان حياة السلالة المحدودة، رغم ما تخمنه من استمرارية تلك الحياة في توالي أعمال الأفراد المتحدرين من هذه السلالة!.. إن سيف الرحبي –هكذا- يعيد حقيقة الوجود إلى نصابها، بلمسات تصويرية تعبيرية دالة، بمنتهى (البساطة) الغنية شعرياً، وبإيجازها التلقائي المحكم وكثافة عمقها الثري المشع كالماس النقي الصقيل.. وذلك هو التميز الرفيع الذي سبق أن أشرنا إليه، أو إنه بعضه على الأقل، إن جاز لنا التبعيض في ما هو متكامل!‏
وبوصول سيف إلى المحصلة السابقة، نجده يقرر في بداية المقطع التالي ما يشير إلى أنه لا يبقى للكائن بعد إدراكه العميق لتراجيديا وجوده غير الوحشة، الوحشة بمعناها الوجودي الشامل، في هذا العالم الذي ليس إلا (مقبرة السلالة). لكن سيف لا يقول هذا بصورة مباشرة بل هو يقول عن البحر الذي (يجلس وحيداً في مواجهته) إنه موحش، أو بالأحرى (أكثر وحشة..) وتلك الصورة الفريدة للنوارس، والصور الأخرى (للجمال) الذي هو على موعد مع مغيبه.. تزيد إلى درجة كبيرة جداً في الغنى الذي سبق أن بيّناه في النص الأول: تصويرياً وتعبيرياً ودلالياً، ونلاحظ هنا بوضوح أكبر كيف ينعكس ما في الذات من أحاسيس على عناصر الوجود فيعطيها تلك الحياة العامرة بالأسى الشفيف، فيتماهى ذلك الوجود فيها أو إنها تتماهى فيه.‏
ولا يخرج نص (اللوحة) عن ذلك كله، بل إننا لنرى فيه زيادة كبرى في إثراء ما الأسلوب سيف من ميزات. وكمثال على جدِة الصورة وطزاجتها وحداثتها، لنتأمل فقط: (اللوحة التي لا تقول إلا حيرتها… وأما غزارة الفراغ!.. والجدار بمزاجه الدموي.. الجدار المحروس بعناية الوحشة) إنها صور غير مسبوقة في حدود ما أعلم، وهي نموذج للارتقاء إلى إحدى أعلى الذرا في الفن التصويري/ التعبيري الشعري العربي الحديث. على أن قيمتها الحقيقية تظهر كاملة في التناغم البنائي الداخلي الرفيع لهذا النص، وفي التناغم العام له ضمن مجموع النصوص في (مقبرة السلالة).‏
وفي نص (الفيلسوف) الذي يصوره سيف (على سرير احتضاره) تبدو الصور البسيطة، الفنية المكثفة في قِلتها الرحبة، وسيلة لقول (النهائي) في عملية البحث الإنساني الوجودي ذي الطبيعة التراجيدية المفجعة، إنه (سر الكون المستعصي على التفسير) بعبارة سيف ذاتها!‏
ولو حاولنا قراءة النصوص جميعاً –سواء بهذه الطريقة المختزلة، أم بطريقة تنهج طريق التوسع الأقصى- فإننا سنجد سيف يتفوق باستمرار على ذاته بين نص وآخر، ولكل نص وظيفته المعمارية الفنية والمضمونية ضمن هذا (الكل الشعري) المدهش، مقبرة السلالة، حيث (التنوع) الثر يمضي بنا إلى (وحدة) فائقة الغني بأشكال وصيغ الفن الشعري العالي عن تراجيديا هذا الوجود ذي السر (المستعصي على التفسير).‏
وكل ذلك ينبع بالطبع من رؤيا ورؤية سيف/ الشاعر لأوضاع الدنيا منذ كان العالم (بلا سقف ولا أزمنة) حتى هذه اللحظة. إنه يقول في قصيدة (الشاعر): (سماء وأرض من الضحايا تضطربان تحت أنامله/.. أكانت الحرب قد بدأت في رأسه/ وامتدت إلى هشيم العالم) ولأنه  يجلس.. في ركن المقهى) فهو (يحدق في فنجان القهوة بتلاله الداكنة: /أحلام ذئابٍ تندفع نحو طرائدها المترفة/ وعول تعشق ضوء القمر…) إلى آخر قائمة ما يراه عبر تأمله في ذاك الفنجان.. وأخيراً: (يرمق طرف فنجانه/ يرى المصائر تتداعى كسفن تقترب من جبلها المغناطيسي/ ينظر إلى الفنجان الذي اختفى/ وربما استحال إلى جملة شعرية، تجدّف في ليل النسيان)!! وإذاً: (كل شيء باطل وقبض الريح) كما قيل قبلاً منذ آلاف الأعوام. وهكذا فإن الختام هو تماماً كالبداية: (مساء جنائزي) وما بينهما تنويع على ما فيها وتوكيد عليه. وفي المساء الجنائزي ليست العناصر والمخلوقات وحدها هي الداخلة دوماً في (غابة صياح وعويل) بل إن:‏
* الفضاء بكامله يتمدد كجنازة تسحبها الجبال) أما مشيعوها فهم “مخلوقات المصادفة” البائسة و(وحده الموج أطلق المساء سراحه/ مزمجراً في الكهوف الغائرة/ كنيران مضطرمة).‏
إنها سطوة العدم المستمرة في الهياج، مُحرقة مُغرقة، وبهذا تكتمل الرؤيا في (مقبرة السلالة)، وبها وبكتابتها يُتمُّ سيف الرحبي نعمة إنجاز عمل شُعريَّ حديث قد لا نجد له شبيهاً ولا نظيراً في كل ما أنجزته (قصيدة النثر) خلال نصف قرن ونيف!.‏
ثمة الكثير من التفصيلات التي يمكن –أو يجب- تقصيها داخل سياقات الأبنية النصية التي تتكوّن منها (مقبرة السلالة)، لإبراز عناصر الجمال الفني في صياغة تلك الأبنية –وقد ألمحنا إلى بعض تلك العناصر في ما سبق تقديمه.. ولاستقصاء مجموعة الرموز الأساسية أو الكبرى) ومنظومات الرموز التفريعية وكيفيات إنشاء البنيات الترميزية الحاملة للإشعاع الدلالي المحدد –في النهاية- للوظيفة النصية الأعلى..‏
كما لتقصي أمداء استفادة سيف الرحبي من عناصر ثقافة البيئة المحلية، والتراث، وعناصر الثقافات الأجنبية، وكيفيات تمثلها وإعادة إنتاجها شعرياً في هذا العمل الكبير: (مقبرة السلالة).. ثم لإيضاح ما في هذا كله من إثارة إيحاءات سيكولوجية وانفعالية ومعرفية لدى القارئ، وبالتالي: لتقصي ما هو محتمل من كيفيات التلقي.. إلى آخر ما سبق لنا تحديده من أمور منهجية –أو شبه منهجية- في مستهل هذه الفقرة: (3-لغة الشعر..) من هذه المقالة.‏
والواقع أن القيام بهذا سيرهق هذه المراجعة النقدية، وربما يصيبها بالترهل كمقالة. غير أن بعضاً من أهم ما يمكن قوله بإيجاز وتكثيف هو أن سيف الرحبي يصوغ جماليات نصية في (مقبرة السلالة) ربما كان أكثرها غير مسبوق إليه، والنصوص التي عالجناها تؤكد ذلك. وتلك الجماليات تنفرش على طيفٍ واسعٍ من بنيات لغوية /تصويرية/ ترميزية مليئة:‏
1- بمجموعة من الرموز الأساسية الكبرى: بحر-أرض-سماء-قمر-صحراء.. إلى آخر القائمة التي نجدها محددة في علم النفس اليونغي /نسبة إلى كارل يونغ/.‏
2- منظومات من الرموز التفريعية، العامة والشخصية، ذات الصلة بتمثلات الشاعر لتجربته في البيئة وفي الثقافة: تراثية عربية أم أجنبية واسعة ومتنوعة، وذلك كلُّهُ مترابط تصويرياً، وعبر أشكال كبيرة من أساليب الصياغة، بالمركب الرمزي التناقضي الأكبر: (الحياة/ الموت).‏
3- مخزون كبير من (النُّسجُ الحكائية) الموروثة والمتداولة شفوياً، والتي تحولت –بدورها- إلى حامل متعالٍ للتجربة الجمعية، يعاد توظيفه هنا –أو توظيف موجزات أهم عناصر المشيرة إليه –لإعطاء مستويات دلالية متصاعدة نحو المستوى الدلالي الأعلى للجموع النصي هنا.‏
4- يقود سيف الرحبي ذلك كله –وبأسلوبه في الصياغة والبناء المتكامل –عبر مسارات سردية من نوع خاص جداً يليق فقط بالشعر العظيم. وسمة السردية عند سيف ليست تلك السردية الملحمية المعقلنة والمصنعة طبقاً لوظيفة ذات أبعاد أيديولوجية، عرفت حركة الحداثة الشعرية العربية أشكالاً عدة منها خلال النصف الأخير من القرن الماضي، بل هي تنشئ الملحمية داخل التلقائية الغنائية النابعة من انفعال نفسي عارم يحركه الشعور بفداحة المصير الإنساني، وفداحة مصير الوجود كله.. وسردية سيف في (مقبرة السلالة) توسع قوس أطياف جماليات الشعر فيها توسيعاً كبيراً جداً، وتجعل امتدادها كبيراً جداً أيضاً.‏
وعند بؤرة المواجهة التراجيدية بين الذات من جهة، والموت الموحي بالعدم الوجودي من جهة أخرى، تتجمع تلك الأطياف لتظهر الوظيفة الأعلى في هذا العمل الفريد، (مقبرة السلالة): وظيفة إنشاء فلسفة ملخصها أن الموت هو محرّك الحياة، وأن كلاهما من طبيعة الآخر!.. إن سديم (طفولة العالم.. حيث لا سقف ولا أزمنة) هو ذاته (الفراغ الفاغر شدقيه كهاوية في مضيق) حيث (يتحول الفضاء المحتدم بالهوامّ والأسلاف غابةً من صياح وعويل) حسب ما في مطلع “مساء جنائزي”/ آخر نصّ في “مقبرة السلالة” وما بينهما تقف الذات الشاعرة –أو هي تروح وتجيء!- شاهدة على الحياة التي لا هم للكائن الإنساني فيها إلا إنجاز الموت باعتباره: الهدف الحتمي لحركتها الكلية، بقدر ما هو السبب الكامن في جوهرها، والمحرض لتلك الحركة التي هي صيغة التجليات المتنوعة له وللحياة في وقتٍ واحد.‏
4-كلمة ختامية‏
بعدما تقدم كله، لماذا استطاع سيف الرحبي أن ينجز هذا البناء الشعري الباذخ، كما نراه في السياق الذي عرضنا لما استطعنا عرضه من أهم ميزاته؟! وبتعبير آخر: ما هو العنصر الجوهري المحرك لهذا الإنجاز، والذي تتجلى فرادة الموهبة عند سيف في استخدامه استخداماً غير مسبوق؟! إن ما لا يمكننا إحصاؤه وحصره من الشعراء الذين فجعوا بموت أمهاتهم، فرثوهن بأساليب وصيغ كثيرة جداً، وهم لا يقلون موهبة وجودة أداء عن سيف، إن لم نقل إنّ الكثيرين منهم يفوقونه فيهما. لكن الواقع هو أن (الأم) عند سيف في (مقبرة السلالة) سرعان ما تتحول من “جسد ابنتها” المحمولة في نعش يحمله على كتفيه، ويواريه –بيديه- في مستقره الأخير، إلى كون (الأم) رمزاً كونياً أعلى.. والتحول يتم بصورة تصاعدية ومفتوحه، ومن دون أن نلمس جملة واحدة في المجموعة تدل على أن سيف كان يتقصّد ذلك، وهو تحت وطأة الصدمة وحزنها وألمها في واقعة الموت المعاينة، أو حتى إنه كان “يعي” أمر ذلك التحول أو التحويل وهو ينجز هذا البنيان الكاشف بتفرد لتراجيديا الوجود حسبما سبق وبيّنّا.‏
إنني أعتقد أن الأم، كرمز، هي المحور الأساسي الذي ترتكز عليه منظومة الرموز الكبرى، حيث على هذا –بدورها- تنبني خلاصات التجربة الجمعية لعملية الوجود الإنساني على الكوكب، ومن منطقة (اللاشعور الجمعي) هذا، وفق مصطلحات علم النفس اليونغي، تنشأ وتتولد العناصر الأولية لكل إبداع إنساني رفيع مهما كان نوعه، لكنه لا يتحقق إلا عبر المرور بمنطقة اللاشعور الشخصي، ثم إلى منطقة الوعي الذي كان قد تحرض أصلاً بمعطى ما، أو بجملة من المعطيات، في العالم الخارجي فأثار –عبر العمليات المعقدة لعمل الدماغ الإنساني، والتي ستظل مجهولة دائماً على ما يبدو تحريضات عميقة انفعالية ارتدت في صيغة إنجاز إبداعي يقوم الوعي بغربلة قواعده الأخيرة وإعطائها سماتها النهائية المتوجهة إلى متلقٍّ مفترض تخاطبه الذات انطلاقاً من (المشترك الإنساني) المتكثف في رموز اللاشعور الجمعي، والمنفرش على مساحات من تجربتها الشعورية واللاشعورية في مجموع تركيبي من البنيات التصويرية/ اللغوية الترميزية، لتقول في النهاية جانباً من مكابداتها وتمثلاتها المستحضرة في لحظات كتابة النصّ.‏
وهنا تتمّ آلية تلقٍّ يشتغل فيها النّص كوسيط بين ذات مبدعة، تجادل ذاتها والعالم عبر تلك البنيات، في لحظة ووضع استثنائيين، وبين ذاتٍ أخرى تستقبل إرسال تلك الذات المبدعة عبر الآلية سابقة الذكر، والتي هي بدورها تركيبية وتعتمد على قابليات وتأسيسات وتفريعات ترميزية وثقافية مختلفة لدى الذات الأخرى المتلقية… وهو ما لا مجال للتفصيل فيه هنا الآن.‏
والأم، باعتبارها الرمز المحوري الأكبر في منظومة الرموز الكبرى، ليس فقط أقوى وأهم ما سبق أن سميناه (المشترك الإنساني، بل هو رمز ينطوي على ثنائيات رمزية كبرى وتفريعية متناقضة وتكاد تكون غير متناهية. وأساساً: تقع فيها رموزه الحياة/ الموت، البقاء/ العدم” بطريقة فريدة وبالغة التعقيد والقوة في التركيب إلى حد أنها تشكل جوهر التفكير والسلوك الإنسانيين، والمحدِّد الأول لمساراتهما وغاياتهما، ومن يشاء التأكد من هذا فليراجع أي كتاب في علم النفس التحليلي مما يتناول الرموز الكبرى وعمليات الترميز في الشخصية الإنسانية.‏
والمهم هنا أن سيف الرحبي قد حقق ما حقق في (مقبرة السلالة): بالانطلاق من التعبير عن مكابداته في فراق الأم المعاينة إلى التجليات الرمزية المفتوحة/ سابقة الذكر للأم، وللوجود الإنساني في (الطبيعة/ الأم) و(الكون/ الأم)، و(الحاضر/ الـ”نحن” المندرج في الأم)، و(التاريخ/ الأم).. فأنجز (رؤياه) المدهشة بالاستعمال اللغوي/ الترميزي، القائم على ثقافة شخصية فسيحة وعميقة، وعلى موهبة فذّة، وعلى شعور طافح المرارة من وحشة الوجود، حيث الموت –وهو أحد رموز الأنثى الأم- يتجادل مع تجليات هذا الوجود، وصيغه، وتفصيلات أحوال كائناته، ليجعل العدم يلغي تلك التجليات والصيغ.. ويحيل مصائر الكائنات إلى العدم! الكامن أصلً في صلب عملية الوجود، وما الزمن -في تدفقه المستمر- إلا وسيلة تحقق العدم عبر حركة الكائنات الراسمة لأحوالها المتجددة المتغيرة.‏
ولعل سيف الرحبي قد أثار فينا قوة الشعور بما نحاول نسيانه: (الموت)، رغم مكابداتنا دائماً لوحشة الحياة، فاهتزت في أرواحنا –كمتلقين- تلك الطمأنة الذاتية القائمة على التجاهل لنتيجة حركة الزمن، والتي بها –أي بتلك الطمأنة الذاتية- نواجه الوحشة ونحن نصر على أن نواجه بها ما وراء الوحشة التي تمزق أرواحنا من أسباب وما بعدها من غايات، حيث (انعدام الجدوى) هو (سيف ديموقليس) المُشْرَعُ دائماً علينا رغم خفائه.‏
ولقد كان الزمن –بالمعنى السابق- حاضراً بقوة في نصوص (مقبرة السلالة). وربما لهذا تعمّد (سيف/ الشاعر) فنياً أن يبدأ بـ(.. السديم/ يوم كان العالم في طفولته الأولى/.. حلماً في ذاكرة الغيب/ وقِدَماً من غير سقف ولا أزمنة) وأن يختم بـ(الفراغ الفاغر شدقيه كهاوية في مضيق/..) حيث (الفضاء بكامله يتمدد كجنازة)، أو إنه (غابة صياح وعويل)، وحيث ذاته الشاعرة التي عادت تلخص رؤياها عبر خطوط فنجان قهوة (الشاعر) ترى الفنجان وقد (اختفى/ وربما استحال إلى جملة شعرية تجدّف في ليل النسيان)!%‏