أستيقظ هذا الصباح، لاكتشف على شرفة منزلي المطلة على أشجار باسقة، أخذت تذبل من فرط القائلة وتسقط أوراقها. لكن مازالت، للناظر من وراء الزجاج المفعم بلطافة الهواء للمكيفات التي تنتحب ليل نهار، تتراءى كغابة ندية. يمكنك تخيلها على مقربة من قصر العجائب البهيج في زنجبار، أو بجزيرة على خط بحر العندمان النائي.
استيقظ لأكتشف خلية نحل كهدية جادت بها سماء الصيف ملتصقة بزجاج الشرفة تشبه الرحى في حجمها لكنها مستطية قليلا. اجتاحني الذهول، كيف كبرت إلى هذا الحد ولم ألاحظ. لكأني غارق في غياب وزوغان، حتى لو أن ذئبة تناسلت على الشرفة في المرة القادمة فلن أعرف الا بعد فوات الأوان!
عمى مؤقت ربما أو الطقس…
الجواميس البرية تلتهم الملح في افريقيا. اسماك القرش توغل في الأعماق. الأصدقاء يضحكون من وراء الأجداث، والحروب تواصل سيرتها بنهم اكبر، وثمة رجل وحيد يرقب النحل يبني مملكته المترامية الأنهار والمتاهات على شرفة في الطابق الثالث من العمارة، في الحي الذي يقطنه خليط بشر وسلالات… ربما حلم النحل وهو يعبر جبالا صفراء بلون الورس أو دكناء قاحلة، إن هناك شرفة بعيدة عن الضجيج واللغط الذي يعكر صفو حياته القصيرة ويجعله دائم الهرب والبحث، بحيث يمكنه سماع موسيقى هادئة كل صباح والخلود إلى الأمان المستحق في الليالي الطويلة. طافت الهواجس واحتدمت وأنا انظر بين الفينة والأخرى بحذر يشبه التجسس، على الخلية الضاجة بالحركة والذهاب والإياب كمعسكر فرسان على أهبة المعركة.
الخلية أو “النكفة” كما نسميها في عمان، صارت نوعا من حدث فريد في حياتي أقمت معه وشائج خفية وتهاويم وأحلاما. في الماضي الذي أضحى بعيدا، كنا نرى خلايا النحل في السهوب والوديان معلقة في فراغ الأشجار، نحسبها لأول مرة قِرب البدو المليئة بمياه الينابيع الجبلية.
استحضر عبارة، أحمد شوقي.
)مملكة مدبرة تحكم فيها قيصرة)
وتنهمر الأسطورة الواقعية لملكة النحل القوية برفعة لا تضاهى لدرجة ان ايا من المخلوقات ليس مؤهلا لمنافسة ذلك الجمال الخارق لممارسة القوة.
القوة التي تتسم غالبا بالقبح والبطش، ستتحول لدى ملكة النحل ومملكتها بجميع طبقاتها وقوانينها ولحمة نسيجها، إلى رهافة وجمال. حشد الذكور الذي ينطلق في موسم التلقيح وراء الملكة التي منحها الإلة القوة والنعمة، وذلك النزوع الانتحاري المحموم للذة والتضحية. الذكور في رحلتهم الملغزة هذه، يعرفون انهم آيلون إلى الهلاك والموت. ولا من أمل أو هدف ظاهر للعيان، عدا الرحلة في حد ذاتها. التجربة الكيانية المجردة هي التي تحرك عزيمتها في هذا السباق الأسطوري الشاق. وحتى حين يصل أحد الذكور بعد أن يتساقط البقية صرعى في الطريق، هذا الواصل بعد عناء ومكابدة وبعد أن عركته المحن والأزمات، لا يهنأ بوصوله وإنما يطفئ رغبة الملكة في الحب والتلقيح ويفوز بعسل لذتها الذي يسلمه إلى الموت الفوري. هذا الشبق الكاسر إلى اللذة والموت، التوحد والانفصال. اللذة العظيمة في عرف مملكة النحل مثل الانتصار العظيم والجمال العظيم توأم الموت.
حين يتراءى للظاهر قرين الحياة، فكأنما ذلك الموت الرمزي المماثل في الحكايات والكتابة يجد تطبيقه المتطرف في هذه المملكة المفعمة بأسرارها، الشديدة التنظيم والانضباط. اتصل بالصديق محمود بن زاهر لأخبره، فهو بالنسبة لي، ذلك المرجع الموسوعي بنبله وتواضعه العميق. هذا الطراز من الخاصة المعرفية الذي أوشك على الافول في مجتمعات تفترسها المنفعة والسطحية. فحين أمارس لذة الكسل وما أكثرها في هذا المجال، عن الرجوع إلى أمهات الكتب والمراجع حول مسألة ما، اتصل أو اذهب إلى أستاذنا الجليل، لأجد ضالتي في أفقه الشاسع كفضاء عمان الملفع بكبريائه وصمته وعزلته. ولا اخالني مبتعدا عن السياق الذي أنا بصدده، حين استدعي الأستاذ محمود بن زاهر هو الذي يستحق منا اكثر من ذلك، فهو يشبه النحل في بعض صفاته البعيدة الغور، المشعة بلهب المعرفة والتجربة والحيوية الروحية والعطاء الذي لا ينتظر مردوده، العطاء اللامنفعي واللاغائي والذي يفوق حدود الطاقة البشرية المعاصرة. كقوله تعالى “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.
فكأنما هذا المعلم الذي من غير مريدين ولا تلامذة، ينتمي إلى عصور ذهبية غاربة لتقاليد المعرفة وقيمها.
كانت الأمسية مع أبي محمد، حول النحل ومناخاته وطقوسه بعمان واليمن والعالم، ومن ثم انتقلنا الى فنون العمارة وأنماطها وجمالياتها في عهود شتى. العسل العماني لا يأخذ على عموميته، فحتى البري منه والحر، أي ليس المسجون في مناحل خاصة، يتسم بفروق دقيقة بين منطقة وأخرى وحتى بين شجرة وأخرى، فالنحل الذي يبنى عالمه على شجرة (السدر) ليس مذاقه كالذي على شجرة (السمر) مثلا. ويمكنك أن تجد مساكن النحل على سفوح وهضاب جبليْ الأخضر والكور. وليس في الذرى والأعالي حيث تسرح الوعول الكبيرة والنسور طليقة في المياه العصية للمغيب. العسل يزدهر ويطيب عيشة في المناطق الحارة لذلك فأفضله في عمان بمناطقها المختلفة. وفي “دوعن” بحضرموت. أما عسل المناطق الباردة فله مذاق أخر بالطبع يميل إلى الخفة. هناك عسل “الغابة السوداء” التي خلدها الفلاسفة الألمان، فكانت قبلتهم التي تنفجر في جنباتها هواجسهم وأفكارهم التي غيرت مسار التاريخ.
هذا العمل الذي يفتخر به الألمان ربما يشبه في بعض طبائعه أولئك المفكرين العتاة في عزلتهم وتأملهم فهو طوال الشتاء لا يغادر مناحله حتى الربيع والصيف. هل حدق فيه ذات يوم “فريدرك نيتشه” وهو مفعم بنشوة القوى الخفية التي يحلم بها لإنسانه المستقبلي بعد أن قصم ظهره. الانحطاط والتقدم الكاذب؟
ربما تنتهي هذه الأسطر اليتيمة، لكن لا تنتهي الهواجس والتهريمات حول قرية النحل الرائعة التي قذفت بها الصدفة إلى شرفتي الموحشة، والتي تشعرني بالانسحاق أمام الفتها وروحها الجماعية الباهرة، أنا الإنسان الذي يحمل قدر الانتماء إلى مرتبة أعلى في سلم تطور الكائنات، أو هكذا يفترض. لذلك سأعمد قريبا جدا إلى أعرق عملية انتقامية يمارسها البشر ضد أنفسهم والغير: القتل والتدمير لمصلحة أو بدونها فليس هناك اسهل من الذرائع والتبريرات التي وقفت وراء كل تلك الطوفانات من المذابح والتنكيل والابادات.
منذ فترة، اصطدم بسيارتي أمام مدخل فندق البستان، طائر “صفرد”. كان يحلق منتشيا مع أنثاه، بملامح ربيع قادم، ربيع على أرض خياله الواسع اكثر مما هو على ارض البشر. لقد ترك على ما يبدو حذره وريبته الشديدتين جانبا من فرط اندفاعه شوقا وهياما. هذا الطائر الذي أحببته كثيرا والذي يتبدى شكله وكأنما قُد من بيئة الجبال والسفوح العمانية ونحت من ألوانها وغموضها. بعد ارتطامه بالحديد سقط على العشب الأخضر من غير حراك. أخذته من غير حزن ولا ذكرى عاطفة، إلى المنزل وأكلته في طبخة لم اعرف لها مثيلا في الطعم والمتعة.
بعد أيام تذكرت الحادثة وبقيت على شيء من الندم وألم الضمير، حتى وجدت ضالة عزائي في حكاية “سلفادور دالي” و “غالا” زوجته..
كان ثمة أرنب أحبه الاثنان وهما في سن الشيخوخة، وربياه خير تربية وتدليل. حتى جاء اليوم الذي أمرت فيه «غالا» بذبح الأرنب وطبخه..
أثناء المأدبة أخبرت “دالي” بواقعة ذبح الأرنب فتقيأ كل ما في أمعائه أما “غالا” فكانت ترى أن المحبوب ستكون ذروة حبه والتوحد به، هي تلك الطريقة في افتراسه وذوبانه الكامل في أحشاء المحب وامتزاجه المطلق.
لقد أسست “غالا” من خلال ذبح الأرنب “نظرية” في الحب والجمال والوَجد الممزق للعاشق. أما أنا فوجدت بعض عزاء من خلال هذه الحادثة، والرؤية الجمالية التي تبعتها.
* * *
إلى تلك المرأة
غيابك الذي يترك الموسيقى
هائمة على وجه الصحراء
تبعث عن انسجامها العميق.
غيابك الأكثر أزلية من البحار
حين عبرتها غيمة عينيك الوارفتين
غيابك الذي لا حضور له
إلا في السر
والجسد بانقلاباته المفاجئة
ضحكتك التي ترن بنبرة يمام بريّ
في الظهيرة.
صداعك والأرق الذي تصفينه
ببراكين صغيرة خامدة في الرأس.
متاعنا المشترك
في ليل العالم الدامي
غيابك الأكثر حضورا
من عاصفة.
* * *
مطر
لا تتستري
لا تغطي جسدك الساطع
أتركي عريك
يمطر فوق أعضائنا
اتركيه يمطر
فوق قلوبنا العطشى.