الصفحة الرئسية  أفــــــــق التلقـــي   الدراسات والمقالات (1)   سيف الرحبي بين تداعي الثنائيات … د. علوي الهاشمي
الشاعر سيف الرحبي
بين تداعي الثنائيات وتحولات الرؤية الحداثية
د. علوي الهاشميشاعر
تلعب السنوات الخمس الأولى من عمر الإنسان، في عرف علماء النفس وعلى رأسهم سيجموند فرويد، دوراً رئيساً في تحديد مساره المستقبلي وتجربته الحياتية القادمة ومكوناته النفسية والتخييلية ومعظم استجاباته واستعداداته، إضافة إلى ملكاته ومواهبه الخاصة. وهذا ما يجعل بصمات هذه الفترة المبكرة من عمر الإنسان قوية ومؤثرة في مجمل حياته وإطار شخصيته العام. لذلك كانت العودة إلى الأماكن والأزمان المفتقدة (النوستالجيا) جزءاً من صميم العمليات النفسية عند الكائن البشري، ويتصل بذلك العودة بالذاكرة إلى ظلمات الرحم وعوالمه المفعمة بالغموض. وقد عبر الشعر العربي عن هذا النوع الغريزي من الحنين الزمكاني المركب في صفحات مشرقة من متنة قصائد وأبياتاً تقطر بالحساسية وتتفصّد بروح الشفافية والحسرة الهاربة ومحاولة الإمساك باللحظة الغاربة من الزمان والمكان على السواء فمن الأمثلة الدالة على الحنين إلى المكان الأول قول الشاعر:
كم منزل في الأرض يألفــه الفتــــى
وحنينـــه أبداً لأول منــــزلِ
كما يظهر الحنين الزماني في هذا البيت الشعري القائل:
ألا ليــت الشباب يعود يوماً
فأخبــره بما فعـــل المشيــــبُ
لقد وجد الشاعر العماني سيف الرحبي نفسه محاصراً بهذا الطوق المحكم من تجربة وجوده، ابتداء من لحظات الوعي الأولى حين لاحظ وهو يتذكر القرية التي ولد فيها عام 1956، وتسمى سرور بأعماق عمان قائلاً: قضيت طفولتي الأولى في هذه القرية المحاطة بأسوار جميلة بالغة العلو والغموض، وكان الوعي الأول البدئي والعفوي مرتبطاً بهذه البيئة القروية الجبلية، ومن ثم كان السؤال العفوي الأول في الكتابة والحياة(1) وقد راح هذا الحيز المكاني الأول، المتسم بجماله وعلوه وغموضه يحفر حضوره الغائب حفراً لولبياً في ذاكرة الرحبي ويدفع بوجوده كله نحو الابتعاد المستمر بحثاً عن سحره المترسب في قاع الذاكرة.. إن هذه البيئة، كما يصفها الشاعر في أحد حواراته، ذات الجمال الوحشي الفظ المحاطة بغموض فطري يصل درجة في الميتافيزيقا كانت الحاضنة الأولى لهذا الكائن الذي سأكونه لاحقاً. وكانت المرجعية الأولى حياة وذاكرة وشعراً. أستعيدها الآن عبر ضباب كثيف لماض يبدو لي أنني عشته منذ قرون(2).
لقد كان الابتعاد الأول عن ذلك الحيز المكاني الساحر مبكراً جداً على مستوى الزمان حين فارقه الشاعر إلى العاصمة حيث أمضى فترة دارسته الأولى، وفي وقت مبكر كذلك (الثالثة عشر من العمر) ترك الشاعر أرض الوطن (عمان) كلها مبتدئاً بذلك رحلة الاغتراب الكبرى في خارطة الزمان والمكان؟ بعيداً عن منازل الخطوة الأولى (عمان) التي أبعدته بدورها عن (سرور) مركز الذاكرة، وفتحت تجربة عمره الغض وسنواته القليلة على أفق المجهول والاحتمالات المفتوحة. ولم يجد الصبي الشاعر سوى رفيف الشعر بين ضلوعه يحفظ له توازنه النفسي والجسدي ويبقي على شيء من العقل في رأس نورسة الجنون التي راحت تئن وتنتحب في نص طويل ضمته مجموعة الشاعر الأولى نورسة الجنون هذا مقطع دال منه:
ها هي شمس أعضائي تنفجر ينبوعاً
وسلاسل من جسدي
تقذف الكرة الزرقاء نحو طفولتي
وترتد خنجراً في أقاصي الروح
بين والبلاد التي عذبتني
خطوة
تكفي لقتلي(3)
ولم تكن الأم سوى مرادف للمكان الأول في ذاكرة الرحبي، وتخصيص قصيدة مبكرة باسمها وإهداؤها إليها تعبير عن الحنين إلى ذلك المكان ورغبة خفية في العودة إلى عالم الرحم بمستوييه الجغرافي والنفسي ولكن في صورة من الضراعة والتقديس غالباً ما تقترن بصورة الأم، وخاصة في حال تذكرها البعيد وافتقادها الأسيان:
أيها الوجه السماوي المضمخ
بحنان الآلهة
يا حقل الصلوات ودموع القديسين
يا وجه أمي
ابنك القابع في غرفته الرطبة
وسط تلال الكتب والرسوم المرعبة
تتحول في رأسه أفواج
من شرطة العرب وأكشاك الشعارات
والمذيعين
طلقاء مثل وحوش في غابة
وهو وحيد .. وحيد لا يملك
حتى صديقاً يقتله
أو إله يعبده
وداعاً يا أمي
ويا أيتها الذنوب المقدسة
احتضني أشجار قلبي
وخذيني إلى رحمك الملعون(4)
وعلى هذا النحو راح الشاعر ومنذ فترة مبكرة من عمره، يدحرج طفولته في قصائد حسب تصوير زهير غانم(5) وهو يفعل ذلك من أجل استعادة الصورة التي افتقدها في طفولته، وبدلاً من أن يتلفت وراءه كي يراها راح يسعى إلى خلقها خلقاً عبر عملية التغرب والترحال التي كانت تلعب دور النقيض الذي يجلو الغبار عن صورة الطفولة ويعيد إنتاجها كل مرة على نحو يتناسب مع مفارقات اللحظة الراهنة من تجربة الشاعر المعيشة، وهو ما يفسر جانباً كبيراً من ظاهرة التضاد التي تتميز بها لغة سيف الرحبي وصورة على النحو الذي نراه في صورة الذنوب المقدسة و رحمك الملعون و لا يملك حتى صديقاً يقتله بالاضافة إلى ما يمكن لمسه من صراع في وحدة الزمان نفسها كما يتضح من عنوان قصيدته (ذكرى الحاضر)(6) أو في العلاقة المتقاطعة بين وحدتي الزمان والمكان التي تتجلى في هذا المقطع من قصيدته (إلى تلك المرأة):
هل أنظر هنا، في المكان المقدس
حين تبزغ شمسٌ من رأسي
تتسلق جبالاً وهضاباً
عبرناها ذات طفولة بعيدة(7)
ولئن كانت قوانين الشعرية القائمة على عنصر التضاد في قصيدة (ذكرى الحاضر) قد أفرزت ما أسماه الناقد المغربي إدريس بلمليح بلاغة المفاجأة أو بلاغة المطلق، أو حسبما ورد في عنوان مقالته عن سيف الرحبي بلاغة الصدمة(8) فإن العلاقة المتقاطعة بين الزمان والمكان التي تجلت في المقطع السابق من قصيدته (إلى تلك المرأة) لا تبعد كثيراً عن إطار تلك البلاغة القائمة في رأي بلمليح على الدهشة الجمالية(9) فالمكان في المقطع المذكور مرتكز ثابت من مرتكزات الذاكرة لدى الشاعر (المكان نفسه) ولذلك يتم توكيده أو التأكيد عليه بكلمة (نفسه) غير أن مواجهة المكان الثابت بصيغة السؤال التعجبية (هل أنتظر هنا في المكان نفسه) محاولة لزحزحته عن ثباته وتحريكه بواسطة تيار الزمان الذي يجعل المكان يمتد، رغم جغرافيته الصلبة وعناصرها الراسخة، بين نقطتي الطفولة والواقع أو البدء والمنتهى، وذلك في سياق الحكمة اليونانية القائلة: إنك لن تعبر النهر مرتين والتقاطع بين الزمان والمكان لا يتم في شعر سيف الرحبي – كما يبدو هنا – إلا من خلال الذات الشاعرة التي تمثل عادة نقطة التقاطع الزمكانية فالشمس التي توحي بحركة الزمان تبزغ من رأس الشاعر، ومن داخله، من ذاكرته، من مخيلته التي تتحرك في المكان عبر الزمان كله بدءاً ومنتهي فهذه الشمس (تتسلق جبالاً وهضاباً عبرناها ذات طفولة بعيدة) وبذلك تصبح صفة بعيدة التي وصفت بها الطفولة ذات طبيعة زمكانية مزدوجة تذهب في الزمان والمكان في الوقت نفسه، دلالة على تحرك المكان من حال ثباته الأول (هنا، في المكان نفسه) ودخوله فيف تيار الزمان ودورته المتصلة بحركة الشمس ليلاً ونهاراً وذلك في إطار رؤية الذات ومعاناتها الخاصة المتمثلين في الجملة الاستفهامية الأولى (هل أنتظر…) ففي هذه الجملة ذات التيار التعجبي المندهش القائم على مراجعة الذات في قدرتها على احتمال عبء الانتظار والتأرجح بين نقطتي الحلم والواقع، يتقاطع الزمان والمكان في نقطة شعورية مكثفة هي الحيرة والتعجب المشوب بالرفض الداخلي رغم الاستسلام الخارجي (10) وهذا ما يجعل كل هذه المشاعر المختزلة المضغوطة تتحرك رغم اتساعها الزماني في دائرة مكانية مكثفة تتمخض على المستوى التصوري في كلمة (رأسي)(11) حيث الذاكرة بملامحها الزمانية/ المكانية/ المتقاطعة(12) ولعل هذا ما يضفي على لغة الشاعرة صفة الدهشة الجمالية ببلاغتها المطلقة الصادمة حسب تقدير الناقد بلمليح.
ووفق هذا القانون الشعري الحديث راح سيف الرحبي منذ بواكير تجربته الشعرية والحياتية، يبلور رؤية شعرية وفكرية أصيلة تتأسس على الغرابة العميقة في تجاوز قانون الثنائيات وواقع التكسرات، مما كان يسم تجارب الشعراء المحدثين السابقين له والمعاصرين، خاصة في منطقة الخليج العربي. ففي إطار هذه الرؤية صار على النص أن ينأى بنفسه عن مأزق التحديد السياسي والغنائي والنثري والوزني لذلك صار النص الشعري في مفهوم سيف الرحبي هو هذا المزيج من المركب العناصر والأشياء والأماكن المبعثرة والجبال والشعاب والحيوانات وذكريات الحب والشخوص والمجازر والخيانات فالشاعر يكتب عن هذه الأشياء لمن يحاول أن يتطهر على نحو ما من أحمالها وألمها وملاحقتها وافتراسها الدائم(13) إن تجربة الرحبي في أعماقها تضج وتعج بالثنائيات والتناقضات، فالشاعر ينتمي إلى جيل شعري يتسم بالتناقضات كما يقول عن نفسه وعن جيله نحن أبناء التناقضات الحادة(14) إلا أن رغبة الشاعر في خلق رؤية شعرية تتجاوز واقع الثنائيات المتناقضة، جعل تجربته تتسم بانسباك كل التناقضات في إطار ما يسميه لوسيان غولدمان برؤيا العالم أو الرؤيا الكلية، أو ما يسميه الرحبي نفسه كما لا حظنا هذا المزيج المركب ولئن كانت لعبة التضاد الدلالي تؤدي عادة باتجاه المفارقة، كما يلاحظ الناقد المصري عبد العزيز موافي في مقالة له عن ديوان (دجل من الربع الخالي)، فإنها عند سيف الرحبي لا تؤدي سوى إلى مفهوم (التجانس الكوني).. ويستطر موافي ملاحظاً أنه بينما نتعامل مع هذا المفهوم الاصطلاحي باعتبار: وحدة الأشياء والظواهر المتضادة من خلال اختلافها، فإنه – داخل هذا الديوان- يعني: وحدة الأفعال المتضادة(15).
وقد نتج عن ذلك التجاوز للثنائيات المتناقضة في تجربة الرحبي حالات إشكالية حقيقية على جميع مستويات النص الشعري وبنائه لدى الشاعر، ابتداء من مسألة الإيقاع الشعري، مروراً باللغة الشعرية والرموز والصور، وبناء النص الفني، وانتهاء بالمضمون الشعري والرؤية الفكرية مما يدور أساساً حول تجربة المكان والسفر عنه والحنين إليه.
فعلى صعيد المسألة الإيقاعية التي تمثل واحدة من أبرز إشكاليات التجربة الرحبية على الاطلاق، حسم الشاعر موقفه منذ وقت مبكر جداً إزاء الثنائية الايقاعية المألوفة والسائدة في مرحلة وجوده الشعري وهي الثنائية المتمثلة في تذبذب تجربة الشاعر الحديث، خاصة في مجتمعه محافظ كالمجتمع العماني بين قصيدة البيت العمودي وقصيدة التفعيلة. فلم يعش سيف هاجس التجربة المزدوجة(16) التي عاشها كثير من الشعراء المزدوجين حينها وهم ينظمون على الشكلين في الوقت نفسه.
فالرحبي، حسب اعترافه، ممن نشأوا تقليدية محافظة، ومارس نظم القصيدة العمودية، وكتب مع الذين يكتبون شعراً مقفى وموزوناً لا تشوبه شائبة المروق من هذه الموروثات الايقاعية والمعرفية التي تناقلها الرواة والأجيال(17).
كما لم يختر الرحبي، وهو من شعراء جيل السبعينات الشكل الإيقاعي الوسط المتمثل في قصيدة التفعيلة والمتصف بحالة من التذبذب بين بنية الإيقاع الأم (قصيدة البيت) وبنية الإيقاع الضد (قصيدة النثر) وهو الحل الوسط الذي اختاره معظم شعراء السبعينات خاصة بعد انحسار الشكل العمودي، وظهور قصيدة النثر على نحو متردد خجول في أفق الشعر العربي الحديث، وفي منطقة الخليج بشكل خاص(18).
بل نجد الرحبي منذ بداياته المبكرة يختار الشكل الشعري الأجدّ، وينحاز بذلك إلى أفق الحداثة بمعناه الأبعد، وبمفهومه الإشكالي الضد، الذي لا يتأرجح أو يتذبذب بين بنيتين ايقاعيتين (بيت/ تفعيلة) بل هو يختار الشكل الذي لا شكل له. إن جاز التعبير، الذي يراهن الشاعر على تشكيله بنفسه على غير مثال أو نموذج سابق، وهنا تتفجر قضية اشكالية حول مصدر هذه الحالة الإيقاعية الجديدة؟ وهنا يكون الرد حاسماً ودقيقاً ومتسماً بالعمق حين يجعل الشاعر النقيض نفسه (النثر) مصدراً لنقيضه (الشعر) كمن يخرج الحي من الميت والضد من الضد، وحقق الرحبي بذلك عملية الانفلات من النموذج كما يسميه وكتب حسب رؤيته الخاصة قصيدة تطمح إلى التحرر من المثال المسبق الإيقاعي والفكري والمعرفي(19) وكان المصدر الجوهري لدى الشاعر هو المخلية وكانت التربة هي النثر العربي الكلاسيكي الذي هو في نظر الرحبي يفوق في مواطن كثيرة الشعر العربي بمعناه المقفى، والموزون… ويمكن لقصيدة النثر أن تستمر بقوة إذا استفادت من ذلك الموروث(20) ولأن المخيلة هي مصدر الإيقاع في قصيدة النثر فقد أصبحت الصورة الشعرية هي المجسد الحي لذلك، مما أنتج ما يسمى في النقد الحديث بإيقاع الصورة، بحيث صار من المتعذر اكتشاف سمة الإيقاع بعيداً عن اكتشاف بناء الصورة الشعرية أو البناء التصويري في قصيدة النثر. والصورة بدورها تحيل بنية المضمون حيث الدلالة أو المعنى بمجاليه الفكري والعاطفي وهذا يعني ان الإيقاع في قصيدة النثر متصل أساساً بحركة الذات الشاعرة التي تسعى نحو التجسد النصي لغة وصوراً ورموزاً تحمل عواطف وأفكاراً موقعة حيث يتم توقيعها على موسيقى سرية تتهامس وتترامى من هنا وهناك من اتجاه ما، ومن كل الاتجاهات(21).
وعلى الرغم من هيمنة ما دعاه رشيد الصباغي امبراطورية الصورة(22) على جانب كبير من تجربة الرحبي الشعرية. فإنها ليست الصورة التي تم الاشتغال عليها ذهنياً، كما يلاحظ الشاعر نفسه إنما هو تفجير لا واع أكثر مما هوس بالتقنية.(23)
إذا راحت الصورة تعبر عن الحالة الشعرية دون أي تزويق لفظي أو بلاغة بيانية ينفصل فيها الشكل عن المضمون، بقدر ما تجسدت الحالة تجسداً صورياً أو تخييلياً لعبت الصورة الرمزية فيه دور المعادل الفني للحالة أو الموضوع الذي لم يعد له وجود خارج هذا المعادل الفني، وللتمثيل على أهمية الصورة في شعر الرحبي، يمكن أن ننقل النص الكامل لقصيدة بعنوان (ذكرى الحاضر) سبق أن تم الاستشهاد بعنوانها في مجال تجاوز ثنائية الزمن التقليدية، وخلق حالة إشكالية علىمستوى الربط بين الشيء (الذكرى) ونقيضه الزمني (الحاضر).
وحيداً، وخلف الجبال البعيدة في الذكرى
… سادراً أرقب المغيب
هذا الدم المنساب على أجنحة طائر
ثعباناً يفترس النهار بعينيه الدامعتين بالسواد
وخلف الأكمة يعلب النمرُ مع صغاره مضيئاً
طلائع هذا الليل القادم
بمخالب أكثر حناناً من جسد امرأة
وحيداً من غير أمل
ومن رغبة رغبة
هكذا .. هكذا
حتى أختفي مع سكان مدينه
غرقت في البحر
أو أختفي في كأس.
إن الحالة الشعرية في هذا النص محصورة ملامحها الموضوعية واللغوية في عدداً محدود جداً من الدوال تتمثل في ضمير المتكلم وما يعود عليه من أحوال وصفات وأفعال هكذا (وحيداً .. سادراً أرقب المغيب، وحيداً من غير أمل ومن غير رغبة، أختفي) ولئن كان كل من اللفظين (وحيداً وسادراً) يمثل حالة الذات الشاعرة في عزلتها الداخلية ومعاناتها الحادة مع المحيط الخارجي (سكان مدينة) فإنها من خلال الفعل الأول (أرقب) تتمكن الذات الشاعرة من كسر عزلتها وتحرير راهنها المرير عن طريق الذاكرة أو الرؤيا الداخلية (خلف الجبال البعيدة في الذكرى)، حيث تبدو الذات في حالة حلمية (سادراً) وهي تتحرك في اتجاه الداخل والذكرى لترقب المغيب: ذلك المشهد الذي لاتراه إلا عين ثالثة، هي عين الذكرى وهو ما يجعله مشهداً جمالياً، وصورة شعرية متميزة، على الرغم مما يمكن أن تكون العينان تبصرانه على مستوى الواقع الطبيعي، في جلسة بمقهى أمام مشهد لغروب الشمس، إلا أن الطبيعة الابداعية تحيل هذا المشهد الطبيعي إلى الداخل، حيث تعتمل الحالة الشعرية فتتحول رؤية العين البصرية إلى رؤية داخلية حالمة، إطارها الذكرى (خلف الجبال البعيدة) ويتحول الفعل المادي (أرقب من دلالته المادية المحسوسة بمعنى (الرؤية) إلى دلالة حدسية مجردة بمعنى (الرؤيا)، ومن ثم يتحول ما ترقبه الذات (المغيب) تصويراً فنياً أي تحويله من واقع إلى فن، ونقله من مستوى الرؤية إلى مستوى الحلم، وكأن البدل أو اسم الاشارة، هي الجسر الرابط بين الطرفين، أما في ثنايا الصورة الشعرية، فقد راحت الذات تتحول من حالة إلى أخرى، عبر لحظات التحول الزمنية بين الليل والنهار.
وكان بناء الصورة يعتمد على حالة التشابك والانصهار بين عناصر الزمن وتبدلاته من جهة، وحالة الذات وتحولاتها الشعورية، خوفاً وأملاً من جهة ثانية. وحين يتم التشابك بين الذات والزمن، يغدو كل منهما صورة للآخر يستفيق النص على نهايته التي تصور استفاقة الذات في تحولاتها على تبدلات الزمن بدخول الاثنين معاً في مرحلة الختام: العزلة والليل، أو ليل العزلة، حيث تعود الذات وحيدة أو متوحدة بذاتها وزمنها (من غير أمل ومن غير رغبة) بعد أن تمركزت حول نواتها الابداعية، وراقبت مشهد المغيب وحدها ورأته رؤية الحالم وخلقت منه صورة شعرية فذة. هكذا يختفي كل شيء في الظلام، مثلما تختفي الذات مع سكان مدينة غرقت في البحر، أو تختفي في كأس فارغة سحبها بنشوته إلى أعماقه.. كل ذلك لكي نحصر الذكرى كما يفهم من عنوان النص، وتولد شمس القصيدة(24).
وأخيراً، فلا بد من ملاحظة أن سيف الرحبي قد تعامل مع جميع الثنائيات التقليدية، التي تعجّ بها تجربته الشعرية والحياتية، تعاملاً فنياً مبدعاً، فأحالها إلى مصهره الإبداعي الذي راح يذيب كل العناصر المتباعدة والمتناقضة، ويخلق منها مادة شعرية جديدة، تنسبك في النص عن طريق الصورة المركزة، واللغة الشعرية المكثفة والإيقاع المنفسح والبناء الفني المحكم، الأمر الذي جعل الثنائيات التي كانت تحفل بها تجربة الشاعر – وهي كثيرة – تصب في بوتقة القصيدة لديه. فلم يعد هناك فارق يمكن ملاحظته في هذه القصيدة بين الذات والموضوع أو بين الخاص والعام، أو بين السرد والشعر، أو بين النثر والنظم، أو بين الواقع والخيال، أو بين الحلم والذاكرة، أو بين الحاضر والماضي، أو بين الرؤيا الكلية والتفاصيل اليومية الصغيرة، أو بين العاطفة والفكر، أو بين اللغة المألوفة والانحراف عنها، أو بين الشكل والمضمون، أو بين الموضوع ومعادله الفني، أو بين المكان والزمان، أو الزمان والزمان. فالقصيدة رأس إبرة حاد مدبب يختزل تجربة الشاعر الكاملة في لحظة من لحظات الوخز المؤلمة، هكذا صارت القصيدة عند الرحبي، تتوسل الحياة بكاملها(25)، والجمل التي تتوسل الكثافة والمباغتة، كما يقول الشاعر، تختزل عمراً من القهر والمأساة من غير ثرثرة.
لقد خلقت الأمواج المتلاطمة من الثنائيات التي لا حصر لها، والتي صُبّت في إطار قصيدة النثر؛ خلقت واقعاً إشكالياً فريداً يبدو السكون على ظاهره، والهدوء على سطحه، في الوقت الذي تضطرب أعماقه، وتثور دواخله، إنه البحر الجديد الذي كونته الأمواج الثنائية القديمة كلها..
v v v
الهوامـــش:
(1) حوار أجراه مع الشاعر محمود جمال الدين، نشر في مجلة اتحاد كتاب وأدباء الامارات (شؤون أدبية).
(2) من قصيدة بعنوان (نورسة الجنون) في مجموعة الشاعر الأولى التي تحمل الاسم نفسه.
(3) مجموعة نورسة الجنون) قصيدة (إلى أمي).
(4) مجلة الموقف الأدبي السورية
(5) مجموعة (رجل من الربع الخالي).
(6) رجل من الربع الخالي ص 52.
(7) بلاغة الصدمة عند سيف الرحبي، مجلة (نزوى العمانية)، عدد 6، أبريل 1996.
(8) نفسه
(9) لعل هذا ما كان يعنيه عمر شبانه في مقالته الصحفية عن سيف الرحبي حين رأى أن الشاعر بعد أن سرد أعز ما في جعبة طفولته، راح يلملم شظايا روحه الموزعة في المدن والعواصم، فهل كان يسعى إلى الهرب نحو أراض تنهار باستمرار؟ أم أن ضياعه بين جماليات عزلته التي يحلم بها، وبين قسوة ووحشية هذه العزلة تجعله ضائعاً بين الحنين إلى المكان الأول والاندفاع نحو الأماكن المجهولة (جريدة الحياة).
(10) لكلمة (رأس) في شعر سيف الرحبي دلالة مركزية خاصة يتمحور حولها حقل دلالي واسع وثري يمكن أن تلخصه تسمية واحدة من مجموعات الشاعر المهمة بعنوان (رأس المسافر) وهي تسمية لم تنحصر في قصيدة واحدة مما يعطي إحساساً بشمولية هذه الكلمة (رأس) في صلتها بالمسافر (الشاعر) وانبثاثها في مجمل نصوص المجموعة دون تمييز أو حصر.
(11) يصف الشاعر أهمية المكان وحضوره الطاغي في شعره بكونه هذا المكان المترجرج دائماً واللامستقر والذي لم يعد مكاناً قائماً وثابتاً بقدر ما يجسد غياباً مستمراً ومتلقباً راجع حوار مع الشاعر أجراه اسكندر حبش ونشر في جريدة (السفير) اللبنانية.
(12) من حوار مع الشاعر أجراه عقل العويط، نشر في (ثقافة) بتاريخ 9/5/1993.
(13) حوار مع الشاعر أجرته ريم داود، نشر في جريدة الأيام البحرينية بتاريخ 10/5/1995.
(14) أخبار الأدب المصرية.
(15) يمكن مراجعة هذه الظاهرة الفنية بتوسع أكثر في الجزء الأول من كتابنا (السكون المتحرك).
(16) انظر حوار الشاعر مع محمود جمال الدين المنشور في مجلة (شؤون أدبية) وفيه يقول مستكملاً حديثة عن نظم الشعر الموزون: ومازلت أحتفظ ببعض شعر تلك المرحلة الأولى في التعرف على أرض الله والبشر. وكان لهذه البيئة تأثيرها العميق على مسار حياتي اللاحقة والكتابات البسيطة التي أنجزتها عبر رحلة الحياة، والكتابة موسومة بها بشكل لافكاك منه.
(17) راجع تفصيل ذلك في الجزء الثاني (بنية الإيقاع) من كتابنا (السكون المتحرك).
(18) لقاء صحفي أجراه مع الشاعر محمد الصالحي والعربي الذهبي، ونشر في مجلة (العلم الثقافي) المغربية وفيه يتوسع الشاعر في تحديد مفهومه لقصيدة النثر التي يكتبها قائلاً: إنها قصيدة تنبع من صرخة عذراء في الأحشاء.. صرخة قادمة من طبقات الزمن ومن تقلبات الحياة منذ الطفولة وحتى اللحظة الحياتية الآنية بكل قسوتها واحتمالاتها. إنها تنبع من حالات غير محددة مفهومياً، من التجربة الذاتية، من مكونات لا تحدد سلفاً كما هو الشأن بالنسبة للقصيدة العمودية. إنها ذات مكونات غائمة تتشكل من غيمة كثيفة من الغموض لا تفتأ تنجلي وتخرج من هيولى المعنى إلى التعبير.. إنها لا تنجذب إلى مثال جمالي أو معرفي مسبق.
(19) جريدة (الأيام) 10/5/1996.
(20) مقالة (رجل من الربع الخالي) لزهير غانم (الموقف الأدبي) السورية.
(21) يرد ذلك على لسان الشاعر أثناء لقاء صحفي أجراه معه علوط محمد، ونشر في مجلة (الاتحاد الاشتراكي) المغربية.
(22) نفس المرجع.
(23) هناك تحليل عميق لهذه القصيدة للناقد المغربي إدريس بلمليح منشور في مجلة (نزوى) العمانية، سبقت الإشارة إليه.
(24) جريدة الأيام 10/5/1996.
(25) شؤون أدبية.