ظبية خميس
تخضبت قدماه بحناء المدن العريقة، والأحياء التي جمعت أطراف التشرد (الاختيار)، بعد أن اجتاز طفولته في قريته العمانية سرور.
أصبح سيف الرحبي قارورة معتقة من الرحيل المستمر في طرقات هذا الكون. يطرق بيديه بوابات العامض والرهيب ليحاول القبض على المستحيل الناز في مفردات شعره.
أنه أحد علامات جيل شعري جديد، يتشكل بمأساوية الثمانينيات، مادا أطراف قلبه ليلمس هذا العالم الذي صار مغلقاً في وجهه، وفي وجه الشعر الحقيقي، والنازف دائماً كوجه شهيد يدرك أن الشهادة حتفه، وخياره الوحيد.
العماني الذي أبحر بعيداً
ورغم أن سيف الرحبي هو أحد أهم الشعراء العمانيين، الشباب، إلا أن تجربته وجدت اتون الصقل والحريق عبر لبنان، وسورية، ومصر، والغرب من خلال تجواله المبكر، واغترابه الأكاديمي.
كما أن الإمارات شكلت له الوطن الثاني عبر وسائل التعبير الصحفية حيث نشر قصائده، ومقالاته في الأزمنة العربية، و مجلة أوراق والصفحات الثقافية في جريدة الخليج و جريدة الاتحاد.
تعددت إصدارات سيف الرحبي حين نشرت له مجموعة من الأعمال المختلفة منذ الثمانينات وحتى الآن، وكانت أعماله كالتالي:
الرأس الأخضر، نورسة الجنون، أجراس القطيعة وأخيراً عمله الشعري، المتميز رأس المسافر والذي صدر خلال عام 1986.
تجـوال القصيـدة
رأس المسافر هو العمل الذي قدم هذا الشاعر عبر تجربته في التمزق والتشتت الجغرافي، والذوبان في سحر الشعر الطاغي على كل ما عداه كل ما سبق هذا العمل، كان يقود إليه عبر تجديف مستمر نحو قصيدة النثر التي تختصر الاسترسال الباحث عن هوية الشاعر، ضمن شعره سابقاً.
ومع صدور رأس المسافر، كان لا بد للمسافر من العودة إلى وطنه من جديد و إلى سرور، و مطر التي غادرها منذ أكثر من خمسة عشر عاما مضت.
العمل الشعري، الأخير لسيف الرحبي يشبه إشراقة يوم، وحكاية تنتهي بنهاية ذلك اليوم. إلا أنه يوم لا يعبر الذهن والحياة بعادية الوجود الخفيف الوزن. إنه وجود مجروح، وجود يزين وجه المأساة حتى تصبح الخرافة هي حقيقة هذا العالم، وصورته الأزلية في مرآة الدراما الوجودية للإنسان.
رأس يبحث عن حائط
يبدأ سيف الرحبي قصائده باعترافية ما كان له إلا أن ينطلق بها، أخيراً، رغم ولعه الدائم بذلك التجوال المرير. لقد تعب الحائط من السفر. ها هو عالمه يتداعى عبر قصيدته الأولى في رأس المسافر.
مدينـة تستيقظ
تستيقظ آخر الليل،
تلقي نظر على الشارع الخالي، إلا
من أنفاس متقطعة، تعبره
بين الحين والآخر.
وحده النوم يمشي، متنزهاً بين
قبائله البربرية
تتقدمه فرقة من الأقزام
وهناك رؤوس وهمية تطل من النوافذ
على بقايا الثلج الملتصق بالحواف وكأنما
تطل على قسمتها الأخيرة في
ميراث الأجداد
المصابيح تتدافع بالمناكب، قادمة
من كهوف سحيقة
لا تحمل أي سر
السماء مقفرة من النجوم
الجمال تقطع الصحراء باحثة
عن خيام العشيرة
القطارات تحلم بالمسافرين
لا أحد… لا شيء
أغلق الستارة
فربما لا تحتمل
مشهد مدينة تستيقظ
وتستيقظ عينا سيف الرحبي لنهشه هذا العالم المستبد في أرجائه. إن الغرفة التي تنتهي به الى المقهى تصدمه بكائنات العالم، وزعيقه الذي يهرس العظام إن قتلى لا يعرفهم يقاسمونه فنجان القهوة، وخطوة الشارع، وظلمة النهار الذي قد ولد لتوه.
قـائد الاوركسترا
هذا الشاعر النهم لقراءة نيتشه، والمجنون بعالم بازوليني السينمائي، تطارده أحلام لوتاريامون، وتبعث براغ، وصوفيا، وأحياء مدريد القديمة، وبيجال باريس الطمأنينة القاهرة في قلبه. إنه شاعر يتجاوز ذاته الجغرافية، والثقافية الى تداخل مذهل بين حضارات مختلفة، عشق بعضها حتى عندما لم يحسن تعلم لغتها الأم. إنه يعيش هجرته الأبدية وكأنه في فرار، دائم من القناعة المفرطة في التشبث بحجر واحد على جغرافيا البلد – الأم.
يقول في مقطع من قصيدته كل هذا العمر
ثلاثون عاما.. كل هذا العمر الذي
حوشته من دهاليز الأجداد
يفيض الآن على كتف الصحراء
وأنهارها الجافة،
وفي شوارع أباحت هذا المساء
كل أسرار مزابلها الخاصة،
مضيت باحثاً عن ظل قدمي الذي
أضعته من معترك الحضارات
ودكاكين الخضار.
سيف الرحبي قائد اوركسترا في جزر تشتعل فيها النيران. رجل يرقب هذا العالم والهلع يمتزج في داخله مع شجاعة الاقتحام لأسرار هذا الكون، الرديئة أحياناً. أصدقاؤه تتقاسمهم المدن التي عرفها، والذاكرة، وبعض القبور التي لم ترحم أصدقاءه الشعراء، أيضاً يوسف الخال، وخليل حاوي. بشكل خاص. وهو لا يخشى الغرباء، أبداً، فالرجال الملثمون الذين يعترضون طريقك، ليسوا إلا ذئاباً طردها البرد من الغابات.
سيف الحرائق القادمة
ذئب ترك قريته، ذات فجر، ومضى هذا نحو هذا العالم، وفيما هو يجدف نحو القصيدة الجديدة، حاملاً معوله ليهدم كل ذلك الخراب ويبني من جديد مع جيله الذي تقاذفته أمواج التهميش و لا مركزية الثقافة العربية الجديدة، تبزغ مدينة – الأصل مطرح كلون الدم الذي تدفق بقوة من وراء جلده العماني في إحدى أحمل قصائد رأس المسافر: قصيدة حب الى مطرح.
يقول في مقاطع منها:
حين تمددت لأول مرة على شاطئك
الذي يشبه قلبا، نبضاته منارات
ترعى قطعانها في جبالك الممتدة
عبر البحر.
أطلق بين مقلتيك منجنيق طفولتي
واصطاد نورساً تائهاً في زعيق السفن
نجومك أميرات الفراغ
وفي ليل عريك الغريب تضيئين
الشموع لضحاياك كي تنيري
طريقهم للهاوية…..
ويقول:
لم أنسك بعد كل رحلاتي اللعينة
لم أنس صياديك وبرماك النائمين
بين الأشجار
حين تمددت لأول مرة لأنه كان بحراً حقيقياً يسرح زبده
في هضاب نساء يحلمن بالرحيل
حين تمددت لأول مرة
لم أكن أعرف شيئاً عدا
ارتجافة عصفور
في حفرك
الصغير..
إذا كان سيف الرحبي قد نجح- دون قصد مسبق – في أن يكون أحد أهم الأصوات العمانية والخليجية، فإنه أيضاً أحد الأصوات المتميزة – بحق – في مجال قصيدة النثر في الوطن العربي، والمهجر. وهو شاعر يعيش الشعر بشتى صنوف الأمة. لذا فإن الشعر القادم الذي يكتبه هذا الشاعر لن يعبر تاريخ هذا المكان الأدبي دون أن يخترق الوجدان بآلامه ونزيفه والجرس الذي يدق عالياً.