بقلم : فاطمة ناعوت
عالمٌ موحشٌ شديدُ القفر، لا بشر فيه ولا حياة يقدمه لنا الديوان الأخير للشاعر العُماني سيف الرحبي الذي صدر عن دار “النهضة العربية” ببيروت تحت عنوان “من بحر العرب إلى بحر الصين، سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار”. معجمٌ ضخم من مفردات لا تشير إلا إلى عالم مقبض لا حياة فيه إلا لكائنات إما تسبّبُ الموتَ، وإما تتعيش على الموت. ومنذ العتبة الأولى، العنوان، نجد أنفسنا في مواجهة قراصنة، ينتظرون إعصارا. بما يشي أننا بعد برهة سوف نطالع مشهدا لسفينة على وشك الاستلاب وربما الغرق، وبشرًا يصارعون الموت القدري أو القتل العمد. على أن ثمة عابرًا، ربما هي الذات الشاعرة لأنها ضمير المتكلم، عابرا سوف يمر على هذا المشهد ويلقي التحية بحياد غير العابئين، وربما بحياد اليائسين من استمرار العالم. “يباب- غراب- قيظ- كراهية- جزيرة- خلاء- قبر- فج عميق- مستنقعات آسنة- صراخ- جرداء قاحلة- هلاك- مشردين وأشلاء- حتفي- الانقراض- جنازة- طغاة وجلادون- سجين- وحشة- انقراض الكون” وغيرها العديد من مفردات هذا المعجم السوداوي الذي لا صفحة، ولا سطر ربما، يكاد ينجو منه. اللهم إلا في مقاطع الغزل شديدة العذوبة التي تنتثر هنا وهناك بين تضاعيف الديوان وسوف نشير إليها لاحقا.
يتكون الديوان من ثلاث قصائد مطولة، تتألف من مقاطع. الأولى حملت عنوان الديوان، والثانية عنوانها: موسيقى اليمامة الهاربة من سطوة الهاجرة، والثالثة هي: كقطيع كباشٍ بيضاء أثخنها الهياج. تبدأ القصيدة الأولى هكذا: “في غبش المرآة الغابيّة/ ألمحُ الصورةَ/ تلك التي لمحَها الجدُّ الأول/ قبل أن يدبَّ على هذه الأرض/ ألمحُ منصّات النيازك قبل الانطلاق/ في سماءٍ جرداءَ قاحلة/ بيضة النسر الأول/ قبل أن تحلّق ذريته باتجاه الأعالي/ ألمحُ الجنينَ الذي كنتُه/ قبل أن يخرج ملبدا بالأغشية والصراخ/ في المستنقعات الآسنة.” لن نحدد ما إذا كان الشاعر يقرأ تلك الصورة، التي تزداد قتامة كلما توغلنا في القصيدة، في مرآة الماضي بعين الخيال والاستدعاء الماضويّ، أم يراها رأي العين في مرآة الواقع كمشهد محايث دال على راهن متهاو نحياه، أم هي عين الاستشراف الحدسي تقرأ في مرآة المُقبل غدًا قفرا أكثر ظلمةً من الحاضر التعس، بما أن الشواهد تدل على توالٍ لاحقة. لن نحدد ولا أظن إلا أن الشاعر لا يريد لنا أن نحدد الزمن الذي يرافق هذا الأمكنة المقبضة التي رسمتها ريشته. إذ أن عدم تحديد الزمن يدل على إطلاقيته فيرمى بسهمه عند كل لحظة من عمر هذا الكوكب المرزوء بالمحن والخطايا. المرآة الغابيّة، تدل على طبيعة المكان كونه دغلاً مقبضا غنيًّا بالضواري وفقيرًا من البشر. لن نلتقي خلال رحلتنا في القصيدة بكائن بشري سوى طفل: “الطفلُ المثقل بأحلامه ورؤاه/ لقد تعب الطفلُ/ من أحلام الجنة والنار/ من شقاء الطفولة الموصول بحبل الشيخوخة/ ينظر إلى الصخرة الضاجة بصمتها/ في شعاب الأودية/ صخرة جبل الكور/ صخرة سيزيف/ المتناسلة من قابيل وهابيل/ الصخرة، ظل الصخرة الذي لاذ به ذات دهر/ فرسان عابرون/ متدثرون بطلعة القمر الضاحة في الخلاء./ صخرة المآتم والنذور/ تلك الصخرة التي تتهاوى في رأسه/ كعويل نسوة حول قبر الفقيد” هذا الطفل الذي أخيرا التقينا به بعد طول قفر ووحشة، ليس إلا الذات الشاعرة في الأغلب، يعني سرابا قديما أو صورة مراوغة لماض لم يعد هناك. الشاعر يضنُّ علينا بوجود بشر، حتى سيزيف المذكور في المقطع لن نراه، بل نرى صخرته الأشهر وحدها في رحلتها الأبدية صعودا للجبل وانحدارا منه. أما قابيل وهابيل فمحض تاريخ ليس من دليل عليه سوى كتاب مقدس، وأما الفرسان فقد عبروا وليس من أثر لهم سوى دثارات مجازية من طلعة القمر الذي يشعّ لخلاء. حتى النسوة غير موجودات وليس من دليل عليهن سوى عويلهن في مآتم مفقودين، أيضا ليس من دليل عليهم سوى قبورهم.
تلك الشعرية أميل إلى تسميتها شعرية “الأثر”. تلك التي ترسم صورا مشهدية من طريق رسم تفاصيل “أثر” الشيء وليس “الشيء” نفسه. وهو الرسم الشعري الأصعب الذي يلزمه حنكة وخبرة إبداعية متراكمة. إذ رسم الصورة الشعرية يحتاج إلى موهبة ومخيال، بينما تحتاج شعريةُ الأثر إلى ما سبق إضافة إلى مقدرة على اطرّاح الهدف المرسوم واستحضار آثاره المتخيلة، معنى أنه عملية تركيب مخيال على مخيال. إحدى القصائد يهديها سيف الرحبي إلى مرجريت أوبانك. وكل من يعرف تلك السيدة الإنجليزية لا يقدر إلى أن يحبها ويثمّن جهودها الثقافية الرفيعة. هي ماغي، صديقة المثقفين والكتّاب العرب، وزوجة الروائي العراقي المهجري صموئيل شمعون ويصدران سويًّا مجلة بانيبال الإنجليزية التي تعد جسرا رفيعًا ينقل الأدب العربي إلى الغرب. ويخدعنا السطر الأول من القصيدة كما خدعنا الإهداء. فنظن أننا بصدد قصيدة تجاوزت العتمات الموحشة التي أوغلت فيها القصائد السابقة، بما أنها مهداة إلى امرأة الجمالُ سمتُها وديدنها. “الوردةُ تلامس السماء بشفاه حمراء/ في حديقة ماغي على مقربة من هيثرو/ حيث كوخ العم توم/ من غير وحشة وبمرح كبير/ يتشكل المشهد السينمائي على هيئة ممر طيران عاصف./ هندية ى تفتأ تنادي كلبها في البيت المجاور/ البط في تطوافه الدائم بين الغابة والنهر/ ماغي تلاحقه بنظراتها الحنون/ وهو يملأ الفضاء بالصياح والريش.” إلى هنا تستمر الريشة الشعرية في رسم لوحة شديدة العذوبة لامرأة تعرف كيف تحب الحياة وتتقن التواصل مع الطبيعة. على أن الشاعر سرعان ما يعود سيرته الأولى من رفض للراهن التعس: “سادةُ العالم يديرون ما يشبه الزر نفسه/ قاذفين وجهة التاريخ/ إلى مستنقع الحتف الأخير./ من أعطاهم كل هذه العزيمة في الصراع على جيفة جرذ/ أو جثّة عنفوان.”
على أن الديوان على وحشته لا يخلو من مقاطع غزل شديدة العذوبة: “حين أجلس معك/ أخلعُ معطف التاريخ/ وزْرَ البشرية/ أخطاء الآلهة في الولادة والموت/ أجلس محلقا مرحا/ كريشة طائر.” “بنظرة منك يتموج الغاب/ بأنواع الزهور/ بالأحلام المتدفقة في ربوة الخيال/ بذكرى تلويحة اليد في هواء جريح/ أي زنبقة يخبئها ليل الينابيع/ على مطارح المياه؟” لكن الحبيبة كذلك غير موجودة إلا كأثر، ذاك أن: “مسافرًا نحو الشرق/ بينما رسالتك تقول:/ إنك ذاهبةٌ باتجاه الغرب/ في أي مفترق للقوافل التائهة بين القارات/ تلتقي مصارع العشاق؟/ خيالاتهم الناحلة تغذُّ السيرَ/ باتجاه ظلٍّ وارفٍ/ ظلّكِ الذي يتبعني ملاكا حارسا من صدمة الفراق.” وكأن لا سبيل لالتقاء العشاق إلا عبر خطأ يحدث عندما تضيع القوافل. رحلت الحبيبة ولم يبق منها غير ظلٍّ/ أثر سوف يغدو كما السراب الذي يضلل المسافرين فيتبعونه دون وصول. على أنه، الظلَّ، هو ذاته سيغدو الملاك الحارس الذي يحمي الشاعر المتوحد.