هاشم صالح

إلى أحمد صالح والحرقة في القلب:

))ويُنقل من أرض لأخرى وما درى   فواهاً له بعد البلى يتغرَّب …((
I
ليس من السهل التحدث عن الشعر الحديث الآن. فالمجموعات أو الدواوين كثيرة جداً، والتشابه بينها كبير إلى درجة انه يصعب التمييز بينها. لماذا؟ ليس فقط لأنها تعتمد الطريقة النثرية في الكتابة أو ما يدعى بـ((قصيدة النثر)) وإنما لأسباب أخرى أيضاً. أهمها في رأيي أنها تعتمد نفس الطريقة في اجتراح المجازات الشعرية. وبالتالي فيلزمنا وقت طويل لكي نستطيع أن نميز بينها حقيقة، لكي نفرز الأصوات الشعرية المتميزة عن الأصوات الأخرى المتطفلة على الشعر. كانت مرحلة ((الرواد)) في الخمسينيات والستينيات قد انعطفت بالشعر العربي عن عموده التقليدي، انعطافة حادة أو مرعبة، وأدت الى خلخلة الذائقة الشعرية العربية. ولكنها أدت إلى توليد حساسية جديدة أقرب إلى روح التطور ونبض العصور الحديثة. وهنا يكمن نجاحها أو حتى معجزتها التي لا تزال تسيطر علينا حتى الآن. أقول ذلك ونحن نعلم حجم الهزة أو الزلزلة التي أحدثتها هذه الثورة في تاريخ الشعر العربي. فقد تحول الشعر الحديث إلى قضية تناقش في البيوت والعائلات ويختلف عليها الأخ مع أخيه، أو الابن مع أبيه وربما تشاجرا. أصبحت قضية عامة أخطر من القضايا السياسية أو الدينية. واعتبر الشعر الحديث أو الشعر الحر لدى بعض الأوساط المحافظة وكأنه ((رجسٌ من عمل الشيطان)). وكل ذلك بسبب كسره للشكل التقليدي للقصيدة العربية، هذا الشكل الموروث منذ امرئ القيس وحتى اليوم: هذا الشكل الذي قدَّسه مرور الزمن وتطاول القرون. في الواقع إن الثورة الشعرية الحديثة حملت في طياتها الكثير. من هنا طابعها التحريري الهائل ونجاحها الذي لم يكن مضموناً سلفاً. لقد نجحت لأنها جاءت في وقتها: أي بعد طول احتقان وجمود. وقد فجَّرت في لحظة واحدة أو في شكل واحد (هو الشكل الشعري) كل انغلاقات الزمن العربي. انظر بهذا الصدد الشحنة التحريرية الهائلة لشعر أادونيس مثلا…
وبما أن هذه الإطاحة بالعمود الشعري التقليدي المتواصل منذ الجاهلية وحتى أحمد شوقي أحدثت صدمة هائلة للوعي العربي، فما كان ممكناً الانتقال منه مباشرة إلى قصيدة النثر. بل كان ضرورياً المرور بقصيدة التفعيلة التي تحافظ على الحد الأدنى من الموسيقى أو الإيقاع الشعري. بهذا المعنى فان قصيدة التفعيلة تشكل حلاً وسطاً بين قطبين متطرفين: الشكل التقليدي للقصيدة العربية وقصيدة النثر. فقد فهم ((الرواد)) جيداً أن الأذن العربية المعتادة على الإيقاع الضخم للقصيدة الكلاسيكية عاجزة عن الانتقال دفعة واحدة إلى قصيدة النثر التي يبدو إيقاعها خافتاً أو معدوماً ((اللهم إلا بالنسبة إلى الذواقين الذين يعرفون كيف يلتقطون الإيقاع الصامت). ولهذا السبب سيطرت قصيدة التفعيلة على مرحلة الشعراء الرواد، بل ومرَّ بعضهم بالقصيدة الموزونة الكلاسيكية قبل أن يتوصل إليها. نعم، كان من المحتم أو الإجباري المرور بحل وسط (أو بتسوية وسطى) لكي نستطيع أن نساير هذا التطور الهائل الذي حصل خلال ربع قرن فقط ولكي نستطيع هضمه واستيعابه.
من هنا الصعوبة التي يلاقيها شعراء جيلنا الحالي في تأكيد أنفسهم أو خطهم الشعري بالقياس إلى مرحلة الرواد. فأسماء الشعراء المؤسّسين للحداثة لا تزال تهيمن على المشهد الشعري العربي حتى الآن. أقول ذلك على الرغم من أن هؤلاء غابوا أو توقفوا عن العطاء الشعري منذ فترة طويلة، باستثناء أدونيس الذي لا يزال رازحاً حتى الآن (ولكن هل أدونيس الحقيقي الذي فجر الثورة الشعرية العربية في الستينات وأعطاها إنجيلها الكبير (أغاني مهيار الدمشقي( وما قبله وما بعده لا يزال هو أدونيس الحالي؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال. ولا نطرحه للتخفيض من قيمة أدونيس أو من أجل الانقضاض عليه بشكل سخيف ورخيص كما يفعل بعضهم. فلا أحد يستطيع أن يحطِّم شاعراً أنتج ديوان الحداثة العربية الأول: أي الديوان الذي يعادل ((أزهار الشر)) لبودلير بالنسبة للحداثة الفرنسية أو العالمية. ولكننا فقط نريد أن نقول بان للشعر موسماً أو زمناً، وانه يصعب التوصل إليه بعد زوال الموسم والقطاف. اللهم إلا إذا أراد الشاعر أن يعيد تكرار فتوحاته الماضية…).
وإذن فان جيل الشاعر العُماني سيف الرحبي– أي جيلنا نحن- يحق له أن يتسلم دفة القيادة. فقد جاء دوره بعد أن تعب الرواد- أو من تبقى منهم- وأصبحوا يلهثون وراء أمجادهم الغابرة. ولكن، كل المشكلة تكمن هنا. فكيف يمكن تجاوز-أو تخطي- هؤلاء الكبار الذين استطاعوا أن ينسونا حتى شخصيات ضخمة مثل أحمد شوقي وبدوي الجبل ومحمد مهدي الجواهري؟ ليس من السهل على جيلنا الحالي أن يتجاوز جيل السيَّاب وأدونيس ومحمود درويش وخليل حاوي وسميح القاسم وسعدي يوسف وان يشكل شخصيته الشعرية المتميزة عنهم. ومع ذلك فهذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه الشعراء الشبان الذين يكتبون حالياً. ولولا أن أبا تمام يؤكد لي العكس لخشيت أن يكون الرواد قد استنفدوا كل الإمكانيات الشعرية المتوافرة في هذه المرحلة.
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحــائب.
وإذن، فلن يفنى الشعر ولن ينتهي حتى مع الرواد، وان كنت غير متأكد من امكانية تجاوزهم في المدى المنظور على الرغم من كل المحاولة التي اقدمها هنا.. ولكن بما أن الانتصار الشكلي لقصيدة النثر أصبح مؤكدا الآن، فان التمايز بين المجموعات الشعرية، أو بين الشعر واللاشعر سوف يتم على أساس آخر غير الإيقاع والموسيقى والقافية. سوف يتم على الأساس الذي قامت عليه الحداثة الشعرية العالمية: أي المجازات اللغوية التي تولد- كما الكهرباء- الشحنة الشعرية.
فالشاعر الحقيقي منذ الآن فصاعداً سوف يحاكَم على الأساس التالي: هل أنتج مجازات جديدة أو مقنعة أم لا؟ أي هل أنتج صوراً مبتكرة بفضل إقامة علاقات جديدة بين الأشياء؟
كان الناقد الفرنسي جان كوهين قد بلور نظرية حول الحداثة الشعرية الفرنسية ولقيت نجاحاً كبيراً إبان المرحلة البنيوية (انظر كتابه: بنية اللغة الشعرية، Structure du Langage Poétique باريس 1996). وهي تشبه نظرية ((النظم)) لعبد القاهر الجرجاني مع إضافات جديدة بالطبع. تقول هذه النظرية باختصار شديد ما معناه: الشعر هو خرق لنظام اللغة المعتاد. الشعر اغتصاب للّغة، انتهاك لقوانينها المألوفة. الشعر هو لغة ثانية، ((لغة داخل اللغة)) كما كان يقول بول فاليري. الشعر هو انحراف عن الاستخدام العادي أو اليومي للغة، ولكن، ليس كل انحراف شعراً. الأسلوب غلطة، ولكن، ليست كل غلطة أسلوباً. بمعنى آخر لا يكفي أن نقول الليل أبيض، أو النهار أسود لكي نصبح شعراء!. فهناك انتهاكات للغة تبدو مجانية ولا تؤدي إلى أي نتيجة. وهذا ما نراه لدى الكثيرين من الشعراء الشبان. حيث لا تبدو الانتهاكات- أو المجازات- لديهم مقنعة. كل شيء يعتمد على السياق الذي يرد فيه هذا الانتهاك: هل يبرره أم لا يبرره. بمعنى آخر فان ما يسبق المجاز- أو الضربة الشعرية- وما يلحقها هو الذي يخلع عليها الشعرية أولا. يضاف إلى ذلك أن المجاز يؤسّس معنى ثانياً غير المعنى الحرفي للغة. وهذا المعنى الثاني هو الذي يشكل لغة داخل اللغة ويقلص من حجم الانتهاك لقانون اللغة. فعندما يقول مالارميه مثلا: السماء ماتت. فانه يرتكب خطيئة لغوية أو ينتهك قانون اللغة لان السماء لا تموت. وحدهم الأشخاص يموتون. ولكن عندما نؤول العبارة ونعطيها معنى ثانياً فإنها تصبح معقولة ونخفف من عبثيتها أو من خروجها على نظام اللغة المعتاد. فقد نتصور انه يقصد بأنه لم يعد مؤمناً، أو بأن السماء أصبحت فارغة بحسب التصور المادي الحديث… الخ. وفي مكان آخر ترد عند مالارميه العبارة التالية: احتضار أبيض، وهي عبثية أو مجانية إذا ما أخذناها بالمعنى الحرفي للكلمة. فالاحتضار ليس أبيض ولا أسود أو قلْ ربما كان أسود أكثر مما هو أبيض! في الواقع أن صفة اللون لا تنطبق علي الموت لأنه ليس شيئاً مادياً أو حسّياً كالطاولة أو الجدار أو غير ذلك. ولكن الشاعر انتهك قانون اللغة ولم يتردّد في التحدث عن الاحتضار الأبيض. وفي مكان آخر أيضاً يتحدث عن الغسق الأبيض! وهذا مضاد للحقيقة تماماً. فالغسق أسود وليس أبيض… ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن ((الليلة الخضراء))، لرامبو أو ((العطر الأسود))… فهذه كلها انتهاكات لقانون اللغة أو اغتصاب، ولكن، عن هذا الاغتصاب بالذات تنتج الشرارة الشعرية. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن أبي تمام المشهور بمجازاته المستحيلة:
لا تسقني ماءَ الملام فإنني
صبٌّ قد استعذبتُ ماء بكائي
فقد صدم الذائقة العربية كثيرا في وقته وراحوا يطالبونه بنوع من التهكم والسخرية: أين هو ماء الملام هذا يا أبا تمام. اسْقِنا منه؟ أرِنا إياه!… ولم يفهموا أن الرجل يحاول المستحيل- أي يحاول أن يكتب الشعر بكل بساطة. لهذا السبب شكل ابو تمام ((غرابة)) أو استثناء في تاريخ الشعر العربي حتى ظهور الشعر الحديث. يقول في مكان آخر وهو يمدح أحدهم:
أيـامنا في ظـلاله أبـدا
فصل ربيع ودهرنـا عرس
لا كأنـاس كأنهم صـدأ
العيش كأن الدنيا بهم حبس
فالصدأ لا ينطبق على البشر وإنما على المعادن كالحديد وسواه. ولكنه يغلّف المعادن ويحيط بها من الخارج كما يغلف السجن البشر ويحجزهم أو يحاصرهم. هكذا نجد انه انتهك قانون اللغة- أو قانون المعقولية اللغوية- ثم سرعان ما قُلِّص هذا الانتهاك عن طريق السياق التالي للبيت اذ شبه الصدأ بالحبس. وهذا شيء مفهوم ويتحلّى بالمعقولية. وهنا تكمن العبقرية الشعرية أو الضربة الشعرية الناجحة التي لا يستطيعها إلا الكبار. فالواقع أن أبا تمام كان يريد أن يعبر عن حالة شخصية، عن كونه ضاق ذرعاً بأناس يعيشون حوله ويمنعونه من التنفس والانطلاق. فشبههم بالصدأ الذي يغلّف المعادن ويغطي جوهرها. انه محاصر من قبلهم. ولكن، أليست هذه هي حالتنا نحن أيضا؟ في كل عصر يوجد أشخاص مملُّون يزعجونك ويحاصرونك كالصدأ… هنا ينبغي أن نقيم تمييزاً بين المجاز الإبداعي المبتكر حتى لكأنه مخلوق من عدم/ والمجاز المستهلك أي الذي أصبح مبتذلاً من كثرة ما استخدموه ولاكوه. فالأول لا يقدر عليه إلا الشعراء الكبار الذين أحدثوا خرقاً في تاريخ الشعر وأضافوا إليه مساحة جديدة. وأما الثاني فهو مباح للجميع. وأعتقد أن أول من تحدث عن الصدأ بهذا المعنى في تاريخ الشعر العربي كله هو ابو تمام. ولذلك قالوا عنه: كان يتكئ كثيراً على نفسه، أي يرفض السهولة المتمثلة باستخدام مصطلحات سواه.
ولكن يبدو أن خرق نظام اللغة او منطقها الشائع ازداد كثيراً في الشعر العالمي الحديث قياساً إلى الشعر الكلاسيكي. وإذا ما نظرنا إلى شعراء الحداثة الفرنسية كبودلير ورامبو ومالارميه وكل من تفرع عنهم لاحقاً وجدنا ((الشذوذ)) عاماً شاملا. أما عن السورياليين فحدث ولا حرج! فقد وصل الأمر باندريه بريتون- زعيمهم- إلى حد القول: ((بالنسبة إلي فان الصورة (أو المجاز) الأكثر قوة هو ذلك الذي يحتوي على أكبر درجة من الاعتباطية. إني لا أخفي ذلك)). وهذه الجملة هي التي أضفت الشرعية على الكتابة الأوتوماتيكية: أي الكتابة التي لا رادع لها ولا وازع، الكتابة التي تعبر عن الوعي الباطن وتتحرّر من كل القيود… وهكذا راح السورياليون ينتهكون معقولية  اللغة ويجترحون المجازات الغريبة الشاذة، وهم يعتقدون بذلك أنهم يكتبون الشعر! وأحياناً كانوا ينجحون وأحياناً كانوا يفشلون. وتابعهم على ذلك الكثير من الشعراء العرب المحدثين. وهكذا أصبحت المجموعات الشعرية تتشابه وتمتلئ بمئات المجازات الغريبة التي لا معنى لها ولا مبرر أصلا. فانقطعت العلاقة كلياً بين الشاعر والجمهور. وخسر الشعر الحديث الكثير من جاذبيته الأولى.
ليُفهم كلامي جيداً هنا: إني لا أهاجم الحركة السوريالية ولا أعاديها. بل على العكس أحترمها وأعتبرها لحظة ضرورية من لحظات التاريخ لأنها انفجرت بالحرية الاحتجاجية انفجاراً. وفي الحالة العربية الراهنة أعتبرها مرحلة إجبارية مثلها في ذلك مثل العدمية، أو الصراخ، أو الجنون… السوريالية قامت بوظيفة تحريرية هائلة في وقتها، وحتى الكتابة الأوتوماتيكية كان لها معنى ما في لحظة ما. لماذا؟ من أجل خضِّ الناس، من أجل هزّ التقليد، من أجل زلزلة الموروث الثقيل والامتثالية الخانقة. وبالتالي فليس استسهال المجاز بحد ذاته أو الإبداع الشعري بحد ذاته هو ما أدين. إني مع كل أنواع المجازات المبتكرة والشاذة بشرط واحد فقط: أن تكون مقنعة، وان تضيف لنا مساحة جديدة من الحرية.

II

والآن اطرح هذا السؤال: فيما يخص  الشاعر العُماني سيف الرحبي، هل آن الأوان لتطبيق النظرية النقدية الحديثة عليه، أو بالأحرى على ديوانه الأخير ((معجم الجحيم))؟ أعتقد أن الأمر ممكن لأن الديوان يضم منتخبات واسعة من دواوين الشاعر المتعاقبة، ويعطي بالتالي فكرة عن تطوره الشعري منذ البداية حتى اليوم. سوف أتوقف عند بعض القصائد المتناثرة على مدار الكتاب والتي لفتت انتباهي أكثر من غيرها، دون أن يعني ذلك أن خياري هو الوحيد. فهو يلزمني وحدي في نهاية المطاف. ولكن، ينبغي أن أبرره بقدر الإمكان. سوف أتوقف عند بعض القصائد التي أعتبرها ناجحة، أو التي تحتوي على أكبر قدر ممكن من الشحنة الشعرية. بالطبع كان يمكن أن أتوقف عند قصائد أخرى لكن ذلك كان سيطيل البرهنة أكثر مما يجب، أو أكثر مما تحتمله هذه الدراسة، لنتوقف أولا عند قصيدة ((من الغرفة إلى المقهى)):
((في الصباح عندما أستيقظ
يستيقظ العالم في رأسي،
بكائناته وزعيقه الذي يهرس العظام،
أغادر غرفتي التي تشبه كهفاً مليئاً
بالقتلى
وأدلف المقهى،
أحدِّق مليّاً في الفنجان الشبيه بأفعى
تسترخي في ظهيرةٍ صيفية
وأفكر انه فنجاني الأخير في هذه المدينة.
لكن النهار في أوله
وأنا قادم على حروب وقبلات
اكتشفُ نكهتَها بعد
قرون)).

ما الذي يملأ هذه القصيدة بالشعر؟ ظاهرياً تبدو الأشياء عادية. فهو يروي قصة الحياة اليومية بكل ملل وضجر. ومع ذلك فالقصيدة مشحونة بالشعر من أولها إلى آخرها. فالعالم الذي يستيقظ في رأس الشاعر والغرفة التي تشبه كهفاً مليئاً بالقتلى، والفنجان الذي يشبه الأفعى، كلها صور تدل على الملل من الحياة، بل والقرف منها. لكن عبثية المجاز الذي يشبه فنجان القهوة بالأفعى تبدو مبررة ومعقولة إذا ما تذكرنا أن الأفعى قد تكون سوداء أيضاً ومتقوقعة على ذاتها. وربما كان الهوس الشعري قد ضخمه (أي الفنجان) لكي يبدو في هيئة الأفعى الراكدة بلا حراك (سطح الفنجان أو أعماقه…) ثم إن الغرفة الفوضوية التي تتناثر في زواياها الثياب والأوساخ تشبه أشلاء القتلى. وهذه هي حالة الطالب أو الإنسان الهامشي الحر. وهكذا نجد أن عبثية المجاز المستخدم تم تبريرها أو تقليصها من قبل النظم المتكامل والمحكم للقصيدة. ثم يجيء المقطع الأخير لكي يزيد القصيدة براعة، خصوصاً بعد استخدام كلمة التنبيه أو الاستدراك: لكن النهار في أوله… لكأننا نستيقظ معه بهذه الكلمة.
ثم أن تشبيه الحروب بالقبلات أو القبلات بالحروب له معقوليته أيضاً لان الحب نوع من أنواع الحرب. أما الضربة الشعرية القاضية فتجيء في النهاية: أكتشف نكهتها بعد قرون…
هكذا نجد أن القصيدة مكثفة ومتلاحمة بل ومتراصة منذ البداية و حتى النهاية من دون إضافة أي حشو أو أي شيء ممل. وعلى الرغم من أنها قصيدة نثر إلا أنها ليست خالية من التفعيلة أو القافية:
القتلى،
المقهى،
أفعى…
هذا التكثيف الشعري لمجازات إبداعية مبتكرة هو الذي خلق الجو العام للقصيدة وأقنعنا به. واقصد بالجو العام هنا مشهد الاستيقاظ الفوضوي في الصباح لطالب جامعي، أو لشاعر، أو لمثقف يعيش هامشياً ويخشى حتى أن يستيقظ لكيلا يفاجأ بحجم الفاتورات أو الهموم المترتبة عليه. لقد عبر سيف الرحبي في هذه القصيدة عن هامشية أو حرية كل واحد منا في لحظة ما من لحظات حياته، وعن الحياة البوهيمية التي مررنا بها جميعاً.
لنتوقف الآن عند قصيدة ((سيجارة بحّار مسنّ)) المهداة إلى بحار مجهول في العذيبة بسلطنة عمان:
((يجلس على المصطبة أمام بيته المصنوع من سعف النخيل
وعظام الأسماك
يحدّق في جروف بعيدة (بخياله لا بعينيه)
في يده سيجارة وكأس شاي
وخلف كل نفَسٍ أو رشفة
يسحب أرخبيلاً جامحاً من الجُزر
وراء كل جزيرة
سرب لا يفنى من الذكريات
وراء كل نفًس
ساحل مهجور تنعق فيه الغربان)).
لنفرز أولا المجازات المبتكرة- أي الإبداعية- في هذا المقطع: أرخبيل جامح من الجزر، سرب لا يفنى من الذكريات… عادة ما نتحدث عن سرب الحمام، أو سرب الطيور، أو قطيع الأغنام، ولكن، سرب الذكريات؟  من يتحدث عنه؟هنا يوجد خرق لنظام اللغة المعتاد. وخرق ناجح في رأيي. يوجد اغتصاب أو انتهاك لمنطق اللغة ومعقوليتها. وهو الذي  يحدث الشرارة الشعرية ويجعلنا نستمتع بها، ولكن ليس أي انتهاك… كل من يفهم في الشعر، كل من تعود على تذوقه منذ نعومة أظافره يعرف أن عبارة: سرب لا يفنى من الذكريات، هي عبارة شعرية بالخالص. وهي من اكتشاف شاعر معين يدعى سيف الرحبي.
انتقل الآن إلى قصيدة قصيرة جدا بعنوان ((أصدقاء)):
((يحجزون المقاعد في الصباح
كي نشرب القهوة وندخن
لا يكاد يسطع الكلام من أفواههم
إلا وتمتلئ الطاولات
بالغياب)).
كيف تمتلئ الطاولات بالغياب على الرغم من حضور كل هؤلاء الناس؟ هذا هو المجاز المبتكر الذي خلع على القصيدة كلها شحنتها الشعرية. فالطاولات تمتلئ عادة بالطعام أو بالشراب أو بالأحاديث المسلية او بالحضور، الخ… ولكن أن تمتلئ بالغياب؟ ثم أن اللعب على هذا التناقض بين الامتلاء والغياب هو الذي يساهم أيضا في إطلاق الشرارة الشعرية. نقول ذلك ونحن نعلم أن الشعر الحديث منذ الرمزيين وحتى السورياليين لعب كثيراً على التناقض الفجّ أو المفاجئ الذي يحدث صدمة ويؤدي إلى توليد الاحتكاك الشعري ، وتالياً، الشحنة الشعرية.
كنت أود أن أتوقف عند قصائد أخرى من نوع ((حب))، أو ((بيتنا القديم)) أو ((أودية وشعاب)) أو ((الراحلون)) أو ((سفر)) … الخ. ولكن يكفي ما ضربتُه هنا من أمثلة للدلالة على النظرية الشعرية التي اعتمدتها. بقي أن أقول كلمة أخيرة عن التجربة الشعرية لسيف الرحبي وعلاقتها بهموم جيلنا وعصرنا. وما سأقوله ذاتي الى حد كبير لانه لا يعتمد على قراءة حصرية لكل ما كتبه الشاعر، ناهيك عن شعراء قصيدة النثر الاخرين.
قد يكون من تحصيل الحاصل القول بأن سيف الرحبي شاعر مهووس بأمرين أساسيين هما: السفر والمكان. كان التحليل النفسي قد علّمنا أن كل فنان متماسك إلى حد ما لابد وان يكون مهووساً بشيء محدد. ويتجلى هذا الهوس في المجازات الشعرية التي ينحتها أو يفترعها والتي تخترق شعره من أوله إلى آخره. هكذا كشف الناقد الفرنسي شارل مورون مثلا عن المجازات الهوسية التي تسيطر على شعر بودلير، أو رامبو، أو مالارميه… بالطبع لا أزعم في هذه الدراسة المختصرة أني قادر على استخلاص المجازات الهوسية- أي الأساسية- التي تسيطر على شعر سيف الرحبي أو سواه. أقصد هذه المجازات التي تقبع خلف السفر والترحال والتسكُّع من مكان إلى مكان. ولكن يخيّل إلي أن الشاعر يبحث عن ((اللامكان)) من خلال استنفاده للمكان. في اللامكان يحصل التلاشي والتحرير الكبير. اللامكان يقبع خلف المكان ويتجاوز حدوده القصية. المكان هو السجن واللامكان هو الحرية اللانهائية. لا ريب في أن السفر من مكان إلى مكان يستحوذ على هذا الشعر. ولكن أي سفر، وأي مكان؟ ثم لماذا السفر؟ لماذا لا يظل الشاعر مقيماً في أرضه؟ هناك نوعان من السفر، السفر في الداخل والسفر في الخارج، وهما متلازمان. وإذا كان السفر الخارجي ((يجدد الأشياء، إلا انه يشيخ العلاقة مع الذات)) كما يقول ميشيل فوكو في كتابه ((استخدام المتع والملذات)) إلا أن السفر مفرح، مريح. بالسفر نهرب من أنفسنا وتاريخنا وبيئتنا الأولى وطفولتنا. بالسفر نهرب من كوابيسنا. بالسفر نكتشف العالم ونتخيل اننا أصبحنا أشخاصاً آخرين. ولكن بعد أن نعود إلى نقطة الانطلاق الأولى، كم نتوهم بأننا شِخْنا وهَرِمنا! كم نتمنى لو أننا ما سافرنا ولا رأينا أحداً، ولا تعلقنا. ذلك أن الهروب لم يحل المشكلة وإنما أجلها فقط.
فعندما عدنا إلى بيتنا القديم وجدنا ان المشكلة ذاتها معلقة على عتبة الباب وكأنها تنتظرنا: كأننا ما سافرنا ولا رحلنا ولا هاجرنا. حقا لقد شخنا وكبرنا من دون أن تنحل مشكلتنا. لماذا يكبر همّنا كلما كبرنا، ومتى ينزاح هذا الكابوس عن صدرنا؟ هنا يتقاطع الخاص بالعام في شعر سيف الرحبي والشعراء الآخرين الذين يحترقون في أتون المعاناة العربية الحالية. ما هو المكان المفضل بالنسبة للشاعر؟ إنه المكان الذي لم يصل إليه بعد: أي الأفق الذي لم يكتشفه بعد. ولكن في كل مكان يجد الشاعر الشيء نفسه: أي الملل والضجر والحياة.. فيهرب إلى مكان آخر لكي يجد نفس الشيء بعد فترة وهكذا دواليك… على هذا النحو هرب سيف الرحبي من عمان إلى طنجة إلى باريس إلى دمشق إلى القاهرة إلى أمستردام… من دون أن يصل إلى أي مكان، من دون أن يستقر في أي مكان. وهكذا عاد في نهاية المطاف إلى ((مسقط)) رأسه بعد أن جرّب كل الأمكنة وسلك كل الدروب. عاد وفي جعبته بعض التجارب الموجعة والقصائد المكثفة التي تشهد عليها.
الشاعر في حالة سفر دائم، سفر في الداخل أو سفر في الخارج، لا فرق. كلاهما سيّان. كلاهما سفر. كلاهما محاولة لاستكشاف شيء جديد أو للتخلص من عقدة الذات.. لكن المشكلة هي أننا بعد أن نعود من السفر نعود وذاتنا الخربة (أو القديمة) قد لحقت بنا. ما أن نتجاوز عتبة الباب حتى نجدها منتصبة أمامنا. وكنا قد توهمنا أثناء السفر أننا خلعناها عن كواهلنا، أننا تجاوزناها، فإذا بها تسبقنا إلى عتبة البيت وتقول: هذا أنا، إني هنا لا أتحرك ولا أريم… هذا يعني أن المواجهة مع الذات قبل السفر وبعد السفر هي ذاتها. وهذا يعني أنها معركة سيزيفية لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. ليس غريباً إذن أن تكون أسطورة سيزيف هي إحدى أهم الأساطير التي انبنى عليها الشعر العربي الحديث كله. الواقع العربي واقع سيزيفي، لا يؤدي إلى أي نتيجة. فكلما توقعنا أننا وصلنا إلى نتيجة ما وجدنا أنها هربت من بين أصابعنا لكأننا القابض على الماء أوعلى السراب. وكلما تدحرجت الصخرة تدحرجنا معها إلى أسفل القعر. وهكذا نعيد الكرة من جديد بدون أي أمل في تغيير الواقع او زحزحة الصخرة من مكانها. الواقع العربي هو الوحيد الذي لا يتغير. منذ ألف سنة وهو محكوم بنفس النظرة، نفس الفكرة الثابتة، نفس اليقينيات المطلقة والمغلقة.
من يستطيع أن يعبر عن الواقع التراجيدي العربي الحالي؟ من يستطيع أن يرتفع إلى مستواه أو ينخفض إلى عمق هاويته؟ هل هو الشاعر؟ هل هو المفكر؟ كلاهما معا، وكل بأسلحته الخاصة. يخيل إلي أن الكتابة الوحيدة المقبولة اليوم هي الكتابة التراجيدية أو الفجائعية. نحن نحلم بكتابة ترتفع إلى مستوى الفجيعة الحالية أو تختصر هذه الفجيعة في حناياها. نحلم بكتابة سوداء، مريرة، على طريقة دوستويفسكي أو كافكا أو نيتشه. نحلم بكتابة جنونية توازي جنون الواقع العربي أو حتى تسبقه و تتفوق عليه. نحلم بكتابة تفكك كل ما لم يفكك حتى الان لكي تفسح المجال لانبثاق شمس جديد