شِعرية تُوَبِّخُ خَرَائِب العالم.. دراسة في ديوان (حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة) للشاعر سيف الرحبي- أحمد الدمناتي
ما يشبه السفر في التقديم
استفزني ديوان(حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة)،وفي كل مرة كنت أؤجل علاقتي المباشرة به ومعه خوفا من كثافة لغته،وتهيبا على يدي من التعب الوشيك وهي تسود بياضا لا يليق بخسارة ذات، بقدرما يفضح انهيار عالم طائش فقد الحكمة،وأضاع طفولته النيئة في حروب مؤلمة أضاعت رسائل العاشقين،ولُعب الأطفال وهم ذاهبون بفرح شاسع للمدرسة،وشهقة الشعراء الأخيرة،والنشيد الكنعاني لغجرية ملت الترحال والعبور من المعنى إلى المنفى.هو عالم يحتاج لإعادة تربية وترتيب وتقليم أظافر من جديد كي يتعلم من الطفل صفاء السريرة ونقاء القلب.ترددت في غزو الديوان إما خوفا من ظلم متخيله،أو اغتصابا لتأويل يقتل معناه ومبناه في ظل تعدد القراءات ،واختلاف المقاربات.ف(النص تميمة،وهذه التميمة ترغب فيَّ.ويخطب النص ودِّي عن طريق ترتيب كامل لشاشات غير مرئية،وعن طريق مماحكات انتقائية:تتصل بالمفرادات،وبالمراجع،وبقانلية القراءة…والآخر،المؤلف،يضيع دائما وسط النص(لا وراءه على شاكلة إله من آلهة آلية من الآليات).لقد مات المُؤلِّف،من حيث هو مؤسسة:احتفى شخصه المدنيُّ،والغراميُّ،السِّيَرِيُّ.ولَمَّا جُرد من كل ما لديه،فإنه لم يعد يمارس على مؤلَّفِه تلك الأبوية الرائعة التي تكفَّل كل من تاريخ الأدب والتعليم بإقرار سرده وتجديده:بيد أني أرغب في المؤلف على نحو ما داخل النص:إنني بحاجة إلى صورته(وهي ليست تمثُّلاً لي ولا إسقاطا) كما أنه بحاجة إلى صورتي.)(1)
لكن ما يشفع لي بمصاحبته لتخومه القصية نداء شرس استيقظ بداخلي وبدأ يعوي كذئب الشنفرى في فلوات رهيبة ورحيبة لا تؤنسه فيها إلا صفير الريح العدوانية،والجبال الصامدة،الجالسة القرفصاء كجدة اختبرت تاريخ السرد،وسيرة الحكايات القديمة لتروض أفق الصحراء المخضب بالتنهدات العتيقة والفراغ والغياب والتيه المُر.
والوصول لموعد المعاشرة مع النص يتطلب التسلح بأدبيات التواضع مع اللغة أولا،ثم السفر برفقة المعنى في خلاء المتخيل دون مُرشد سياحي،أو بوصلة تكشف سر الطريق لينابيع ألفة الكلمات بلا رأفة ولا هدنة.إنها الشراسة التي تَهَبُ نفسها للهجرة دون عودة محتملة.
مُتعة صداقة الغلاف
الغلاف تواطؤ للثقافة البصرية والعين لتخليص الحياة من رتابتها المُمِلة،لقاء بين ثقافتين تقتسمان تاريخ الإغراء بالقراءة.اللقطة باعتبارها تخليدا لزمن يَفِر بسرعةٍ،وتَسْكِينُ( من السكن والسكنى والإقامة) لصوت شعري حفر أخاديده في جسد القصيدة العربية المعاصرة بصمت وإنصات عميقين.
ليست الحياة مأكل ومشرب ومنام وسفر،بل الحياة الحقيقية أن تصنع اليد(يد الشاعر الذاهب لرحم المعنى،ويد الفنانة الراحلة لمغارة الضوء) تاريخها الدائم لتلقين الكون كينونة الاستمرار والمحبة من خلال الأثر/الكتابة،سفرا في اللغة والذات والروح،لباس للمعنى لإنقاذ سلوكات الكائن البشري من انهيار القيم والمبادئ،للحد من التهديد بانقراضه كسلالة تضيف للبشرية بعض ما يجعلها تسمو بالفكر والقصيدة والجمال لتأسيس توازن هام لروحانية الإنسان.
للصورة دلالة وأيقونة في الفكر الإنساني،والحقل السيميائي على حد سواء.لحظة تأمل وتفكير وإنصات فادح للنداءا القصية الآتية من الأعماق.العدسة هنا لاتقوم بعملية أوتوماتيكية لتخليد المشهد،بل تؤسس رمزيتها عبر تهيئة الصورة لتقول فتنة انخطافها،وشهوة انتسلبها للحظة تُحرض الذات المبدعة للهرب من خراب العالم عبر الصمت،الإنصات،الصمت الذي يقول ضجيجه الداخلي خافتا وهادئا،الإنصات الذي يتعلم الحكمة من الكائنات الصغيرة،والتفاصيل اليومية العابرة التي تلتقطها عين الشاعر لتصنع بها مرتكزا شعريا وتخييليا يجد متعته في الإقامة داخل مغارات الهامش،وعلى ضفاف التخوم.التخوم التي تضئ الذات لتصبح مركز الكون أحيانا،وتُدرب على مساءلة الواقع باللغة انخراطا في اللامفكر فيه،والذاهب بعنف كنهر جارف يجرف معه الحصى والنباتات والأغصان ليحفر مساره ومسيرته بإتقان.
إننا بصدد سفر رحلة العين لتصاحب كبرياء العين،العين الأولى نقصد بها عدسة الفنانة الريامي،والعين الثانية بمعنى المنبع أو المَصَب،أليس الشاعر ينبوع قصيدة،ونهر لغة؟ يتدفق من جداول روحه وأنفاسه ماء المعنى في اتجاه مَصَبات متعددة،أهمها مصب القارئ المُفترض.وقد تكون العين الأولى بمعنى المُخبر،أو الحارس،المُخبر هنا بالمفهوم الجمالي للكلمة،وليس الأمني،لأنها تختبر لحظة تأمل عميقةٍ،وإنصات دقيقٍ،تحرس برهة زمنية يكون فيها متخيل الشاعر على موعد مع هجرة دائمة بداخله أولا،وبخارجه ثانيا في علاقته مع الكائنات المحيطة به.ومن هنا تصبح للعين –عين الشاعر والفنان- عيون قادرة على رؤية ما لا يرى بالعين المجردة،عين تستشرف،وتقتحم المصائر والمصائد والكمائن والمكائد بِدُربةٍ تعي انتسابها لزمنه الشعري والإبداعي والجمالي والتخييلي والوجودي أيضًا.
وكأن الغلاف مُستعد لضيافة العدسة/سيرة الضوء،واللغة/مسار الشاعر.بين السيرة والمسار ألفة لا يفقهها إلا الضالعون في حرائق الكتابة والفن،إنه تعميق لوعي يحبذ الصداقة الخصيبة بين الفني والشعري.والصورة الفوتوغرافية كرافد من روافد الثقافة البصرية والفنية في المشهد الفني العربي المعاصر تسعى دائما لإضاءة الأعمال الإبداعية عن طريق تصميم الأغلفة بِحِرَفية عالية.
غِبطة مصاحبَة العنوان
قبل الدخول في خطاب العتبات (الغلاف،العنوان ،الإهداء…)نشتغل أولا على العنوان باعتباره عتبة نصية تفيد في توجيه خطوط المقاربة في مساراتها الصحيحة،وللقارئ الحق في تأويل رؤية العنوان كما تشتهيها مقامات القراءة عنده.
والقراءة تحتاج لجهد حقيقي مثل الكتابة،لا استسهالا في السفر، كما لا مودة ولا محبة في الإقامة على ضفاف الخطر.
فالعنوان كما أسلفنا كعتبة نصية ونص مواز يُفضي بنا للتجسس المسكون بمتعة الاكتشاف،فالبيوت تعرف من أبوابها قبل العبور لداخلها،والعنوان باب النص إذا تعذر استكشاف الحجاب المستور لكثافة اللغة.والعنوان (حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة) يحيلنا لعالم غرائبي،خرافي،كافكاوي،غيبي،نيتشوي،وكأننا أمام فضاء شعوذة تغيب فيه الأشياء الحقيقية،وتحضر فيه الرموز والأسماء المستعارة نكاية بالتمرد على الأصول وتعويض الحقيقي بالوهمي،والواقعي بالعجائبي لاستئناس الذاكرة من صدأ الحنين،أو ترويض المخيلة بماء المعنى يخرج صافيا،رقراقا،منسابا من جداول الروح،وهي تَهَبُ الأرض كما الذات فرصة استثنائية لمنح تسميات أخرى للأشياء والكائنات لخلق توازن بديع بين ماتقوله المخيلة ،وبين ما يقذفه الكون في جُب الذات الشاعرة.
فالشاعر يتحرك بين جغرافيات لغة شعرية ماكرة،لينة،ومتنكرة،وعجائبية غيبية من خلال أفق تيماتها التي تُحيل على السحر والخرافة والشعوذة.فالنداء بالاسم المستعار انحياز لبلاغة الأقنعة والتمويه والتضليل والخفاء.انتساب عميق للبس.
وكان الشاعر سيف الرحبي رائيا وكاهنا وعرافا يتلصص من خلال من فعل اللغة عن مكائد السحرة،ويُصر على مصاحبتهم لمعاقلهم وكهوفهم ومغاراتهم لاكتشاف نواياهم ومخططاتهم ومشاريعهم المستقبلية.
بهذا،تصبح القصيدة تبحث عن نبوءتها الخاصة من خلال الممارسة النصية،وهي تُعِدُّ العدة لاكتساح المجهول والنسيان المنفلت والعابر.
استنفار حواس الإهداء
يقول الشاعر سيف الرحبي في الإهداء الذي يعتبر عتبة نصية،وبوابة أساسية للتجسس على العالم الجمالي والرؤيوي والإبداعي والتخييلي للديوان:
إلى…
( كل هذه الذُرى
ولا أحد
تركله رغبة الصعود إلى الجبل)
إلى الجبال الساجية
في ليلها السرمدي (2)
الإهداء كنص مواز يحيل رمزيا على الشموخ والصمود والمقاومة والكبرياء،والتمرد والعناد وعدم الاستسلام،أو الدخول في هدنة تنتصر للهزيمة والدونية.وكأن الشاعر يستلذ أفقا جماليا يَهَبُ الذات الشاعرة القدرة على الامتلاء،ومقاومة العالم من الخواء والمحو والنسيان والاستبداد والظلم والتسلط والغدر والعدوان.هكذا،تصبح القصيدة نزاعة لإصلاح أعطاب الكائنات في انفلاتها،في سفرها القسري،وحياتها المهددة بخيانة القِيم.
ديوان (حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة) يؤسس لمتخيل شعري يعي جيدا دسائس أنفاقه الغريبة بالحفر في اللغة،والتجسس بالعين ،والتزود بالحنين،لأن الرحلة قد تطول في القصيدة ومعها.حتى إن فِكر العودة إلى بَر الأمان مع مَكْرِ الشعر لا تُسعفه الدُربة ولا المِراس ولا الخِبرة.إنها المخاطرة القصوى مع كتابة شعرية تُفرخ بِيُتْمٍ نادر خرائط مآزقها،وغبطة مضايقها بعنفوان يتسع للعبارة إذا ضاقت الرؤية.رؤية العين والقلب والذات والروح معًا،وليست رؤية زرقاء اليمامة طبعا.الرؤية التي تفتن ولا تفتح أبواب أسرارها إلا للعارف بحقيقة الإبداع سفرا في اللغة المتوحشة.لا هُدنة مع المعنى.
تختبر قصيدة سيف الرحبي قدرة اللغة على التملص من برودة نسيانها،والانخراط بشهوة التلصص على منعرجات الخيال ضمن رؤية جمالية تَعْبُرُ سيرة انبهارها بالتودد العنيف لصداقة الكائنات المندسة هناك في أقصى مكان في القلب والمخيلة تحرسها الذاكرة البصرية بألق أنيقٍ.
لتقشير جسد نصه،وتسلق جبال متخيله الفادح يلزمك(مخالب المتعة) على حد تعبير مبدعتنا فاتحة مرشيد.مخالب حادة وقوية تسعى لاستئناس الشراسة المندسة في اللغة وبين القصائد.
والقراءة بوصفها نصا مضادا،مضاعفا،متجسسا،مندهشا،منفتحا،خائنا،شكاكا،قلقا يتهيأ للسفر في طريقه ليحفر الطبقات التخيلية لقصيدة تنام متعبة بين فلوات الكلمات.
استدعاء التاريخ والأسطورة واليومي لبناء خطاب قصيدته التي تتكئ على حمولة لغوية شعرية يتقاطع فيها ما هو حياتي ووجودي،وماهو يومي واقعي في أفق تأسيس منجز نصي يُعَري واقع العالم وخرائبه،ويفضح سُلَطَهُ وشعاراته الفارغة من كل قيم إنسانية في تجذير سؤال هوية الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدل:
هذا النشيد الأزلي
يحمل على جناحه المتقلب
الأمم والتيارات
نشيد الإنسان الأول أمام ظلام المصير
نشيد العشبة الوحيدة في الجبل الأجرد
نشيد الوطن والجنازة
النشيد الأممي للأحلام الصاخبة
نشيد المستعمرين
والطامحين إلى التحرير
نشيد الإنشاد لعاشقة
تسوق قطيعها في الخلاء
نشيد المدارس ورياض الأطفال
وقود الحرب القادمة،
نشيد البحارة في الفجر الاستوائي
ذاهبين إلى زنجبار
نشيد الجارح وهو ينقض على الفريسة
نشيد الضحية
وهي تلملم أشلاءها تحت الأسوار
نشيد المؤمنين والمارقين
نشيد الأرض
وهي تئن تحت ثقل العسكر وأباطرة المال
نشيد الطفل
وهو ينفصل عن أمه المقتولة
نشيد الزهرة مفعمة بمطر الصباح…
هذا النشيد العدمي الكبير(3)
تُعلن القصيدة داخل فلوات لغتها عن حس مأساوي تراجيدي يُهدد العالم كما الذات الشاعرة في أمنها واستقرارها وأحقية الانتساب لحياة كريمة بلا اغتصاب ومداهمات وحروب وخطف وتعذيب.
تحضر داخل القصيدة لغة حمالة أَوْجُهٍ ،عارية من مساحيقها البلاغية لتفضح تصرفات عالم يشيخ بسرعة بسبب تصرفاته العدوانية الآيلة للمحو والاندثار والنسيان والغياب.كتابة تُعَري بلا نَدَمٍ،وتقول ما تحسه بعمق دون زيادة أو خجل.
إن الانتماء لفتنة الكتابة وشهوتها قَدَرُ الذات الشاعرة للسفر في فلوات القصيدة بدُربةٍ تَعِي مضايق النص لفتح المتخيل على إمكانات اللغة للتلصص على واقع مُر يفتك بالكائن البشري،ويُعمق الإحساس بهشاشته وخسارته وخيبته وانكساراته،يأتي المنجز النصي ليفضح عالما مسكونا بخرائبه،غارقا في حروبه،وانتصاراته المزيفة والوهمية.إنها (الأرض الخراب) أو (الأرض اليباب) بتوقيع الشاعر سيف الرحبي في طبعتها المزيدة والمنقحة التي وزعها على العالم تتار العصر الحديث،وهولاكو الجشع.
كان على القتيل أن يداوي جراحَه
قبل أن يموت
ويدلفُ الآخرةَ من غير نزيف ولا دماء
على الصباحات أن تنحني أمام هامة الغيم
كما انحنتْ هذه الأخيرةُ
مام قبّعة مايكوفيسكي
كان على الذُرى والمنافي والنسور
كان على الليل أن يغمرَ البسيطةَ
بحلكته الحنون
التي استعارها من قلب المحيطات المدلهمّة
كان على الصيف أن يضمحلّ قليلاً
مفسحاً للخريف مكاناً لائقا للأحلام الشعريّة
بأوراقها الصُفْر المتساقطة
كأموات لا يُعدّون.
كان على السفن والأرخبيلات
أن توجّه أشرعتَها
نحو الرحلة الكبرى
معانقةً أشباح الغابرين
من غير أمل في العودة.
كان على الظلال المنكسرة في المغيب
أن تعكس كآبةً أكبر
مخترقةً أحشاءَ السلطعون.
كان على السراب أن يحتضن القلبَ الواقعيَّ
محطماً ثنائية الفكر البلهاءَ
كان على الضبِّ أن يكونَ أكثر حذَرا
في حفرته
من ذلك الانكماشِ المذعور في العراء
وكذلك أصحاب القصور
والعربات المصفّحة(ص.ص.13/14)
فالكتابة في عمق كينونتها تُرمم الرجات والهزات والزلازل الداخلية.هي التي تعطي التوازن بين النفسي الذاتي الجواني،وبين الواقعي المادي الخارجي،في أفق امتصاص الخيبات المتتالية التي منيت بها الذات كما العالم.
وكأن حقيقة فضح العالم بالسؤال الشعري اختيار واقعي يجد سنده في الوعي بممكنات اللغة لتكشف زيف وشعار أسطورة التسامح والعيش المشترك والسلام.
والقصيدة في انتسابها للأفق الرمزي تجعل من التخييلي ملاذا للذات الشاعرة في مواجهة رُعب الواقعي،ووحشيته القاتلة،رُعب يعصف بتوازنات الروح وكينونة الحواس والمشاعر أيضا.
تنحاز قصيدة الشاعر سيف الرحبي للحفر في أركيولوجية الواقع الرديء الذي تعيشه الذات الجمعية والفردية معا.الحفر الذي يقود اللغة لتكشف عن هوية خصوبتها،ووعي كثافتها بمقاومة تستلذ تعرية فضاء كسيح يصل خريفه قبل الأوان،والكتابة الشعرية باعتبارها سفرا في المتخيل واللغة والذات والكون لهذا ف
( إن العالم بالنسبة للمبدع هو الأصل،والتفاعل التخيلي قدرة خارقة على اكتشاف معرفة جديدة وأصيلة داخله.ثم يأتي التعبير اللغوي وغير اللغوي ليجانس بين المعرفة المتخيلة والوسيلة القادرة على أن تعبر عنها.ولذلك فإنه يصح أن نعتبر المعرفة التخيلية التي يكتشفها المبدع عن طريق تفاعله بالعالم مجالا لإدراك معان تصورية هي أصل الإبداع بالنسبة إليه.وتكون اللغة بعد أن تتغير معالم بنيتها،ومعطياتها الجاهزة،غلافا لهذه المعاني،ووسيلة لنقلها إلى القارئ.)(5)
والقصيدة في كينونة عمقها دعوة صريحة لحوار الثقافات،وتعايش الشعوب في إثراء الذاكرة الإنسانية،بعيدا عن منطق الغالب والمغلوب،الخاسر والرابح،المركز والهامش،الصوت والصدى،القوي والضعيف.القوة الحقيقية،أن تستثمر في إسعاد الإنسان والكون،لا في سحقه وترهيبه وهزيمته وتقزيمه،والإمعان في إذلاله،وإلا ف ( نحن نُحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا) على حد تعبير شاعرنا الراحل محمود درويش.
والشاعر سيف الرحبي يكتب من داخل التجربة،ومن داخل عمق القصيدة لا لتصحيح مسارات العالم الخاطئة وتوجهاته الفظة والعنيفة،ولكنه لإدانته باللغة كسلاح لمقاومة الفساد والظلم الذي يلحق بالإنسان،ويُهدد توازنه واستقراره وأمنه.( وأعتقد أن على الفعل الشعري في النهاية أن ينطوي على نوع من الخطر والمجازفة، أي أن تُطل على الهاوية أحيانا. لا أقول أن تقفز إليها كما فعل “أرْطو” وآخرون، وإنّما أن تعرف ماذا هناك؟ نعم! رحلات كبيرة وشاسعة وكلها على أرض الواقع تنعكس في النهاية في التركيبة الخيالية، وفي تركيب المخيلة ذاتها. ومِمَّا لا شك فيه أن هذه المسائل تنعكس في شعري.)(6)
يلتجئ لتوظيف الأسطورة في خطابه الشعري للتعبير عن قُدرة الميثولوجيا على خلق التوازن داخل أعماق الإنسان ولو وقتيا،إنه تطهير للداخل في وقت زمني قصير وضيق.
مستهديا في سفره الشعري بكينونة لغة مكثفة لها طقوس معراجية،برزخية،يلتبس في عمق أعماقها الذاتي والموضوعي،الخيالي والواقعي،ضمن رؤية مشروطة باقتراح بدائل تُساهم في تنظيف تلوث ضمير عالم آيل للسقوط والفجيعة كلما تمادى في غطرسته،وعناده بهتك حجاب القيم الإنسانية المتداولة منذ القديم عند الشعوب والأمم،وبين ثنايا الثقافات الغارقة في القِدم.
تستجمع عُمق قوتها من شراسة الحواس المدربة على اكتشاف رعب العالم ،وهي تشحذ طراوة المخيلة لمواجهة عبث الإنسان وجبروته وتسلطه الذي يُغَيب بقسوة آدميته وإنسانيته أيضا.
بما تحمل الرؤية الإبداعية من تخصيب لأفق القصيدة في علاقتهابالواقع،بالمجال الإدراكي الذي تنتقده الممارسة النصية عبر انخراطها المحموم في لغة شعرية تعبر خلسة من رحم الذاكرة لتستلذ كينونة انتمائها لأنساق دوالها في بلورة وعي شعري جمالي يفتك بحجاب الخراب والعتمة الذي يلف الكون،وكأنه يسعى لاستعادة صفاء العالم ونقاء الوجود من خلال اللغة.اللغة التي تَهَبُ الذات الشاعرة القدرة على التحمل والمواجهة، والمقاومة، والصبر، والعناد برؤية تشيد منطق تصالحها عبر تحققات نصية تختصر مسافات انتسابها لمشاهد قاتمة من الواقع بمرارته وقساوته وآلامه:
أحدق في الأجيال اللاجئة
من جبروت الظهيرة
وفيالق الإبادة..
في عراق العباسيين والشعراء
في قرطاجنة هنيبل
يمن الحميريين والأقيال
عمان اليعاربة والبحار
لا أرى إلا دخانا يتلاشى
في ممر أحصنة
وزفير طائرات
* * *
أحدق بوجهي في المرآة
لا أرى إلا غيومك
تحيي أرواح القتلى
عبروا ذات يوم مرآة المكان
* * *
قهوة الصباح
خبر موت أو انتحار صديق
ضاقت به الأرجاء الشاسعة
وضاقت به الأبجدية
حيث لا نور إلا نور العدم الشفيف
حيث تسكن السلالة
ويزهر الزمهرير(7)
حتى من فرط الدمار الذي لحق بالإنسانية،وفائض الجوع والخراب،لم تَعُدْ القصيدة تحتفل بالداخل الجواني للذات الشاعرة،بل أصبحت تحتفل بكوابيس الخارج والواقع بديمومة انهيار قِيَمِهِ وسلوكيا ته.أن تكون مساءلة الحرب والدمار بالقصيدة،هو إبدال لمعنى الكتابة لتصبح مقاومة الخواء والمسخ والنسيان في عالم يغيب عنه شروط العدل والحنان والمحبة والتسامح.
ليس غريبا،إذن،أن تكون الكتابة مقاومة حقيقية،وسلاح متطور يشهره الشاعر في وجه القراصنة الذين يوسخون العالم،ويصادرون الحق في الحياة،والحلم،والتفكير،والسعادة.حتى أصبحت هذه المفاهيم على قلتها وندرتها،وغيابها أحيانا يُشكلها الإنسان في داخله عبارة عن يوتوبيا،أو مدينة فاضلة لمواجهة رعب واقعه،والتخفيف من وطأة عذابه.إن تأسيس بديل ضدا عن عنف الواقع ليقيم الإنسان عبر الحلم حتمية ضرورية ليتنفس هواء الحرية ولو قليل.
يبتكر قصيدته في ظل أجواء ومناخات ملبدة بغيوم الحزن والألم،شاهرا الكتابة كسلاح للمقاومة.
وكأن شعرية سيف الرحبي،في صمت،تؤسس مضايق قصيدتها لتعبر خلسة لعالم منهك بشيخوخته،بتجاعيده،بخرائبه،بخساراته الفادحة،شعرية تتأمل كيفية قُدرة اللغة على امتصاص الألم والحزن والكآبة،ونجاعة القصيدة في فضح مؤامرة التواطؤ لشعوب وأمم وملل ونحل تُفكر في توسعها ورفاهيتها فقط،بسحق الإنسان وهزمه في عقر داره وبيته،وأمام أطفاله وزوجته في أحيان كثيرة.إنه القوة التي تُدمر الإنسان في الإنسان،وتُغيب فيه سلوكاته السوية.
تنهض القصيدة على شعرية إثارة السؤال،وإغراء المساءلة لفك حجاب يحجب سوداوية واقع مُر وكئيب،وكأنه مشرف على نهايته بسبب تعنته وقسوته ما وشراسته. يصنعه الألم يدمي القلب ويحرض الكتابة لتفضح ممارسات عالم مجنون وعدواني أيضا.ومن أجواء التراجيديا الكونية،تنتقل الذات الشاعرة للاحتفاء بعالمها الداخلي الجواني:
نصفك العلوي يأسرني..
تجلسين وسط الصحْبِ
كاهنة تشرق بالرؤى والمخاوف
تدخنين”شيشة” المقهى
خيال رضابك يشفي جروح المرضى والتائهين..
من أي الجهات قدمتِ
في هذه الساعة؟
تدلفين الغرفة المضاءة بجسد النسر المحنط
نصفك الأسفل
أكثر أسرا وإثارة
من آلهة تستحم في مصبا ت النيل البعيدة.(8)
لغة شعرية تنشد خلق الدهشة في المتلقي بالمغامرة في الانتساب للحظة الكتابة،يكون الانخراط في مسار القصيدة سرا ملغوما بكينونة جمالية تؤسس مدائحها للذات،كما تقيم بين أضلاع اللغة في تداخل محكوم بجدلية البناء والهدم،الخفاء والتجلي،في البناء تعثر اللغة على سيرة توهجها،وشهوة ممكنات آفاق تخييلها .وكأنها”أي اللغة” في انحرافها عن مسارها التواصلي في درجة الخطاب،وعن مسيرتها التداولية العادية،هو ما يجعل الانحياز لخصوبة متخيل المعنى في علاقة الذات وهي تخترق حجاب الصمت عبر اتخاذ الكتابة…
إن شرط الكتابة الشعرية الحقيقية أن تكثف من اختراقها لحجاب الصمت والنسيان والمحو والغياب الماكر الذي يُهدد الذات المبدعة كما يهدد استقرار وكينونة الإنسان،بهذا تُصبح القصيدة مواجهة عميقة لتصحيح مسارات عالم مجنون،مصاص دماء،مسكون بتأوهات الضحية وأنينها.لا رأفة تُقَلل من عِناده،أو ذرة رحمة منسية هناك في أقصة مخيلته تعيده لصوابه ورُشده قبل فوات الأوان.إنه جنون عظمة القسوة حين تفترس القاتل والقتيل، ويُصبح السلاح كما الدم رخيصا ومُعرضا للمتاجرة والمساومة، وبهتان العبث والخواء.
و عين الشاعر سيف الرحبي كمخيلته تماما مدربة بقوة على التقاط تفاصيل
الكائنات بحياتها السرية والعلنية.تغوص في الداخل،كما تتجسس على الخارج بمراس و تجربته بادرتين تصبح فيها القصيدة مبتهجة بغبطة اختلافها و مغايرتها،و هي تؤسس خطابها الشعري مستندة لكينونة اللغة في انحيازها العميق لقدرة الكتابة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عالم آيل للسقوط والمحو. إنها شعرية توبخ دمارا ممنهجا يستحق الكون كما الذات وتصبح القصيدة حماية من خطر قادم، و مسكنا من خريف قاس يهدد الحياة.
حيث إن القصيدة عند الشاعر سيف الرحبي تقترح بدائل جديدة لتكثيف زمن اللحظة الشعرية،بما هي انخراط عميق داخل كينونة الفعل الكتابي المستند لمرجعية الواقع المر الذي يُحرض اللغة على تصعيد درجات فورانها وغليانها،وهي تُسلط أضواءها الكاشفة لفضح المستور،وفَك الأقنعة،وخَرْقِ الحُجُب المزيفة والمضللة:
عن الوردة الموشكة على الذبول
وهي ترمق القطار يعبر حولها
بعنفوان الصباحات
وردة الروح
دمعة اليتيم
صرخة المظلوم؟
عن الجثة تلملم أشلاءها
بغية الاقتحام وأخذ الثأر
عن الهواء المحقون بالوباء والكراهية
نتنفسه ليل نهار
والأطفال الذين يبحثون عن المستقبل
في قعر القمامة
عن الشاعر الذي يحتضن مخطوطه كطفل
نجا بأعجوبة من براثن الأنقاض
والشاعر الأعمى الذي ينتظر الفجر
في القصيدة على ضوء شموع تهتز
على متن سفينة جانحة
في خياله ورؤاه؟
كان على رشفة الشاي أن تعبر
طريقا وعرا وطويلا
كي تصل إلى الفم.. (9)
.وكأن العقلية التوسعية في العالم سعيدة جدا بأنقاضها،وخرائبها،ودمارها الفظيع.ولكي ترتاح الذات الشاعرة في أعماقها ولو وقتيا،يستوجب تعطيل الحواس والأحاسيس،واستقالة القلب من النبض والخفقان.
إن ما يهيمن على كثافة متخيل الشاعر سيف الرحبي،هو انشغاله العميق بكائنات الوجود ،واحتضانها أحيانا عبر الممارسة النصية،أي جل القصيدة مسكنا آمنا لمخلوقاته بعيدا عن رُعب الواقع الفعلي المدجج بالخرابات والانكسارات والانهيارات المتتالية.
القصيدة امتحان جارح لقدرة اللغة الشعرية على فضح الغياب والخواء التي تتكبدها الذات الشاعرة في علاقتها بمشاهد الواقع المؤلمة،والفظيعة،وكأنه يُنبهنا بحدوساته وفتوحاته الشعرية العميقة ل(حياة على عجل) يعيشها العالم ،وسيستلذ نهايتها،والانغماس بشهوانية شرسة في فوضاها.إن الذات تتغذى من الواقع بشراهة،ما يجعل حمولتها التخييلية والإبداعية مُقنعة بكثافة في اللغة،وخصوبة في منح الصورة الشعرية للمتلقي لخلق المتعة لديه،ف (إذا أردنا مساءلة الصورة،لن تظل هذه المفارقات بدون أجوبة،ولكن ليس تلك الصورة التلميحية التي تحيلنا إلى مفهوم،أو فكرة،أو أوهام جاهزة نتعهد بجمعها وتنسيقها،والاحتفاظ بها،وتعليقها بالمعنى التصويوي للكلمة.هذه الصورة الخاطئة،التي نسميها مع باشلار استعارة،ليست سوى دليل،لكنها صورة حقيقية،وتعبر عن واقع لم يعكس بعد،ولا يرجع بالتحديد إلى شيء سابق عنها،بل هي إبداع كينونة لغوية تنضاف إلى الحقيقة فتنتج الدلالة.)(10)
.الكثافة في اللغة هي التي تمنح الذات الشاعرة العزاء،وقليلا من الهدوء والسكينة،والعزلة المُحرضة على الكتابة أيضا.إنه العبور والإقامة في الداخل-أليس القصيدة إقامة أبدية للشاعر؟- بعيدا عن زيف ونفاق ورياء الخارج.
إن كينونة الكائن الشعري تجعله باستمرار متسلحا بحساسية مفرطة تجاه الواقع،والكائنات المحيطة به،وهذا ما يجعل حواس الشاعر في استنفار دائم لملامسة الوقائع الجوانية والبرانية التي تعيشها الذات الشاعرة في اتصالها وتواصلها المحكوم بجدلية التأثير والتأثر التي تُمارس على الذات كما القصيدة.
ديوان مسكون بالتاريخ والأسطورة والذات والخرافة والحنين واللوعة والمكان المفتقد والهارب والساكن في القلب كما في المخيلة،مما يجعل اللغة الشعرية في أرخبيلاته تعرف تدرجات في كثافة المتخيل الشعري مثل لوحة الفنان التشكيلي تماما.
وكأن القصيدة عند الشاعر سيف الرحبي أنضجتها خرائب العالم وقسوته،وجنونه الفظيع،لتخرج من ينابيع النفس طازجة بطراوة جموح مخيلتها.
هو يكتب القصيدة/الصرخة،القصيدة/الإدانة،القصيدة/الفضح.صرخة تُدين وتفضح ممارسات وسلوكات عالم بلا قلب ولا ضمير،ويحتكم لنرجستيه المريضة،ونزعته التوسعية البشعة التي تستلذ الثراء والرفاهية ولو حولت العالم جماجم وخرائب وأطلال.
1- رولان بارط،لذة النص،ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان،دار توبقال للنشر،الدارالبيضاء،ط1، 1988،ص.33.
2- سيف الرحبي،حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة،كتاب دبي الثقافية،ط1،نوفمبر،2009،ص.11.
3-سيف الرحبي،م.س،ص.ص.23.24.
4-سيف الرحبي،م.س،ص.ص.13.14.
5- إدريس بلمليح،القراءة التفاعلية،بلاغة الصدمة عند سيف الرحبي،منشورات دار توبقال ،الدارالبيضاء،ط1، 2000،ص.82.
6- حوار مع الشاعر الراحل سركون بولص،أجراه حسن نجمي،موقع مجلة كيكا الإكترونية،12 فبراير 2010.
7- سيف الرحبي،حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة،ص.ص.65.66.
8- سيف الرحبي،م.س،ص.62.
9- سيف الرحبي،م.س،ص.16.
10- JEAN BURGOS, POUR UNE POETIQUE DE L IMAGINAIRE, ED.du seuil, paris, 1982,. P,P.9.10.
 
* شاعر وناقد من المغرب
عضو اتحاد كتاب المغرب
Demnati_ahmed@yahoo.fr
وللتواصل البريدي العادي لجميع المراسلات
شارع علال بن عبد الله
زنقة أبي علي اليوسي رقم 20
العرائش،الرمز البريدي 92000 المغرب
AHMED DEMNATI
Avenue allal bni abdellah
Rue abi ali el youssi no 20
Larache 92000 Maroc
 
1
– شاعر وناقد من المغرب –