إلى الجبال الصماء
وتلك المرأة الزائغة بالغياب مثل صحراء
كتبت هذه النصوص بين 1990 و1992 في لاهاي بهولندا ومسقط بعُمان وبينهما
رجل من الربع الخالي
عروق الشّيبه(*)
هكذا يسميها البدو، ذئاب الصحراء الذين ما زالت بقاياهم تجتاز العصور الضوئية فوق رمالها.. وهكذا يسميها بعدهم، الرحالة القليلون الذين قذفت بهم المغامرة إلى مرابض هذا الوحش العتيد، مركز غضبٍ سحيقٍ في هذا المدى المترامي للسراب والبروق المراوغة، ومنعقد لواء العواصف لحظة هيجان الصحراء الصحراء… ويمكنك أن تشاهد على مقربة من حطام الشهب، وهياكل العربات والفرائس، التحولات الرهيبة للرمال وهي تبتلع قطعان الجمال، وتحولات الجن وهذيانات السحرة…
وعلى ضفاف النجم الأول الذي كان يسري الأجداد على هديه، قبائل وأفخاذاً وحمولات، ضاع دليل القافلة، وشوهد صريعاً قرب جثة نسر…
هكذا وسط هذا العالم، وبين كثبان هاوياته المطلة على سماء مقفرةٍ، بكماء، تقيم الحياة قسمتها الأخيرة وتستمر شتاءات الجراد في التفقيس والانتشار والهلاك…
(*) من أوعر مناطق الربع الخالي وأخطرها
أودية وشعاب
بين ليلة وضحاها
اكتشفت أنني ما زلت أمشي
ألهث على رجلين غارقتين في النوم
لا بريق مدينة يلوحُ
ولا سراب استراحة.
على رجلين ثاويتين في النوم
أنا الذي ظن بأنه وصل
وعند أول مدخل
تنفست رائحة قهوةٍ ونباح كلاب
فكومت جسدي
كحشد من المتعبين والجرحى
لكني عرفتُ أن الضوء الشاحب
يتسلل من رسغي
خيط دمٍ يصلُ الشعاب بوديانها الأولى…
الليلة الأخيرة
في الليلة الأخيرة التي تشبهُ قلبا
ينفجرُ على منعطفٍ
في هذه الليلة
أصغي بين أضلعي، لزئير الأجداد
ذاهبين الى الحرب
مقتفين أثر الكلاب المندفعة كمبضع ينتهك صدر الصحراء
لخيولهم تحملُ جثث الأعداء عبر المفازة
لِلَمعانِ الأجنة والبطون المبقورة
لجلبةٍ تحملُ الأفق ذريعةً للحكاية
لأولئك القادمين من أغوار السنين
بحثاً عن مكانٍ بين أضلعي والمسافة…
في هذه الليلة أبتكرُ حرباً أخرى
وأمضي.
صباح
الفجرُ يتفاقم ظلهُ أمام العتبة
والطيور تأوي إلى أمكنةٍ غريبة
لقد ساقها الذعرُ إلى الثكنات
فلا تسمعُ إلا ارتطام أجنحةٍ بأخرى
كمهاجرين فروا من مذبحة.
كان صباحاً معتماً منذُ البداية.
مطارح
في الليل… في الليل غالباً
أقتفي أثر البُداة
بكلابهم النابحة على الحافة
ومواقدهم المرشوشة بالريبة.
في جوف هذا الليل الموغل
في القدم
أقتفي أثرهم
لا أتبين الضوء إلا على رؤوس أصابعي
هناك في الجروف البعيدة.
محدقاً في الحشد الهائج
بثغاء أغنامه وتجاعيد نسوره
راحلين نحو القرى المتاخمة لخط الأفق
ساحبين وراءهم تيه الجبال
وهاوياتٍ لا قعر لها.
راحلين دائماً…
وحدها ذئابُ الصُّدْفة تعرف
مطارحهم في المرة القادمة.
ذكرى الحاضر
وحيداً، وخلف الجبال البعيدة في الذكرى
… سادراً ارقبُ المغيب
هذا الدم المنساب على أجنحة طائر
ثعباناً يفترس النهار بعينيه الدامعتين بالسواد
وخلف الأكمة يلعبُ النمرُ مع صغاره، مُضيئاً
طلائع هذا الليل القادم
بمخالب أكثر حناناً من جسد امرأة.
وحيداً من غير أمل
ومن غير رغبة.
هكذا… هكذا
حتى أختفي مع سكان مدينة
غرقت في البحر
أو أختفي في كأس.
أصدقاء
جاءوا من وحشة
الطريق
ملتفين بمعاطف، زنّارها
خريفُ ينابيع.
ينهبون الليل والأحلام
بجراحهم
ولا يَصلِون.
أصدقاء
يحجزون المقاعد في الصباح
كي نشرب القهوة وندخن
لا يكادُ يسطعُ الكلام من أفواههم
إلا وتمتلئ الطاولاتُ
بالغياب.
أصدقاء
يستنطقون العربات المارة
بوجوههم التي تشبهُ جزُراً
تهذي في أحشاء محيطٍ
يستنطقون العربات والنيازك،
أقدامُهم تمخر الشوارع، حاملين
الفصول في جيوبهم وبقايا نبيذٍ
من سهرة البارحة، حاملين
الخصومات والدم المتدفق
من شريان يمامةٍ، ذكريات
الحروب والمنافي التي لا حصر لها
حالمين بأمجادٍ وصياحاتٍ قادمة.
حكاية قديمة
بين النوم واليقظة
بين الصحو والمطر
كان يمضي حمارُ جارنا القديم
الذي أتذكرهُ الآن تحت شجرة التين
عائداً من أسفاره السعيدة
بين البندر والقرية
كان يمضي القيلولة تحت الشجرة المثقلة
بالظهيرة والعصافير
ناعساً وعلى رأسه تاجٌ من الذباب
لا يتذكر شيئاً
لكنه يسرحُ أحياناً فيرفسُ الجذع
برجلين معروقتين بالألم
وفي المساء يمضي لجلب الزرع من الحقول
المبعثرة كدموعٍ خضراء سكبتها الآلهة.
في الرواح والمجيء يرسل نهيقه العالي كصراخ أضاعته
السلالة بين الأحراش، فتشرئبُ أعناق الحمير.
مرحاً
مختالاً كطائر كركي بين إناثه
وفي الليل حين يأوي الى شجرته التي
تلمعُ فيها عيونُ الديكة حالمةً بمقدم
الثعالب، يكونُ قد غادر موقعهُ إلى
ديارٍ بعيدةٍ يخوض فيها سهوباً وأودية
بحمله الثقيل وربما حَلَمَ بأنثى لم يطأها
حمارٌ قبله….
بالأمس رأيتُ حماراً هرما تحت شجرة
عتيقة.
ليل
إلى امرئ القيس
ليل لا يمكنك أن تقطعهُ بمنشار
أو تعتقلهُ في كأسٍ
ليل ثعلبي المزاج
أحيانا يشبهُ مهرَّجاً في ساحةٍ عامةٍ
وينزلقُ أملساً كفراء العروس
ليل العرّافات وسائقي الشاحنات
لم يرخ سدولهُ بعدُ
لكنه اوعز إلى مخلوقاته بالنميمة.
الغرباءُ يُطلون من شرفاتهم أمام البحر
والسفن غارت في ذاكرة البحارة.
ليل غير قابلٍ للاندحار
على شواطئه تلملمُ الصرخةُ
أشلاءها من فم الغريق
ليل وعرٌ
وقد أرخى سدولهُ على عُنُق العالم.
الغريب
هذا الكائن الذي يجرفنا نحو أقاصيه
يتكورُ على الطاولة وفوق السرير
ركام وجوهٍ وأماكن
يستقصي تخوم أيامه
هضبةً بعد هضبة
برجاً، قرية مهجورةً، مدينةً أكلتها الحرب
يقضمُ تفاحة
ويدخن، متذكراً:
مقبرة أجداد
أسمال أمه النائمة بين الكثبان
الزجاجةَ التي خطفتها الأيدي
قبل أن يرتشف قعرها
وينام.
الريح تصفر في الخارج مثل ذئب
(لقد رأى قطيع ذئاب في
طفولته).
الغريبُ يتكومُ على طاولته
رُكام وجوه ومصائر
يحاولُ أن يكتب،
يكتب عن ماذا؟
يا روح العربات المجنحة
يا روح الأمطار ومواكب الفجر
روح غريبٍ يبكي في أول الطريق.
فانوس
جرح النافذة الذي اراهُ كل يوم
يُضيءُ الليل
وكأنما فانوسُ يضيءُ الأعماق السحيقة
للجرح البشري.
لعب
لم نكُن جبناء ولا أبطالا
كنا أنفسنا
نلعبُ النرد مع النيازك
وأحياناً نُصغي لنقيق الضفدع
في ليلٍ تحتضرُ بقاياه.
أرخبيل الغرقى
يتغذى من حقد الأعاصير
دمهُ منشفةُ المسافة
والأقدام التي حشدت ليلها
في عينيه، تئنُّ
مثل ارخبيلٍ من الغرقى
مثل عاصفةٍ من غير اتجاه.
أي فأسٍ فصلت السماء
عن الحقيقة؟
حقيبة
رجل يسكنُ في حقيبة
رجلاهُ مفارقُ الطرقات
في كل مفرقٍ سماء مكفهرة.
ذات مرة رأى نعاجاً في الأفق
فتذكر جدهُ
أوقد شمعةً في كهف
ظل يطوف حولها
قرناً بعد قرنٍ
حتى تصدع ظلُه
وفاضت أيامه بالدمع.
ضواري
على امتداد هذه الظُلمة المستبدة
ألمحُ شبح أيامي متفقداً ضحاياه
تتقدمُهُ فرقةٌ من المجاذيب ومشردي الحروب
ألمح الساعة المعلقة على الجدار وقد فرغت من دقائقها
وجفت من النبض.
عيونٌ جاحظةٌ في الشرفة وخزانة الملابس
والستائرُ تهتزُ بفعل ريحٍ مجهولة،
وإذ أعبرُ بأرجلٍ مثقلة بالنوم وصخب الضواري
وفحيحها، أتعثرُ بأحشاء تمساحٍ يشبهُ خريطة
مدينةٍ لم أرها قبل اليوم.
الشرق
بداية كل يومٍ
وأنا أقتلعُ خطواتي الأولى
نحو الغابة،
ينبلجُ الشرقُ في دمي
شمساً غريبةً
فأرى خيولاً تندفع
وتلامسُ أعرافها السماء.
في ضوء هذا الفجر الأصم
في ضوء الفجر، في ضوء الفجر الجميل
في ضوء هذا الفجر الأصم الذي لا يسمع ندائي
في ضوء السماء التي تمرحُ القطايا في شغافها
في انسلال الجناح المغتبط بطيرانه
فوق الجبال
في شروق العاصفة وهي تحملُ حقل أبي
إلى بلدٍ آخر
في هذا الضوء الشامخ
أكد لي الموتُ جلّ مواهبه الفريدة.
سماء خاصة
هذا النسرُ الذي يعيدُ تشكيل السماء
وفق مزاجه الخاص، يهبطُ أحياناً ليرى
إبداع لوحته التي رسمها بعيداً عن الله…
هذا النسرُ ذو المنقار الذي يحملُ
العواصف كالأرانب يترنحُ من فرط النشوة
والذكرى:
نبعٌ حط عليه مع أنثاه
سهوب وأوديةٌ قطعها مع صديقٍ قديم
ذرى الهملايا
والجبلُ الأخضر…
كبشُ السماء الهائجُ يتذكر أيضا مجد حُروبه الشخصية
والسُلالة التي أوشكت على الانقراض،
حالماً بنُسورٍ تملأ فضاء وحدته.
مكيف هواء
يتنفسُ بصعوبة
بصعوبةٍ أكثر من اللازم
وكأنما كائنٌ بشريٌ ينتزعُ من حلقه
عظمةً قذفها بركان
ومن خياشيمه التكنولوجية،
يبصقُ الهواء المُر على جسدٍ أكثر مرارة
من بلدةٍ مهجورة.
وفي تلك الغرفة الصغيرة
يبدأ الصدقاء في المجيء،
هاربين من جبروت الظهيرة.
يلطفُ الهواءُ قليلاً
يسرحُ النعاسُ قليلاً
ونغرقُ جميعاً في البئر الذي حفره الأجداد
لنستقبل مساء آخر.
هنود في ضوء الفجر
هذه اللحظة الملمومة على بعضها
كأجزاء جثةٍ أدركها التفسخُ
لا ألمحُ طلعة الصباح كالعادة
(لقد تأخر)
أمام النافذة يتدفقُ الهنود
حاملين نعش بوذا
مضمخاً بمياه الغانج
منتظرين مثلي نهاراً آخر
لكن بطمأنينةٍ وموتٍ مقدس.
الهنودُ القادمون من غير ظلالٍ ولا وجوه
غرباءُ المكان
ألم البحث عن اللقمة والأغنية.
بعد قليلٍ يرتاحون من الجنازة
في المطعم المجاور، حيث تتلوى
راقصةُ تطعمُ نهديها لعشيقٍ خيالي
ويحلمون حتى النهاية.
أمام النافذة
مأخوذاً بجلبة الشارع
بنداء الباعة وصراخ الشحاذين
والبكاء المر لسكارى منتصف الليل.
الحوذيُّ يجر عربته أمام الغيم
والجزار يفقأ عين الضحية،
بسكين يبزغُ من يده ملتهما
مسافة المكان بين غرفتي وعنق
الخراف.
كذلك الرعودُ وهي تنقر نافذة
بيتي ليل نهار مثل طيور الوادي
مبشرةً بمقدم ضيف
ربما لن أراهُ بعد اليوم.
فراق
نحاولُ أن ننسى
ماذا نُحاول أن ننسى؟
الخنجرُ المسموم أنجز مهمته بضراوة
والمرأة التي عرضت ساعة الفراق بفوديها
كنهرين صغيرين، اختفت في الظلمة
حيث كان كلبٌ يعوي
حيث قطارٌ يلتهم الريح
ولم اعد أرى في معترك أيامي
عدا شبح قُرصانٍ يفترس أضلاعه
في كوخ.
قبر هنري باربوس
أغْلِقُ الباب وأنظرُ من ثقب
عاصفةٍ
إلى الحشد البشري
وأعرفُ، بعد قليلٍ… ستنتقل المذبحة
بتفاصيلها
إلى قلبي.
الفنان
أبداً
تولدُ أعمالك ناقصة
ولا تكتملُ إلا في جنون موجٍ تائه
أو في رأس
هشمتهُ
الحروب.
مدن الملح
بعينٍ مجهدةٍ بالسهاد
ويقين ملتبسٍ حتى النهاية
يحدقُ الرّاوي في شخوصه التي تملأ
الغرفة بالضجيج
ويحدقُ في طبقات التاريخ.
في خضم ممالكه البهيجة
يترسمُ الهولُ قادماً من جهاتٍ معلومة.
ناحتاً للصحراء أحوالها المريرة التي
تبدأ من تحديقة ذئبٍ حتى
آخر المخترعات.
وحين نقتربُ قليلاً من بخت السلالات،
نرى القوافل والفرسان تتبعُنا
بحنينها المخنوق إلى: وادي العيون
ونرى الهذّال(*) دمعةً مفتونةً بالأفق.
(*) الهذّال: بطلُ رواية عبدالرحمن منيف مُدن الملح.
الاسم القديم
والآن
اقفُ فوق أقصى مراحل النسيان
حيث الجبلُ والذئبُ ينتحبان بأفظع الذكريات
والأغاني تصعدُ من أفواه بنات آوى
مطرزة بالنجوم
وجدتُ أفقاً يعيدُ إليّ اسمي القديم
ملفعاً بوجوهٍ غائبة
وأخرى ستعيب
وجدتُ دمعة تستفز المارة
من فوق شاحنة،
لقد ذرفها فلاحٌ في الأزمنة البعيدة،
ولا أحد يعبرُ في هذه الليلة الملأى
بالمسافرين.
محجرُ الألم
طاحونة الأيام.
___________________________
فَيْض الصحراء
___________________________
فَيْض الصحراء
عجائزُ الطرقات
يستجدون بسمة عابر
في وجوههم مرايانا
وفي حدبة العمر
أيامهم معلقةٌ في ذكرى
كسنامٍ يواجهُ فيض الصحراء
في العربات وعلى المصاطب والممرّات
يتجمعون
تتبعُهم بروقٌ مخمدةٌ وعواءٌ مسحوق…
طيور هيتشكوك
الأبواب تصرُ على الحركة
مقابضها وأطرافها تفيضُ في أعماقي
كما لو أن الزوابع، وجبتها اليومية، أفسحت
المجال للطيور التي ستفترس السيدة
بقلب باردٍ
وكان بين هذه الأبواب والأشجار
في الخارج
همهمةُ سماء توشك على الانتقام.
الطيور تسترخي
عيونها تفْترُّ عن غضبٍ يلجمُ الهواء عن مسيرته.
وبكسلٍ حالمٍ، أحياناً، يجعل منهن
شقيقات الغيب.
غرف مهجورة
الحسرةُ التي نذرفها على أطفالنا القادمين
تشبه الغرف التي أثثناها قبل قليل
ورحلنا
تاركين السجائر فوق منضدة الكتب
والريحُ تعصفُ بالجنبات، حاملةً
إرث النوم، ومياهه التي تغرقُ
فيها حيواناتُ ما قبل التاريخ…
الراحلون
الذين يرحلون دائماً
تاركيننا لوحشة الجدار
لمصير شاهدةٍ على قبر.
القدمُ الهاذيةُ تنزلقُ في مساء أخير.
الذين كانوا
كنتم تمُرون على أيامنا
وتلامسون الزهر
ذلك الندى في الكلام
وتلك الأغاني
كنتم ذكرى قيامةٍ للفرح
وآفاقاً تستحضرُ قتلاها
كلما جُن الليلُ
كنتم ساعد الجسارة الأيمن
وطيور الرغبة حين تنحدرُ صباحاً نحو السفح
وكنتمُ قبل قليلٍ:
((بُناة العُزلة)).
لن تُقرع الأجراس
لم تهدأ العاصفة، هذه الليلة
أمام بابي
جيوشها الخمسة أصفقت باب الجهات.
في الضوء الشاحب للكنائس
ألمحُ الرهبان يجرون العربات
هاربين نحو الجبال
بخيولٍ مطهمةٍ في الريح
كأنما في العهد البيزنطي.
في هذا الليل الضارب في القدم
لن تقرع الأجراسُ بعد اليوم
لن تهدأ العاصفة.
مطرقة تغور في منجم الذهب
لم تكوني كاهنة العصور ولا امرأة الغيب
حين التقى ظلاّنا فوق جذْع الشجرة
في الغابة التي يتصادمُ فيها الغرباء
كنت امرأة بملابس خفيفةٍ
أمشي بمحاذاتك
في الطرق الأكثر وعورة للصمت
رجل وامرأة نحتا ظليهما في حائط.
ومثلما تلملمُ روح أعضائها في غبش الفجر
لامس كتفي كتفك
أمام البائع المتجول، تحت شمسه النحيلة،
نقتفي أثر الحُواة والعابرين
نفترق ونلتقي
كل يومٍ على هذه الحال
تحت القبة الهائلة للصدفة،
غريبان في غابة
يلامس ظلهُما ظلا ثالثاً
وتدور الغابة تحت شمس الحائط
حيث الفمان فم واحدٌ
واليدان طير استغاثة:
لم تكن ذكرى قُبلة صيف
كانت مطرقة تغورُ في منجم الذهب
مرتشفة لعابهُ المتأجج في الأعماق.
إلى تلك المرأة
ها أنا أيتها المرأة
في البلاد التي كنا فيها
قبل أطيافٍ وسنوات
أفتشُ عن عُنوانك
في جروف الأسماء والتواريخ
بالمُفكرة المليئة بالقهوة والنبيذ
ومقهى المحطة القديمة التي يعلوها الدخان
حيث تتقاطعُ طرقُ الشمال والجنوب بكراهية
والقطاراتُ تسرحُ في خيال النائم كالذئاب
بين أناسٍ عيونهم تجيشُ مخالب ضدّي
كأنما ذبَحْتُ سلالتهم بالأمس
أو سقتهم إلى أفران السلق بالأسيد.
الليلُ يزحفُ من وراء الزجاج
والمطرُ لا ينقطع
لقد سبقهُ مغيبٌ قاتمٌ
بمديةٍ طويلةٍ،
وبيتٌ مهجورٌ.
الافلاسُ طيري الأليف
ربيتهُ بحنان المحبين
فقادني بين المدُن بمعرفةٍ خاصة.
هل أنتظرُ هُنا، في المكان نفسه
حتى تبزغ شمسٌ من رأسي
تتسلقُ جبالاً وهضاباً
عبرناها ذات طفولةٍ بعيدة…
سُليمة الأزدي(*)
السهامُ التي انطلقت في بطن ذلك القفر المعتم،
الغليظ العتمة، من قوس سُليمة الأزدي
باتجاه والده مالكٍ
وباتجاه مُقلة التاريخ
ليستْ سهام غدرٍ وخيانة
بل سهامُ محبة
في ذلك الليل القصيّ من شبه الجزيرة…
رغيانُ جمالٍ وهديرُ بحار
مواقدُ تسفوها الرياحُ بشدة
كان هُناك الأعداءُ المدحورون
وكانت السهامُ التي تستعدُ للانطلاق
نحو القلب.
(*) هو سُليمة ابن ملك عُمان، مالك بن فهم الأزدي، الذي جاء مع قبائل الأزد من اليمن بعد خراب سد مأرب وحكم عُمان بعد طرد الغزاة الفرس عنها وحكم بعض أبنائه الأنبار والحيرة.
تقول الرواية إن ابنه سليمة كان في نوبة حراسته ذات ليلة إذ سمع صوتاً من مكان ما، سدد إثره السهم فأخرسه فإذا بمصدر الصوت والده مالك بن فهم الذي عبر عن هذه المفارقة المأساوية لحظة احتضاره، بقصيدته المعروفة التي يقول فيها:
أعلمهُ الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني
رائحة
رائحة الفريسةِ
في حلْقي
رُغم الجو وصحوه الغزير.
بركة المآتم والأصياف
عظامُ سهرة البارحة
أتلمظُها الآن مثل جيفة.
بركاتُ سر المأتم
خاصة، طبخهُ اللذيذ.
الصيفُ الذي يوشكُ
أن يغادرنا، يشبهُ
ذلك الطائر الذي
بُتر رأسه على حافة صخرة.
الفراقُ الذي خبرناه في الحب
فراق أعداءٍ ومتحاربين.
رضيت بالوحدة كقدرٍ
وتآلفت مع قدري.
كل يومٍ نتبارى في الحديقة
لاحراز النصر
((خلقتُ ألوفا)).
مقاطع(1)
1
تتسلل الحياةُ من يدي، خلسة، بعد أن
أمسكت بها
أحدقُ فيها، وعلاً أدركه هياجُ القناص،
فأنثني على عقب مسائي نحو كأسي
الأولى، لأطاردها فيما يشبهُ
بداية ميلاد مجرةٍ في الرأس.
2
أحتمي بنخيل الماضي
أتسللُ إلى أحلام نائميه
على السُفوح المغميّ عليها بالشمس والنسيم
أتفقدُ رعايا ذاكرتي
كقائدٍ يتفقدُ جيشه الهارب من مذبحة.
3
للنجوم مصلاها كما للمصلين، صفوفا،
كنا نراها في محرابها الوضيء، وكانت
الشهّبُ تغورُ في أحداقنا، مسلاتٍ
من الضوء المسافر
ولم نكن نعرفُ معنى الأبدية.
FF “>&nbsass=”MsoNormal” dir=”rtl” align=”justify”>
4
مفتاحُ الهاوية كأسٌ:
تلكم حياتنا التي نسرقُها من فم الذئاب.
5
عراقيٌ ينحني ليلتقط تمرة
في مهب المنفى
ويتذكرُ تمر العراق.
6
العيون التي توقظنا حدقاتُها في الليل
وتتركنا أرقى
هي عيونُ الأحبة الغائبين.
7
إسطبلات خيل المقدوني
مهاميزُ الشيطان
عكاكيز الوراثة
قوس قزحٍ مزمنٌ أمام نافذتي.
8
هناك في الخرائب الأنيقة
تضع البومة بيضها
وتنامُ على أحلام خرائب أخرى.
9
لسنا أغبياء ولسنا حمائم حرب
سنحرثُ هذا الجرح حتى آخر دمعةٍ في الأفق.
10
على الهضاب وفوق سعف النخيل
كانوا يُعلقون قناديلهمُ المرتجفة
بينما الريحُ الحدريةُ تجرفُنا
من غير انقطاع.
11
يصطادون الحمام في هدأته
من غارٍ إلى غار
وجوهُهُم التي دبغتها الشمس
وأحلامهم التي تخاتلُ البراكين.
12
السماء تكادُ أن تنفجر مثل ممخاض،
رعودٌ وصواعقٌ برد
لكنها لا تضيء.
13
الماضي أمامنا، جزُراً قطبية
يذوبُ فيها الجليدُ بالأقساط.
14
أوقفوا دُموع هذا الطفل
فقد أمتلأت كؤوسُ البيرة
وخزائنُ المياه
بالدّم.
15
لا ندين لأحدٍ، عدا أرجلنا الثكلى،
بالمسافات.
16
يد رحيمة تمتدُ بأبوة
وتأخذنا إليها
بينما الأرزاء تتنزه على الرصيف.
17
شاهدت بكاء النيازك
في حقل أبي
طوفانُ غيومٍ وإغماء مدارات.
18
شجرة الفرصاد الأولى، في قعرِ دارنا
أتذكرها الآن
سماءُ عصافير يجفلُ فيها الغيم
مراصدُ الصبية في مضارب الظلّ
وهناك أيضاً ضفدع السواقي
وزعيقُ الحطابين
حين تحفرُ الظهيرةُ مأتمها في الصخر.
مقاطع (2)
1
أولادُ آدم، وقبله إبليس:
الاثنان ولدا من طوفانِ خطيئة.
2
لم أسمع هذا اليوم شيئاً
عن أخبار نفسي.
3
لست متشائماً ولستُ متفائلاً
لكني أحسُ ألماً في أسناني
ألماً لا يطاق.
4
رجل مبصر يقودُ قطيعه
نحو المتاهة.
5
التبولُ عادةُ الجميع.
6
الأعداء، أولئك الذين يقفزون
كالأرانب بين الحقائق
ودائماً آذانهم مثلها لاستراق السمع.
7
آهٍ، الألم يشمرُ ساعده
أمام النبع.
8
البحر أعاق الحيتان بشراهته
ولم تعد قادرة على الحركة
لأجيال أخرى.
9
طائرةٌ تعومُ في الفضاء الموحش
وبينما الرجلُ في زنزانته الأرضية
كان عائماًُ في أضوائها
مطلقاً سراح أحلامه بين الكواكب
وفي نفس المشهد
كان أعرابي يجلدُ حماراً في رابية.
10
سنرتبُ أفكار أعدائنا كما ينبغي.
11
النائحات في خضم الجنازة
غداً يزغردن في عرس القاتل
بدراهم معدودة.
12
نشعر بالاثم من أخطاءٍ لم نرتكبها.
13
المرأة التي تخبُّ أمامنا
حاملة ورداً ولعابا
حملت حتفها قبل قرن.
14
لم أكن أعرف أني ذاهب إلى
الحياة
تأكدتُ من ذلك بعد الحرب
مباشرة.
15
يقول العلماء: تملكُ الشمسُ كمياتٍ من
الغاز الهيدروجيني يكفيها كي تعيش متلألئة
عشرة مليارات أخرى من السنين…
كم يلزم الإنسان من المليارات
كي يغسل تاريخه من الوحل؟
16
ليست الشاهدةُ علامة قبر:
إنها الرغبةُ وقد سحبت شعرها
بانتظار قفزة في المحيط.
17
الأديبة اليانعةُ في المقهى الباريسي
حين سمعت الكلام عن المجزرة
في بلادها
والكلابُ المتوحشة
رددتْ، بدلال:
((يا حرام… يا حرام))
18
لم يبق شيء على قدميه
عدا وعلٍ جريح
في غابةٍ محترقة.
19
استمعوا إلى نصيحة الذئب
قبل فوات الأوان.
شامة
عبر المغيبُ الأولُ
عبر أوديةً تنهارُ السماءُ في شعابها
عبر الصحراء بأقفالها الأربعة
والقرى المعلقة في الجبال
شامة بين نهديها
تلك المرأة
المرأة الأولى بأحداقها الوثنية.
طفولة
لا نستطيعُ أن نفك شباكنا
من براثن الجوارح
لا نستطيعُ الذهاب أبعد من ربقة المضيق
سارحين بعذوبةٍ في مهب المقيل
آكلين السمك الذي ادخرهُ أهلنا
للصيف
وبشيء من المواربة كان القمرُ يسطعُ فوق
نُوام السطوح
إكليل شجر وطلاسم
ولا شيء يفصلُ بين أجسادنا
وطيور الأبدية.
دوخة الألم
تعودُ الدوخةُ بكامل وعيها
هذه الليلة
جارفة كل شيء في طريقها
حتى ضوء النافذة الشحيح
ببسالةٍ يحدُها عليها الأعداء
تربط رأس الضحية بشاهدة قبر
أو عمود سفينةٍ تغرق…
الشقيقةُ الكبرى للخرائب
تأتي دائماً من جهة الجبال وحوافَّها
لتطوّح بي نحو سهوبٍ بعيدة
حتى على الذاكرة.
ما من بلد قصدنا
ما من امرأةٍ أحببناها
إلا وسبقنا إليها الأعداء
من من بلد قصدنا
إلا وهد أركانه الحريق
ما من جرحٍ ضمدناه بعيوننا
إلا وانفتح على مصراعيه
ما من حلبةٍ
ما من طفل ولدناه تحت حوافر الخيل
(أي خيل؟)
ما من أفقٍ، أو ذاكرة تفكك أزرارها
في بهوه.
ما من طفولة ولو كانت بعيدة مثل زحل
ما من أسدٍ، لقد غادر بعرينه مع الفجر
والجبال غارت مواقعها الأزلية
لا أسمع نعيق الغربان على شجر الأراك
والعقبانُ شنقتها القمم
ما من أصداء
ولا من يحزنون