بداهة إن السلطنة لا تنقصها المؤسسات الثقافية فهي ربما أكثر مما يلزم، لكن ما ينقص هو تفعيل هذه المؤسسات وادارتها وتوليدها للنشاطات الثقافية والابداعية في مختلف مناحيها وتجلياتها بشكل صحيح.
وهذا لا يتأتى الا إذا وضعت المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي في أيد مناسبة تشكل الثقافة هما أساسيا لوجودها وهاجسا وطنيا للبناء المدني والمعرفي المتعدد، فلا يمكن لمؤسسة ثقافية مهما كانت قدراتها المادية ان تكون فاعلة في العمق وهي تدار ويقرر مصيرها وخططها موظفون لا علاقة لهم بالحقل المعرفي والثقافي ومتطلباته الكثيرة، حيث ان أصحاب الشأن مبتعدون أو مغيبون، مثلها في هذا السياق مثل المؤسسات الأخرى التي لا يمكنها أن تكون منتجة إلا إذا وضعت في أيدي أولي الاختصاص وفي اطارهم.
والشأن الثقافي مدعو أكثر من غيره من مناحي المجتمع المدني وآلياته الى اشاعة جو من الديمقراطية الثقافية التي لا تقوم بإقصاء وجهات النظر المختلفة وان يشمل مفهوم التعدد جميع وجهاته وان يكون مرآة حضارية لتموجات المجتمع التي تستوعب صيرورته وتطوره والا فالوقوع في الوجهة الاحادية التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يطالها الباطل والشك وتقوم بإلغاء الآخر ومحاولة اقصائه وسحقه.
وهذه الوجهة الرائجة في المناخ العربي بالضرورة ستقع في الفشل الحتمي وشل حيوية النشاط الثقافي حتى ولو كان مثقفون وكتاب قوام المؤسسة الثقافية ودعامتها ولا تعدم تجارب مماثلة في بلدان عربية مختلفة دمر فيها الوضع الثقافي والنتاج المعرفي رغم ما تملك من تاريخ وتراكم في هذا المجال، أما عبر موظفين بيروقراطيين جهلة بالشأن الثقافي وأما على ايدي (مثقفين) كتبة وحزبيين وايديولوجيين متطرفين ضد كل ما لا يخدم مصالحهم الشخصية والشللية والطائفية.
وعبر هذا المسار التدميري لأي ثقافة على الأرض تحولت الثقافة الى موات وانقاض ومطية يسومها كل سائم وابتعد المثقفون والكتاب الحقيقيون الى العزلة والكتابة عبر تخومها المضنية بعيدا عن استقطاب السائد وبعيدا عن هذا النوع من الهيمنة الثقافية المقيتة.
نحن في عُمان ما أحوج أن نستفيد من هذه التجارب البليغة ونحاول عبر نقاش حقيقي موضوعي بعيدا عن الانتفاخ الذاتي والورم النرجسي، الذي لابد انه صادر من نفوس بلغ بها السقم والمجانية مبلغه، وبعيدا عن النزعات المنفعية، ان نحاول مؤسسات وأفراداً وضع الأمور في سياقها ونصلح ما تفشى من ممارسات وتصورات خاطئة في المجال الثقافي. ان تكون منابر الثقافة والفنون متاحة لكل المبدعين والمهتمين وكل من يندرج ضمن شروط الحقل المعرفي والابداعي من غير تمييز ولا اقصاء بسبب اختلاف رأي او طريقة تعبير وان تكون المؤسسات الثقافية القائمة أو تلك المزمع قيامها التي ننتظر منها دورا أكثر حيوية وحسما وأكثر استفادة من الأخطاء السابقة، ان تكون في مسارها الصحيح والا وقعت فريسة لقصر النظر والعمى الثقافي.
رغم أننا نسمع لغطا كثيرا وكلاما، من المؤسف أنه لا يرقى إلى مستوى السجّال المطلوب بقدر ما يقتصر على الاتهامات وإطلاق الأحكام القدْحيّة على عواهنها من غير أبسط مسؤولية معرفيّة، إن وُجدت، أو أخلاقيّة. هذه المسألة صفة جامعة لأطراف كثيرة، ربما متناقضة في وجهاتها. من هنا لم يشهد الوضع الثقافي في عُمان، أي جَدَل حقيقي مهما كانت نبرته، يثري هذا الوضع ويكسبه صفة البحث عن أفق أبعد من السطح الموّار بالادعاءات والتهم، خاصة تلك التي يقذفها النزوع العقائدي الضيّق. بعض الإخوة الأكاديمييّن وغيرهم، القادمين من مناطق عربيّة أخرى، بدَل، أن يساعدوا في خلق ودفع السجّال الثقافي إلى مواقع متقدمة، كونهم أتوا من بيئات وأجواء ثقافية أكثر تطوراً وتعدداً، نجدهم ومنذ السبعينيات، يفضّلون المضي بوعي أو نقيضه مع الخطاب الذي يظنّون انه أكثر هيمنة وقبولاً لدى المزاج السائد. فإذا كان المتطلّب السائد حسب ظنّهم، الإنتصار والدعاية لتصورات وأفكار تقليديّة عفا عليها الزمن في الشعر والمعرفة، فهم كذلك حتى آخر الشوط وأرذله تملّقاً وإرضاء، متجاهلين المعطى الثقافي المتسّم بأكثر من بعد وصفة.
كذلك كنا مضطرين أحياناً لخوض نقاش حول بديهيّات في الفكر واللغة، لندفع عن أنفسنا شبهة المروق ومحاولة «تخريب« اللغة ونقاء استخدامها القاموسيّ الجامد. وغالباً ما نلتزم الصمت والترفع أمام جدلٍ عقيم لا يحمل أي هم معرفي وإنساني.
أشرت آنفا الى كثرة المؤسسات أو الاطر الثقافية في السلطنة لكن مع غياب ملحوظ للمضمون الحقيقي أو الدور الذي يجب القيام به وما يتناسب مع الارث الابداعي الخلاق لأولئك الاسلاف الغابرين الذين لا تزال روحهم تسري في الحاضر صوب المستقبل ومن غير هذا الدور وهذه الفعالية المبدعة والمستجدة باستمرار تظل المؤسسات مباني وواجهات جميلة براقة للناظر من الخارج ويظل الاسلاف هادئين في اجداثهم نتذكرهم بين الحين والآخر ونتغنى بأمجادهم التليدة من غير ما عمل ونتاج يجعلهم سعداء في تلك الأجداث واحياء معاصرين بالمسعى الابداعي والنتاج المعرفي الذي ما زال ضحلاً وضئيلاً بشكل مخجل كماً ونوعاً في مرآة أولئك الأسلاف الذين من المفارقة أن يجري استعادتهم الإنشاديّة، بالمعنى السطحي الذي يتهمنا بمجافاتهم ومجافاة التاريخ والتراث المفهوم هنا بمعناه الفلكلوري وليس بالمعنى الإبداعي، والحراك المستمر للوعي والذاكرة والمخيّلة – في مرآة ابن دريد والفراهيدي، وأبومحمد الأزدي، وأبومسلم الرواحي والعوتبي وغيرهم الكثير الذين تركوا مئات الكتب التي تجسّد إرثا معرفياً كبيراً عمانياً وعربياً رغم شروط حياتهم القاسية تلك التي عاشوها في عُمان أو عبر تنقّلهم خارجها سعياً وراء ذهب المعرفة والعلم.
هناك أيضا نقص أساسي في المناخ الثقافي في عُمان نابع من ضعف المبادرات المفيدة فغياب دور النشر والتوزيع حتى بالمعنى التجاري عبر هذه السنين يغطي توزيعها في السلطنة والعالم العربي تشكل نقصا كبيرا ويدفع أصحاب الكتب والكتابة الى النشر خارج السلطنة ووجود مثل هذه الدور المختصة، وان تتبنى المؤسسة الرسمية طباعة وتوزيع النتاج الثقافي والفني في السلطنة أمر بالغ الأهمية، مع نقص أو بالأحرى غياب المبادرات الأهليّة والفرديّة القادرة والثريّة ماديّا، التي تعودت على الكسل والخمول والاتكال الكامل على مؤسسات الدولة. ولا تتردد في استغلال هذه المؤسسات من غير مقابل إيجابي يعود بالنفع على الثقافة والمجتمع، حتى أولئك الأثرياء الذين يدعون الثقافة ويتفاخرون بها كقناع ووجاهة- وليس هما صميمياً بالطبع- حدّ الذهاب الى كتابة شعر «صوفي« ووضع تصورات حول الصالح والطالح في «الأصالة والمعاصرة«. حتى هؤلاء يندرجون في السياق نفسه وبشكل أكثر زيفاً وتمويهاً ونفاقاً، هم الذين نزلت عليهم الثروة جاهزة، من غير جهد وعناء، عُرف ضرورتهما عبر تاريخ البشر، في تحقيق هكذا شروط ماديّة باذخة!
نقطة أخرى اساسية ضرورة وجود اطار يجمع شمل الكتاب والأدباء فجمعية أو ما شابهها يكون العمل الثقافي والاختلاف والاجتهاد تحت سقفها القانوني وفضائها الذي يتحول الى واجهة مضيئة في الثقافة العمانية في الداخل والخارج.
تلك الاشارات البديهية لكن في حالة غيابها تصبح ضرورة ملحة تتطلب التحقق وصولا الى ما هو أعمق وأبعد وهي (الاشارات) لا تدعي الاحاطة واليقين في شيء. فالمسألة برمتها موضوع نقاش وسجال، خاصة إذا أضيف إليها ما هو جوهري من عناصر التأسيس والتطوير لثقافة حقيقية بحجم البلاد الشاسع والطموح والتاريخ، فهذه الارضية أو هذا المناخ المحلوم به لا يتحقق إلا بالمبادرات الخلاقة لأصحاب الشأن الثقافي والكتابي بمختلف اتجاهاتهم وميولهم والا بقينا في اطار التجريد الفراغي والندب المستمر، أي بقينا في اطار السلب والفرجة والنقد اللامسؤول وهذه الأشياء أيضا مهنة الذين لا مهنة لهم حيث الاكتفاء بالتفرج على الأوضاع واحصاء أخطاء الآخرين وسلبياتهم التي هي بالضرورة من صلب أي مشروع بشري فالكمال لله وحده.