لا أحد ينكر أو يجادل في بداهة كون معهد العالم العربي في باريس مركز اضاءة ثقافي هام ونقطة التقاء بين ثقافات متعددة وبين حضارتين بالأخص حضارة تاريخية كبيرة تحلم بأفق آخر (العربية) وحضارة فرنسية، أوروبية قائمة. وهو الوحيد في حدود علمي، عالميا يشكل هذه الصفة الثقافية الالتقائية، ويمثل هذا الحجم والاتساع والامكانيات حتى موقعه الجغرافي من أجمل الاماكن في باريس وأوروبا.
لكن هذه البداهة مخترقة بتفاصيل كثيرة وبمنغصات وإشكالات أوضاع الداخل العربي ومعطياته السياسية والفكرية التي تتحكم بمسار الأمور هناك ثقافة وبشرا وحجرا وشجرا… الخ، والتي هي بالضرورة ضيقة الأفق ومحدودة ولا تعير أهمية حقيقية للثقافة والخلق الابداعي والروح بحكم طبيعة تلك المؤسسات والقائمين عليها بالطبع. فإذا كانت الرؤية العربية المؤسسية القاصرة تلقي بظلها القائم على شأن الدعم المادي للمعهد مما يجعل الطرف الفرنسي يمتعض لدرجة تحويل المعهد من صفته العربية الى شرق أوسطية أو غيرها، فإن هذه الرؤية أو الممارسة تلقي ظلا أكثر قتامة على طبيعة السلوك والممارسات الثقافية داخل المعهد، حيث يتحول من واحة للابداع والحرية والتعدد، مستفيدا من المناخ الديمقراطي الثقافي الواسع لفرنسا، إلى مرآة عاكسة بشكل يعمي البصر والبصيرة، للخلافات والتمزقات العربية وتتحول الثقافة في هذا الجو (يا للمفارقة) الى مطية للوضع السياسي ومعطياته التي ليست بحاجة الى تعليق. بدل أن تكون الثقافة والممارسة الابداعية الخلاقة هي الهاجس الصميمي، الاساسي متجاوزة ما عداه وما يعرقل مهمتها الانسانية والروحية.
هذا الظل القاتم، أيضا يلقي بجناحه على حضور الثقافة العربية بروافدها وأجزائها المختلفة، بحيث من الممكن استعادة المقولة التقليدية التي لم يعد لها من بعد كما كانت (المركز والهامش) وكيلا أستطرد في هذه العجالة أسارع القول، هناك مثالا، بلدان الجزيرة العربية، التي تضم الخليج واليمن، فهذه البلدان يمارس عليها نوع من التهميش والاقصاء على صعيد الحضور الابداعي، لا غير، فربما هناك حضورات أخرى، لكن ما يعنيني هو هذا بالمعنى العميق، فهو في جزء جوهري منه يشهد ذلك التغييب الذي أشرت، قياسا بالبلدان الأخرى، صاحبة الحظوة والأولوية، ليس عبر المعايير الابداعية التي لا غبار عليها وانما أيضا وربما أساسا عبر تلك الثنائية الفلكلورية المتداولة (المركز والهامش) التي لم يعد لها من معنى، فأهمية الثقافة العربية بداهة في تكامل روافدها وأجزائها، في وحدتها بالمعنى الابداعي مهما شطت الجغرافيا والسياسة وهي لم تشط في الحالة العربية فالتماثل قائم بشراسة، فقدرنا المأساوي واحد وتحت سقف كارثة واحدة. ونمذجة الجماعات والشعوب والبلدان وتنميطها وتقطيع أوصالها على طريقة (بروكس) وإلغاء التمايزات وإلغاء الفردي والمختلف والمتناقض حد اللعنة، هو من أكبر عناصر ومعطيات الانحطاط الجاثم.