محمد نسيم السرغيني كما كان يوقع اسمه في مطلع حياته الادبية، المنحدر من فاس وجامعة القرويين والارث الروحي العائلي وحلقاته وزواياه؛ الذي استطاع لاحقا ان يدفع به الى مستوى المعرفة والشعر والاطروحة.
يتبدى السرغيني من خلال سيرة حياته ورحلته الشاقة بأنه سليل مرجعيات وجغرافيات روحية ومكانية مختلفة؛ وكأنما الذات المنحدرة من ذلك الارث الضارب في الزمن ترفض الانطواء تحت سياجات مرجع بعينه، فتنطلق في الفضاءات الرحبة باحثة عن روح المعنى والشعر والاختلاف. رحلة السرغيني من مكانه الولادي نحو باريس والعراق وغيرهما تكتنز بالدلالات والمحن والاشارات، كان السياق التاريخي والفكري سياقا استثنائيا فقد كان الحدث الكوني الدامي قد أرخى أوزاره قبل قليل. وكانت ساحة الثقافة العالمية تعج بالتيارات الفكرية والادبية. كان هدير الافكار على أشده. وعلى الصعيد العربي المتخم بالتخلف والانحطاط في مستوياته المختلفة، كان البحث المضني للانتلجنسيا العربية في طرح مسائل التحديث والتجديد في البنيات المختلفة لاسيما البنية الادبية والشعرية التي كان السرغيني من خلال اقامته في بغداد شاهدها الحقيقي، شاهد مخاضاتها وولاداتها العسيرة الموفقة والمجهضة والمدعية احيانا، ليشارك لاحقا في عملية تحديث الشعر والثقافة في الغرب والوطن العربي عامة.
نشأ السرغيني في تلك البيئة الثقافية والمعرفية المتلبسة الباحثة عن موطئ قدم لها في جلبة العالم. يتبدى السرغيني في نصوصه التي كتبها في البدايات وهي نصوص تأملية انها تنشد المعنى وتجليه من غير ان تقع في شعارية فجة، لا يلبث سياق التجربة لاحقا ان يطوح بها الى آفاق يختبر فيها المعنى نفسه ومحنته الابدية.
لم يرتهن نص السرغيني لمرجع بعينه، ظل مرآة ذاته بقدر ما هو شريد مرجعيات مختلفة مهضومة في سياقه الخاص.
لقد كسر مبكرا ذلك النموذج الريادي المكتوب في ديار المشرق والذي مارس سحره على عدد من الشعراء المغاربة لاسباب مختلفة، ليس أقلها النزعة المضادة للفرانكوفية وحماسها الوطني؛ لم يتكشف في النهاية الا ان جانبا كبيرا من ذلك النص الريادي ليس الا ظلا شاحبا لنص غربي متفوق وكبير. لم يقع السرغيني في استيهامات ذلك النص لاصالته الابداعية ولقربه من منابع المتون الغربية بلغاتها الاصلية. نص السرغيني الاقرب الى المناخات الباطنية والجوانية في التراثات النثرية والشعرية، كان نصا صداميا بشكل مبكر للسائد والمتداول في الشعرية العربية ليس في جانبها التقليدي وانما مع متداول الحداثة الشعرية العربية، تلك الحداثة التي تجلت في جوانب استيهامها الكثيرة والتي كان نصها الشعري مثقلا بالمواضيع والقضايا التجريدية التي لا تتقاطع مع وقائع بشر وتاريخ ومع بحث جمالي فريد ومثقلة بنبرة الاستعلاء لمركزية متوهمة.
كان السرغيني خارج هذا المناخ الذي كان يعيش في اطاره. كان مختلفا على صعيد الرؤية والكتابة فقد ادرك ضعف ذلك الوضع وتهافته وما سيؤول اليه من كارثية وانحدار. فلم تغره جماهيريته ولا اعلاميته. والتي كان الشعراء والكتاب يمدون أيادي الرشوة لما يجذب من عواطف وهواجس واذواق رغم ادعائهم عكس ذلك. كان السرغيني يصغي الى نبض الذات والشعر ومن خلالهما يستدرج الخارج الى فخاخه اللغوية بمبانيه الشذرية الخاطفة؛ كأنما بروق المعنى تومض سريعة من خلال اللغة وغيومها الملتفة كغابة مليئة بالاشباح والاشارات.
كانت اصداء كثيرة تتماوج في نصه ليس أقلها المفارقة وسريلة الصورة ونوع من صرامة هندسية في بناء الشذرات. نص مفارق ومتناقض.
لم يستدرج السجال العربي في جانب كبير من نصه المشرقي الصاخب والبراني، لم يستدرج السرغيني الى حبائله. ظل مغتربا عنه محصناً بوعي عميق سيتجلى لاحقا في اجيال مغربية ومغاربية اعطت ذلك السجال حيوية وجددت دمه المتخثر على عتبة قرن جديد.
استعجل القول انني لست من متبني ثنائية مشرق ومغرب ولا غيرها من الثنائيات ولا يعني ايضا انعزال السرغيني الميتافيزيقي عن الوقائع والتاريخ وانما نوع من تفرد موقع وكتابة.
السرغيني من ذلك الجيل التأسيسي ليس اقل اقرانه ابداعا ولكن اقلهم صخبا وتقديما شعاريا راقصا نفسه.
وهذه الملاحظة ليست من نوافل القول حين ننظر الى ارض الثقافة العربية وسيرك المهرجين والادعياء الذين يحتلون المنابر والمنصات من كل حدب وصوب.
تحية للدكتور السرغيني شاعرا وناقدا واكاديميا وكأنما الذات الممزقة ترفض التصنيف والموضعة في شكل بعينه.