إلى تهامة الجندي: في صوفيا والسلميّة
لم يكن محمد الماغوط ، في انطلاقته الاولى ذات النزوع المغامر ، يتبين خيطا من وضوح ، لما ستؤول إليه تجربته الشعرية ، وربما من هنا تأخذ صفة المغامرة جدارتها ، في مناخ شعري يسود فيه ما هو مخالف لذلك الصوت الملتبس القادم من ضباب التخوم النثرية التي ستكون لها سطوتها وحضورها .
حين قدم أدونيس، الماغوط في احدى مناسبات مجلة (شعر) وقرأ بعضاً من شعره من غير ذكر اسمه، ذهب التوقع الى اسماء ومرجعيات أجنبية، فرنسية على الأخص، ولم يذهب الى ذلك الشاب المرتبك، القادم من الوهاد السورية الذي كان يجلس بينه (الحضور) والذي كان مسلحاً بموهبته وثراء أحاسيسه الفطرية والغريزية، التي ستكون وقوده الشعري في مقبل الايام…
هذا الحدث الدال لهذا القادم الى بيروت، أسوة بأدباء ومبدعين سوريين، هذه المدينة المختبر، المحتدمة بالسجال الثقافي والفكري والشعري. لم يكن هذا القادم يمتلك تحصيلا دراسيا وأكاديميا يعين موهبته على فرض نفسها على نمط أقرانه، في هذه الاجواء المعبأة بالمشاريع والأحلام.
لكن الماغوط بموهبته وبذلك المناخ الليبرالي الفريد، خاصة مناخ مجلة (شعر) وجماعتها ذات المنابت والوجهات المختلفة، التي كانت تأخذ بمثل هذه المواهب الباحثة عن أفق، عن موطىء قدم في غابة القمع والسحل والالغاء، من اقطار عربية مختلفة متجاوزة (دوغما) التصنيفات والتصورات القطعية التي كانت مزدهرة مع صعود الايديولوجيات السياسية التي لم تكن تعتبر الادب والشعر ذا أهمية إلا اذ كان متطابقا مع تصوراتها وبرامجها حول المجتمع والتاريخ.
لم يكن محمد الماغوط من الاساس، معنيا بتلك الأيديولوجيات يسارها ويمينها، التي مر عبر (مطهرها) اليسارية خاصة، معظم الادباء والكتاب، فتكوينه الشخصي والشعري مفارقا لذلك التأطير والقولبة ولتلك التصورات الجاهزة السهلة، هناك اخرون بالطبع يندرجون في هذا السياق لكن الماغوط كان أكثر حديه ومزاجية وأكثر ميلا الى التحرر من أعباء تلك المعايير الناجزة في السلوك والشعر..
وهو لا يخفي تبرّمه وضجره البالغين من ذلك حتى فترة متأخرة من عمره، أي مطلع الثمانينيات على ما أذكر، حين كنت أعيش في دمشق وسألته إحدى الصحف السورية في سياق مقابلة معه، عما يزعجه في تلك الايام فقال (الضجر والشيوعيون) مثل هذا الكلام في ذلك المناخ المحتدم برايات اليسار وتطلعاتهم، يعتبر جرأة تصل حدود الانتحار الثقافي.
* * *
لم يكن الماغوط بحكم حدية مزاجه الشعري يمكنه الاندراج ضمن مشروع جماعي، ليس في السياسة التي لم تعرف عنه أي محطة مر عبرها، تبشّر أو تدعو الى يقين مستقبل ما، لفكر ضمن منظومة أفكار تلك المرحلة التي تبينت هشاشتها أمام أي ارتطام بالوقائع والتاريخ.
كان ذلك المزاج بنزعته الكارثية بمثابة حصانة، حصانة اليأس. واستشراف الشعر من غير تنظيرات ولا مقدمات منطقية…
لم يكن الماغوط يندرج حتى ضمن تصور شعري جماعي، حتى قصيدة النثر التي يكتب في اطارها. لم يكن يهمه الدفاع عنها والذود عن حياضها المنتهكة من أكثر من طرف وجهة. كان يعبر صراحة وضمنا عن رأيه، بأن المسألة لا تعنيه كون هذه الكتابة تندرج ضمن ما يدعى بـ(الشعر) أو (النصوص) أو غيرهما.
كان حدْسه يقوده إلى جوهر الشعر، إلى روحه وحقيقته الداخليّة. كان ابتعاده عن السجال الدائر بهذا المعنى؛ جزءا من قناعة ضمنية بلا جدوى مثل هذا السجّال، وأن الشعر يقع في مكان آخر، بلا جدوى مثل هذا النقاش الذي ما زال على أشدّه حتى اللحظة الراهنة،أي ما يربو على العقود الأربعة. ما زالت مفردات وآليات الكرّ والفرّ والهجوم والدفاع قائمة فكأنما زمن الثقافة العربية لم يبرح مكانه، جامد ومتخشبّ كالحياة نفسها.
* * *
لم يبتعد كثيرا حضور ندوة (شعر) في إشارته إلى أسماء أجنبية، حين كان أدونيس يتلو مقاطع من شعر الماغوط، في انطلاقته الأولى، لأن تلك الأسماء كانت حاضرة في شعره بطريقة ما.
ربما لم يسمع الحضور أو بعضه من الشعر الذي يتوسل السلف الغربي بمثل هذه الخصوصيّة والفرادة وهذه النكهة الشخصيّة والتحرر، فالذين حذوا قبلاً حذو ذلك السلف كانوا مشدودين إلى أشكال وإيقاعات خارجيّة غالبا. لم يطرقوا بوابة النثر. بوابة التعبير الأرحب، والأشدّ إلتصاقا بالحياة والواقع مثل الماغوط.
السلف الغربي في الشعر العربي، حاضر في شعر الماغوط عبر الترجمة، لكنه حضور مُذاب في التجربة الشعريّة الخاصة التي لم تقع في التقليد الفج والمحاكاة. وبحكم ثراء مخيّلته وتلك النزعة الوحشية، المضطربّة، كانت استفادته من أفق الترجمة وهضمه، أفضل من كثيرين قرأوا بلغة أصليّة، مثلما أشار أحد النقاد الانجليز، إلى استفادة (شكسبير) من (تحولات) (أوفيد) عبر الترجمة، هو الذي لم يكن ملماً باللغة اللاتينيّة مثلما كانت عليه النخبة الكاتبة في تلك المرحلة، فكانت استفادته عبر موهبته الخارقة، تحوّلت إلى كشف ابداعي في التاريخ.. المقارنة هنا لا تتعدى الإشارة إلى الأهميّة الحاسمة للموهبة والاستعداد الأولي في هضم المرجعيّات الأخرى في سياق أفق الشاعر والكاتب.
حضور، (شعر) لم يبتعدْ في توقعه، لكن الماغوط كان يساهم بصمت في رسم أفق آخر للشعريّة العربية.
* * *
وكمتشرد أصيل في الحياة واللغة وإن كانت الأولى لم تتعّد بيروت ودمشق كإقامة ومعيش، لكنها كهاجس وحلم شملت العالم بأصقاعه وقاراته، انطلاقا منهما؛ من الشوارع والأزقة، والحانات، والمقاهي، لفافات التبغ، العرق، العاهرات، الخيانات، الموت، الإحباطات الجاثمة والثورات المجهضة وذلك النسر الهرِم… الخ. كمتشرد أنزل اللغة من عليائها البالغ التجريد، إلى مفردات الواقع والأشياء المبعثرة، البسيطة المهملة للحياة اليوميّة وبشريّتها السارحة على بركة الله، تحت سقف أنظمة قاسية.
بساطة تلك المفردات التي توحي بأنها متداولة وعاديّة، لا تفتئ أن تتغير، طبيعتها في الدلالة والنبرة، بدخولها إلى مناخ النص الماغوطي، لا تفتئ أن تهجر عاديّتها إلى أفق آخر يسِمه بعض التعقيد، أفق الشعر والعزلة واليأس وانكفاء التاريخ على نفسه كقدِر من اللبن المتخثرّ في مواقد البدو.
تدخل تلك المفردات العاديّة إلى الأفق الشعري الكلي.
تكثر أداة التشبيه في شعر الماغوط وكتاباته، من بين تقنيات أخرى، تنتشل المفردات المتداولة إلى أفق الكثافة والتغريب. وان كانت في أماكن كثيرة تصيب النص بنوع من الوهن والتكرار. كلمة (تقنية) نستخدمها إجرائيا في شعر الماغوط، أي لا تذهب بنا المفردة- المصطلح إلى كون الماغوط يخطط ويبني ما يشبه المعمار الهندسيّ الدقيق. فشعره اقرب إلى صرخة الألم والاحتجاج وأقرب إلى العفويّة والتلقائية.
«ياعتبتي السمراء المشوهة،
لقد ماتوا جميعا أهلي وأحبابي
ماتوا على مداخل القرى
وأصابعهم مفروشة
كالشوك في الريح
لكني سأعود ذات ليلة
ومن غلاصيمي
يفور دم النرجس والياسمين«
تلقائية وعاديّة لكنهما يندرجان ضمن مناخ شعري مشترك الأواصر والسمات للجو الكليّ للقصيدة.
من هنا أعتقد أن الماغوط أثر في الشعر العربي الجديد على غير مسلك أو طريقة واضحة تماما فهو ليس صاحب معمار هندسي تنبني على أساسه قصيدته وتسطع أفكارها في دروب المخيّلة على نحو من ضبطٍ وحساب وعقلنة في العبارة والصورة، إنه أقرب إلى التفجر الجوّاني والانفلات، وربما من هنا خطورة تقليده ومحاكاته من قبل شعراء في بداياتهم، فالماغوط يستقطب قارئه المشغوف بقراءته عبر لعبة فنيّة خادعة في بساطتها وجاذبيّة هذه اللعبة وبريقها البراّني يخفيان منحا دلالياً أكثر خطورة خاصة في نصوص وقصائد بعينها. والمسلك الثاني، ذو القيمة الفنيّة يشبه مسلك الماغوط التأثري الذيّ أحاطه بذلك الضباب من الالتباس في مناسبة (شعر) وجعل الأصابع تشير إلى رامبو بودلير وإليوت ولماذا لا فهذا موجود في بعض نصوص الماغوط الجميلة؛ وهو المسلك بجانب موهبته الأكيدة، قد تخففّ من ضغط البدايات واندهاشها بالآخر، وفي هذا المسلك يتم هضم انجاز الماغوط في سباق خاص، ربما أقوى وأكثر قيمة وربما أقلها، وهو يحاور النص الماغوطي من موقعه الخاص مستثمراً بعض إنجازاته الفنيّة وهو يحلّق نحو أفق آخر، تمليه لحظة تجربة شخصيّة وتاريخيّة مختلفة، وعبر تأمل آخر في الأسلوب وعناصره وتعدد منطلقاته وزواياه.
* * *
«مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير
أناشدك الله يا أبي:
دع جمع الحطب والمعلومات عني
وتعال لملم حطامي من الشوارع
قبل أن تطمرني الريح
أو يبعثرني الكنّاسون
هذا القلم سيقودني إلى حتفي
لم يترك سجناً إلا وقادني إليه
ولا رصيفاً إلا ومرغني عليه«
هذه النبرة المأساوية، هذه الصرخة الملطخة بدم الاستغاثة هي من السمات الجوهريّة الأصيلة في شعر الماغوط ومسرحه وخواطره، لكن الزمن العربي خاصة والكوني، مضى ويمضي في قلب صيرورة احتشدت فيها كل عناصر التراجيديا وعتوّ قدرها ورعبها، بحيث أن أنبياء (التشاؤم) واستبطان وحشيّة الوجود والشر، ومن نُعتو بذلك، سيصيبهم الخَرَس أمام هذا المشهد المكتظ بأنقاضه وفنائه، والمكتظ بغياب القيم الروحيّة والمشاعر… وسوء طويّة الكائن البشري الحديث.
لم يعد هناك «الأب« الذي يتوجه إليه الماغوط أو غيره بالنداء، بالاستغاثة ورغبة الإنقاذ، صار الهلاك شهية الكائن وطعامه اليومي.
لقد توارى (الأب) تماماً، فرّ من هول المشهد أو داسته الأقدام وسط هذا الزحام العنيف.
ما الذي يشعر به قارئ الماغوط في هذه اللحظة بعد كل هذه التحولات والمجازر، ما الذي يقول ويشعر قارؤه بعد أن أوغلنا في قلب النفق، وما كان نبوءة واستشرافاً شعريا، أصبح واقعا عاديا مفرطا في عاديّته وألفته التي ينكسر أمامها ذلك الحزن الغنائي الشفيف في ضوء القمر، ليتحول إلى حزن سمكة القرش الأسطوريّة وهي تفترس صغارها وبشرها في مشهد قيامي بالغ القتامة والحلكة؟
ما الذي يشعر به قارئ الماغوط أمام تطور العبارة الشعريّة العربيّة أمام تلك التركيبات والثنائيات المبنية غالبا على المفارقة، نحو افق أكثر تركيباً وتعقيداً بالمعنى الفني والدرامي للشعر والكتابة والزمن؟
ما الذي يتبقى من تلك القصائد التي هي ليست أفضل ما كتب، الماغوط، والتي تتبدى كألبوم تجميع لصور الحزن والألم والغربة والقمع والقدر الجبْري المظلم، التي تتبدى تجميعا شبه معلب برؤية مسبقة، وليس بحثا مضنيا في أحشاء الوجود واللغة؟؟
ما يتبقى من الماغوط الكثير.. وكما أشارت الشاعرة سنية صالح بأنه من أوائل من حملوا بوادر قصيدة النثر.. وأعتقد أنه وصل إلى أبعد من هذا الحمل، الى مناطق مدهشة في ضواحي هذه القصيدة التي باتت تشكل ما يشبه (سنترا) أو متناً إذا كان لهذا من أهميّة.
أشير في هذا المقام الإحتفائي برموز وعلامات في تاريخ الشعريّة العربية الحديثة وقصيدة النثر بشكل خاص، إلى أهمية الاحتفاء والكتابة والتقييم لواحد من أهم هذه العلامات وأكثرها بحثا وعمقا واستيعاباً للمنجز الثقافي العالمي وسطوعاً في سماء قصيدة النثر، هو توفيق صايغ الذي عانى الإهمال والقمع في حياته التي أفضت إلى الانتحار وما يشبهه وما زال يعانيه بعد موته بقدر كبير من التغيب والتهميش بقصد أو بدون قصد.