* قُدمت الى الندوة التي أقامتها دار الوثائق المصرية حول مرور خمسين عاماً على ثورة يوليو.
أدونيس: خارطة المتناقضات وسراب المعنى
أدونيس، هذا الاسم الذي يأخذنا دائما – من غير كلل، ومنذ طفولتنا البعيدة – الى آفاق فسيحة لا محدودة وقصية، الى أعماق السؤال الجمالي في الأدب والحياة.
الشخصية الأكثر جدلا وسجالا في جيله الذي أسس عبر أراض منكفئة على إرثها السلفي، لحداثة المخيّـلة والابداع والثقافة. والأكثر عطاء وتشعبا في هذا الفضاء العميق، من فكر وإبداع واستقصاء لتخوم التراث في محليته وكونيته الشاسعة.
منذ بدايات ذلك الطفل المتحدّر من الأقاصي الجبلية للساحل السوري وحتى اللحظة الراهنة، هناك ما يناهز ستة عقود من الزمن. أرخبيل هائل من المجازر والتحولات وعدم اتساق المعنى وتشظيه. ابتكر فيها أدونيس طريقة حياته وموته، أصدقاءه وأعداءه، وحرث الأبجدية وطوعها لمعطيات الرؤى الجديدة. تلك الأبجدية التي أرادها أن تعبر عن حداثة مجتمع شاملة، لكن الوقائع والتاريخ كانت بمكان آخر.
خلال ذلك كله لم يكن أدونيس إلا الشاهد الحقيقي على هذه الحقبة المضطربة من تاريخ العرب والعالم. لم يكن فيها إلا الفرد الباحث عن دفئه وحريته خارج استقطابات القطيع ودوائره المغلقة. كانت روحه المتوثبة من مدينة الى أخرى تؤلف كتاب المدن والحضارات، وتقرأ في خطوتها المرتبكة مصائر البشر على هذه الأرض مثل توثبها في كشوف المعرفة وحقول الإبداع المختلفة.
كان شاعر الرؤيا
وشاعر المعيش.
قلما نجد منذ عهود، شاعرا استطاع أن يدمج كل تلك الوشائج والعناصر، ذلك المركّب الصعب، بين الفردي والجماعي، بين الظاهر والباطن. المرئي وما وراءه. التاريخي والمعيش، في وحدة القصيدة وفضائها المفتوح على اللااكتمال باستمرار.
لم تزده الانهيارات العربية والتقهقر الحضاري المريع لبني جلدته، إلا مضيا وتيها أكثر في صحراء المعرفة والشعر وغَرْز مبضع التحليل في هذا الجسد المثخَن بغيبوبته، التي هي ليست غيبوبة النشوة يقينا وإنما العذاب والمنفى خارج التاريخ.
لم تزده إلا انفصالا عن الفكر السائد والشعار السائد مهما كان بريقه وشعبيته، التي لا تؤشر في نظر الشاعر – الرائي، إلا لأفق أكثر جهامة وانحطاطا وقمعا. إن ما يموج به السطح العربي غير ما يعتمل في دواخله.
في أوج صعود الحركات القومية واليسار العربي، لم يقف بجانبها، إلا ناقدا وندا، مكتشفا ما تمور به أعماق الأرض العربية وتجليها السياسي المتفائل، ما هو عكس ذلك من سياقات تدميرية شاملة. ليست الحروب الأهلية، إلا ثمرة طبيعية في مسارها هذا.. راهنا حين تغيرت أحوال السياسة والاجتماع وصعدت الحركات الاسلاموية المغالية، لم يكن أدونيس إلا واحدا من أهدافها العدائية.
أدونيس الأستاذ والشاعر الأكثر خطورة في إشغاله «الناس« (ما اجتمع اثنان من المثقفين إلا وأدونيس ثالثهما) هذه العبارة التي كانت تتردد في المنتديات والتجمعات الأدبية تدل على الاشكالية الخلافية والفروق التي قذف بها أدونيس في وجه الجمع المطمئن. فهو بجانب إنجازه الفكري والشعري، من مؤسسي أهم المنابر التي لعبت دورا مفصليا في تاريخ الثقافة العربية الحديثة بجانب الراحل الكبير يوسف الخال وجبرا ابراهيم جبرا، وانسي الحاج وشوقي ابي شقرا وتوفيق صايغ وآخرين من ذلك الرعيل التأسيسي في اتجاهه هذا، الذي غطتهم الظلال وتقلبات المعيش، وممن لهم حضورهم المميز دائما في مختلف الفعاليات الأكاديمية والأدبية عربيا وعالميا. وكأنما الفردية الخــلاّقة لديه لا تتحقق بالعزلة وحدها وإنما في ضوء الجماعة وصعودها وانكسارها.
أدونيس الباحث
رغم حصر اهتمامه بالهوامش والشذوذات في وضع تاريخي كان المتن الحضاري يموج فيه بالرؤى والمفاهيم المعرفية والفلسفيّة والعلميّة. كانت الحضارة العربيّة الاسلامية في أوج قوتها وازدهارها المتعدّد المشارب والمصبّات والاتجاهات!
هل أدونيس بهذا المعنى ورث شيئا من دور المصلح الاجتماعي والمثقف الموسوعي منذ ما أطلق عليه «بعصر النهضة« أو غيره؟
أستطيع الزعم مثل غيري أن أدونيس ورث وتأثر وأفاد مثلما أثر، من تيارات ووجهات وأمزجة مختلفة ومتناقضة أقصى حالات التناقض، تاريخا ومعاصرة، لكنه استطاع دمج هذه السياقات جميعها في السياق الأدونيسي.
إن الكتابة إعادة قراءة «للآخر« والعالم. لقد تشرد بين مناهج ومرجعيات، حتى ظل داخلها وخارجه&ÿÿ575; 01;ي الوقت نفسه، حافرا عبر قنواته الهاضمة، طبيعته الإبداعية والفكرية، نهره الخاص، ذلك النهر الذي ما فتىء يتجدد بطفولة وعمق نادرين.
أدونيس مهما ذهب النأي والاختلاف عن منحاه الفكري والشعري، لا يمكن إلا أن يكون جزءا من النسيج والذاكرة العربيّين؛ إلا أن يكون حواراً واستفزازاً للعقل والمخيّلة. الاختلاف هنا واحد من عناصر مشروعه ولبنة في شهرته وصداه.
أدونيس خارطة المتناقضات والمعنى في سرابه وهروبه الدائم في قلب المتاهة.
تحية لأدونيس الأستاذ والصديق.
وتحية لمعهد العالم العربي على هذا التقليد الحضاري في الاحتفاء والتكريم للابداع برموزه المضيئة. وهذا واحد من أدوار وجوده الأساسية في قلب أوروبا، إذا ترفّع على التصدعات القُطرية والمصلحية التي بدأت تطفح على السطح مهددة وجوده بالكامل، واستلهم جوهر المشروع الثقافي والحضاري الذي انبنى من أجله.
روّاد
بداهة أن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن بدايات الممارسة الشعرية والثقافية الحديثة عربيا والتي وُسـمَت بعناوين كالتأسيس والريادة اختَزلَت تلك المرحلة برموزها وأسمائها وتجلياتها المختلفة. هذه المسافة المفعمة بالتحولات والمجازر والانعطافات واقعا وتعبيرا، وضعت تلك المرحلة بنصوصها وانجازاتها على محك المساءلة والنقد والتقييم، أي في إطار اختبار الزمن ومكره وتشظيته للنص والكائن.
«الريادة« و «الروّاد« كلمات فضفاضة وعامة وليست ذات دلالة عميقة إذا لم تدخل في إطار التقييم النقدي والتمايز. فليست هناك ريادة بالمطلق وليس كل من كتب في مرحلة بعينها كان رائدا بحق، بمعنى الممارسة الشعريّة والثقافية التي ترتفع الى مستوى الإنجاز الإبداعي المقروء في زمان ومكان مختلفين بمعنى أن الزمن لا يفترسها بمثل هذه السرعة ويحولها الى ما يشبه الفلكلور بفضح هشاشتها ومحدوديتها.
هذا التمايز هو الذي يقود الى ذلك الفرز النقدي القاسي بكشف بعض تلك الأسماء الرائدة في كونها لا تتجاوز الظواهر الاعلامية والأيديولوجية التي فرضت قسْـراً ضمن معطيات تلك المرحلة الآفلة وهناك من الأسماء التي أسست ورادت بشكل فعلي ومازالت تواصل وتتواصل إبداعاً، فهي ليست رهينة شروط مرحلة بعينها. إنما الروح المتجددة في الأبناء والأحفاد، في السلالة الإبداعية اللاحقة.
هذه السلالة التي تواصلت مع إنجازات المرحلة السابقة بمعان مختلفة. فلم يعد الزمن العربي السابق بمعطياته وشروطه، ثمة انكسار عميق في البنيات وطرق التفكير والتخييل. الالتباس يستبد بكل شيء والشاعر نهب أسئلة حادة حول المصير والوجود والحياة أكثر من ذي قبل، الحياة العربية التي أضحت بؤرة انهيارات لا سقف لها ولا قرار. كل هذا التشظي عن مراكز التعبير والرؤية السابقين دفع بالشعرية العربية الى اختبار ذاتها ولغتها من جديد، دفعها الى طرْق سُـبل خطرة. نوع من مغامرة في التعبير والمكان. وهنا أتكلم عن الجانب المشرق في الشعرية الجديدة المفارقة لأن السيىء كثير كما هو حال المراحل السابقة.. هناك سياقات مختلفة، لكنها ليست سياقات قطيعة وبتر نهائيين كما يروّج البعض. مثل هذا الكلام غير المسؤول ليس تجاه مرحلة الريادة التي نحن بصددها الآن وإنما مع كل إنجازات الإبداع البشري.. لا أحد يولد من هكذا «قطيعة« إلا في وهم صغير وليس في وقائع ابداع ونصوص متجسّدة.
كل تاريخ الابداع يشير قطعا الى نقيض ذلك. النص إعادة قراءة الآخر كما هو، قراءة صميميّة للحياة وعناصرها بأفرادها وجماعاتها.
شعارات القطيعة هذه والانفجار المطلق من فراغ وبياض تشبه شعارات الآيديولوجيا في قطعيتها واستيهاماتها. سيبقي الكثير من شعر تلك المرحلة مع غض النظر عن الظرف الذي كتبت فيه، ومن تنظيراتها ورؤاها فقد كانت الطليعة الصدامية الأولى مع أرض المحافظة والجمود. وسيتهافت الكثير – كما أشرت – لتبقى مياه الابداع تجدّد نفسها في هذا المَـسيل الليلي الطويل.
مراكز وأطراف
من حق أي مثقف ينتمي الى بلد ما في خضم هذا المحيط العربي أن يتلمس خصائص بلده بتجلياتها المختلفة جغرافيا وروحيا وتاريخيا، وأن يحاول في العمق طرح تمايزه واختلافه في إطار محيطه وانسانيته، وهو واجب المثقف والكاتب وضرورة وجود وبحث، وليس التماثل المزعوم إلا ضربا من الأوهام والسذاجات التي قادت الجماعات والأفراد الى الكارثة التي نعيش سطوعها العبثي الكبير .
وهو ما نحاوله – أي الاختلاف – ويطبع وجودنا وكتابتنا في المستويات المختلفة، لكن وهم التماثل والتماهي الوحدويين لا يقود في رأيي إلا الى خلق أوهام جديدة حول إنزياح المراكز التقليدية للثقافة العربية وإحلال مراكز أخرى «الخليجية« في هذا الطرح محل تلك الغاربة والمتلاشية الى غير رجعة حسب هذا الوهم الجديد .
ربما تلك البلدان التي عشنا ودرسنا فيها زمنا ليس بالقصير تراجعت عن تلك الهيمنة وأوهام المركزية المطلقة التي تغنت بها زمنا، لكن هذا لا يعني انطفاءها لصالح أخرى بالمطلق فهي مازالت في سباق الإنتاج والإبداع بمستويات مختلفة ومازالت مؤثرة الى حد كبير.
إن المسألة ليست صراع إحلالات وإبدالات. إن تاريخ العلاقة بين أطراف وروافد الثقافة العربية وتاريخ الأفكار وترحلها وتأثيرها المتبادل أكثر تعقيدا من هذا التبسيط الذي لا يقود إلا الى مجموعة أوهام أخرى مثل أوهام التمركز والتفوق التي سبقتها.
لقد نمت حركة ثقافية وشعرية في بلدان كانت مُهمَـلة قبل عشرين أو ثلاثين عاما مثل بلدان المغرب العربي أو بلدان الخليج والجزيرة العربية تحت ذلك الثقل المركزي المتوهم لبلدان المشرق المعروفة. وبلدان المغرب أكثر اتساعا في هذا السياق من بلدان الخليج، وهذا النمو والتقدم الثقافيان في هذه البلدان أستطيع فهمه كروافد مهمة في إطار إثراء الثقافة العربية الشامل، وليس صراع إقصاء وبحث عن هيمنة ووراثة.
وهكذا أفهم الاختلاف والخصائص بين تخوم الوطن العربي و«أطرافه« و«مراكزه« بواديه و«حواضره« وانشطاراته وفرقائه في هذا السياق ويتبين أيضا انبثاق وتأسيس المنابر الثقافية في بلدان الخليج كالمجلات التي أشار إليها السؤال والمنابر والمنتديات والجوائز الأخرى وهي حصيلة ليست كبيرة وحاسمة على كل حال مقارنة بالإمكانيات المادية التي تميز هذه البلدان ولا يحق لأصحابها كل هذه المفاخرة عن تأسيس «مراكز« بديلة.
العولمة والثورة المعلوماتية والرقمية ودراسة الكثير من أبناء الخليج في الغرب وانفتاحهم على ثقافات وعصور مختلفة من غير وساطة «المراكز« التقللدية التي كانت سائدة. كل ذلك أعطى زخما إبداعيا وقوى هذا الرافد الثقافي والمعرفي وجعل مساهمته في الثقافة العربية والإنسانية أكثر فعالية وعمقا من غير تلك الاستيهامات التي راودت عقول وخيالات مثقفين من بلدان المغرب ولبنان والآن الخليج، في الانفصال عن المحيط العربي كي تحرز رهان التقدم، فنحن جميعا – أردنا أم لم نرد – محشورون تحت سقف كارثة واحدة ومصير واحد، رغم مظاهر الفروق التي لا تعدو أن تكون فروقا (برانية).
ليس للابداع الفردي المميز مراكز وأطراف، فمكانه المخيلة البشرية الشاسعة سواء بين جبال عُمان أو جبال الأطلس أو في القاهرة وبغداد وبيروت و….الخ.