بداية لا أجد شيئا من نفسي ومزاجي الأدبي في مرآة السجال الراهن حول ثنائية الرواية – الشعر، وأيهما يتربع السيادة والأولوية على الآخر. خاصة وأن الرواية بشكلها الراهن، جديدة مقارنة بالشعر الذي يضرب في الذاكرة العربية قرونا ويستأثر بها استئثارا شبه مطلق، حتى لتصل المقالة التي تمركز الشعر في تلك الذاكرة حدا يدفعنا الى الاعتقاد، بأن لا شعر ذا أهمية لدى الشعوب والأمم الأخرى!
الرواية جاءت لتحطم هذه المركزية وتحتلها، مما يعطي السجال دفعة اثارة أقوى في حلبة الصراع المُتوهم، الذي لم تتردد وسائل الاعلام بأنواعها في تحويله الى وصفة سحرية بمناسبة أو غيرها معفية السائل من مغبة البحث في هذا المجال عن أي سؤال عداه.
اذ كانت هذه الحالة انعكاسا طبيعيا لصيغة ثقافية تسود بالجاهز والسهل والمستهلك، فإن المسألة نفسها استمدت جذورها عربيا من سياق جدل آخر وتذهب الى ما هو أبعد من السطح الصحفي نحو أرضية أعمق؛ الى مرحلة الأربعينيات وربما قبل ذلك حين خاض نجيب محفوظ سجاله مع عباس محمود العقاد الذي كان يعتبر القصة فن الرعاع والعامة، يقول محفوظ في هذا السياق «وهي توفق (أي القصة) بين شغف الانسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم الى الخيال. أما الشعر تنقصه بعض العناصر ليوائم العصر وهو أقرب الى عصور الفطرة والأساطير«.
لكن محفوظ لم يكن في سجاله بهذه القطعية والاقصاء. فقد تحدث في مكان آخر من هذا السجال المبكر، عن الشعر الجيد في حد ذاته والقصة الجيدة في اتحاد الأداة والمحصول أو الشكل والموضوع، وأن الضعف والركاكة تعتور الاثنين.
لكن ما هو بين في هذا السجال هو انحياز محفوظ وانتصاره للقصّة والرواية ضد خصمه المسكون بوهم التعالي وعصمة الشعر! وكان توصيفه للشعر بعدم مواءمة العصر لغياب بعض العناصر، في ضوء قراءته لراهن الشعر في ذلك الزمان، الذي شهد انفجاره التعبيري لاحقا: بحيث يمكننا القول إنه سدد بعض دين الغياب لتلك العناصر التي أشار اليها محفوظ، لم يتابع الروائي الكبير نقاشه حول هذه الثنائية بعد أن أرخ وأشار فيما يشبه البيان التأسيسي، الى حقل الامكانيات الهائل الذي تختزنه القصة والرواية والذي سيتحقق لاحقا بدرجات متفاوتة، تابع السجال آخرون وتحول أحيانا الى ما يشبه سباق السيطرة على المواقع التي كان يحتلها الشعر عبر الأزمنة، فبعد أن كان ديوان العرب، صارت الرواية ديوانهم الجديد حسب حنا مينه وآخرين. وفي ضوء هذا الديوان وشروطه ومركزيته التي لا ترث الابداع والذاكرة والجمهور فحسب، وانما الترفع والمقت لما هو خارج مدارها.
العقاد مرة أخرى يتناسل في شكل روائي طالما أصبح هذا الشكل ديوان العرب ومرجعيتهم الأخيرة.
بعض الروائيين يترفعون عن قراءة الشعر. أسوة بمفكرين عرب، لا يرون في الشعر أو في المُتخَيل الأدبي بصورة عامة، الا ضربا من أوهام وانفصامات و… الخ ضد صعود «الأمة« وبلوغها الحتمي ركب الحضارة، وكأن الوهم والخيال والانفصام والحلم والاستيهام، ليست حقلا خصبا لاشتغال الفكر، في هذا النوع من العقلانية المبسطة.
بمعنى آخر مارس أهل دنيا السرد انتقاما مشروعا ولا واعيا ربما من التهميش الذي ساد الوعي العربي في دفعه الشعر، أي المقفى والموزون الى مرتبة المقدس وحط من قدر النثر العربي الخلاق بتجلياته المختلفة.
وهذا ما فعله على نحو آخر شعراء قصيدة النثر.
– – –
تابع السجال المحفوظي آخرون نقادا وروائيين، أبرزهم جابر عصفور الذي أصدر بداية توليه مجلة فصول الرائدة في طرح هذه المسألة على نحو منهجي، عددا خاصا عن «زمن الرواية« أعقبه بعد ذلك بكتاب واف يحمل العنوان نفسه، حيث الرواية التي تدشن عصرا جديدا، وهي انبثاق عقلية الاستنارة والوعي المدني ضد القمع والتعصب والاستلاب وهي التصور الذي انبنى عليه المشروع النهضوي. وهي ملحمة الطبقة الوسطى على هدي الأطروحة اللوكاتشية المعروفة، والعقل الذي يواجه النقل، والابتداع الذي يواجه الاتباع. يستقصي الدكتور جابر الجذور في السرديات الأدبية الكلاسيكية، أي يوصل الرواية الحديثة بما انقطع من إرثها التنويري النازع نحو الحرية والمعمورة الفاضلة! من محاكمة الحيوان للانسان عند اخوان الصفا حتى الفارابي وابن سينا وابن طفيل و «تدبير المتوحد« الهامشي في مواجهة قمع التيارات الاتباعية السائدة في تلك المراحل كما هي سائدة الآن.
ويواصل الناقد بحثه في مسار الرواية عربيا وعالميا وعلامات تفوقها التي ليس أقلها حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل وكونيتها التي أجبرت القادة السياسيين وأرباب الحكم علي تكريم الكاتب مما لا يضاهيه حدث أدبي في مصر والأقطار العربية، الا حدث تنصيب أحمد شوقي أميرا للشعراء في العام 7291 تحت رعاية الديوان الملكي. وهو اعتراف انقلب من الشعر الى الرواية وقفز من بعده المحلي الى آفاق العالمية.
يمضي الدكتور في سرد استقصائه لمعالم هذا التفوق الروائي عربيا وعالميا ويورد جدولا احصائيا بالأسماء التي حظيت بتكريم الجائزة الأولى في العالم، لكن قراءة هذا الجدول الاحصائي ليست بالضرورة لصالح تفوق الرواية، باعتبار التكريم النوبلي معيارا، وهو كذلك، لكن بداهة ليس المعيار الوحيد. هناك سبعة عشر شاعرا يكتبون الشعر فقط في مواجهة أربعة وعشرين روائيا، لكن مما له دلالة خاصة أن ثمانية وثلاثين كاتبا منحوا هذه الجائزة وهم لا ينتمون الى جنس أدبي محدد المعالم والصفات أي متعددي الاهتمام، كتبوا في أجناس شتى وربما غامت الحدود والمقاييس لديهم بين الأجناس.
أليست هذه علامة فارقة تعفينا نسبيا من عبء التصنيف وثنائيات الأجناس؟
أليست هذه ملمحا فارقا على انفجار الأشكال التعبيرية والتباسها وزوغانها من التحديد والقولبة؟ أليست علامة حيرة الكتابة وقلقها وهي ترتاد أفق المغامرة أمام سطوة الوجود؟ ألم تكن هناك من الصفات التي تميز الرواية، ما يندرج ايضا في قلب العملية الشعرية، على سبيل المثال القول عن قدرة الرواية على التقاط الأنغام المتباعدة المتنافرة المركبة أو الطبيعية البوليفونية التي استعارتها من الموسيقى ودمج الأصوات في بنية متساوية، وحسب كونديرا الذي يستعيد في سياق تأملاته حول البوليفونية، الجملة العزيزة على السوريالية، «لقاء آلة الخياطة مع الشمسية«. على طاولة الثيمة نفسها.
ويعلق كونديرا أن البوليفونية الروائية شعر أكثر منها تقنية. واذا كانت الرواية فن الطبقة التي تولدت من التغيير وفي فضاء المكان الذي كان ساحة هذا التغيير، صحيحا نسبيا. فما مدى صحة كون الرواية العربية حصرا، فن المدينة العربية التي تدخل عالم التصنيع ؟ هل هذه المدينة كذلك بعد سيرورة التدمير المستمر للبنيات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وبعد أن تريفت وقُمعت طموحاتها ومشاريعها النهضوية والحضارية ؟
أليس انكسار المعنى والحنين والهزيمة والتقهقر وتبعثر أحلام الجماعة وتشظيها، قوام بناء المدن والاجتماع، أليست ثيمات هذه الرواية وفضاءها الواسع ؟
أليس انحدار الأزمنة – كما عبر فيصل دراج في بحثه الرائع حول الرواية العربية – شرطا أعطى رواية دون أن يعطي العلاقات النظرية المرتبطة بها والتي تحتضن المجتمع المدني والفردية الطليقة والاجتهاد المفتوح ؟
لم يصل جابر عصفور في بحثه واستقصائه لأهمية الرواية في التاريخ الأدبي الراهن عربيا وعالميا ومكانتها في هذا التاريخ، لم يصل الى اقصاء الشعر وتحجيمه. وهو في غمرة حماسه للرواية لم يخنه ذكاء الناقد الكبير ولم يصدر حكم قيمة سلبيا على الشعر، في ضوء صعود الرواية كما فعل آخرون بخفة دم لا تضاهى.
الاستاذ محمد برادة، في العدد نفسه من مجلة فصول، يواصل نقاش أهمية الرواية في المشهد الأدبي القائم اذ يقول «وأفق الرواية المشدود الى القرن العشرين وهبها فضاء مفتوحا،. قادرا على امتصاص أجناس تعبيرية متعددة« لكن برادة على قدر غير كبير من التفاؤل والاطلاق، اذ يواصل في دراسته ما اعتور طريق الرواية وصعودها مما شكك بمكانتها في تبوء سدة الفنون الأخرى خاصة في الفترة الأخيرة – والفترة الأخيرة لبرادة حين كتب هذه الدراسة ما يناهز العقد من الزمن – حيث برزت وسائل تعبير أخرى تقوم على التخييل والتشخيص – حسب تعبيره – مثل التلفزة والسينما والأشرطة المصورة والمسرح وجميع أنواع الفرجة ويستنتج محمد برادة أن الرواية لا يمكن ان تكون بمنأى عن منافسة أجناس أخرى قديمة وحديثة.
في غمار هذا السجال، لكن في سياق غير عربي بحث روائيون ونقاد هذه المكانة المميزة للرواية بين الفنون، وكان هاجس تعثرها وحتى اختفائها من بين هواجسهم: الروائي ميلان كونديرا الذي سبقت الاشارة اليه يستقصي وضعها ونشوءها من أكثر من زاوية وجهة تأمل وتحليل. وهو اذ يختلف مع المستقبليين والسورياليين وغيرهم من الذين ينظرون الى اختفاء الرواية لصالح مستقبل مختلف جذريا، حيث ستنبثق فنون أخرى ذات طبيعة مختلفة، ويعول الروائي ذو الأصل التشيكي، على مقترحاته في تجديد الرواية واستيعابها لقيم المدنية وتعبيرها عن مسيرة تاريخ الفرد والمجتمع.
لكن كونديرا يعود الى مخاوفه في اختفاء الجنس الروائي في ظل التوحيد العالمي للحياة والسلوك فيما يشبه القطيع. وفي نظره أن هذه الروح القطيعية المشتركة التي تكتسح البشرية مضادة للرواية التي تنشد التنوع والتعدد والاختلاف، ماذا نقول نحن العرب في ظل قطعاننا ومليشياتنا وتخلفنا السعيد؟
سدد الشعر العربي بعض دين غياب تلك العناصر التي أشار اليها نجيب محفوظ 5491 في اعقاب الحرب العالمية الثانية، لتوائم العصر، حين حرر نفسه ولفته من اكراهات التصورات والأطر والايقاعات الجاهزة المتوارثة التي قيده بها أولئك الذين ينتمون لروح عصر آخر وانفتح على آفاق تعبيرية تتوسل الرحابة والحرية وتصل التجريب بالفوضى الباحثة في الأنقاض والحطام عن أسلوب آخر لمقاربة الوجود والأشياء والتفاصيل المفتوحة على الحقيقة الجوانية للكائن، وفي استفادته أكثر من السرد والفنون الأخرى واقتحامه الحياة والوقائع، دامجا المعيش بالمتخيل في مشهدية شاسعة تعصف بها الهواجس والرياح من كل الجهات.
ليس هذا زمن الرواية ولا زمن الشعر في العمق، انه زمن آخر. الروايات الأكثر تسويقا ليست الروايات العظيمة وان كانت ربما أكثر قراّءً من الشعر. وروائيان من أعظم كتاب هذا العصر (اسماعيل كداري وميلان كونديرا) لم يكن لهما هذا الانتشار لولا بؤرة صراع مناخات سياسية وايديولوجية تقاطعت في مرحلة معينة، ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف، ليسا أكثر قراّءً بكثير من نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش.
ليس هذا زمن الرواية ولا الشعر، لكن يبقى للرواية والشعر – كالفنون جميعا- حيزها الروحي المزدهر ابداعيا على ضيق رقعته القرائية.
قطرة الروح الأخيرة في رماد نبعها الجاف.
ليس هذا زمن الرواية ولا زمن الشعر لكنهما في النهاية يذهبان صوب أفق واحد، صوب الحكاية الأزلية التي تسرد من غير ملل، الحكاية الصارمة والعبثية للغياب السابق واللاحق وما بينهما من أرض وبشر وعدم كبير يهيئ المسرح لعَدم أكبر.