العين التي شاهدت، أول ما شاهدت في إطلاق نظرتها الأولى إلى الوجود والأشياء، تلك الأرض الشاسعة التي تلتقي أطرافها الثلاثة في سديم الصحراء والجبال والبحار المتلاطمة في الواقع والمخيلة.
الأرض المترامية بحياة قليلة وسراب هائل، وصفها الرحالة «ويلفرد ثيسجر« وهو يقطع الربع الخالي في ثلاثينيات القرن العشرين فيما يشبه عبور الأسطورة، بصحراء الصحاري.
ربما كسب الغراب، كائن القِدم، ومعلم البشرية كيف تداري سوأتها، أحقيته الأولى في الانتماء إلى عصورها الجيولوجية السحيقة: أودية قاحلة تذكر بأنهار جفت منذ عصور ضوئية. قوافل مترحّلة في تخوم المغيب. بحار بلا نهاية ولا قرار. وكأنما العَدم خرج للتو من كهوفها ليكتشف بؤس العالم. وكأنما الصانع. قبل أن تمتدّ إليها يد التحديث والتقدم. صنعها كتجربة أولى، مسودة وجود لأرض البشر اللاحقة.
هذه الطبيعة المحتشدة بالهرام والذئاب وبنات أوى، أراجيح طفولتنا البعيدة، والمحتشدة بالحنين. هذه الطبيعة اليتيمة التي قُدت من براثن بركان، على صفحتها وُلدتْ وتفتحت أسئلتنا الأولى، دهشتنا وهواجسنا كمشروع وجود صعب وممكن. كانت الوحشة تفضي بالضرورة إلى مقاومتها بطرق مختلفة، منها التأمل والمعرفة والشعر…
هذا ما تفتّح عليه وعينا في تلك البلاد القصية في ذلك الزمان. فقد كان الجو المعرفي عبر تراثه وتراكمه التقليدي السلفي، غنيا ومتنوعا: شعرا ومناحي كلامية وفقهية ولغوية. وكان لعمان. التي تمتد أواصر حكمها إلى الشرق الأفريقي شخصيتها المعرفية ذات الملامح الخاصة عبر الأزمنة، ليست هذه العجالة محل تبيانها.
لكني هنا لا أضيف كثيرا في وصف وضع التعليم وأطره التي نشأنا في ظلالها، أكثر مما يعرفه أبناء قرى وبوادي وهوامش حواضر في بلدان عربية ؛ المساجد والكتاتيب وتحت أشجار السدر، فحتى بداية السبعينيات لم يكن في عُمان إلا مدرستان صغيرتان لتخريج بضعة موظفين.وكان حكرا على المتوارث والمتداول عبر القرون لم تطرأ عليه نسمة تغيير أو تجديد.
كانت البلاد غارقة في مياه الأسلاف والنأي عن « العصر« ومصباته وعواصفه.
ربما كتبتُ أول قصيدة وفق هذا النظام المغلق في كهوف السلف ولغته، لأن أي خروج عنه مروق وإلحاد، ومازال أصحاب هذا الرأي الظلامي عند رأيهم حتى لحظتنا الراهنة، وبشكل أكثر عنفا وتطرفا ولا عقلانية. لكن ما ظل يطاردني لاحقا، بجانب التكوين الشعري الكلاسيكي الذي لا أشك في الافادة منه، هو تلك القصيدة العنيفة التي يكتبها المكان نفسه بغموضه وموته، وكيف تنبجس الحياة الشحيحة من مخالب ذلك الموت القاسي ذي الحضور الكلي. كانت الجنازة اللامرئية في رأسي بحجم ذلك الفراغ الذي يتدفق فيه الزمن كثيفا وحادا، محاطة بجوقات النادبات والمنشدين.
كنا أطفالا نتطلع إلى حياة أخرى فيما يشبه المعجزة، وكان هاتف الرحيل يدعونا اليه عبر تلك القوافل المترحلة ونداء البواخر في بحارها، والتي يقينا لم تكن تحمل نفطا، لأنه لم يكن معروفا لدينا في ذلك الزمان.
كان المكان بهذا المعنى يمارس حضورا طاغيا، وفي بطش ذلك الحضور اللامحدود لعناصره ومراياه الضخمة، يتمرأى الكائن المبعثر في جنباته الفسيحة، هشا وسريع الزوال. لكن، وهنا تكمن المفارقة الدالة والعميقة: كانت له تلك القدرة في نحت حياته وتسويتها بمواجهة عنف طبيعة ساحق. فقد كان العمانيون القدماء سادة بحار وصحاري، وتركوا آلاف المخطوطات التي طبعت راهنا أو طبع بعضها، في مجالات معرفية مختلفة.
حدث ثان، وجوهري، طبع حياتي ووسمها بقدره الخاص، هو انفصالي المبكر عن ذلك المكان الولادي، ورحيلي نحو القاهرة ومن ثم الشام، وبيروت، لينفتح المشهد الحياتي لاحقا طي آخر مصاريعه ومتاهاته، وكأنما الأسلاف الرحُل خلعوا عليّ لا شعورهم الجمعي، عبر نسيج من الاختيارات والصدف التي كانت تلفّ مناخات تلك المرحلة.
لأول مرة أتماس بشكل مباشر بعد أصداء سماعية غامضة، مع معطيات مدنية وثقافية مختلفة.
كان الجو القاهري يعج بالأيديولوجيات والاتجاهات في حقولها المختلفة رغم أن بيروت كانت الأكثر صخباً وسجالاً في التجديد والاختلاف.
وكان الجو الطلابي والثقافي الذي أنتسب اليه تبتلعه السياسة في اتجاهها اليساري ذي الطليعة الفلسطينية آنذاك والذي كان الأدب على هامش توجهاتها ومتونها.
من البوابة القاهرية ولجتُ إلى بوابة القراءة للأدب الحديث برموزه ورواده ووجهاته المختلفة عربيا وغير عربي. كانت تلك المرحلة المبكرة للانفصال، الرابعة عشرة من العمر، بقدر ما هي منطلق الدخول في الطور الثاني والمعترك الجديد طبعني سلوكا وكتابة بطابعه الحاسم، بقدر ما أصابني بصَدْع كيان، على ما يبدو كان مستعدا أكثر لتلقي الصدوع والانشطارات من الانسجام البراني والتآلف.
هكذا وجدت نفسي جزءا من جيل عربي يقتسم سمات الكتابة والحياة والترحل. جيل غير مستقر بالطبع، هائم بين ثكنات الأفكار والشرطة والمدن، تلفحه رياح اليأس والنقض والتسكع. لقد فتح عينيه ذات صباح على هزائم وانهيارات لا تحصى. وعلى ما هو أحقر وأبشع من الحروب الأهلية التي عرفها التاريخ. كان عليه أن يغامر في مواقع كثيرة اهتز يقينها مفهوما ولغة كانت ذات يوم مثار عاطفة جياشة وربما مشروع لاشك في نبل مراميه وأهدافه. كان عليه أن يبحث بين الأنقاض والجثث عن لغة تستطيع لمّ شمل هذا التشظي والانكسار الذي يلف الفرد والجماعة بأفاقه المدلهمة… ها هو الربع الخالي مرة أخرى، لكن في زمان ومكان مختلفين وعبر وعي مختلف. متاهة في المكان ومتاهة في الرأس جعلت المُثل والرموز والأقنعة تتكسر عند أول شروع في التفكير والكتابة. فلم تعد المرأة المرموز بها لوطن قادم من بين جحافل الفقراء ولم يعد الوطن ولم تعد الفكرة الجامعة المانعة.
لقد اهتزت الأرض من تحت قدميه ومادت، صار الغياب والسعي في المجهول. صار الغياب القاهر ربما، هو الاطار المرجعي والروحي والكتابة تعيش وتتنفس في بهو هذا الغياب. والوقائع ترشح رموزها وإشاراتها الفورية الجارفة من غير اتكاءات مسبقة وأقنعة، يقف خلفها الشاعر يتلو نبوءته وقراءته الواثقة للمستقبل. كان العري الدموي الساطع كالصحراء سمة المرحلة.
في هذا السياق اندفعت قراءة الشعر والعالم واندفعت العبارة الشعرية العربية إلى ذلك التغيير في طبيعة الشكل الذي وصل حد النمط والترجيع. وصارت إعادة النظر حتى حدود الفوضى والخلط، في المنجز والمتحقق فكريا وثقافيا، في ضوء تغير المرجعيات والتأثير وطريقة استخدام اللغة. وصار ثمة ميل أكبر لقراءة التراث السردي العربي والمشرقي وتوسيع رقعة الاستفادة منه، بموازاة التغير في طبيعة الحوار الشعري مع «الآخر« والمرجعيات الغربية، فبرزت أسماء ومقترحات إبداعية لم تكن واضحة في المرحلة السابقة، شعراء هاويات ونزوع تدميري وشعراء حياة.
اندفعت العبارة الشعرية التي انفتحت على الفن البصري اكثر، نحو القلة والهوامش وصار النقصان والعابر في مواجهة وهم الاكتمال والتمركز، زاد المرحلة من غير ترفع على مفردات وأحداث صغيرة بعينها، تتوخى أن تنتظم في مناخ أو سياق.
وليست هذه الاشارات بعيدة عن ظلال الفلسفة الجديدة من نيتشة حتى جيل دولوز، كما ليست بعيدة عن رؤى أكثر قدما عند ابن عربي حين تحدث عن كمال الأشياء والوجود في نقصانها، وان كان ابن عربي ينحى منحى ميتافيزيقيا خاصا دافعا فخامة الكمال إلى مركز المطلق. ابن عربي الذي كتب أيضا حول الانفصال والترحل عن المحيط الخانق عبر السفر في الروح والأمكنة في المرئي واللامرئي والكتابة عن هذه الأسفار فيما يشبه التوثيق الباطني، يمكن أن يكون أحد الأدلة الكبار في بحث المخيلة الشعرية والمعرفة.
* * *
قرأت شعراء التجديد الأوائل في مرحلة الحداثة الشعرية العربية من السياب وقباني وأدونيس والخال وعبد الصبور إلى محمود درويش وغيرهم عبر بوابة المكان القاهرية.
في الطور الثاني من عمري وفي أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، شهدت نوع ذلك الارتجاج في سياق الكتابة العربية الذي أنتمي إلى زمنه هذا وأشرت إلى بعض سماته.
وليس في ذهني وهم القطيعة التي يرتهن بها البعض ولم أر يوما أن قصيدة النثر حلت محل سابقتها رغم انتشارها وتحولها إلى ما يشبه المتن الشعري، كما لا أرى ولا أستسيغ التفكير على أن هذا النمط التعبيري يحل محل آخر ويقصيه من أرض الابداع، فأشكال التعبير في تاريخها مفتوحة على المتغيّر والمتحول. ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل وتتصارع ضمن أراض واحدة وزمن واحد أو أزمنة مختلفة، فواحدية التفكير هذه لابد أن تصب في ثكنة القمع لأي تعددية ممكنة، ودعاة الشعرية العربية تبادلوا هذا الاقصاء في الكتابة كما في الحياة، كما أن الجيل ليس بديلا عن جيل آخر، ومن السذاجة التفكير على هذا النحو التحقيبي المحدود.
بداهة هناك ما هو مشترك وما هو مستمر إبداعيا حتى عبر المفارقة والاختلاف. فمثلا أشرت إلى أن الشعر الجديد صار يميل نحو النقصان والتفاصيل والأجزاء. هذه السمات لا نعدمها في المرحلة السابقة وإن تعمقت واتسعت لاحقا. ولم يكن وضعها في مقابلة ثنائية مع ما اصطلح على تسميته بشعر القضايا الكبرى أو الكلية وضعا موفقا. فالوجود جميعه خارطة لهواجسنا وأحلامنا وتناقضاتنا، مسرح لصنيع الكتابة وتجلياتها المختلفة. فالحياة والموت والمسألة الاجتماعية والانحطاط الحضاري والحب والكراهية، لا تنفصل عن شعرية الأشياء ولا تقابلها، بل يظل الشعر على سطح هذه الأشياء والحياة اليومية، إذا لم ترتبط تلك الخيارات الفنية بخلفياتها الروحية والاشارية والمرجعية الاعمق:الواقع وما وراءه.
العابر بالأبدي بداهة ليس هناك من هو ملزم باقتفاء أثر أحد، أقصد أسلاف الحداثة المباشرين أو غيرهم، وربما العكس فالتعبير عن تلك القضايا بقدر ما هو قديم وعبر مختلف حقب تاريخية، بقدر ما هو مرتبط بسياق تاريخ من الاجتماع والأمكنة وتغير الحساسيات، منه تستقي الكتابة هواجسها واختياراتها الأسلوبية.
اللغة مهما كانت محملة بتاريخها الطويل وتراكماتها، ليست ممارسة قبلية ومعطاة سلفا، وإنما على صعيد الكتابة، محاولة كشف وسبر أغوار وعتمات، وهي محصلة اندماج المعيش بالمتخيل. هذا المعيش الذي أفضى إلى ما هو عليه عربيا، صار أكثر استفزازا للكتابة الشعرية التي واصلت نقضها وضديتها حتى حدود العدوانية. فالنقض الشعري والأدبي لما هو سائد لا يرتبط بمشاريع وتكتيكات تطبع مرحلة بعينها، وإنما هو حاجة داخلية صميمية، بمثابة الدافعة الوجودية للكتابة.
الموت كما الحياة. مسرح الكتابة. إن هذا الجسد المحاط بهوام الموت وهواجسه ومطارقه التي لا تهدأ ليل نهار، لا يمكن مواجهته أو التخفيف منه إلا عبر اللغة وربما الذوبان فيه وتحويله إلى كائن أليف.
إنها المنطقة الأكثر خطورة التي تلجها الكتابة، المنطقة التي تشبه منطقة في الربع الخالي تدعى «عروق الشيبة « التي تبتلع تحولات رمالها الهائجة قطعان الجمال والماشية والبشر من غير أثر وكأنها لم تكن. هذا الموت القاسي وسط تلاطم أمواج الصحراء، هذا السحق الذي تمارسه الطبيعة، سيكون نموذجا لطيف لسحق البشر بعضهم بعضا.
وليس الموت المحيق بإنسان العصر الحديث بأقل قسوة، وإن كانت قسوة باذخة وسط حشود التكنولوجيا ولمعان وسائل الاعلام. طرق عديدة لموت واحد والبشرية كلما أوغلت في التمدين والتحضر أوغلت أكثر في ابتكار أدوات الرعب والموت والتفنن فيها.
الكتابة بهذا المعنى ليست لعبا لفظيا ولا صورا بهلوانية تتوسل الإدهاش البراني لاخفاء فقرها الدلالي والروحي. إنها لعب أكثر عمقا وخطورة وجمالاً، إنها الإقامة في حدود القسوة والموت.
إذا كان العالم هو مادة الشعر، فمكان ما يستحيل عالما، هكذا يلتهم الربع الخالي العالم ويستوعبه. وكما عبر إزرا باوند: «تأريخ كائن ما لا يعبر عن المكان المغلق الخاص بحياته بل عن إرادة تشرده.«
وفي هذا السياق، كانت الكوابيس والاستيهامات والأحلام التي غذت طفولتنا بين تلك الأطوار ترحلت معنا، بعد أن أخذت هيئات وأشكالا مختلفة. وكبرت بين الطرق والمدن والأفكار، لكنها لم تهرم، بل ظلت على نضارتها (الكوابيس خاصة) وكأنما الواقع منجم هذه الكوابيس الذي يشيخ عبر أراض تنهار باستمرار، لا يجد ضالة الاستمرار والتجديد إلا في هذا المضمار، إنه الواقع العربي بامتياز.
الذئاب والضباع وبنات أوى ومختلف ألوان الجوارح والسباع، والصخور البركانية ولا نعدم طيورا أليفة وجنانا خضراء لا حدود لتموجاتها الناعسة، قبل أن يلتهم الجد الأكبر تفاحته ويسقط على هذه الأرض الرهيبة. هذه العناصر التي سكنت أعماقنا وسرت في عروق السلالة، ذابت في نسيج النص مع الشوارع الكبيرة في ليل المدن وأنفاق المترو والمقهى الملاصق للاستوديو وتلك المرأة ذات الملابس الخفيفة في صيف الحديقة العامة حيث يتصادم الغرباء، جامعة إياها وحدة التيه والاغتراب الأزليّين.
لا يمكنني الشروع في أي كتابة مهما كان هاجس جدتها ومدنيتها إلا ويتدفق ذلك الكون البري، منازل الخطوة الأولى ليكوّن لُحمة النص وسداه.
لقد فرضت علي هذه «التيمات« أو المواضيع، إن كانت هناك مواضيع لهذا المناخ الملحمي، أن أمضي بجانب القصيدة المقطعية والشذرة في كتابة قصائد طويلة تشكل متن الديوان وتتوسل مناخات شبه ملحمية، لكن لا توجد فيها عناصرها المعروفة ولا تستدعي حبكات وأساطير وتصورات جاهزة وإنما تتلمس طريقها في العتمة بأدوات معرفة قليلة وبألم وحدس أكبر ربما عبر متواليات تحاول الانتظام فيما يشبه النص المفتوح.
إنني أحاول التجريب، بوصف التجريب قرين حياتنا ومكونا بين مكونات شتاتها ونسيجها إن صحت هذه المفردة الأخيرة.
كالصدفة تماما، كالصيد في الظلام الكاسح، التجريب بهذا المعنى يشبه عصا الأعمى الباحثة في الزقاق عن مخرج، إن ثمة مخرجا يوصل إلى الطريق العام أو الجماعة. إنه ليس خيار العارف بالطريق.
نحاول أن نكتب من غير خطط ولا مشاريع، ربما لأن الأعمى يجلي وضوحه وسط ظلامه الخاص، ربما لأن فيض الصحراء وسراب وضوحها الكاسر لابد من الاستعانة عليه باللغة في هذه المنازلة اللامتكافئة بين كيان جبار باهظ ولا نهائي وآخر هشا إلا من نزوع رغبة البقاء ومقاومة التلاشي في رمال القطيع الجارفة وقيمه.
أو كما عبر على نحو أخر بابلو نيرودا « أولئك المدفوعون غريزيا لإطفاء النور«.