اعتقد أننا إذا استطعنا ان نصمت قليلا فإن شيئا ما يمكن فهمه
فدريكو فلليني
(صوت القمر)
يسمع العربي بكل مستويات هذه التسمية وفئاتها، لغط القرون ورطانة الخطابات وضجيجها الذي يصم الآذان ويعشي الأبصار من فرط ترديده وترجيعه عبر دروب الفضاء والصحافة والخطابة التي لا تفتأ ترعد بالآتي والقادم، اقتصادا واجتماعا وثقافة وفنا وحداثة وعولمته وما بعد حداثة وفوقها وتحتها…
يسمع العربي وهو قابع في ركن بيته بين أفراد عائلته الفاغرين آذانهم لهذا الموعد الخُلب القادم من جهات لا يعرف عنها شيئا، أو وهو جالس في ندوة إذا كان من أهل العلم والثقافة، أو معرض من معارض الكلام المنتفخ بعضلاته الوهمية.
يسمع ويدمن السماع والاصغاء في جو طقوسي حتى تحل الصفة محل الموصوف الغائب وغير الملموس بيد الحياة والأرض بالضرورة، يتحول الى كائن تتقاذفه أمواج الخطابات من كل فج ومنعطف حتى تتلاشي كينونته المادية في لهبها وزعيقها ويستحيل الى مجاز وتجريد، بمعنى المحو والسحق ولا شيء غيره.
ما تبقى من هذا الكائن وهو الجزء الذي نفد بجلده من فظائع الحروب والمجازر المجانية التي اعتاد طغاة العرب وأدعياء البطولة على ممارستها، لابد واقع في الطرف الآخر من اشراك هذه المجزرة الشاملة.
يطلق محترفو الكلام عياراتهم الثقيلة دائما في كل المستويات والمواقع: لاعبو سيرك وسحرة مناسبات، لا يألون جهدا في ضم الكلام الى صُرر (من صُرة) وعُقد ثم ينفثونه في الوجوه الفاغرة بحثا عن هواجس بطولة منقرضة أو إثارة، في غياب الحياة الحقيقية، حتى يخال للناظر أحيانا، أن كل أجزاء، الكائن الذي نحن بصدد الحديث عنه، تضمر وتذبل عدا الحواس المتعلقة بقذف الكلام وتلقيه في مسرح البلاهة البشرية هذا.
في سيرك الكلام يختلط كل شيء بكل شيء، يصير التماهي والتشابه ومحو الفروق بين الأشكال والشخوص والأزمنة هو شفرة الكلام ومبتغاه. الموجودات جميعها عائمة في فلك اللغة الاستيهامية على نحو من الاتساق والخفة التي تضمر ثقلا قاتلا، وتكون الصفة الجامعة المانعة للمفكر والشاعر والروائي والفنان والدكتور. وعناوين كبيرة ومدوخة مثل أدب القرن العشرين وفكره والدخول المنتظر الى مطار القرن الحادي والعشرين حيث مستقبل العرب يملأ صالات الانتظار. وأدباء الستينات والمسبعينات والثمانينات والتسعينات وووو الخ الخ الخ…
تصير هذه العناصر أهدى مواقع قوة هذا الخطاب في طبخه المتناقضات والفروقات في قدر واحد. ليس للكلام طبيعة محددة أو مجال يحد انطلاقته وجموحه البائس في احتلال شغاف المستمع أو المشاهد والقاريء لكنه يتمتع بكل الوظائف التي تجتمع في واحد أو كثرة مختلفة المجالات لكن كأنما تصدر عن واحد وفق الطبيعة والنبرة والتوجه. وغني عن القول إن إفلاس الفكر علامة مركزية لهذا النوع من القطيعية في القراءة والسلوك، حيث تحل الشعارات والعناوين الضخمة محل التحديد والصوت الخاص والتفاصيل والتاريخ.
كلام كلام، ينسكب وينفجر من غير حرارة من أفواه قرب بشرية ليحل محل دورة الحياة وعناصرها وإشكالاتها. ماكينة متخصصة في انتاج التكرار والنمطية والجهل الموهم بالمعرفة عبر ولعه بالمصطلحات والمقولات والتصنيفات القطعية من غير سياقات ولا أوامر ولا أسئلة. عدا الأسئلة التمويهية التي تدعم هذا السيلان اللغوي حاجبة فجواته وثغراته وكذبه، إذ أن المعركة ليست معركة أفكار ومفاهيم في حيز الزمان والمكان وفي إطار من الوقائع، وانما معركة كلام في حد ذاته، إنها لا تشير ولا تلمح. ولا تدل على الأشياء والتاريخ، تنزل هكذا جعجعة أبطال وهميين على أرض وهمية.
***
في مرايا الكلام والخطابة، كل شيء جائز، في كل حقول المعرفة البشرية، الطبيعة نفسها والآلية نفسها التي تحكم الاقتصادي والاجتماعي وناقد الفن والأديب ومنشيء الاعلانات والموضات. في غياب أو تغييب الخبرة الحية والرؤية النقدية الخلاقة والروح بكل مناحيها تنزل اللغة الى مستوى التناسل اللفظي العقيم وتستحيل الى سلطة تمارس قهرا أكثر فتكا من السلاح، تحديدا في عصر التكنولوجيا الذي نعيش حيث فأرة الكمبيوتر تحكم العالم. ويتحلل الكائن في بذر الكلام وسطوته بكافة الأجهزة التقنية والبشرية حيث يمكن لأي معوق في حياته ووعيه وخياله أن يحتل المسرح كاملا ويتحول الى رمز جمالي وسلوكي وعلمي!! وفي غياب “المُثل” التي تستقطب الكائن وتشده في رحلة التيه تصبح “الميديا” ومثلها الجديدة هي البديل الكوني الذي يطبق على الأرض ومخلوقاتها اليتيمة.
***
في المستوى العربي هناك ما يشبه الانسداد لآفاق التجربة الحية التي يعيشها البشر على الأرض، رغم وفرتها ومآسيها وتشعباتها الكثيرة. في الندوات الفضائية والأرضية التي غالبا ما تتحول الى فضائية لا تكاد تسمع إلا دوي الألفاظ وطواحينها، واذا ما تم الاقتراب من وقائع بعينها ومن تجارب وفجائع يعيشها بشر المنطقة، فثمة حجب تلجم الكلام عن موضوعه حتى تبتلع اللغة كل ثوى في براثنها الأيديولوجية بمخلف اتجاهاتها التمويهية الطامسة لأي ضوء يرشح به نفق الحقيقة. وعبر حذاقة التقنية الفراغية التي تخلط الحابل بالنابل بخبث لفظي، تتبدى طلائعه جلية في مستويات الابداع الأدبي والنقدي.
في هذا المستوى تسود رطانة نقدية تتساوى فيها ضروب الابداع ومستوياته المتفاوتة بشكل كلي حيث يسكبها المحترف في صفيحة واحدة. ليس هناك فرق بين المبتديء والذي أفنى عمرا كاملا، بين الموهوب وغيره بين هذا وذاك، فاللغة المنجزة سلفا بكامل عدتها وأدواتها النقدية مع تغيير في بعض التفاصيل هي التي تترحل من موقع الى آخر تاركة غبارها يتكفل بحجب لحل حقيقة ابداعية.
في المستوى الابداعي ينظر المنظرون لأنماط ومنازع تعبيرية بصرامة لا يشرب يقينها أي لبس، فبدل الثراء الذي تخترنه تعددية أنماط التعبير والمنازع الابداعية حيث الشكل نسبي وحيث “الفن هو الرغبة في التشكل لأنه الرغبة في البقاء.. وحين يبلى شكل ما ويصبح مجرد صيغة، يكون على الشاعر أن يبتكر شكلا جديدا أو يبحث عن قديم يعيد تشكيله أي ابتكاره، وهو الزمن مكثفا ومتحولا” حسب أوكتافيوباث، بدل هذا ينجح المنظرون في تسييد نمط بعينه واقصاء الآخر من ساحة الابداع التي لا تتسع إلا لقوالبهم الضيقة – ربما يشبه على نحو ما النزعة الأحادية التي تخترق الحياة العربية من أقصاها الى اقصاها – إذا لم تكتب بهذه الطريقة ووفق هذا المسار فلا تستحق الالتفات، دعك من اللعنات التي تصب على الابداعات السابقة و “الأجيال” وادعاء القطيعة والبتر كي يخرج المبدع من البياض المطلق لفراغ الخلق من غير امتدادات ولا أوامر ولا جذور.
بهذا المعنى تختزل الكتابة الى ما هو أسوأ من الموضات سلقا وموسمية وتجبر الكتابة على أن لحبس الشكل المسبق للحظة ولادتها، أي يتم الرجوع الى ما تجاوزه السجال والزمن الابداعيين في فصل الشكل عن مضمونه وتحويل الأول الى وعاء تصب فيه المعاني والدلالات.
يمكن في هذا السياق ملاحظة ذلك الانقضاض الجماعي على نمط تعبير بعينه، ليس قصيدة النثر فحسب وإنما نوع كتابي في إطارها لنأخذ ما دعي بقصيدة “التفاصيل” مثلا وقبلها توسل الصوفية واستلهامها وقبلها الواقعية لاشتراكية، ونقرأ ذلك التشابه الذي لا تمليه تقاطعات التجربة والمرجعيات القرائية والواقعية، وإنما إملاء الشكل المسبق وخلط المفاهيم والتصورات التي تملي على الكتابة لفظيتها وتشويهاتها ورتابتها المضجرة.
تفاصيل الحياة موجودة في تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية وليس اختراعا جديدا وصاعقا الى هذا الحد، ربما طريقة الاستعمال والتناول والحضور الأكثر كثافة هو الجديد في الشعرية العربية. وفي كل الأحوال ليس ثمة شكل تعبيري يرتفع الى مستوى المقدس والمطلق على مر الأزمان.
***
على المستوى الفكري باستثناء القلة التي تعمل وتنتج في حقل الأفكار والنظريات والوقائع بشكل حقيقي، نرى العجب العجاب من قبل أولئك الذين كرستهم آليات الصحافة «مفكرين». يمكن أن نورد واحدة من طرائف هؤلاء المفكرين في معرض القاهرة الأخير حيث تكلم شاعر وكاتب هو الأجدر بتسمية مفكر، عن أشياء منها “الأذواق” التي تسحقها الرداءة في العالم العربي. فما كان من “المفكر” إلا أن انبرى في الرد مندفعا وكأنما يرمي بحجر الفلاسفة، وربما لمح طيف صوفية وأدب في كلام الشاعر: يا أستاذ يا أستاذ لن نتقدم بتنمية الأذواق والخيالات وانما بالعلم (كذا!!) هذه الواقعة ليست مجتزأة من سياق قصد الاساءة وانما فحوى نتاج هذا “المفكر” الذي يبحث في “الاجتماع” وأقرانه الذين ليسوا أبعد من ذلك في عصر تكريس الانحطاط القيمي والمعرفي.
ومن المنصة نفسها التي يتم فيها إطلاق الصفات والألقاب الأدبية والأكاديمية من غير أدنى خجل أو «ذوق» نصل الى ما هو أندح في إطلاق صفة المفكر التي أصبحت تطلق ليس على الكاتب والجامعي الذي لم يجترع أي إضافة على الفكر المنجز على مدار التاريخ، وانما أصبحت تسام على كل لقيط معلومات عامة مثل مفكر الفروق الصارم بين العلم والأذواق وأصبح لدى العرب آلاف المفكرين والفلاسفة، تضج بهم الساحات والأكاديميات والأكروبولات على أرض بهذا المستوى من التداعي والهزال.
***
يحمل بعض أصحاب هذه المنابر والمعارف والأفكار وجهتهم ورؤاهم محمل المرجع الموسوعي والمتخصص على صعيد المعرفة ومحمل المعارضة والاحتجاج على صعيد الموقف – رغم ما مضمره الخطاب والموقف من خلفيات شخصية ومنفعية وتصفية حسابات صغيرة- كي تكتمل حلقة الخطاب المدوي في “صوتيته” حسب المرحوم القصيمي في إحالته هذا النوع البشري الى ظواهر صوتية. وهو النوع الذي لم يكن القصيمي مخطئا بحقه في هذا الوصف، فكل ما يسم هذا الخطاب بكل تفرعاته واشتقاقاته ليس إلا صخب “ألصوت” وزبده. نستدرك أن الصوت هنا هو صوت قطعان المعرفة، صوت الرعد اللفظي. إذ جردنا الرعد من جمالياته الروحية والشعرية، ذلك المقادم من الما وراء والأعماق الغامضة للطبيعة – وليس صوت الذات الخفيض الذي يشبه الصمت، صوت الحيرة في بحثها الجحيمي عما يسد الظمأ ويسند الوجود العميق والهش للكائن. يحمل أصحاب الخطاب إياه على البناء والنقد والمعارضة لكنك لا تستطيع تبين الشيء من نقيضه بل تغرق في دوائر الكلام والاستيهام من غير أدنى قدرة على المفرز والتحديد. كلام يتقاطر في صحراء تفيض بالجذام. هكذا في الفكر والأدب تمحي وتضيع الملامح والقسمات في زبد الكلام المجارف، كأنما العربي في حومة هذه الوغى لا يسند وجوده إلا الكلام والوهم في أدنى مراتبه.
هل في غياب المنافق الطليقة للمخيلة البشرية وغياب الممارسة الحرة للفكر يصبح اللامعقول والعبث والجنون الأكثر استقامة ومنطقية في مسودة هذا الأفق الذي يمليه عقل كاذب كما يعبر “الهامش” الذي بدأ عربيا في مساءلة «المتن» وربما إزعاج هيمنته المطلقة وما زلنا في سياق “المفكرين” وتلاميذهم لكن ربما الأبعد قليلا من المفكر الطريف، لم يؤشر الخطاب الفكري العربي الى معالجة ورؤية تحسب لصالحه أيا من الوقائع والنصوص الأدبية والجمالية المنتجة في هذا المجال الروحي الذي يشكل أرضا ثرة للخطابات الفكرية والفلسفية وتحليلها وانشغالاتها في غير صعيد ومضمار منذ هوميروس وحتى عصرنا الراهن الذي تكثفت فيه هذه الدراسات وأصبر استنطاقها او اشتغالها على مجالات الأدب والفن ضالة تحليلها لوقائع العصر وبشره وجماله وقبحه وتناقضاته المريعة. عكس ن لك لدى هذا النوع من المفكرين العرب، إذ ينظرون بنوع من التعالي المسطح الى مناطق الابداع الأدبي والمفني سيما الشعري، بصفتها نشاطات غير “نافعة” ومآسي الأمة وقضاياها الكبرى تقتني تلك الوقفة «العلمية» الجادة حد التجهم التي أشرنا الى بعض عوارض رعدها الخاوي.
***
يجلس العربي ويستمع ويشاهد، هاربا من حصار أيامه وشروطها، ليصطدم من جديد بهذه الجدران من الكلام والهذر المحبوك بأشكال مختلفة تمتد من البرامج الشعبية وحتى تلك التي تستضيف مفكرين ومتخصصين، وفي الندوات التي تتوسل الثقافة والصفوة حاملة مشاعل الهداية والتنوير!!
كلام لا يطوق بابه المصمت ولا مكان لديه لعبرة أو تأمل. وليس هناك من التفات لخطورته ورعبه، ولا متعة سرد وحديث.
كلام ينزل كالرصاص على مستمعيه ومشاهديه الذين بلغوا حالة مستعصية من العذاب والافتراس المتبادلين التي تلف أطراف هذا الهدير الساحق ونسيجه ومرماه.
الكلام بهذا المعنى مهنة وطريقة عيش وارتزاق مهما تقنع بالدور، في البحث عن الحقيقة والرسالة وانتشال الأمة من حفرتها السحيقة. الذي يفصح عنه أصحابه وفرقاؤه بمناسبة وغيرها، من كل نسل ومذهب واتجاه.
 
سـيف الرحـبي