كل لحظة جديدة،كل موت قديم
(مشاهد آسيويّة)
الطاولات والكراسي، الكؤوس والشوك والملاعق، الأسرّة والأغطية، تتغير في أوقات مختلفة في اليوم الواحد.
العمال والنـُدل، مباشرو النشاط الوظيفي في الفنادق، يهرعون من الصباح الباكر عبر الحافلات والسيارات والقطارات، إلى مزاولة أعمالهم وتأدية الواجب المناط على عاتقهم، لاستلام المرتبات آخر الأسبوع أو الشهر.
جيش الموظفين يهرع كل صباح وكل مساء..
وجيوش السيّاح والوافدين على المدن والفنادق، المطاعم والمقاهي، يَفدون في كل الأوقات من بلدانهم البعيدة والقريبة لدوافع مختلفة. مدفوعين في الأساس بحلم التغيير والتجديد من حياة أضحتْ خانقة وضاق أفقها مهما كان واسعا ذا قبل، جعلته العادة والنمط لا يطاق ولا بد من كسر جموده. وذلك لا يتأتى إلا بالسفر والترحل إلى بلد آخر وطقس آخر. وغالبا يقع هذا البلد وهذا الطقس، خارج الحدود الجمركيّة والسياديّة للأوطان التي تربي الفرد والجماعة على أناشيدها وثقافتها، من أكل وشرب وتاريخ وجغرافيا، في الواقع والمتخيّل المثالي الذي تحتاج إليه الأوطان المختلفة لحقن مواطنيها وسكانها وشعوبها بجرعات الولاء والصِلة والمصير.
يتوافد السياح والمسافرون عبر عَتمات الدروب الطويلة التي يمتد طولها لخمس عشرة ساعة وأقل وأكثر، متحملين مشقة الطرق الجويّة المتقلبّة والبريّة الصعبة التي تمتد لأيام وليالٍ لا ينام فيها المترحل والمسافر إلا خِلسات كرى مُنتزعة من غابة الهواجس والتوقعّات..
ليس للمسافر من حدود لأحلامه، فهو يريد أن يفترس المسافة والمتعة قبل أن يفترسه الزمن وتقلب الأحوال..هناك من بلغ عِتيّا من تراكم سنوات العمر، تراه أكثر نشاطا في تكديس أحلام المسرّات والمناظر المبهجة للنفس، وما تبقى من حياة. وغالباً هؤلاء من الأقوام الأوروبيّة ذات القامة الحضاريّة العالية التي تحسب لكل مرحلة من العمر حسابها الخاص.
أما الأقوام الأخرى التي يسحقها العوز وخراب الأحوال، فالأمر لديها على عكس ذلك تماماً..
السفر بالنسبة لمعظمها، هو الرحلة اليوميّة في البحث عن لقمة العيش أو (الستر) ستر العراء الوحشي الذي ترفس في أتونه، هذه الشعوب..
في الأماكن المختلفة من العالم، في برهة العصر الذي نعيش، تستقبل هذه الأماكن المخصصّة، زوارها ومريديها وتستقبل عشّاقها ومحبيها، كل بمزاجه وتصوره الثقافي، للرحلة والتغيير. تتجدد دورة الحياة براً وجواً وبحراً حتى توشك على الانفجار من فرط الحركة وكثافتها معلنة كل لحظة حبلى بالتغير العاصف.. كل لحظة جديدة وكل موت قديم..
***
مرت أيام لم أكتب لكِ حرفا أو كلمة. مشاغل يومية أخذتني في سياقها ولم تأخذني من القراءة المتقطعة لأكثر من كاتب وكتاب. أريد أن أكتب شيئا ما، أن أعبر بالكلمات الناقصة والمشاعر المضطربة دوما.
أعماقي ترزح تحت هذا الهاجس الذي يجعل الكلمات تتوافد عليّ في نومي وتوقظني لأكتبها، وحين يسحبني النوم إلى جزره البعيدة، لا أتذكر في الصباح إلا ضباب عبارات هاربة، لا يمكن القبض على أي منها، كما جاءت في المنام مشوشة غامضة وعدوانية..
إرادة الكتابة لا تجعل منها على الدوام أمرا ممكنا وإلا ستكون عملية إكراه فظّة، خالية من الوقود النضِر اللازم للكتابة.
أريد أن اكتب عن ذلك الطائر الأحمر القاني الذي رأيته بالأمس في الحديقة المليئة بأصناف الطيور والحيوانات من كل بيئة وجنس ولون.
ذلك الطائر، قطعة النار اللاهبة وسط بحر الخضرة والطيور المحلقة والناعسة على منعطف الممرات والأشجار.
حتى حين انهمر المطر مدرارا غزيراً كان الطائر الناري يشعل فضاء الغابة بغزارة الدم القاني، الدم المسفوك في كل جهات الأرض، وعلى ضفاف سماء المغيب. كان لونه المتطاول المتمادي على صغر حجمه وهو يْلـَبد على غصن الشجرة العملاقة، كأنما يلتهم كامل الفضاء والمكان..
كانت مشاعري تجاهه، وهو يجرفني في دوامة ضيائه الحارق، تتوزّع بين الدم المراق على امتداد تاريخ الكائن وبين اللهب الخالد لنار (هيروقليطس) التي هي أصل الوجودِ واليها يعود… وما لا يوصف من ذكريات نار المواقد لبدوٍ مترحلين عبر الصحارى والجبال..
كان ذلك الطائر الذي أشعل الفضاء وأشعل الأعماق أنظر إليه على نحو من خفر وحزن أزلي، حزن الطائر، الذي لم يفقد وحشية البراري والأكمات. ولم تدجنه اليد البشرية كباقي حيوانات الحديقة ووحوشها.
حتى الأسود والنمور وأنواع النسور، بدت مستكينة لـَقـَدرها، من غير خيال ولا مخالب وأسنان، بدت كدليل وعلامة على الهزيمة المذلة وانقراض السلالة النبيلة..
وحده الطائر، حديقة الدم القانية المشعة عبر الأرجاء والآماد.
***
اليوم 25/4/2010 تناسيت نفسي في السرير متقلباً برفاهية العطالة وأحلام اليقظة التي تتقاذفني أمواجها إلى البعيد البعيد.. الطفولة الغائرة في قيعان بحار مرجانية وأخرى مأهولة بكافة الضواري البحرية التي تتحول عبر الفعل الخارق لأحلام الطفل إلى كائنات رحيمة تلعب معها بألفة وحميميّة..
هناك حيث تسكن أسماك القرش، جنة القرش في سواحل بحر العرب أو في المحيط الهادي حيث تزدهر وتتكاثر ذريته بشكل لا نظير له في كافة البحار والمحيطات.
أسماك القرش في المحيط الهادي أكبر المحيطات في العالم، وأكبر من الأرض اليابسة، وحده المحيط الهادي أكبر من أرضنا ببلدانها ومدنها وحضاراتها وبشرها قاطبة.
صحوت مستعيدا بعض تلك الظلال الفردوسية بوحشية الكون الأولى..
أرتدي ملابسي بسرعة، أفتح شباك الشرفة الأرضية كي أختصر الطريق نحو قهوة الفندق التي توشك على الإغلاق. أمضي لألبس حذائي الذي تركته في الشرفة نفسها، حين رأيت ما يشبه مشهداً سينمائياً، ظننته لأول وهلة قادما من عالم الأحلام والهلوسات، أو أن الرؤية ما زالت تحمل طحالب النوم، رأيت حيّة تنسلُّ من داخل الحذاء حيث كانت على ما يبدو نائمة طوال الليل، تنسل بخفة ورشاقةٍ ما إن سمعتْ صوتا يتجه نحو ملاذها الليلي الآمن والعابر. راقبتها تزحف بتؤدة بين ظلال أشجار الحقل حتى وصلت إلى ما يشبه الدغل الصغير واختفت في جروفه المظلمة لتواصل نومها الهادئ الطويل.
فكرت أنني أزعجت هذا الكائن الوديع وأقلقت راحته رغم أنني لا أحب الحيات أو الثعابين. فقد كانت تقضُ نومي بأشكال كابوسية متنوعة.. وشاهدتها طفلاً في القرى والوديان الغائرة بين الجبال العالية، تزدرد العصافير واليمام بريشه لقمة واحدة، كما تزدرد الصحراء الفصول. شاهدت اليمام يستسلم لأنياب الوحش من غير مقاومة، يستسلم لحتفه القاسي والأكيد..
لكنني الآن في البلاد التي تشكل امتداداً للحاضنة الصينية الكبرى التي تصخب معتقداتها الميثولوجية بحب هذه الأنواع الزاحفة. وخاصة أعظمها خِلقةَ وشكلاً (الدراجون) الذي يرمز لديها إلى نماء الحياة والخصب والانتصار. على عكس بعض المعتقدات الشرقية وغيرها التي ترى في هذا الحيوان الأسطوري وأشباهه، رمزاً للشر والخراب، يجري التخلص منه على يد رمز الخير والانبعاث، لتعود الأرض اليباب إلى النماء، ويتدفق الأمل في شرايين الحياة من جديد.
ربما أصبحتُ صينيا في هذه اللحظة العابرة، وأنا أشاهد الحية بحبٍ وحزنٍ، وهي تزحف وتتوارى هاربة نحو جروفِ الدغل.
***
يذكرني نهرُ (ميري) الذي يشق البلدة من الأقصى إلى الأقصى متابعاً طريقه ليس باتجاه نهر (الميكونج) الكبير الذي ينام في أحضانه الشاسعة عددٌ من دول الشرق الآسيوي وتتفرع منه الأنهار والقنوات والدلتيات الكثيرة «منذ ملايين السنين ونهر الميكونج يثري الحضارات ويضم أحد أكثر عوالم الأسماك والنباتات تنوعا في العالم».. فـ(ميري) بصفتها جزءا من الجغرافية الاندونيسية التي تشكل ذلك الأرخبيل الكبير من الجزر، سيكون اتجاه نهرها أقرب إلى تلك الجزر والأنهار والبحيرات..
يذكرني نهرُ (ميري)، في نقطة التقائه ببحر الصين، بنهر (أبي رقراق) في الرباط حين يلتقي في مصب المحيط الأطلسي، ويذوب النهران كما الأنهر الأخرى، في مياه البحار وأمواجها المتلاطمة..
نقطة الالتقاء تلك هي آخر ملمحٍ من ملامح الأنهارِ وهويّتها المائية قبل أن تُبتلع وتضيع.
نقطة الالتقاء تلك هي آخر محطةٍ للأنهار في سفرها الطويل عبر المدن والقرى، الغابات والمروج..
هل تنقطع ذاكرتها وتُبترُ في خضم ذلك العناق القاسي مع البحار والمحيطات الذي ينتهي بالذوبان والضياع؟. أم تبقى شظايا متناثرة تتقلب فوق أديم الموج والزبدِ وهياج الأعماقِ والحيتان الغاضبة؟.
يختلف (أبو رقراق) عن نهر (ميري) الذي أحدق في جنباته هذه اللحظة المنصرمة من مغيب آسيوي خاص، حيث أحزمة الألوان المتدرجة والمتداخلة في الأفق، عشرات الألوان واللطخاتِ والحقول المشعة برغبة الآلهة وغموضها. بيوت وأقواسٌ بشرية وحيوانية، وثمة رعاة يعودون بأبقارهم وأغنامهم في زاوية من هذه الملحمة اللونية.
وهناك مسافرون يجمعون الأمتعة والحقائب، بحركة عصبية سريعة، يختلط هذيان أطيافهم مع عواء السفن وقصف الطائرات.
ويتناهى إلى سمعي صوت المؤذن يتردد صدى أنغامه عبر الفضاء الفاصل ليقترب أكثر فأكثر مندمجاً بتضرعاته وأصدائه، في هذه القارة الغريبة من الألوان والأرواح والمغيب.
يختلف (أبو رقراق) من ناحية حجمه الصغير، أمام النهر الآسيوي الغزير، ويختلف مغيب الأطلسي عن مغيب بحر الصين الجنوبي… ومن ناحية الطعم والألوان والروائح.
(أبو رقراق) الذي باغتني بمثل هذا الإلحاح والوجدان، محطماً كل هذه المسافة الضوئية بين المغرب وهذه الأمكنة النائية في الخيال والذاكرة، لم يأت وحده بل جاء معبأً بالأصدقاء هناك، بالطفولات والكتبِ وكرم اللحظات التي عشناها بين النهر والمحيط.
***
يروي (لوكيزيو) قصة إحدى رحلاته بين بلدان أمريكا اللاتينية، تلك الرحلات المحلية بين أقاليم ومناطق القارة المدهشة، أنه كان على إحدى الطائرات الصغيرة وكان قريبا من الطيار المغامر الذي يشبه رجال الأدغال في الأمازون..
أخذ الفضول (لوكيزيو) وهو يجول بنظره حيث الغابات المترامية والجبال الخضراء تحلـّق فوق ذراها السامقة نسور الإنديز. سأل (لوكيزيو) الطيار عن ماذا سيحدث لو توقفت الطائرة في الجو عن الحركة ؟ فما كان من الطيار ذي العصابة الحمراء، إلا أن أوقف المحرك على الفور، وتوقفت الطائرة هنيهات حتى بدأت في النزول إلى تحت، حيث المصير المجهول الذي يلفه ضباب الموت. ثم أشعل المحرك واستأنف الرحلة من جديد..
هذه الحادثة التي تدل على تذوق واختبار لحظات الخطر الجميل، إذ كل جمال لا بد يكتنفه الغموض والخطر لمن أراد أن يعيش لحظة زمنية لا بد أن يركب مركب البرق والخطر.
تطرح هذه الحادثة أيضا مسألة ركوب الطيران الصغير بين الجُزُر والأرخبيلات غالباً، في الأماكن والغابات المختلفة، منها القارة الآسيوية التي أتذكر من فضاء جُزُرها المتموّج بالغيوم الكثيفة والرعود الصاعقة تلك الحادثة، واستحضر جمالاتِ ومصائرَ بشر آخرين من كتـّاب ومغامرين محترفين، وهواة تنقل في مثل هذه المناخات والأجواء عبر الطيران الصغير والشراعي.. يلفحهم الهواء النقي والهواجس العاصفة، منطلقين صوب الغابات المطيرة والمحيطات المزْبدة.
إنها لحظات حرية ينطلق فيها الخيال إلى أقاصي آماده اللامحدودة بسقف الزمن والتأطيرات المسبقة.
في مثل هذه الحالات الاستثنائية لا تحتاج إلى القراءة والكتابة، إنك تعيش الجمال مجسَّداً في الهواء الأزلي الطلق.
***
غالبا حين استقل مصعداً من الطابق الأرضي أو غيره من الطوابق الأعلى والأكثر علواً خاصة ً في العمارات العالية والأبراج، ينتابني شعور النهاية في هذا القبر الحديدي. فما إن يتوقف لعطل فني عابر إلا ويسيطر عليَّ هذا الإحساس، وتسري رجفة التوتر وما يشبه بداية الانهيار في أوصال جسدي..
اليوم توقف (اللفت) في الجزيرة الآسيوية وأحسست إنني أدخل ظلام النهاية الحتمية بمثل هذه القسوة والبشاعة، أن تكون في مثل هذا الظلام الفظيع الخانق وليس في رحابة المياه وشفافية أعماقها الأنثويّة الصافية.
أو تائهاً في غابة لا محدودة الأرجاء، تقطف ثمار موتك بتأن فيه الكثير من جمال النهايات الباحثةِ عن خلاص.
ذلك الفرق الجذري بين الموت الجمالي الحنون في مملكة الطبيعة، وبين الموت تحت مقصلة أداة بالغة الجلافة من أدوات العصر الحديث وإكراهاته ورعبه، وهو يربض على الكائن ليلا نهارا كقـَدَر حتـّمته ضرورة الحياة ببنياتها وتفاصيلها المختلفة.
لكن ثمة مفارقة في الأمر فمثل هذا الاحساس الكارثي لا ينتابني حين أركب طائرة أو قطاراً، وهما بداهة ً من نتائج وأدوات العصر نفسه..
ربما لأن الطائرة والقطار يصبحان في انطلاقهما على الأرض الشاسعة والفضاء الأكثر اتساعا، امتدادا للطبيعة في تجليها العميق. على عكس ذلك القبر الحديدي الغاطس في الخرسانات والاسمنت من كل الجهات.
في عمق البحر الآسيوي في الجزيرة التابعة جغرافياً لأندونيسيا ذلك الأرخبيل الذي يمتد لأربعة آلاف جزيرة في القارة الأكبر على مستوى العالم – والتابعة إداريا لماليزيا – ربما هذا التقسيم جزء من تركة الاستعمار الانجليزي الذي وزّع نِعمه على مختلف الشعوب التي كانت تحت سيطرته..
***
في عمق ذلك البحر، بحر الصين الجنوبي، انظر إلى صخرة ضخمة بحجم جبل الفحل في عُمان. لكنها تختلف عن الجبل العتيد كونها مغطاة بالأشجار والنباتات الاستوائية بالكامل حتى لا تبدو جزيرة صغيرة وسط البحر الأصفر المتلاطم..
تمنيت لو بين ليلة وأخرى، يصبح جبل الفحل على المنوال نفسه مُحتلا من فيالق الطبيعة الخصبة الخضراء، رغم تعوّدي حدَّ الإدمان على دكنته الصخرية التي استعارها من طبيعة الأزل وألوانه الحادة التي تكدّست على أديمه الأزمان والأجيال.
قـُلت فيالق الطبيعة من فرط احتشادها وهجومها الذي ينعقد لواؤه بين الثانية والأخرى لاكتساح اليباس والجهْمة والجفاف، طلائع الغيوم حين تكون السماء صافية والشمسُ ساطعة، تبدأ من حواف الجهات الأربع وتتسارع وتتكثّف حتى تحتل السماء في ضربة هجوم ٍ خاطفة.
***
من خلال الارتطامات الرهيبة وتيارات المياه المتـّدفقة داخل الجروف البحرية والأثلام..
من خلال جلـَبَة عوائها الجريح، تصغي إلى وقـْع مذبحة الأعداء وقد عملتَ في صفوفهم السيف والمسدس والرشاش وكافة أنواع الأسلحة..
لا تسمع إلا توسّلات الضحايا على وقع انهيارهم تحت براثن الموت الأكيد..
وكلما أوغلتْ المياه المحتدمة بالغضب في ظلام كهوفها، كلما أمعنـَت في تدمير الأجساد وتمزيقها حتى تحيلها إلى أشلاء ورماد، ليبصق عليها المارّة الذين يحقنهم الغيظ نحو هذه الأجساد الظالمة العفنة.
***
تتقدم عربة الغيوم المُثـْقلة عبر بحر الصين الجنوبي، نحو الحقل المتحرك بفعل عاصفة خفيفة.. يتقدم الحقل معانقا غيمتها الأولى، طليعة الغيوم المتقدمة بثمارها.
تمر بواخر، تمر ناقلاتُ نفط
شجر الحقل يبكي من فرح ٍ وشوق
صياح طفل في القريب.. الموجة يعلو هديرها
بينما الرعاة يسوقون القطعان في سماءٍ معتمة
***
في هذا الصباح الخالي من الغيوم، المتموّج بشمس استوائية، تأخذ مجدها المفقود في غياب السحب والغيوم المطرية. وثمة (تركترات) تذرع مساحة الحقل محدثة ضجيجاً غير معهود يضطرك إلى الاستيقاظ مبكرا، وصنع القهوة، في محاولة عمل ما يمكن عمله كي لا يفتك بك الوقت بهذا الشكل المبكر الذي على جاري العادة، تكون فيه حالتك الذهنية في نشاط أفضل من بقية الأوقات المتعاقبة..
في هذا الصباح المشمس يهجم عليك مشهد (الجِيَف) الجيف المسبوقة إلى العالم دائما، بنتانتها وانفجار روائحها الكريهة، التي من فرط فظاعتها الجيفية المنتنة، يمكن أن تشرِّد سكان القارة الآسيوية بأكملها كما لم تشردهم الزلازل والفيضانات، يمكن أن تبيد أي عنصر حياة وجمالٍ على وجه البسيطة الممتد..
الجيفة الضاربة في القِدم، هي ربما الأكثر قدما من الوجودات المادية الأخرى.
نتانة سحيقة في وجودها وعنفوانها واستمرارها.
هل يمكن تخيل تراكم تاريخها وقيم السلوك والمباغتة والانقضاض على الكائن الأعزل، وهو يتوسل رأفة بحرٍ أو شجرةٍ وكتاب. هل يمكن تخيل تلك القوة المتفوقة بخلفيات وتدافع الجيف وكيفية صنيعها الحاذق لدرجة عظيمة، عظمة الجيفة وتصميم أفقها الذي ينشر ويبث رياحه في مدارات البشر والحيوان؟..
ليس بالضرورة أن ترى الجيفة فهي بعيدة، لكن نتانتها المراوغة الخبيثة برخص، تترحل نحوك أينما ذهبت، أينما ذهب الكائن الذي يحاول الهرب من مستنقع الجيف الموزّعة على خارطة الظلام والضباع والقذارة، على نحو عادل. فمنها ريما، ينبثق قانون التوزيع العادل الوحيد لثروة الجيف والنتانة.
ثروة الجيف، ليست جيف (الرخم) وهياكل الحيوانات الممزقة في أرجاء تلك الصحارى والجبال التي كنا نرى أسراب الضواري تلتـّم عليها وتحوم حولها في ما يشبه أعراساً جماعية. وليست تلك القادمة من عصور( قابيل وهابيل) يحمل الشقيق جثة أخيه من مفازة إلى أخرى بانتظار بزوغ المعجزة.
جيف الضحايا والقتلى والمغدورين عبر الأزمنة والأمكنة، تلك الجيف المُضاءَة بأمل المستقبل على البشر أجمعين كما كان ماضيهم وحاضرهم، والحبل على غارب جملٍ تائه بين المجازر والجيف وقيم الغاب البشري المنيع على التوصيف..
عدالة توزيع الجيف من منطقة إلى أخرى يزيد أو ينقص بإطار نسبي بحيث لا يؤثر تأثيرا حاسما على لبِّ هذا القانون. لكل مكانٍ خصائصه وجيفه ونتانته.
لكن النتانة الجيفية التي ترحّلت نحوي هذا الصباح هي الأكثر فتكا وخِسة طـَبْع ٍ أصيل متـّجذر في العائلة والسلالة الجيفية المطبقة على الجهات.
***
في المساء الغائم أمشي على شاطئ البحر المحاط بأشجار السرو وقليل من أشجار جوز الهند والنباتات والأشجار الأخرى.
تنتشر على طول الشاطئ الأخشاب المقطوعة من جذور الأشجار العملاقة التي تنبت في الغابات. ويلفظها البحر بأحجام وألوان مختلفة. جذوع وفروع وأغصان، داكنة وسوداء وبنية،. تنتشر كأشلاء جثث بشرية سحلتها الصواعق ليلة إعصار وعنف أعماق مدلهم. بعض الجذوع يبدو مُستصلحا في طريقه إلى المدن والأسواق، وقد اختطفته العاصفة من أحشاء السفن المبحرة..
خطرت لي فكرة فراره قبل أن يصل إلى التجار والمصانع التي ستحوله يقينا إلى الورق، أطنان الورق التي ستـُوزع في جهات العالم لتغطي الاستعمالات المختلفة لنشاط البشر. فهذه الصناعة كانت من أهم دعائم اكتشافات الحضارة (البداية الفعلية كانت في الصين). لكن حين يستخدم لتأصيل الشر والانحطاط، تتعذب روح الغابات الحرة الطليقة وتقضي لياليها الموحشة في الأرق والسهاد والتفكير في المصير القاتم الذي ينتظر جزءا من حياة شعبها، البالغة العلو والكبرياء. وإن بقي الجزء الآخر عصيا على التدمير والإفساد البشريين ربما..
الكتابات الرديئة التي تملأ رفوف العالم، جزء من هذا التعذيب والتدمير الذي تتعرض له حياة الغابات.
وكم تبدو الغابات معذبة ومظلومة ومُعتدى عليها أيما اعتداء، إذا عرفنا أن الكثير من كرمها الجمالي يقع في الأيدي الخبيثة والجاهلة. على جاري القول الشعري (خذاني فجرّاني ببردي إليكما.. فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا).
دهن العود مثلاً يستخرج هو الآخر من جسد الشجر الغابي لحظة احتضاره وإفرازه لمادة تكوّن ذلك العطر الغالي والفريد.. أي مفارقة تنتمي لصنف التراجيديا الرفيعة في حياة الغابات هذه؟
وأمثلة الخير الجمالي والكرم الغابي لا تحصى في هذا المجال..
بعض تلك الجذوع والفروع والأغصان اقتلعته العاصفة وقذفته إلى البحر الذي يلفظه في هذا المساء الجنائزي للطبيعة الخالقة، أحدق فيه وهو في لحظة اشتباك جسدي وعناق صوفي بحيث يستحيل الفصل بين الجذعين أو غصنـْي الشجرة الشهيدة، كأنما ترفض الموت المجاني، وتذهب في غيبوبة عشق أبديّة.
***
هذا البعوض الذي لا ينفع معه أي احتياط مهما كان، سيقتحم جسدك ويرديك مُثخنا بجروحك وأورامك عدة أيام.
أنت الذي لا تريد نسف الأيام واللحظات كيفما اتفق في هذه البلاد النائية. تريد أن ترى وتترحل في أرجاء بحارها وغاباتها وأنهارها، وأن تغرف عينك العطشى من سحر المشهد البصري وغزارته..
هكذا كان تصورك أو طموحك، لكن البعوض القادم من الغابات المحيطة بالمدينة الصغيرة له تصور آخر تمليه غريزته العدوانية تجاه بني البشر الذين اقتحموا مملكته المحصنة بهيبة المرئي واللامرئي وأحالوها إلى مختبر لعلومهم ونوازعهم اللامحدودة بسقف الحاجة والضرورة بل الاستباحة وجمال مشهد المجزرة كما يحصل في الشأن البشري نفسه، فكيف بجمال الأشياء والطبيعة ؟.
البعوض الصغير البالغ الصغر والضآلة الذي يكاد لا يُرى بالعين المجردة، تنتشر كتائبه مع قدوم الليل غالبا، ليساعد في حماية أراضيه وممالكه من الاستباحة والاقتحام.
البعوض الصغير المخطط. من أين يستعير أنياب الضَبع تلك ليثخن ضحيته على هذا النحو الكاسح..
بعوضة واحدة تدمي جبهة الأسد، حسب قول الشاعر. لكن جمع من البعوض يصرع الأسد والنمر وقبلهما بالطبع الإنسان الأكثر هشاشة وادعاء لولا ذلك الدهاء والخبث والقدرة الخرافية على اختراع أسلحة الإبادة التي تحيل الخصم إلى هشيم ورماد، مهما كانت قوة الإيمان وقيم البطولة والكرامة. ستحسم قوة النار المعركة. وإلا كيف مُحيت حضارات وأمم من على وجه الأرض كما يشهد التاريخ بوضوح ساطع. (هذه القيم يوجد جنينها في الطبيعة إن لم يكن أكثر من جنين وأقوى… إن لم يكن المثال المكتمل)
في هذا المنحى الإبادي، وأنا أتناول الإفطار في مطعم الفندق وأشاهد آثار هجوم الحشرات والبعوض ليلة البارحة في أماكن من جسدي، أسمع لغط نسوة استراليات، على مقربة من طاولتي، يمرحن ويضحكن كما يليق بسائحات جميلات جئن إلى البلد الآخر لتغيير المزاج والإنعتاق من الروتين، باتجاه المغامرة..
استراليا التي هي ليست بعيدة عن هذا البلد الآسيوي. ولها فيه جامعة، تلك القارة الحديثة العهد في الاكتشاف والعريقة في وجودها السحيق (توجد فيها أفتك أنواع السميّات في العالم(.
كيف صارت أوروبية القلب والقالب إلا بأسوأ أنواع الإبادات، حين جهز الانجليز جيشا من القتلة والمجرمين مزودين بأسلحة العصر آنذاك، إلى جانب عنفهم الهمجي وغرائزهم الوحشية المنفلتة من أي رادع كسفلة ونفايات مجتمع قذفتهم قوانينه إلى السجون والعقاب..
هكذا أُبيد شعب وولدت استراليا الحديثة.
هكذا ولدت القارة معمّدة ببركات الحضارة والتقدم كما ولد غيرها على نفس المنوال بأشكال مختلفة..
تذكرت هذا الحدث ونسيت عدوان الحشرات والبعوض البالغ التواضع واللطف أمام عدوان البعوض البشري. رغم معرفتي أن البعوض فيما مضى، مع القمل، نقل أصنافاً من الأوبئة، أبادت أمما وشعوبا بكاملها.
البعوض البشري الصغير الذي لا يكاد يُرى هو الأكثر خطورة وحقارة.
عدوان البعوض الغابي البالغ اللطافة والرأفة خاصة حين عرفت أن الإناث، أسراب الإناث هي وحدها من دون الذكور القادرة على الإيذاء وامتصاص الدم. فأن يجرح الإنسان أو يموت بسبب أنثى من أي صنف بشري وحيواني، تلك نهاية فيها من الرأفة والرومانسية، إن لم تكن الشهادة بكامل ألقها كما عبر (جميل بثينة) الذي لم يختبر القتل والشهادة على أيدي هكذا إناث فارهات.
***
على مسافة قريبة سياح يصورون بعضهم على خلفيات طبيعية وتماثيل ومنحوتات تتوزع في الحديقة المترامية وسط معابد بوذية مصغرة، تعبق بروائح نفاذة خاصة. السياح يصورون بنهمٍ كأنما ثمة خوف لديهم من اختفاء المشهد إلى الأبد، أو من اختفائهم من هذه الحياة المشهديّة، حيث تلحُ الرغبة في الاحتفاظ عبر تحويلها إلى لقطة فوتوغرافية كأنما ثمة هاجس اختفاء المشهد والصورة الواقعية لدى السياح اليابانيين والكوريين، يعبرون عنه بالاندفاع وبشراهة التصوير، رغم أن الطبيعة الروحية والجغرافية للمكان تقترب من خصائص طبيعتهم..
رفرفة على جذع النخلة التي يخضها المطر والصواعق طوال الليل، تتبين أنها رفرفة عصفورٍ بالغ الصغر، من تلك العصافير التي تؤمُ غدران النخيل والأشجار الأخرى. صوت الرفيف ينبئ عن طائر أكبر، لكن الألوان البالغة الجمال في العصفور الصغير وذلك المرح والحضور الأنيق، يعوّض صغر حجمه ويجعل منه وجوداً مميزاً بين الطيور والعصافير..
***
تمتد الحدائق والمروج على مسافة النظر الذي يتيه في اتساع فضائها المتموج بزرقة السماء والمياه والشجر المتدرج الألوان والأحجام، من الصغير إلى الشجر العملاق، الذي يذكر بالغابات المطيرة..
وأظن أن الغابات جميعها مطيرة وإلا لأحالها الجفاف إلى حطام. وأُطلقت هذه التسمية على غابات بعينها في هذا الجزء الآسيوي وفي أمريكا اللاتينية لوقوعها على خط الاستواء حيث الأمطار الغزيرة والرطوبة في أقصى مداهما، وربما إضافة أسباب أخرى..
هل يملك شجر الغابات والمروج نفس روح الصمود وقدرتها على البقاء واقفة أمام العوامل الساحقة للجفاف وشحةِ الأمطار، تحت مطرقة شموس فاتكة؟ مثل تلك التي يملكها ذلك الشجر المتجمع على شكل غابات صحراوية صغيرة وأكمات، في فيافي تلك الأرض. ويظل وسط قدره على رغم حزنه متألقاً، حزن الروح البطوليّة التي تواجه دوماً قسوة الطبيعة والزمن..
أنظر إلى امتداد الحديقة والمروج، وأفكر ان لو أُهملت هذه المساحات برهة من الزمن وكفـّت عنها يد التشذيب والتصنيع، وهجرت هجران الغابات العصية، لربما تحولت هي الأخرى إلى غابات تنمو بقوة دفعها التلقائي الذاتي الحر، من غير أي تدخل خارجي وحذف وإضافة يحد عملقة الأشجار وتوحشها.
فالإهمال والنسيان يقوي سواعد الغابات مثلما يقوي سواعد البشر، وحسب الشاعر الكبير : (وساعدُ يشتد في النسيان). تتغذى سواعد البشر والطبيعة، وتشتد في حومة النسيان والمواجهة، أو تتكسر وتحولها الرياح الهُوج إلى شظايا وهشيم..
***
في الأماكن والمناخات الباذخة بالأمطار والخضرة وبذخ الطبيعة، لم أر تلك الشجرة أو الشجيرات التي يستهويني النظر إليها، وتأمل وحدة الإنسان وعزلته في مرآة كينونتها الضاربة في تخوم الوحشةِ وقـَفـْر الإنسانية.. تلك الشجرة التي مجدها (نيتشه) كصدى عميق لأفكاره وأخيلته الأكثر خطورة وصدامية مع عصره والعصور اللاحقة.. الشجرة التي تكافحُ وحيدةً تحت ضلع جبل مطل على هاوياته وسديمهِ، وسط العواصف والفيضانات العاتية. وتظل متشبثة بالحياة والبهجة والمرح..
هذه الشجرة الواقعية والرمزية كنت أراها في عُمان وبلدانٍ أخرى في الجزيرة العربية، أكثر تجسيداً لتلك الفكرة بخيالها الجامح، الخارجة عن جادة النسقِ والتحديد.
كرم الطبيعة بهذه الغزارة يجعلك تستشف روحاً تضامنية بين مختلف تكويناتها وتجلياتها، مما يقلل الشعور بقسوة الانفصال، والتأرجح على الحافة كشرط وجود..
أحمل حقيبتي الصغيرة وأذهب نحو الغابة، مهما كان مكان إقامتي الممتد على نحوٍ مباشر مع جسد الغابات، فمركز الغابة وجبروتها، يقع هناك في الأعلى، حيث عليك أن تقطع أكثر من ساعتين بالسيارة لتصل إلى تلك الممالك المطيرة التي تضمرُ أكثر مما تعلن، وكأنما الكون كله واقعٌ في غموضها الكبير الملتف بالأغصان والجذور المتشابكة بحلزونية مخيفة، وصراخ الحشرات والهوام الذي يذكرك ببدايات الخليقة.
وحين تأخذ قدماك في اجتياز عتبة المتاه الغابي، تحسُ في روحك شيئا من الأمان والطمأنينة التي يقطعها بين الحين والآخر، الأزيز الضاج لأرواح الغابة، أو صراخ هامّةٍ تقطع الإيقاع السائد لجيوش الحشرات «الصراريخ» تلك التي تسمعها بداية الأصياف في بلدك، وتظل على هذا المنوال حتى يأتي الشتاء وتموت متيبسة على جذوع الأشجار (ثمة روايةٌ في عُمان، أنها حين تأتي الأمطار وتغمر المكان تنبعث فيها الحياة من جديد).
حياة بمقاس صيفٍ واحدٍ، لا تستطيع ذاكرتها أن تكدّس الآلام والذكريات المريرة.
أحياناً في طريقك شبه المعبد، ترتج جوارحك وترتعد لانطلاق صرخة من قلب الغابة تنفجر بنواحٍ جنائزي لا تعرف مصدره، أطائر أم حيوان أم تلك الحية التي اكتشفت أخيراً، الحية الحمراء بلون النار الصارخة. رسولة الحكمة أم إشارة إعلان الحرب على الإمعان في الاستباحة والتحقير.
أصل إلى شلال الغابة الرئيس الذي هو مقصدي لهذا اليوم، فهناك عدة شلالات ومنابع تعبرها في طريقك إلى الواحة الفردوسية. ما إن تصل ممتلئا بالعرق والرطوبة العالية في الغابة الاستوائية، لاهثاً منهكاً. على عكس الغابة الأوروبية التي تمشي فيها ساعات وساعات من غير هذا التعب واللهاث بحكم اختلاف طبيعة الطقس – ما إن تصل إلى الشلال وتحدقُ في المنابع المتدفقة بهذه الألطاف الإلهية، والجنبات المتعددةِ لمطارح المياه ومساقطها (كانت العرب تسمي مساقط المياه المصانع. و«تبقى الجبال بعدنا والمصانع»).
تخلع قميصك، قاذفاً هذا الجسد الذي جرّحته السنون والمدنيات الزائفة، إلى أعماق هذا السديم المائي، وسط هاوية الخضرة العميقة والألوان والظلال المتأرجحة بفعل شمس محتجبة بالغيوم، وخفية.
من هذه الجنة الخيالية، ربما طـُرد الجد الأكبر بفعل خديعة الأفعى التي يبجلها الصينيون.
حين تنقذف في خضم المياه الباردة، تنسى صورة الثعبان الطائر الذي سيخطفك إلى الضفة الأخرى طعاماً سائغاً لأطفاله وأصدقائه الذين لا يثملون إلا بامتصاص دماء البشر وافتراس أشلائهم، وتتذكر الحية الحمراء وقد استحالت إلى رأفة وشدو يمامٍ وأمان.
تحس أنك دخلت هنيهة ً في فضاء الأبدية المستحيل..
***
الصين لا تبعد إلا ساعات قليلة من هذا المكان الهادئ، في الجزء الجنوبي من بحر الصين. واليابان تبعد مسافة أكثر بقليل. الإمبراطوريتان الأكثر شهرة في تاريخ الشرق الأقصى والأكثر إثارة ودهشة وغموضا، اقتسما أدوار المجد والصعود والإخفاق وكذلك الاحتلالات والتوسع خارج الحدود.
رغم أن التاريخ لا يقدم اليابان في العصور القديمة كما يقدم الصين كواحدة من أقدم الحضارات على هذه الأرض. الصين مخترعة الورق والبارود… التأمل والفلسفة.
وتلوح اليابان الأصغر حجما وسكانا بما لا يقاس بجارتها الكبرى، أكثر نزوعا لعنف الاحتلال والاكتساح الذي لا يعرف هوادة ورحمة لأرض الغير وممالكهم.. هكذا يقدم التاريخ الياباني نفسه جيش (كاميكاز) لا يقف أمام سطوته وعنفه النابعين من إيمان مقدس بمبادئ الروح والتقاليد الكلاسيكية لليابان روح المحاربين الساموراي، أي واقف أو مقاوم. حتى الصين العملاقة خضعت لاحتلالهم ونفوذهم فترة من الزمن. ولا يقف مسار هذه الأحداث المثيرة في نيران الحرب العالمية الثانية التي لولا قنابل الأمريكيين البشعة مهما كانت المبررات، لكانت ربما أمريكا نفسها في مهب التاريخ الياباني العاصف.. الأدباء اليابانيون الكبار قضوا حرقا وطعنا بملء الإرادة والاختيار، ومنهم من وصل إلى سدة نوبل والمكانة العالمية عن جدارة واستحقاق مثل كواباتا وميشيما..
النزوع نحو الموت والفناء صفة تتبدى أصيلة وكيانية لدى اليابان وهذا مصدر غموضٍ ودهشةٍ.. أولئك الأدباء والفنانون الذين وصلوا إلى رؤى خارقة في مقاربة الخراب البشري..
هل اليابانيون جميعاً مصابون بمثل هذه «العدمية الشرسة» في التاريخ؟
حتى اللحظة الراهنة انتقل النزوع المتطرف إلى مكنة الإنتاج الذي صار هدفاً وغاية كمقدس آخر في هذه الصيرورة..
التاريخ الصيني على توالي السلالات الحاكمة عرف العنف وسفك الدماء كغيره من سكان هذا الكوكب وخاصة صراع المطامعِ والنزوع نحو الهيمنة والحكم والنفوذ لكن هذا التاريخ لا يقدم نفسه بمستوى اليابان الذي لا يضاهى ربما.
لكن اليابان على كل ذلك الشعور المتضخم بالتفوق والعظمة، لم تسلم من تأثير جارتها الكبرى معرفياً وأدبياً، فقد كانت الارستقراطية اليابانية والمثقفون يتكلمون الصينية حتى القرن الخامس عشر. وكان الفلاسفة والشعراء الصينيون في الحقب المختلفة، يشكلون الأصول والمراجع للمعرفة اليابانية.
الصينيون في ميلهم نحو السلام والخير أكثر انسجاماً، إذا عرفنا أن السلالات المتعاقبة في حكم الإمبراطورية، كانت لا تميل إلى القوانين المكتوبة، وبحكم التأثيرات الحاسمة للكومفشيوسية والطاوية، كانت تعتمد مخاطبة الجانب الخيّر للنفس البشرية وتعهد هذا الجانب بالنمو والازدهار. على عكس الرومان في التشريعات والقوانين المكتوبة النافذة والملزمة.
كان الصينيون لديهم أملٌ كبيرٌ في إصلاح البشر وتنقيتهم وتشذيبهم..
تغمرني هذه الهواجس الخيّرة السعيدة، وأنا أتطلع في أمواج البحر الصيني مستعيداً موجة (الدراجون) تلك الظاهرة الطبيعية المغمورة بمسحة القداسة وهي تكتسح القرى والمزارع والبشر قبل أن يروضها العقل الصيني الجديد.
ورغم هذه الطمأنينة القادمة مع نسيم البحر الصيني تهجم ذكرى حاكم الصين الذي بنى (المدينة المحرمة)، مغتصب العرش إذ ثمة من هو أكثر شرعية منه. فهذا الإمبراطور الذي كان قائد جيوش، ارتكب أكبر مذبحة في هذه المدينة برهة اكتمالها، بسبب شبهة وشاية حول غزل أحد خصيان القصر مع إحدى جواريه اللواتي يصل عددهن لدرجة، انه لا يرى الواحدة إلا مرة في الحياة.
راح في هذه المجزرة خمسة آلاف من الجواري والخصيان.
***
المطر لا ينقطع طوال الليل. ديمة تتلوها أخرى أكثر كثافة وحنيناً إلى المجهول. رعود وبروقٌ تمسح الشواطئ والغابات بألسنة اللهب، شواظ الثعبان الخرافي وقد استحال إلى جداول وخرافٍ تتنزه في مراعي السماء وعلى أديم الأرض المستسلمة بعذوبة امرأة في غيبوبة اللذة، للعواصف التي تخض بطنها وأطرافها، كأنما التوحدُ هو نشيد الطبيعة وحلمها الأزلي.
كان ثمة تحذير من قدوم إعصار من تلك الأعاصير التي تستوطن هذه المناطق في الشرق الأقصى، لكن في الصباح تبين أن الإعصار انحصر في البحر وحطم سفناً وقوارب..
خشيتُ أن يكون تدميره قد امتد إلى أكواخ الصيادين على الساحل الذي أمشي فيه معظم الأيام.
فقد كانت تلك البيوت الخشبية والأكواخ وأمامها القوارب وعدة الصيد من شباك وما يشبه المناجل والرماح، تشكل جزءا عميقاً من الشاطئ وأبعاد جماله وزينته. كثير من تلك العدةِ لم أرها من قبل، فهي تختلف في فكرتها وتكوينها عن تلك التي شاهدتها في الشرق العربي وغيره.
عليّ أن أمضي إلى الشاطئ لأرى ما خلفه الإعصار العابر من تدمير في تلك الأشياء التي ألفتها وأحببتها فترة إقامتي في هذه المدينة الصغيرة التي تشبه منتجعا كبيراً (ميري) التي معظم سكانها من الصينيين وقليل من الأعراق الأخرى كالملاوى والهنود. وهي جزء من اقليم (سرواك)..
أتناول فاكهة (الدراجون) جمال ألوانها الحمراء القانية والحبيبات المنتشرة على أديمها تشبه قلب الثعبان المبجل لدى القسم الأكبر لهذه الشعوب.
وفاكهة أخرى تسمى (دوريان) فاكهة الغابة وهي لا تنبتُ إلا في الغابات، لذيذة وغنية بالعناصر الغذائية، لكن رائحتها مقرفة قبل تقشيرها وتهيئتها نظيفة للأكل.
ثمة فاكهة غابية أخرى حمراء تثمر ثماراً سامة يتجنبها الأهالي والعارفون إذ تفتك بمتناولها على الفور من بشرٍ وحيوان.
هناك نوع واحد فقط من الطيور يتناولها ولا تضر به، فهو إذ يفعل ذلك لا لكي يسد جوعه ويغذي جسده لمواصلة التحليق والطيران، وإنما ليخزنها في جسده حتى تحين لحظة الانقضاض على خصومه وتتحول هذه الفاكهة المغرية، إلى سلاحٍٍ يفتك بالأعداء ويبيد نسلهم ناشراً حتى في مستقبل سلالاتهم بذور الهلاك والتهجير. فأرض الأعداء حتى بعد المعركة تختزن البذور كما تختزن أرض البشر الألغام وسواها، لتنفجر لاحقاً وتبيد.
يا لغرابة الطبيعة وبراءتها وعنفها.
***
كان الجو الاستوائي على أشده، باسطاً نفوذه بسُحب تغمر السماء متدافعة ً على شكل فيلة وتيوس جبلية وأفراس بحر. (شعار مِيري فرس البحر) حتى أشكال الديكة المائية والبرية وهي تقفز على حواجز الضواحي الخصيبة والأفلاج بفرح ِ الريش الملون لوحةً أبدعتها الآلهة على غير مثال، فوضويّة ً من فرط رهافتها الخاطفة…
غابات حيوان في السماء وأخرى على الأرض. تجلس على كرسي تحيط به الطواويس وطيور أخرى، تأكل فتات الخبز ولحاء جوز الهند من كفي مباشرة. ألفة مشهد سياحي لا أكثر. هكذا بدا لي لأول مرة الطاووس بخيلائه المعهود، ينشر حديقة الريش كشراع في مهب عاصفة على وشك الحدوث، في لقطة يبدو أنه اعتاد عليها للتصوير، وعلى مقربة، تقف الأنثى التي لا تملك شيئا من جماله الباهر. معظم ذكور الحيوانات هي الأكثر جمالا، على عكس البشر، إذ أن المرأة غالبا ما تقلب هذا النمط الجمالي في معظم البلدان، وليس كلها، رأسا على عقب. في طليعة هذه الطيور الطاووس والديك، بجماله الحسي والغيبي، عبر إحساسه بالزمن، كان الأكثر إصغاءً والتقاطا من فيلسوف أفنى حياته في محاولة سبر أغوار ذلك الغموض الهارب والتعقيد..
ثمة في ركن من أركان الحديقة غراب أبيض وحيد. إذ ليس من غراب ابيض، السواد هو سمة كينونته العضوية ورفيقها اللصيق. المثل السائر، حين يشيب الغراب. حيث يُشار إلى حدوث معجزة او أمر مستحيل.
الغراب الأكثر ذكاءً في الحيوانات بعد القرد حسب العلماء. هذا الكائن السحيق الذي يرفعه حَدَث مواراة جثة أخيه الميت الترابَ، أمام حيرة الكائن البشري وهو يقترف جريمته الأولى. الجدة الكبرى لسلالات الجرائم اللاحقة – يجعل منه الأستاذ الحصيف ويرفعه إلى الدرجة العالية الرفيعة.
الغراب الأبيض الذي جُلب لندرته، يبدو بائسا ومن غير حيوية الغراب في إمساكه بزمام المبادرة، فردا وجماعة. فهو لقيط السلالة بسبب نقص جوهري في تكوينه الخِلقي. نقص وعطب في الخلايا التي تفرز الألوان، فليس من ميزة في هذه الفرادة.
ما قيمة الغراب من غير ذلك السواد الحالك حلكة الليل العميق، توأمه الضارب في القِدم والأسطورة التي وُلد من بطنها المعتم كون الكائنات بأكمله، ولد النور والمحيطات وكذلك الإنسان؟.
على ذكر فردية الغراب التي لا تتناقض بل تلتحم عضويا ووجدانيا بروح الجماعة.. منذ فترة كنت أمشي في أرض خلاء، مكان مهجور بعمان. ومثل هذه الأماكن أثيرة أكثر من الحدائق الغناء، فهي تذكر بأرجاء طبيعة برية فسيحة توشك على الانقراض خاصة في المدن ونواحيها…
في هذا المكان المأهول بالغربان وحيوات أخرى تعيش كونها الخاص النائي عن صخب المدينة رغم أنه وسطها أو على حوافها، شاهدتُ غرابا مهيضا، يبدو في حالة احتضار من فرط استسلامه وتداعيه على الأرض الشائكة الرطبة… لحظات قليلة وساد الجو لغط الأجنحة والمناقير والنعيق المحتدم من كل مكان. تنادت الغربان بلغتها التي لا نفهمها من جهات لا مرئية، لنجدة الغراب الواقع على الأرض في لحظة الألم القصوى والاحتضار.
حيوانات كثيرة وضوارٍ تملك هذا الحنان وهذه الخطوة الإلهية التي تدفعها للتضحية والتآزر والالتحام لحظة الحاجة الملحة ومن غير دافع الغاية والمصلحة، لحظة جمال خالصة لوجه الله ونبل الهاجس والسلوك. وهو ما يلحظ تناقصه حتى شرفة الاضمحلال عند بني البشر المعاصرين. كل شي أصبح يجري بقوة التخطيط للهدف المصلحي وحشد أسباب البطش والهيمنة عند مختلف الجماعات والأفراد كل بقدره ومستواه.
***
كنت أرقبه مستلقياً على الشاطئ بموجه الخفيف الذي لا يكاد يسمع.
في حضنه طفل بين البكاء الذي يصل حد النحيب والصمت المطبق.. وكان حين تفاجئ الطفلَ تلك النوبة من البكاء بين الحين والآخر، يخرج الأب لعبةً ملوّنة، لقـّنها صناع صينيون أغاني من كل بقاع العالم. كل يأخذ اللعبة وفق لغته بأغنية تكون معروفة حينها، في عالم الأطفال خاصة..
كان الأب يحاول إلهاء الطفل بتحريك اللعبة ذات الألوان المشعة كقنديل البحر بل أكثر كثافة لونية. وكان الطفل ينظر إلى اللعبة كما ينظر الإنسان الأول إلى السماء والليل والنجوم.
ويستغرق الأب في تحريك اللعبة حتى من غير أن ينظر إلى الطفل محدقا في الفضاء البحري الفسيح، لا يلبث أن يستقيظ من سَرَحانه ويخاطب الطفل بكلمات أقرب إلى اللعثمة والهذيان، تتخللها مفردات البوح والمحبّة التي يحاول كسرها بهذيان الطفل، وكأنما هو الآخر يسترجع طفولة حرم منها أو لا يتذكرها. وها هو يعيشها مع طفله أمام بحر مترامٍ شبه مهجور في مثل هذا الوقت..
وكان الطفل يحدق في أبيه بهدوء، ومن غير ذلك التوتر الذي يعتريه ويفضي به إلى البكاء.
كان الطفل ينظر إلى أبيه بتركيز بين الابتسام الذي تقطعه لحظات قنوط الطفل لأسباب غير واضحة ولا مفهومة كمجمل سلوكه الفالت على المقاييس والتحديدات.
كان الطفل الذي يعيش جنة أحلامه في حضن أبيه على شاطئ البحر، يركز بؤبؤيه الصغيرين، بصفاء ملائكي، نحو نقطة غير مرئيّة، مما يحمل مشاعر الأب على شيء من الاضطراب والارتباك.
كان يتقلب فيما يسميه (باشلار) فضاء التأملات الشاردة للطفل. ذلك ما يحاول الشعراء استعارته في النظر الطفولي إلى العالم والوجود، وتعهد هذه الجمرة الروحية القادمة من العهود الأولى بالنمو والبقاء لتسقي شجرة الشعر والحياة بنضارتها المتجددة.
عرف الأب أن تلك النظرات الطفلة، نظرات حنان رباني فريد، انخرط في نوبة بكاء صامت، مقلبا بصره وبصيرته بين وجه طفله المشرق بالسعادة، وموج البحر الذي أخذ يزداد نـَغـَما وترجيعا في الأفق اللامتناهي.
***
في المكان نفسه كان الطفل في حضن أمه على الرمل الصافي. تتركه على سريره الناعم أحيانا لتأخذ حريتها في الحركة لثوانٍ معدودة..
أراها الآن من المرج المحاذي للبحر، تسترجعه إلى حضنها وكأنما تركته لساعات وأيام. حركة اخذ الطفل تشي باللهفة والشوق المتراكم. تأخذ في ملاعبته بكلمات وعبارات كثيرة، بعضها ساطع الحب والتدليل، وهو ينهنه ويهذي كما يليق بطفل لم يشرع في الكلام بعد. وهي تحاول تحويل لثغة الطفل إلى مفردات ضمن سياق مفهوم في التخاطب والأخذ والرد. تحّول لغة الطفل إلى كلام مفهوم، كما يفهم البعض لغة الشجر والحيوان في قصص الخوارق والخيال.، كأن تقول، حبيبي (تقصد البحر) (تريد تشرب حليب) (آه هناك، تلك أضواء السفن العابرة) تضمه إلى صدرها بحركة لا واعية من فيض الرقة والحنان..
أنا الجالس على شرفة المرج المحاذي للبحر ساورني خوف من تلك الضمة القوية لطفل على ما يبدو لم يتجاوز شهوره الثلاثة الأولى..
عصافير بلون البحر تجمّعت حول المرأة ذات القبعة المائلة إلى الحمرة والتي رأيتها أكثر احمرارا بسبب شفق غروبٍ آسيوي. عصافير كثيرة تجمعت وطيور بحر مهاجرة، حول المرأة التي أخذت في توجيه الإشارات الغضّة بأصابع الطفل حولها وهي تعقد حديثا من خلق خيالها بين الطفل والطيور، التي ستأخذ طريقها بعد قليل إلى شواطئ بحار أخرى، وربما صحارى نائية لا يستطيع الرجل والمرأة ولثغة الطفل الوليد الوصول إليها في يوم من الأيام.
***
حدسُت أن الرجل الذي بكى أمام البحر، وهو يضم طفله إلى صدره بقوة حنان الرجل الذي فقد الأمل في كل شيء، وها هو يغطس في إشراق سعادة مفاجئة، انه تذكر أمه ، في هذه اللحظة، أمه التي فقدها مبكرا وتحولت في ذاكرة أعماقه إلى أيقونة يلفها النأي الموغل والغياب..
تذكرها في بهو ذلك الغياب المستبد، وهي تكرر عَتـَبها عليه ورغبتها الملحة في إنجابه طفلاً أو أطفالاً قبل أن تفارقه بالشكل النهائي. ذلك الفراق الذي كانت تستشرفه في كل رسالة تصله منها على فترات متقطعة..
وتوافدت على الرجل الغريب صور من حياته التي ما لبثت أن مرت أمامه كشريط لا تظهر منه لقطة إلا لتختفي أخرى، وتتدافع أمواجها مثل برق صاعق.
كان يرى أطيافها المدلهمة في شاشات الأفق البحري الكبير… كان يرى المقابر تلفظ موتاها من فرط التزاحم الذي يصل حد الاقتتال بين جحافل الموتى بهراءاتهم وأسمالهم البالية… كان يرى المدن والقرى، كان يرى الأصدقاء والأحبة الذين عرفهم ذات دهر، غرقى في وحل هاويات لا قرار لها.. كان يرى السماء تنهار بجُدرها وعروشها على رؤوس الضحايا والمنكوبين..
بكى الرجل من خشية روحية، وبكى من فرح غامض.
***
j
قالت المرأة للرجل، الفجر قد بدأ في الظهور، لا بد أن المؤذن يستعد، لإطلاق أذانه، وديكة المعبد القريب تستعد بالصياح والتنبيه لمقدم الوليد. كل فجر هو مولود جديد في منفى الأزمان المتراكمة..
– عودي إلى النوم يا امرأة، لا أستطيع التفكير لا في الجديد ولا في القديم، رأسي مليئ بالصداع. قال الرجل للمرأة.
j عرفت أن الفجر على الأبواب، من غير أن أنظر إلى ساعة. لم تسألني يا حبيبي كيف؟ عرفت من خلال حركة الطيور في الحقل المحيط. وهناك نسيم يحرك الأشجار، وطائر وحيد يشدو بصوت يغلبه التقطع والنعاس. كان ذلك دليلي على قدوم الفجر الوليد.
– قلت لكِ عودي إلى النوم، قال الرجل للمرأة، فأنا متعب ولم انم طوال الليل.
j التنزه بين الأشجار المشعة بالفرح والبهجة مثل الضحكة الأولى لطفل يبدأ في النمو. ومراقبة انبلاج الخيوط الأولى لسناء الفجر الذي سيغمر البشرية بحضوره الحنون بعد قليل، حدث لا يعوض في رقته وجماله.
– لا أستطيع مراقبة أي شيء لا أستطيع إلا التمرغ في هذا السرير الحقير ومحاولة النوم. قال الرجل للمرأة.
j التنزه حتى يستكمل الغسق بهاءه الفريد الذي يتراءى للناظر في مرايا أفقية متموجة، أن ثمة شعوبا وأطفالا يسبحون بنشوة في مياهه البعيدة.
j نزهة الروح بين الأشجار المطلة على بحر غريب حتى ينبلج الضياء الأول للشمس الأزلية.
***
الغابة الاستوائية الآسيوية، الأكثر كثافة من الغابة الأوروبية ذات الصنوبريات الباسقة العملاقة، فهي ملتفة بأشجارها وحيواتها ونباتها بوحشية مخيفة.. الضياع في مثل هذه الغابة يؤدي إلى الهلاك الحتمي، لأكثر من يوم واحد. تتبدّى الغابة الأوروبية على مهابتها مهذبة ومشذبة. ربما الحضارة وهي في أوج تطورها ألقت عليها رداءها القشيب، أمام الغابة الآسيوية. وكذلك اللاتينية التي يقع الكثير منها تحت سطوة هذا القوس الاستوائي الذي يضرب بمخالبه الحادة إلى إفريقيا.
غابات الأمازون الأسطورية غابات كولومبيا التي يتحصن في ظلال منعتها الثوار اليساريون وتجار المخدرات.
الغابات المطيرة التي جذبت الأدباء والعلماء والرحالة، وأوقعتهم في دوار غرامها الملتهب، وربما قادتهم إلى التيه الكلي، كما قادتهم الصحارى والمحيطات.
وأنت تمشي في الغابة وسط زئير الأرض المأهولة بكائنات لا مرئية. فأنت لا ترى إلا الغطاء النباتي الكثيف، وثمة كون غامض يرسل إشارات راعبة، كون خفي، هو سر الغابة الذي لا ينتهك.
الغابة حصنت نفسها بجيش لا يقهر ومهما بلغ العقل البشري في علومه ومخترعاته يبقى في الغابة كما في تجليات الكون الأخرى، مواطن لذلك السر الذي يستحيل اقتحامه وتفسيره.
وأنت تسير في الغابة تحس بدوار الوجود، مُجسِّدا ينتظرك أمام كل أكمة أو جذع شجرة ضارب بجذوره في أعماق البحار البعيدة، وفي ذاكرة السنين (بعض أشجارها يمتد لأربعة آلاف عام). ترى جذور الشجر أحيانا واضحة ومتوزعة حولها كمخالب نسر خرافي تتشبث في شراسة بتراب الأرض، كأنما تخاف الانفصال والتيه والضياع.
لكنك تحس وأنت في دوامة الرعب الجمالي هذا، أن في سكن الغابة والإدمان عليها، موطناً لرأفة. ثمة في قلب الغابة حنان غيم ومطر، في ضوء الوضع البشري وعنف تاريخه المراوغ. عنف الغابة واضح مباشر وعلى قدر جوهري من نصاعة التكوين والمصير.
حكايات الغابات التي قرأتها، الواقعية والرمزية، في كل الأماكن والأصقاع، يلخص روح الغابة ونبلها، في قدرة الدفاع عن نفسها بالأسلحة الصارخة في الليل والظهيرة وتلك الخبيئة وراء طبقات اللامرئي..
الدفاع عن كينونتها النقية وهي تلخص مع المياه وصحراء الغابات الرملية، الطبيعة الأولى للكون قبل أن ينحدر إلى مثل هذه الصفاقة والخراب.
***
كانت تسبح في عمق البحيرة ببطء وتأمل، انسكب المطر كثيفا، أخذت تقفز المرأة الستينية في هواء البحيرة المتموج كمراهقة غمرتها نوبة غرام مفاجئة.
أخذت ترقص على إيقاع المطر والموسيقى التي ابتكرها الخيال هذه اللحظة.
حضر زوج المرأة، طلبت منه أن يصورها وهي بين الماء والهواء مغسولة بشعاع المطر والأفق
لقد عادت المرأة الستينية إلى طفولتها وجمّدت الزمن في صورة بديعة،
كأنما المطر أزاح عن كاهلها ثقل السنوات على حين غرة، فاستعادت كنزها المفقود، انتزعته من قلب النسيان والزحام، وعاشت أبديتها الخاصة في هذا الجو الممطر على مدار اليوم والأيام.
 
* جزء من كتاب.