تباعاً يغيّبهم الموت واحداً، بعد آخر تتعدّد الأسباب والمسبِّبات كما يقول الشاعر، لكن الغياب النهائي واحد، والموت واحد.
والألم الذي يعيشه الميت في حياته، وما ينتج عن غيابه لمحبيه وعائلته، إن كانت لديه عائلة، وإلا فالأصدقاء هم عائلته وملاذه إن بقي شيء من تلك القيم النبيلة على قلتها واضمحلالها المستمرين..
فاروق عبدالقادر، لم تكن له عائلة بمعنى زوجة وأطفال، كان يعيش مع أخته التي سبقته إلى حتميّة المصير . وعاش جراح غيابها بشكل مأساوي..
كان يجلس في مقهى (سوق الحميديّة) بباب اللوق، وسط البلد في القاهرة. يأتيه الأصدقاء، شعراء وروائيون، ممثلون وسينمائيون يتحلقون حوله في المقهى المستطيل الضيق . فاروق بمزاجه الحاد ونقده اللاذع الذي لا يساوم ولا يبغي حظوة من أحد . كان مكرّساً في الثقافة المصريّة كما كان قصيّا وهامشياً، وتلك حالة من حالات الكثيرين في الثقافة المصرية والعربيّة..
في الأسبوع نفسه غيّب الموت نصر حامد أبو زيد . محمد عفيفي مطر ومحمد العمري، فكان ذلك الأسبوع أشبه بمجزرة موت طبيعي، أي من غير فعل قتل بشري مباشر، وإن كمن في الخلفيّة المأساوية لحياة المصريين والعرب الساحقة على كل الأصعدة والمستويات . لدرجة أن الأحياء، حين يتلون سورة الحزن والأسى على الفقيد، لا بد أن يعرّجوا على مفردات (ارتاح، ارتاحوا من هذا الموت البطيء، من هذه الكارثة التي نعيش) . صار الاحتفاء بالموت ينافس الحزن والألم اللذين يخلفهما الفقيد . صار يغطي على الاحتفاء بالحياة ولحظات أنسها الزائل. وهي معضلة، فهذه النزعة التي لا تأتي من مقام الزهد بالحياة،والتصوف، وإنما من باب القرف وفقدان الأمل وطعم الحياة ولذتها التي ينتزعها الكائن من براثن الواقع والزمن . هذه النزعة شبه المازوشيّة، لها ما يبررها يقيناً في البرهة الراهنة للحياة العربيّة التي وصلت أقصى فسادها وانحلالها قيماً ومجتمعات، نُخباً وأحلاماً، وقبل ذلك كله طبيعة السلطات الفاسدة والحروب التي تربض على مجمل عناصر هذه الحياة المهددة دوماً تحت هواجس الرعب والقلق حدَّ التلاشي وفقدان الهويّة الانسانيّة والجماليّة.
بالأمس حملت الأخبار وفاة الروائي الجزائري الطاهر وطار .. هناك من لا تحمل الأنباء إشارة إلى رحيلهم نحو العالم الآخر، فلا نعرف عنهم إلا بعد فترة من الزمن، وهناك من يتعفن داخل بيته وعزلته في حالة كمال سبتي وآخرون. وتبقى الخلاصة واحدة الغياب والفقد والأسى مهما كانت الحياة العربيّة قاتمة ومدلهمة.
* * *
أسترخي في رابية هذا الخلاء المظلم، أنظر إلى السماء ترعى قطعانها في تخوم الأنجم المترحّلة الأضواء والمسافات، ثمة مياه تجري بنشاط واندفاع في الأخاديد والتخوم..
أستحضر «عندما يقترب القطب الشمالي من القطب الجنوبي إلى حدِّ التلامس تقريباً، فسيختفي الكوكب حينئذ وسيجد الإنسان نفسه في فراغ مدوّخ مما يجعله يستسلم لإغواء السقوط»..
(كونديرا) يسوق هذا المقطع (الكوزمولوجي) في سياق تجاور المتناقضات البشريّة (الحياة والموت)، (السعادة، الشقاء)، (اللعنة ، الرحمة) حدَّ محو الفروق والاندغام والتوحد في أعماق الكائن والوجود.. (ايمانويل كانت).
وهذه العبارة الآسرة إلى درجة الدوار، وأنت تسرّح النظر في فضاء الأفكار والمثُل التي تحلق بخيال الفلسفة والشعر، إلى سماوات من اليمام والأثير، لا تحدها أي أحزمة أو تخوم… «اليمامة الخفيفة في تحليقها الحر تشق الهواء الذي تحس بمقاومته، يمكننا أن نتخيل بأنها تحلق بالفعل أفضل أيضا في الفراغ.. على هذا النحو فإن افلاطون الذي يترك العالم الحسي، الذي يحبس الذكاء في حدود ضيقة جداً فانه سيجازف بأجنحة الأفكار في الفضاءات الفارغة من الفهم المحض».
و(كافكا) «كيف يمكننا العثور على السعادة في هذا العالم إن لم تكن مجرد تمويه»..
(جلال الدين الرومي) «الأفلاك التي تدور في سماواتها، إنما تحركها أمواج الحب، ولولا الحب لكانت كالجليد تتجمّد».
وهكذا.. تتكاثف السحُب المتدافعة في الطبيعة والأفكار والخيالات على حافة، وفي أعماق النجود والهاويات..
* * *
أصغي إلى صوت الأفكار يسري مهما شطت الأماكن والأزمان، والى التاريخ عبث التاريخ المتدافع في الذاكرة والخيال.. الأحداث المدلهمّة والشخصيات التي صنعت المفاصل والعلامات، منها تلك التي اتخذت من مدينة (نزوى) التي تقبع في سهل الجبل أسطورة قائمة بذاتها ، عاصمة حكم ومعْتَقد يجعل من متبنيه حامل رسالة صعبة وشاقة، وسط هيمنة الامبراطوريات المتعاقبة على حكم العالم، العربي والإسلامي خاصة. ذلك المعتقد الذي يرى في استقلال البلاد عن الحواضر الكبرى (دمشق- بغداد) تلك التي تربطه بهما روابط جوهريّة في اللغة والدين والتاريخ، يرى في الاستقلال التام مسألة عقيدة وهويّة روحية يجب الدفاع والتضحية في سبيلهما.. فقد كان الاباضيون يرون في الشورى (الديمقراطية) والكفاءة والأهليّة، بغض النظر عن النسب حتى لو كان هاشمياً أو قرشيا من آل البيت، عناصر صارمة في وجه توريث الخلافة والاستئثار بها على طريقة الأمويين والعباسيين، وعلى خلاف بالطبع مع المذاهب الأخرى..
إضافة إلى صراعات تقليدية مع الجار الفارسي، وقراصنة المحيط الهندي، أولئك الذين قضى على تهديدهم الإمام غسان بن عبدالله، كما قضى الإمامان ناصر بن مرشد وقيد الأرض اليعربيان على النفوذ البرتغالي وسحقاه في المنطقة بأكملها، ومدّا النفوذ العُماني إلى خارج الحدود وما وراء البحار..
من هذه المنطقة الوعرة النائية، كان العُمانيون يشاركون بحسْم في أحداث العالم وشؤونه التجاريّة والسياسيّة والثقافيّة المختلفة..
وفي فترات ضعف الدولة المركزيّة، تستيقظ الفتن والعصبيات الداخليّة، بين يمن ونزار، ولاحقا الأكثر كارثية، وتمزيقاً، تلك الحروب التي عُرفت باصطفافاتها الثنائية بين (الهناويّة والغافريّة) والتي أضعفت لُحمة البلاد وهويتها الجامعة إلى حد كبير، وجعلتها سهلة الكسْر أمام الغزاة من كل المشارب والأقوام..
كانت الحروب العُمانية، الخارجيّة، سجالاً بين المتحاربين، فترات تنعم فيها البلاد بتحقيق حلمها في الاستقلال والسيادة، وأخرى يتم إلحاقها بإحدى الامبراطوريتين العربيّتين اللتين سادتا الوضع والعالم حقبة من الزمن..
أما الحروب مع الفرس، فلم تكن غالبا تتجاوز الاحتلال المتبادل لسواحل البلدين.. كل المناطق العمانية بسواحلها وسهولها، كانت مسرحاً للمعارك والصدامات، ولم يعرف التاريخ باستثناء (حرب الجبل) الأخيرة ذات الشروط التاريخية والتقنية الخاصة، لم يعرف أن الجبل الأخضر كان حلبة لحرب أو صراع مسلح مع القادمين من الخارج، الذين تجتاح قواتهم كل عمان «ما عدا المعقل الجبلي، حيث كانوا في أسفله يكافحون ويندفعون مثل موج غاضب يضرب جزيرة صخريّة من دون جدوى»، استعصى الجبل الأخضر على الغزاة بسبب تكوينه الجيولوجي وبطش طبيعته، استعصى حتى على الغزاة الأكثر ضراوة وبطشاً مثل تلك الفترة المتأخرة من إمامة (الصلت الخروصي) حيث، ضعفت قبضته على الدولة وبدأت الفتن تدبّ في أوصالها، حتى استعان نفر من العُمانيين بعد مقتل (موسى بن موسى) بوالي الخليفة على البحرين (محمد نور) الذي سماه العُمانيون (محمد بور) لما ألحقه من خراب وتدمير..
بعد مباركة الخليفة في بغداد، الحملة على عُمان، ونجاحها إثر حروب بالغة القسوة في أماكن كثيرة على الأرض العُمانيّة، حتى أن هذا الوالي ، قائد جيش الخلافة، لم يكتف بهزيمة أعدائه والتنكيل بهم، بل عمد على إتلاف معالم الحياة في تدمير المزارع والواحات والقرى، وردْم الأفلاج، والعيون التي تسقي البشر والأرض.. فكانت ملحمة في الهلاك والضغينة، أبعد من رغبة الهزيمة والسيطرة والنفوذ.
حتى دخلت هذه الحملة طور (التسحير) والخرافة فيروى أن (بور) حين احتار في كيفيّة ردم (عين الكسْفة) في الرستاق من فرط تدفقها وقوتها، كانت راعية بغنمها تقف على مقربة، فأشارت عليه كي تنجو بأن يلجم مياهها ويسدها، بصوف الأغنام، فما كان من القائد (محمد نور) إلا أن بدأ بقطيعها في ردم المنابع والعيون المتفجرة من باطن الأرض الواقعة على السهل الشمالي للجبل الأخضر، وتمضي الحكاية بأنه كان يردم المياه بالأغنام الحيّة، وليس بصوفها فحسب.
استعصى الجبل الأخضر حتى على مثل هذه الحملات الأكثر بشاعة ووحشيّة، والتي لم يكتب لها النجاح، إلا فترات الوهن والانقسام والتشرذم وليس في فترة اليعاربة الأقوياء وما قبلهم من الجلندى بن مسعود، أو فترة الإمام أحمد بن سعيد الذي بلغت قوته البحريّة إلى شواطئ البصرة في العراق، وفك حصارها المتمادي من الأعداء وإنهائه..
الحدث النوعي والرهيب الذي يسجل في هذا السياق، ذلك المنبثق من فترة انحدار الإمبراطورية العباسيّة وبدء أفولها، إذ تمزقت أشلاء ومناطق نفوذ، بين قادة الجند والملل من شذاد الآفاق وأمراء الأقاليم. في الفترة الحالكة إياها، ظهر (البويهيون) مستحوذين على الجزء الرئيسي، من قوة الدولة الضاربة وبحكم قربهم من الخليفة الذي ينخره الضعف والتشظي. استولوا على بغداد التي تحولت من حاضرة العالم بما لهذه العبارة من معاني القوة والجمال والمعرفة والنفوذ، إلى «مسرح للفتن وتتابعت على أهلها المحن، فخرب عمرانها وانتقل قطانها».. حسب أحد أبنائها ومؤرخيها الخطيب البغدادي، الذي كان يرى عز مدينته بغداد ينهار إذ تسرب سلطانها الحقيقي إلى الأعاجم الذين تولوا الكثير من أمرها، فآلت إلى ما آلت إليه من تراجع حضاري وأفول..
(البويهيون) جهزوا حملة لم يسبق لها مثيل على عُمان، مستفيدين من قوة الخلافة المنهارة، وكانت عُمان في تلك الفترة في واحدة من حلقات ضعفها، ورغم ذلك واجه العُمانيون تحت قيادة الإمام المنتخب (ورد بن زياد ونائبه حفص بن راشد)، الغزاة في مواقع ومناطق كثيرة في السهول والبلدات وقبلها على السواحل العُمانية لكن غلبة العدد والعتاد للجيش الغازي كانا حاسمين في إنهاء المعركة لصالحه، وأيضا ذلك الحقد الدفين المتراكم عبر التاريخ يجد فرصته السانحة التي ستمحو الذكريات المؤلمة للهزائم السابقة..
لأول مرة يسجل التاريخ بعد المواجهات الكثيرة، ولجوء العمانيين إلى الجبل الأخضر، كحصن منيع على الغزاة، صعود هؤلاء إلى قمم الجبل، ووقوع المواجهة الحاسمة هناك، والتي خاضها العُمانيون، على ضعفهم ببسالة قلّ نظيرها، لكن النصر لم يكن حليفهم فوقعت تلك المذبحة التي يصفها (مايلز) كالتالي: «أبحر الأسطول أولا إلى صحار وبعد ذلك إلى قريات حيث حشد الإمام ورد القبائل العربيّة، هناك على السهل بين البحر وهوة الشيطان، نشبت معركة عظيمة، والعرب رغم سوء حالهم لم يقهروا وتراجعوا إلى وادي الطائيين ولاحقهم العدو إلى نزوى حيث صمدوا ثانية، وكان القتال هذه المرة أكثر دمويّة من السابق مما أدى إلى دمار القوة العُمانية.. ذُبح الإمام ورد في ميدان المعركة وسقطت البلاد تحت أقدام المنتصرين، بقي الجبل الأخضر وحده منيعاً، وإلى المعقل الجبلي، أوى الناجون من المعركة، لم يخاطر أي مستعمر سابق في مهاجمة هذه المرتفعات الخطرة المتعذرة الوصول، تراجع العرب مستبسلين في قتالهم لعدة أيام ثم بلغوا القمة أخيراً.. وكادت المعركة أن تأخذ آخر مراحلها في ميدان مفتوح، كان الكفاح طويلا ومستميتاً، لكن بشجاعة العُمانيين اليائسة لم تستطع أن تتغلب على أسلحة خصومهم المتفوقة وتدريبهم العالي حيث قهروهم في مجزرة رهيبة.. صار نساء العرب وأطفالهم بالطبع غنائم للمنتصرين من الديلم أو الفرس».
هذه رواية القنصل الانجليزي والرحالة (مايلز) ، لكن هناك من المؤرخين والفقهاء العُمانيين من ينكر هذه الرواية، ويذهب إلى انها التبستْ مع رواية الواقع الحقيقيّة للمعركة التي دارت رحاها فعلا بين الجيش العُماني بقيادة الإمام الآنف ذكره، من هؤلاء العُمانيين الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي، الذي يقول إن تلك المعركة الحاسمة، دارت مع (البويهيين) في جبال (الحرفان) الواقعة بين بلدتي قريّات وصور، وليس في الجبل الأخضر، والهزيمة كانت من نصيب البويهيين الغزاة. وان الإمام ورد لم يقتل في المعركة، وإنما انتهت إمامته بانتهائها وفق المبدأ الإباضي حول حكم الأئمة الشراة، وصار بعده الإمام الخليل بن شاذان.
أي أن الشيخ مهنا يذهب على نقيض (مايلز) في الوقائع والأماكن والأحداث. إنها محاولة أخرى للصعود إلى الجبل الأخضر، يختلف عليها الرواةُ والمؤرخون والرحّالة، تنتهي على هذا المنعطف، ملتبسة مرتبكة تحت الغبار الكثيف لزوابع التاريخ والحَجر.
لا يوازي حجم الجبل الأخضر في ارتفاعه وكثافته ورعبه (لكن بحطة ونذالة على عكس علوه النبيل)، إلا حقد هؤلاء الغزاة، غزاة الداخل في فترات الانحطاط، وغزاة الخارج الذين أتاحت لهم غفلة التاريخ العربي وانحداره مثل هذه الفرصة.. ويبدو أن الأيام في مسارها الكاسح لا تُبقي على (مُشترك) وأثر مثلما تُبقي على رواسب العداء ورغبات الانتقام في لا وعي الجماعات البشريّة النائمة، مهما شطت هذه الأيام في التقادم والمسار..
«الفتنة نائمة» لكن ها هي تمدُ مخالبها إلى الأمام وتتثاءب ، لتستيقظ من بين الأنقاض والأشجار الهرِمة، عنقاءُ العصور..
* * *
بعد جولة المساء التي حاولتَ فيها أن تتوغّل في شقوق الأودية الخالية من المياه، لكن المليئة بالخضرة، وأريجها المسترسل حتى المحيط… وما كان يتراءى مساحة بريّة محدودة لا تكاد تُرى ، تتكشف عن كون فسيح مُفعَم بعزلة الحيوان والشجر والإنسان.
تيس القطيع المسترخي بعذوبة المساء وسط إناثه الجميلات، يفتح عينيه البنيِّتين بلامبالاة نشوى كمن يخرج من حلم ليدلفَ آخر أكثر رهافةً وجمالاً… الليل بدأ في النزول التدريجي حتى يستوي على عرش المكان..
وفي جوف هذا الليل يمكنك أن ترى مخلوقات الوادي السابحة في ظلالها وأحلامها، بوضوح أعمق، كأنما ستائر الليل تكشف أكثر مما تَحْجب، وتشفُّ عن جوهر خبيئ تحت جنح النهار الكاسر بسطوعه وصخَبه. هجْعة الليل ضوء عاطفة وحياة داخليّة تخوض غمارها كائنات الوادي ومخلوقات الوجود.
صوت جُدْجُد الليل وحشراته، يلمُّ شتات المشهد في لُحمة غناءٍ يشبه شجَن الرعيان وحُداة الجِمال وهم يوغلون في جوف الصحراء وليل الجبال.
* * *
ذكريات المحارب محاولاً أن يستعيد الوقائع العصيّة، وهي تهرب منه في أعماق الأخاديد المليئة بالظلمة وأزيز الزواحف والحشرات..
حين كان يهرب من هول القَصف، من أخدود إلى كهف. يقضي الأيام والليالي مع رفاقه، من غير معونة ولا إمداد، يأكل الأعشاب والثعابين الصغيرة..
لكنّ الماء، عيون الماء التي سممها الأعداءُ المدجّجون، فيجري من نبع إلى عين عرفها في طفولته، جميعها سُمِّمت وهو ببندقيته ومحزمه المليء منتصفه بالطلقات، يتهاوى أمام عدو متفوّق ولا مرئي.
* * *
الطائر يحلق فوق الأكمات والهضاب، يتبعه السِرب بعيونه التي تكاد تخترق حُجب الغيب باحثة هي الأخرى عن عين ماء، عن غدير ترتاح في واحته وتروي ظمأ الأسفار الطويلة، متقلبة بين حرِّها وبردها..
يدور السربُ دورات متعاقبة، تسقط نظرة الطائر على جثة المحارب الذي قضى عطشاً في هذه المسْغبة التي تعشي سرابات صخورها أعين الطير والبشر… يدور في اتجاهات شتى، يلملم أطراف الكوكب الحجريّ في نظرة تنقض على النبع المختبئ خلف الحُجب والظلال.
* * *
شعوب الحجر والنبات والأشباح، تسوق قطعانها في ظلام الظهيرة، في دنوِّ السُحب المحمّلة بالهواجس والسيول.
حَركةُ الهواء العاصف فوق أشجار الصنوبر والبوت، رفيفُ أجنحة لصقور تخطف البصر والبصيرة، وهي تنقذف نحو الفريسة.
* * *
أسمع موسيقى مستوحاة من قصائد (طاغور) مع لحظة الاحتدام لغروب شمس جبليّة: ذلك الوَرع والابتهال أمام الطبيعة والآلهة. غابات البنغال بنمورها المرقّطة، تسفح دموعاً، شلال دموع خالصة نقيّة فوق تلال الجبل الأخضر اللامعة في حفل المغيب.
* * *
لم تعد الجبال ولا الغابات والصحارى، تخبئ خلف حُجبها الوحشيّة، بهاء القيم الإنسانية والجماليّة الأولى، تلك التي لم تتلوث بمكتسبات الوعي البشري كما كان يحلم أدباء وفلاسفة..
بل غزتها قيم ذلك الوعي (المعوْلم) في جوانبه الأكثر تدميراً لنزوعات الفطرة النقيّة والقلب .
غزتها نفايات وغازات حارقة، من غير تلك المكتسبات الحضاريّة والروحيّة الأخرى، أستحضر مقولة أحد علماء البيولوجيا، كون الإنسان أكثر الطفيليات المعدية خطراً على الأرض..
كان الانتقال من «الطبيعة» ليس إلا تحطيما لها من غير الوصول إلى «الحضارة»..
لم يعدْ ذلك الشروق الذي يضمّخ الآفاق بندى بكاراته الأولى..
لم تعدْ طيور الروح من تحليقها المضني في سماء منافيها وأشجارها العالية..
* * *
أيها الجبل الخضر
يا جبل الكور وجبل شمس
ويا جبال ظفار الشمّاء
التي تتناسل في أحشائها النمور
أيتها الجبال العُمانية
توائم الأحقاب
وقرّة عين الأزليّة
منذ أزمان وأزمان
ونحن نصعد إليك
لكننا لا نصل!
* المقاطع الأخيرة من : «الصعود إلى الجبل الأخضر».