يحمل حقيبته أينما ذهب، منذ الصباح حتى تدحره مواكب الظلام والتعب. في المقاهي والطرقات، في المكتبات والحدائق العامة، إن وُجدت، يحمل حقيبته عبر السنين الخصيبة والعجاف. يتأمل الحقيبة التي تربض أمامه في هذه اللحظة في المقهى الذي يذكّره بمقاهي الأيام الخوالي، في غير محطة ومدينة. يتأمل الحقيبة وكأنها إرثه الوحيد في هذه الدنيا التي أخذ غمامها في العبور السريع في رأسه وفي ذاكرة الحقيبة التي بلغ منها التعب مبلغاً لم يصل بعد إلى حدّ الاستكانة والاستسلام… الحقيبة ابنة جيل وسلالة ضاربة في عالم السفر والترحال. كم تختزن في ذاكرتها من مشاهد وحيوات، تختزل أزماناً متراصة من ذكريات الألم والفرح، القلق والأحلام الضبابيّة دوماً، محرك رحلتها إلى المتواري والمجهول. ربما تذكرتْ أول يوم حملتها تلك اليد المضرَّجة بالطموح والخيبات والبراءة، وأول مقهى أو مصطبة في شارع أغمضت فيه عيناً على فراشها العابر الوثير. وأول فَقْد وغياب عن اليد التي حملتْها برأفة وحنان. وهو يخاطب الحقيبة الرابضة على أرضيّة المقهى كما يخاطب الشاعر الجاهلي راحلته من غير أن تكون له تلك القدرة التصويريّة المدهشة على بث لواعج الشوق والحنين.
***
لم يستطع النوم في الفندق المُحاط بغابة أبراج عالية تلتهم الفضاء والمساحة والصحراء، التي لا أشك إن هذه الخرسانات التي دبّجها العقلُ البشري على هذا النحو من الفظاظة والقسوة والإتقان، يجرح كبرياء روحها الذي ينمو ويتعاظم في أفلاك تفيض أنهارا وأحلاما شاسعة، وفي خيالات سكانها المترحِّلين بخفة ورشاقة على أديمها السحيق، من غير أن يزعجوا تلك الروح الشفيفة، لكن الساحقه حين تزمجر دفاعاً عن حقوقها وكبريائها الذي أخذ يترنح تحت ضربات السلوك البشري المنفعي الجديد. وهذه الصفة تبلغ أقصاها الذي لا يُجارى بالطبع في سحقه وقوته تجاه المخلوقات والكيانات الأخرى.. لم يستطع النوم في هذا البرج المحاط بطوق من الأبراج الرهيبة وكأنها أفاعي الجحيم ملتفة على العُصاة والمجرمين والضحايا.. كأنها اقتُلعت عنوة وقسراً من حواضنها الحضاريّة الكبرى وزُرعت، هكذا دفعة واحدة، كئيبةً وقاتمة.. حاول استدعاء منظر أو لقطة ما، تجود بها الذاكرة من أرياف طفولته البعيدة حين كان يتآخى بآصرة من التناغم مع الطبيعة والحيوان.. حاول أن يستحضر أرواحه الغائبة أن يستدعيها من خلف الجبال المتراكمة والأكمات. وتذكر أن البحر غير بعيد من هذا المكان المتدثر بقيامته الوشيكة بغربته وبشره القادمين من كل الأرجاء والمتاهات. أخذ البحر يقترب أكثر حتى طوّق المكان بهدير أمواجه اللُجينيَّة في خفق الرياح والمجاديف والسفن التي تبحر نحو البعيد… ومن الممكن انه سمع غناء البحارة القادمين من أفريقيا، وتطوّح نشوة وهياماً بالحكايات التي توافدت على عرين أرقه، وأخذ البحر يخبط أساسات المباني حتى هدأت أعصابه ونام على إيقاع الموج والحكايات.
***
(ألم ير هذا الليل عينيكِ رؤيتي
فتظهر فيه رقةٌ ونحولٌ)
رقة الحبيبة، نحولها وجمالها الغائب لكن الحاضر كتعويذة تقي الشاعر من وحشيّة هذا الليل وقسوته… رقة الحبيبة ووحشيّة الليل، ليل الوحدة والهواجس التدميريّة يصوغ هذا البيت المتلألئ بجمال آسر على رغم مأساويّته. ومتى كان الجمال فريداً إلا إذا كان قرين تلك المأساوية والغياب، ومن رحمِها يولد على مرَّ المتون الإبداعيّة والزمان.
***
مجرد فتحة مائية صغيرة من البحر، شكلت جدولاً يجري بزهو الأصول الزرقاء الفسيحة، خفّفت من الحضور الوحشي لغابة الأبراج والمباني المتطاولة وفرضت ذلك النوع من النغَم الشارد في المتاهة في غير سياقه وبيئته الحاضنين لوجود شفيف، أضحى نهباً لأهواء المصالح البشرية الصغيرة. لكن رغم ذلك فرضَ هذا الجدول المائي إيقاعه الموسيقي الخاص ونبرته المختلفة.
***
(لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)
هذا ما تربى عليه الأطفال والصِبية حتى كبروا وشاخوا وطالت هذه التربية الصوتية عالم الحيوان الموازي من فرط علوِّ النيرة واللمعان. لكن المعركة لم تأتِ والصوت تلاشى واضمحلَّ، وإن بقيت الجلبَة والضجيج بوتائر أعنف، والضحايا والمنكوبين في تكاثر وازدياد. صارت المعركة ضد الشعوب العزلاء التي كان الصوت يقرع طبوله من أجلهم.. ضد التاريخ، ضد القيم، ضد ما تبقى من الإنسانية والكرامة.. الجريمة في غلواء الليل ومجد الظهير، بكامل بهائها ووقاحتها وانحطاطها اللامتناهي.. وفعلاً كما يقول شوقي : (وللحرّية الحمراء باب بكلِّ يد مضرّجة يُدق)
اليد التي لا تفتأ تدق الباب الذي يتناسل إلى أبواب وثكنات وشبّيحة، قُطعت ونبتت يد أخرى، أيادٍ أخرى تمزّق أبواب الليل الجاثم بأجلافه وبربريته. شجرة الأيادي الأسطوريّة في اخضرار واغزرار.. على رغم الجراحات العميقة والدم المُراق..
***
إلى مبارك العامري
تفتح النافذة بداية الصباح، يتدفق الضوء رقيقا ناعما، لا يحمل تلك الشراسة المعهودة في الصباحات الآفلة.. الضوء، رغم أن السماء مليئة بغيوم آخذة في التحول، إلى ركامية ممطرة. هذه المدارات الاستوائية بمدنها وبلداتها، قراها ومنتجعاتها دائما ممطرة. المطر لا يفارق أرجاءها، إلا لماما، سرعان ما تعود فيالق السحب والسيول التي جعلت من هذه الأرض الآسيوية، أرضا نائية وغرائبية في المخيلة العربية القديمة. أرض بمثل هذا الخصب ومثل هذه النعمة الخضراء الغزيرة، التي تنبت الزرع والضرع من غير ذلك الجهد المكلف ماديا وبشريا. تعود إلى سريرك هنيهة، لتنعم بكسلك اللذيذ، تفتح كتابا وتغلقه، تكتب نصوصا في رأسك لتتلاشى مع أول زخة مطر، لا تلبث أن تتحول إلى ديمة مدرار. تستلقي هكذا، ترقب المطر الذي يبدأ منولوجه الطويل العذب، تصغي إليه كقائد روحي واسع النفوذ والهيمنة على مريديه, وأنت واحد منهم. لا ينقصك الخشوع الروحي وانطلاقة الخيال الحر في مملكته الحرة المسيجة بكل ما هو رهيف ومدهش. تحاول أن تلملم هواجسك المبعثرة لتكون مخلصا للمعلم القائد ودفقه الروحي وتعاليمه الشاسعة. تحاول أن تبعد عن ذاكرتك وخيالك عقاب التاريخ والجغرافيا (هل تستطيع؟) على الأقل في هذه اللحظة الخاطفة التي تشبه إشراقة الأبد في المحيطات المدلهمة. أمام سلطة الذاكرة والتاريخ, الحواس، في مثل هذه الإشراقات الخاطفة تكون بحاجة إلى تدريب قاسٍ للوصول إليها، إلى رنينها الغامض الذي يحمله المطر والحب. لكنك تحاول, لا بد من المحاولة، لابد من الإمساك بناصية الحياة الحقيقية، بتجليات الجمال المبثوث في كل حياة وزاوية وركن مهما صغر وقل شأنه. الجمال الهارب دوما صوب المُحال والعاصفة. وعلينا الجري واللهاث وراءه، حتى لو أخذ شكل سرابات وأشباح. تلك السرابات أكثر قربا إلى الامتلاء والحقيقة, من الوقائع الفجة لحياة يومية توهم بالحياة، لكنها الموت في أقبح صوره ومظاهرة. المطر ما زال على تدفقه، يحضن المدينة بنضارته وحنانه، ويخلع على بشرها اللطف والابتسامات المحيية, صباح مساء. والتي تشعرك، أنت الغريب في كل الأمكنة, بشيء من الألفة المفتقدة وبأن الحياة البشرية ما زال فيها بعض الأمل. يمكن لكلمة أو ابتسامة أن تمارسا فعل السحر وتصنعا خيط أمل ما. على عكس التكشيرة والسلوك الجلف. يمكن أيضا لإيماءة امرأة تجلس في الردهة المضاءة قليلا، ولقطرة المطر على الموجة التي لا تكل عن ترجيع نغم أسطورة البقاء والزوال, أن تصنع ذلك الخيط المضيء كما تصنع المقبرة قبس جمالها الخاص. وكذلك المزبلة، يمكنها فعل ذلك حين تشاهدها في الضوء القمري, والمطر يسكب على جنانها الخبيئة تحت مظهرها المحتقر كائناته، ليصبغ عليها نِعمه الإلهية، ويوحي لها بلحظة تصالح مع الذات والعالم..
النافذة مازالت مفتوحة
المطر يواصل خطابه
الهَادرَ العذب الحنون
الذكريات تجهش بالبكاء
والسمك يرتجف من فرط النشوة
(السماء والأرض
في لحظة جماع أبدية)
***
«من غياب الأمل
تُولد نجمة الغمام»
لا أعرف ما هو الأمل
وما هو نقيضه من يأس مضيء وانهيار
لا أعرف اليأس
ولا الظلمة َ والضوءَ
أيهما يقود الآخر نحو الضفّة
أو النفق
أو الصحراء
ليس أمامي غير جهامة هذا الأفق
أجبالاً تتناسل في ذاكرة الوعل.
أنظُر إلى أوراقي البيضاء
على الطاولة (بعضهم يسميها الحَلبَة)
الطفل يرسم لي صورةً ناقصةً
لوردةٍ مقلوبةٍ
أتأملها
أشتمّ رحيقها
الذي اكتمل بحنوّ الطفولة المشعّة
الوردةُ
التي لا تعرف
القِسمة والضربَ على الرأس
ولا تعرف الجهات
رحيقـُها ينتشر في الأفق
كما تنتشر الغيوم الموشكة
على المطر
الطفل الذي يستيقظ
بين البكاء والابتسامة
لا يعرف المفاضلة َ
بين شروق الشمس وغروبها
بين النور والظلام
وردتهُ القادمة
من أعماق المياه والنسيم
تتضوّر حنيناً
إلى عناق الجذع والشجرة
إلى المنزل الأليف
الذي تتوسّطه البئرُ المسكونة ُ بالأشباح
على حوافـّها
تغنيّ العصافير المشتاقةُ
وتشرئبَّ الأطيار المهاجرةُ
محدّقة بخيالها
إلى البلدان والمسافات
تمضي بعناية التيه والفراغ
تحت جنح الظلمةِ
أو في السطوع الضوئيِّ
لشمسٍ ترسم الخرائط َ
بمزاجها الانتحاري الحاد
هكذا
يرسم الطفل وردته المقلوبة
من غير مزهريّة أو إناء
يسفحُ الحبرَ على الورقة
كيفما شاءتِ الغيوم
المدفوعةُ بالعواصف في غير اتجاه
يرسمها
بفوضى الأنامل الغضّة
ويعانق ظلاً يرتسم على الجدار
أو يطارد حلماً
ربما هرب من خيال المحبرة.
من خيال اللون
المسفوح على البياض الخالق ِ
وعلى الجدار.