تستيقظ آخر الليل،
تُلقي نظرة على الشارع الخالي،
إلا من أنفاس متقطعة، تعبره
بين الحين والآخر.
وحده النوم يمشي، متنزهاً بين
قبائله البربرية،
تتقدمه فرقة من الأقزام.
وهناك رؤوس وهمية تطل من النوافذ
على بقايا الثلج الملتصق بالحواف وكأنما
تطل على قسمتها الأخيرة في
ميراث الأجداد.
المصابيحُ تتدافع بالمناكب، قادمة
من كهوفٍ سحيقةٍ
لا تحمل أي سر.
السماء مقفرة من النجوم
الجِمالُ تقطع الصحراء باحثة
عن خيام العشيرة
القطاراتُ تحلمُ بالمسافرين.
لا أحد… لا شيء…
أغِلقِ الستارة
فربما لا تحتملُ
مشهد مدينةٍ تستيقظُ.
* * *
هذه القطعة كتبت في منتصف الثمانينيات على ما أظن في باريس، فلم تعد السنوات تأتي فرادى بل في شكل هجوم جماعي لا نستطيع تبيّن فواصله ومعالمه كما كنت أقول للأصدقاء، في هذه المدينة الشاسعة، متذكّرين فترات مضت وتصرمت في الشام وغيرها، تتسلل مِزقاً من ذكريات تبلل جوانح المغترب في ليل الحنين.
* * *
مهمة عسيرة ربما، تلك التي تطالب الشاعر والكاتب بالإفصاح عن ذاته شهادة وقولاً صريحاً، حول الحياة والكتابة.. صحيح أن الكتابة، ذلك اللعب الذي لا ينقصه الجد، محورها الرئيس الذات التي تكون لحظة الكتابة مشتبكة ومتورطة في التاريخ والآخر والعالم، لكن قولها ذاك يأتي في سياق المواربة الفنّية وما تشكله من تجريد واستعارة والتباس بالمعنى الإبداعي.
القول الصريح يتطلب نوعاً من سيرة لاشك متاخمة لسير ذوات وحيوات أخرى، أماكن وطفولات، قرى ومدن تسطع في الواقع المخيّلة.. شظاياها وشتاتها تؤلف ميناء النص المحلوم بالوصول إليه، بكتابته، وهو أي النص، يقول هذه السيرة الناقصة بكل تناقضاتها، صعودها وانكسارها ألمها وفرحها، وهي تقترح على نحو ما رؤية للعالم والوجود وسيرته المبعثرة في أكثر من زاوية مقهى ومكان.
ما أحاول كتابته مع أقران وأصدقاء منذ زمن أصبح مديداً على نحو صاعق، يدخل على طريقته في هذا السياق.. وكنوع من مقاربة عامة، يمكن القول حول ما أكتب على تنوعه الأسلوبي شعراً ونثراً، إن صحت هذه الثنائيّة لمثل هذه الكتابة، تتوسل حالات ومشاهد وغيابات لا حدّ لها عبر نصوص ذات نَفَس ملحمي، أو تلك الصور والمقاطع الشّذرية التي تحاول اقتناص بروق خاطفة في مدن الغرباء أو في سماء الربع الخالي.. تلك الصحراء المترامية العدم والعنف والسراب التي شكلت ثيمة أساسية فيما أكتب، ليس فقط لأنها تقع جغرافيا في محيط مكاني الولادي في عُمان والجزيرة العربيّة، وإنما كهاجس وجودي يختزل وحشة العالم وضياعه وترحله في المجهول المظلم النائي، وهي لا تشبه تلك الصحارى الأيقونية، أمثولة الشعر والخلود والرسالات السماوية الطاهرة، إنها صحراء ملوثة ومأهولة بجشع التجار ونفايات العولمة (ولفرد ثيسجر) كتب كتابه الكبير (الرمال العربية)، الأكثر التقاطاً وشعريّة، وإنصافاً لأولئك القاطنين (على قلق) في هذه التخوم الوعرة. أشاد بقيمهم النبيلة، ونزوعهم الإنساني الصافي. وحين غادر وعاد بعد سنين طويلة، وجد شحّاذين بمظاهرهم الرثة وبؤسهم Œيقرفصون˜ حول آبار النفط، بعد ماضي الكرامة وفيض التعالي… وكما عبر منيف في السياق ذاته، وهو يستقصي أثر التحولاّت بقتل البراءة والطبيعة باتجاه انفجار الدم والفاجعة المفتوح على مدارات شتى.
* * *
أيتها الصحراءُ.. الصحراءُ
ماذا تبقى من قلبك الذبيح؟
من مدافن قتلاك ونفطك؟
إنني لا أرى، غير نعشٍ يحملُه بوذيّون
وتعاويذ أقوامٍ هلكوا.
ماذا أرى، أيضاً في جروفِك
المليئة بالنميمة
ومخلوقاتك، بمساحيقها وعطورها
وأيّامها الخاوية؟
أيتها الصحراءُ
غادرك الركبُ تحت شمسٍ ترضعُ أطفالها
بأضواء سامةٍ.
غادَركَ الحقُ والباطلُ
وغادَرتكِ الملحمةُ.
غادرك الحربُ والسلامُ
وغادرك الخريفُ الأكثر رأفةُ
من ربيع المدُن
غادرتك النجومُ الأولى والأيائلُ
وضفافُ الأودية
غادَركِ الزمانُ،
وما يظنّونه كنزاً ليس سوى آلة حتفك الرهيبة
غادَرتكِ رغبةُ المسافر في تفتحاتها الأولى
غادرتك أحشاؤك
يجرجرُها التجارُ في أسواق البورصة
غادرتك شفافيّةُ الغياب
وذكرياتُ المحارب،
بماذا أصفك:
أرملةُ العصور
أم مستودعُ نفايات العالم.
وفي المسار إياه، شكلت طبيعة بلادي الغرائبيّة الآسرة محرق هواجسي لحظة الكتابة، رغم رحيلي المبكر عنها والإقامة – على الأغلب- في بلاد عربيّة أخرى، في طليعتها القاهرة والشام.. الجبال، تلك المجرات المهولة الجرداء غالباً، التي تجعل من الطبيعة العمانيّة بصحرائها وبحارها كوكباً مفعماً بغرابة البريّة الأولى، متآخية على نحو روحي وجغرافي مع أجزاء من شبه الجزيرة ، ما يشبه مسودة من مسودات الخليقة في بدايات التكوين..
هذا الكون البري بطبيعته الفريدة، أملى على الذاكرة في انسيابها ودفقها حيويّة، أساطيرِه وشخوصه، شجرِه وبشره بسحناتهم الغاضبة في ليل الصحراء والبحار… وأملى على المخيلة نضارة أفقها وهي تهم في انطلاقها وترحلها في تخوم العالم وغموضه وإشراقه..
ليست الطبيعة والأمكنة في هذا المنحى حِلية النص وديكوره، بل هي الفاعل الأساس، مسرحاً لأزمنة متصارعة ونيازك ومسرحاً لأحلام البشر وعذاباتهم.. فتلك الصدوع والكهوف والمغارات التي شاهدناها في طفولتنا المبكرة ومازلنا، كم تذكر وتستحضر باستحواذ، بصدوع البشر وجروحهم، بمهاوي الإنسان في رحلة الحياة صوب الهدف الذي يظل الوصول إليه ملتبساً وعصياً، لكن ربما (الغاية هي الطريق) كما عبر الشاعر الألماني..
* * *
الرحلة والطريق والأمكنة الواقعية والمتخيّلة، تمتد من أزمنة القوافل التقليديّة بجمالها وحميرها وكلابها النابحة، حتى الطائرة والقطار والسيارة، كلمة قطار من القاطرة وهي الناقة الطليعيّة في القافلة، هذه العناصر هي جزء من لُحمة النص المفتوح الذي أحاول كتابته نصاً لتخوم وأحلام المسافات المكسورة ، لكني استعجل القول، انه لا يمكن توصيفه بأدب الرحلة بالمعنى (المسالكي) كما عبر نقاد عرب قدماء.. وإن حمل بعضه شيئا من سمات تلك المسالكيّة، والجغرافيّة.
ربما يمكن القول، انها الرحلة في نزوعها الغامض وجُوانيتها المؤلفة من شظايا السيرة بتفاصيلها المختلفة، سيرة الفرد والجماعة، سيرة الجيل الذي يبحث عن ذاته المغتربة وسط المدن والحداثات المعطوبة، المغتربة حدّ الانسحاق وجودياً، وسياسياً وحضارياً..
* * *
ما تقدم من إشارات ليس إلا محاولة التَّماس مع بعض العوالم الأثيرة حياة وكتابة ولا تحمل ادعاء تجسيدها الإبداعي الموفق دائماً، فذلك مطلب دونه خرط القتاد كما تقول العرب… ضمن هذه الاشارات أتذكر حدثاً مفصلياً طبع حياتي بطابعه، ولا أمل الحديث حوله في أكثر من زاوية وصورة ووجهة طريق، رحيلي المبكر من عُمان الى القاهرة ومنها الى بلاد الشام.. وفيهما كان نوع من استقرار سينكسر لاحقاً لصالح إقامات ذات سمة مؤقتة وانتقاليّة، أشبه بمحطات باتجاه مكان غير واضح ومعلوم.. ربما الأسلاف الرحّل في هذه الحالة خلعوا شيئا من لاشعورهم الجمعي على سلوكي.. وهم يمخرون ليل الجزيرة باتجاه الهدف بلدة الماء والكلأ، الذي سيغِيم في خضمّ العواصف الرمليّة والرعود ويفضي الى نقيضه في أحيان كثيرة،… كان الهدف غائما والطريق الموحشة تخترقها أصوات الذئاب وبنات آوى والوحوش.. في أرض الواقع وأرض الميتافيزيقيا المتفجرة بالأسئلة والأجرام المتشظيّة في سماء نحيلة شعثاء.
ستحاول العبارة الشعريّة أن تختزل هذه المحطات العابرة الى تكثيف رامز لعبور الحياة في رحلتها الكبرى وسيقود فقدان الهدف الى السباحة في الأبعاد (لذة الفتوة) كما عبر هرمان هيسه. ويضطرب الأسلوب الأدبي ويتشظى بين الحقول المختلفة، بحثا عن صوته ونبرته عبر التجريب والتحديق في مواقد الأسلاف كما في المحطات الحديثة وتحولات العابرين والرياح الموسميّة العاصفة على أديم هذه الأرض الثكلى.
* * *
في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه العجالة، أتذكر سورية، سورية الجريحة التي ترفس وتقاوم وحش الدم والموت الخرافي بانتظار الخلاص والاستقرار والحريّة… أتذكر دمشق، فعلى سفح جبل قاسيون حيث كنا نعيش بساحة شمدين في حي ركن الدين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الذي أضحى ماضياً بعيداً. لكن دمشق ظلت علامة وَجد وكرَم روحي في الذاكرة.. وكانت بيروت على مقربة مشتعلة بحروبها وصراعاتها والتي كنا نرتادها كما نرتاد المقاهي والمطاعم في حي الصالحيّة وضفاف ربوة بردى. وعلى الرغم من وضعها المأساوي بيروت كانت تستقبل زائريها وروادها برحابة لا تعرفها المدن التي لا تعاني شيئاً من تلك الحروب الوحشيّة، كانت دمشق وبيروت أمكنة تجمع لأصدقاء قدموا من بلاد عربيّة كثيرة لنوازع وأسباب مختلفة.. طبعا لا يتسع الحيّز لذكر أسماء من الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا والخليج العربي وبلاد الرافدين وهم الأبرز في هذا الوجود المقتلع من أرضه قسراً وإكراها.. من منا لا يتذكر المثقف الموريتاني محمد البخاري الذي أصبح من معالم حي الصالحيّة ولم يغادرها إلا إلى مثواه الأخير؟
في تلك الفترة نشرت أول ديوانين (نورسة الجنون) و(الجبل الأخضر) والعنوان الأخير على اسم جبل أو سلسلة جبليّة في عُمان، وهي ربما الأعلى في الجزيرة العربيّة.. وقد وصف ابن بطوطة سطوة الجبال العُمانية بأنها تطبق على القرى والبلدات كما يطبق السوار على المعصم..
(كل هذه الذُرى
ولا أحدَ تركلهُ رغبةُ الصعودِ
إلى جبل)
في الكتابين الآنفين يمكن قراءة الملامح الأولى لطموح تعبيري لا أعرف مدى تحققه، في ذلك النزوع الدامج بين النثر والشعر ومحاولة إلغاء الحدود الصارمة لسلطة النوع الصافي ذهابا نحو ما يشبه الهجانة التعبيرية.
بعد عام 1982 والغزو الصهيوني الساحق على بيروت والأحداث المشهودة لذلك العام المشؤوم، رحل معظم الأصدقاء من العاصمتين وتوزعوا غالباً على المدن والعواصم الأوروبيّة..
* * *
يا شجر السنديان
ويا سموّ الصفصاف
حنوّك على الموتى
حنوّ المرضعاتِ على الفطيم
وأعمق منه:
حنوّ الأم السوريّة
على ابنها القتيل..
* * *
دموع اليتامى
في صفائها الملتهبْ
في انسيابها المضطرب
جدولٌ شفيفٌ
أضاعه في زمنٍ ما…
نهرُ بردى
فها هو يبحث عن قبلته
وسط الأزقة والحطام
دموع اليتامى
تهيئ العالم لمعركةٍ قادمة.
* * *
(برج إيفل
أيها الراعي
قطيع الجسور يثغو هذا الصباح)
يبدو أن (أبولنير) الشاعر الفرنسي المعروف، يستمد نسغاً من مفردات تلك البريّات الأولى وهو يصيغ نداءه الشعري العميق لمدينته باريس.. هذه المدينة التي أصبحت قرينة الخلود، إذا أمكن الحديث عن هكذا مطلق جمال وغموض.. باريس بجسورها الكثيرة تتبدى Œمثل امرأة تعشق الأساور˜ كما عبر فرنسي آخر فهذه المدينة المفتوحة على هبوب القارات أجمعها، تتبدى جسورها التي لا تتجزأ عن معمارها الفني والمعرفي والثقافي الشامل لوحات رشاقة روحيّة تحاور الهوامش والمتون بنفس الكرم الإبداعي والسويّة الفنّية..
هذه المدينة أتذكرها مسرحاً لوجوه وصداقات كتابة وتسكع يوصل النهار بالليل أحياناً.. مكاناً نوعياً من أماكن تلك الإقامات العابرة لكن العميقة.. (ومتى كانت الحياة عدا عبور في حلم أو وهم؟!) وأحس بسعادة أن ألتقي بالأصدقاء الذين عرفتهم من أزمان وأماكن مختلفة.. سعيد أن نتصافح ونلتقي من جديد، ليأخذ الكلام والذكرى مساراً ربما أعمق من الكتابة وهذا هو الأهم بالنسبة لي في أي ندوة أو ملتقى في أي مكان من هذا العالم.
(أبولينير) الذي يقول أيضاً (كم عنيفٌ هو الأمل) ونحن نحدق في الشاشات والوقائع العارية ونرى كل هذه الدماء المراقة، كل هذه الهمجيّة التي تقطع بانحطاط الكائن الى هذا الدرْك من مستنقع القذارة البشريّة اللامحدود وقد تراكم عبر أزمنة القمع والاستبداد الجاهل والجحيم… نرى أولئك الفتية الحالمين في الميادين والأزقة والساحات، بفضاء آخر وحياة أخرى… لابد أن نردد: كم عنيف هو الحلم والأمل.
* * *
حلمي سالم.. في نُزهة سريعة
عرفت حلمي سالم، منذ فترة مبكرة، منذ مطلع السبعينيات، كنت في المرحلة الثانوية، وكان في سنة ثانية كليّة الاعلام (أو الآداب) قسم صحافة، (إذا صحت المعلومة في ظل هذا الغبار الشمسيّ الكثيف).. أتذكر تلك الفترة المضيئة الصاخبة من حياتنا، وأنظر في مرآتها بنوع من التأمل الحزين… هل أقول أيضا الحسرة والحنين؟
لم يكن الوضع الدراسي والأكاديمي هاجساً بالنسبة لي ، كنتُ مأخوذاً بالمكان القاهري وصخبه الجديد ومحاولة اكتشافه بعينين ما زالتا قيد التلقائيّة الأولى والبراءة.. لم يكن (الدراسي) هاجسي، لدرجة انني حين التحقت بالجامعة سجلت في جامعة الأزهر (قسم الصحافة)، لكن وجودي اليومي مطلع النهارات كان في جامعة القاهرة بجوها السياسي ذي النبرة العالية، وهضاب بناتها الوارفات واللواتي قدِمن بالإضافة إلى الأرجاء المصريّة، من بلاد عربيّة كثيرة ومتعددة.
كان حلمي بوجهه المصري، المنحوت من تراب هذا البلد العريق وتضاريسه ونيله، وكنت المراهق القادم من شبه الجزيرة العربيّة تائهاً بين تضاريس البيئات المعرفيّة والسياسيّة التي تتوزع على الخارطة المصريّة بتعددها وأحلامها ومركزها القيّادي، حيث جمال عبدالناصر ما زال طرياَ في التراب والذاكرة. وما زال في هذه الأخيرة وان تقادم العهد والنكبات والأحلام..
القادم من بيئة تكاد تلامس البداية الملتبسة لقضايا العصر الحديث وأفكاره وآدابه، الى مناخ مضى ما يربو على القرن من محاولات التحديث والتجديد، على نخبه الفكريّة والسياسية.
كانت القاهرة بوابتنا نحو العالم والوجود آنذاك… أتذكر حلمي، في المقرّات الطلابيّة العربيّة بنشاطاتها وسجالاتها، ضمن معطيات تلك المرحلة وفي المراكز الثقافية والسينمائية الأخرى.
وأتذكر زياراته لنا في شارع سليمان جوهر أو شارع الزهراء في منطقة الدقي.. وأطروحاته الكثيرة التي تتوزع بين السياسة التي كانت تأخذ طريق وضوحها الساطع والقاطع في بداية وعيي حول شروط الخروج من حالة التدهور الحضاري والتخلف الاجتماعي صُعُداً نحو جنة الاشتراكية الموعودة والقوميّة والمساواة بين بني البشر.. وكان صديقي حلمي على ما أذكر أقل ميلاً وحماساً لهذه المناحي السياسية التي تأخذ طابعاً تبشيرياً بين الأوساط الطلابيّة غالباً، من ميله وحماسه للأطروحات الأدبية وأفكارها وحداثاتها المختلفة التي كانت تعج بها الساحة المصريّة والعربيّة في تلك الفترة والتي كانت رغم التباسها وغموض الكثير منها بالنسبة لشخص في مثل عمري وتجربتي، أتبناها بنزعة وثوقيّة عجيبة، مثلها مثل الأفكار السياسيّة السائدة في أوساط الطلبة ذات الميول القوميّة واليساريّة.
في ذلك المناخ الحالم، كانت الإرهاصات الأولى لما يمكن تسميته بالانشقاق الثقافي، الأدبي والجمالي لمركب الحداثة الشعريّة، السائدة برموزها شبه المستقرة الواضحة في تحديد دور الأدب والمجتمع، الواقع والتاريخ وسائر الأفكار التي كانت في معظمها ربما، أكثر التصاقاً بالخلفيّة المفاهيميّة لما سُمي بالواقعيّة الاشتراكيّة حيث أفكار الأدب والسياسة تتناسل من رحم واحد وحلم واحد بالتحوّل والتغيير.. في هذا المناخ وُلدت مجلة (إضاءة) و(أصوات) ومنابر أخرى.. وكان حلمي سالم وفي السياق ذاته وإن تفاوتت الأمزجة والميول، علي قنديل وحسن طلب وعبدالمنعم رمضان وأحمد طه ورفعت سلام وجمال القصاص وأمجد ريان والليبي عمر جيهان تشكيلياً وآخرين…
وأتذكر من الخليج والجزيرة العربيّة في تلك الفترة من المقيمين في القاهرة، وعلى صلة أكاديميّة وأدبيّة عبدالعزيز المقالح وعلوي الهاشمي وميسون صقر وغيرهم..
أشير إلى أن ذلك (الانشقاق) والخروج الذي ترك أثره في الشعريّة المصريّة يقتضي مغامرة أكبر من مثيلاتها في بلدان عربيّة مثل بيروت، العراق أو البلاد المغاربيّة… فمركب الثقافة المصريّة السائد، آنذاك ، كان من القوة والتماسك، بأن أي شيء يخرج عليه يُنظر نحوه إما بعين الريبة، أو النفي والاستصغار، وما أقصده هنا ليس Œالثقافة الرسمية˜ حرفاً ومصطلحاً، وهي في كل الأحوال ضعيفة، أمام هذه التي تحتكر المعارضة والضديّة والتحدث باسم المجتمع والمستقبل وغالبا ما تنبني من مكونات يساريّة ماركسيّة وقوميّة.
لم أكتب في (إضاءة) فأنا لم أبدأ الكتابة Œالحديثة˜ على مستوى النشر آنذاك، كنت من قرائها، وعلاقتي بحلمي على الأخص كانت عميقة، وكما قلت للصديق محمود قرني، ان هذه العلاقة أظنها قادمة من أزمنة وحيوات سابقة وسحيقة.
هذه الإشارات السريعة لملامح تلك المرحلة، تجعلني أستعيد قسمات الصداقة والأخوة الروحيّة الشعريّة للعزيز حلمي التي ظلت على تقلبات الأحوال ومرور الأيام والسنين تتوهج شفافية وعمقاً ومرحاً في أكثر من بلد ومكان..
التقيت حلمي خارج القاهرة عبر صُدف متكررة لا تخلو من الغرابة والسحر والمفارقة.. منها انني حين غادرت القاهرة وأقمت فترة من الزمن غير قصيرة في دمشق، كنت ضمن أحد الأيام في حي الصالحيّة وأسواقه ومحلاته، أدخل محلاً لشرب العصائر.. وأنا داخل المحل أرى فيما يشبه هلوسات ما بعد ليلة سهر عاصفة، رجلاً يقف بين الشارع والمحل، مبهدل المظهر أشعثه مرتبكاً، يتطلع في الجهة التي أقف فيها..
أنظر باللامبالاة نحوه، ثم أخذ النظر طريقه نحو التركيز والتعيين، كأنما الذاكرة القاهريّة تنفجر دفعة واحدة.. حلمي حلمي… هل أنت حلمي؟..
كان حلمي بالطبع.. أخذته الى البيت وانضم لاحقاً إلينا أصدقاء، أتذكر منهم يوسف سامي اليوسف، طاهر رياض، صالح العياري، أمين الزاوي، وآخرين..
ملخص الحكاية أن حلمي كان مقيما في بيروت يعمل في الصحافة الفلسطينيّة، (بيروت) التي لم يغادرها على الأرجح إلا بعد الغزو الإسرائيلي 1982م ذهب من بيروت إلى عمّان في واحدة من مهامه الغراميّة المعهودة، (كانت المرأة والشعر حلم خلاص جوهري في حياته) وهناك بدل أحضان الحبيبة تلقفته أحضان المخابرات الأردنيّة ورمته مع غيره في السجن.. أياماً وقذفته لاحقا على الحدود السوريّة.. وهكذا صَنعت هذه الحكاية ذات المناخ العاطفي البوليسي الصدفة التي أتاحت لقاءه بعد غياب..
صدفة أخرى جمعتني بالعزيز حلمي، بما أن الحياة التي كنا نعيشها وربما ما زلنا، ليست إلا ذلك الشتات من الصُدف التي تتجمع لاحقا في نسيج متماسك كأنه تخطيط صنعه دهاة أفكارٍ وتاريخ..
كنت جالساً في مقهى (كلوني الكبير) في الحي اللاتيني بباريس، وسط ضجيج المقهى ولغط الألسن المتداخل العالي، ألمح حلمي، بوضوح ، هذه المرة وبمظهر حسن حليق، تعانقنا بذلك الدفء العميق الذي يتميز به العزيز حلمي.. وعرّفني على شخص أشيب كان بصحبته..
كان طارق عبدالحكيم، صاحب (الأقدام العارية) حول تجربته ورفاقه تلك الفترة في السجون المصرية المرعبة، قدما الى باريس لإصدار مجلة فكريّة حيث ضاقت أجواء الحريّة في مصر في تلك الفترة لإصدار مثل هذه المجلة..
حكايات كثيرة وأماكن ومواقف، تجمعني بحلمي، هو الأكثر قدرة على سردها، أكثر إدهاشاًَ ونضارة ومرحاً.. حلمي الذي يحيل أكثر المشاهد مأساويّة وحزناً الى ضحك ومرح لكنه الضحك الذي يشبه البكاء..
* * *
مهما عصفت بنا الأيام فراقاً وأمراضاً، حبا مبتوراً وهو يحلم بالوصول الى الذروة، وأحلاماً كثيرة مجهضة، يظل حلمي سالم الشاعر الكبير، مشرقاً بفرح غامض وطفولة متجددة وإن كانت جريحة..
سنعيش رغم الداء والأعداء حسب الشاعر التونسي الذي قضى باكراً.. وسندافع بالوسائل المتاحة وغير المتاحة ضد تلاطم الأقدار العاتية.. وحين يحين أوان رحيلنا، سنرحل باصقين على هذا العالم، مرددين أنشودة نصر مجيد: لقد عشنا حياة طيبة، وفق الفيلسوف الإغريقي.
هوامش
* (أزمنة القوافل) من شهادة ألقيت بمعهد العالم العربي في باريس ، ضمن ندوة احتفائية بكاتب هذه الأسطر . رعتها (سبلة عُمان) مع المعهد المذكور.
* حلمي سالم .. قُرئت ، ضمن ندوة احتفائية بالشاعر، إثر محنة صحيّة صعبة بدعوة من تجمع قصيدة النثر (غضب) .. وكانت بنقابة الصحفيين في القاهرة.
* المقاطع الشعرية التي وردت في الورقة الأولى نشرت في أزمنة متفاوتة ضمن نصوص طويلة في مجموعات شعريّة.