هذه الشجرة في الجزيرة المخدَّدة بالتلال الخضراء والجبال، تذكّرني اللحظة بشجرة (السوقم) في (علاية) سمائل بعُمان.. أقول (علاية) وفق ذاكرة الميراث الكريه للصراعات القبليّة، حين تنحط السياسة والاجتماع من سويّة دولة جامعة مانعة إلى تشظٍ وفرقة تعبّر عن ضعف الجماعة وانحدارها..
المهم، في هذه الظهيرة الآسيويّة الخالية من الغيوم والأمطار التي عُرفت بها البلاد الاستوائيّة ، يتحول الطقس إلى حرارة ورطوبة، لكن أقل فتكا من حرارة تلك البلاد على وجه اليقين..
أتأمل جذع هذه الشجرة السامقة بجذورها الملتفة كمخيّم بُداة رحّل اجتمعوا صدفة في فسحة هذا العراء الذي تطوّقه المباني والأبراج من كل الجهات.. تنبجس من حنايا الذاكرة البعيدة شجرة السوقم السمائلية أو السوقمة بتلك الحارة التي لم أعد أتذكر اسمها.. ذهبت الأسماء وبقيت الشجرة في ليل الذاكرة تنمو وتستطيل حتى بلغت كما في الطفولة الغاربة علواً لا يُجارى حتى من قبل هذه الأشجار العملاقة، أشجار الغابات المطيرة.. وأخشى وللخشية ما يبررها بعد تصرم كل هذه السنوات، كل هذه الجحافل والمجازر والثكنات التي تلتف على عنق العالم، أن شجرة الواقع على عكس شجرة الطفولة والذاكرة تلاشت كلياً من الوجود وطواها النسيان الحتمي مثل بقيّة الحيوات في هذا الكون العابر.. لكن ضوء الذكرى في هذه اللحظة لا أتركه يهرب مني، أتذكر تلك الشجرة وحيدةً بين زحمة البيوت الطينيّة والآجريّة المحيطة، تبسط هيمنتها على مساحة شاسعة من أرض الحارة والبلدة التي يفصلها الوادي المكلل بالمياه الصافية، مياه الينابيع والشِعاب الجبليّة، إلى ضفتين بلون الجنان المفقودة. تتدفق مياه الوادي نزولا إلى وادي (سرور) الخصيب هو الآخر على مدار العام، و(فنجا) وصولا إلى سهل الباطنة والبحر.
كانت شجرة (السوقم) تبسط سلطتها المطلقة على تلك الرقعة بظلالها الكثيفة التي تجعل الهواء القليل تتنسّمه الجهات في عزّ القائلة كمروحة فضاء عملاقة توزّع نسيمها على الساكنين، وترسل إلى الصِبية المتحلقين تحت رعايتها الوارفة، ثمراً ، لا أتذكر ان كان يؤكل أو يُستخدم في الطبخ أو أن الشجرة تكمن قيمتها العظيمة في هذا الحضور الجمالي الفريد..
إنها شجرة وحيدة. سيدة نفسها فليس في القريب ما يشبهها، وما يتحدّر من سلالتها التي ربما قدمت من هذه الأصقاع البعيدة، حين حمل بذرتَها طائر مهاجر في أزمنة غابرة، وقذفها في ذلك المكان.
إنها وحيدة وحزينة على رغم ما توحي به من جبروت، خاصة حين يفارقها الأطفال ذاهبين كل إلى بيته، تكون وحدتها أكثر قسوة.. أولئك الأطفال الذين يكبرون في ظلالها وتحت نظراتها الحميمة، ويدركهم الهرم والموت: كم من الأجيال مر في عمر تلك الشجرة وأحلامها، كم من العصافير والطيور حط على أغصانها يستريح من رحلة التخوم، والمسافات، أو استوطن غدرانها أياماً وشهوراً يبني أعشاشه ويربي الأفراخ بمحبّة وصبر حتى تستطيع مواصلة الرحلة والطيران؟
***
الصرخةُ، حطام الصرخة
صرخة المظلوم والثكلى
صرخة الطفل المذبوح
في نهار مشمس
أو في ليل دامس
يمتطيه القتلة والجلاّدون.
تلك الصرخة العصيّة على النسيان
تحمل شظاياها العواصفُ
عبر الجبال والدهور
إلى أبد الآبدين.
***
تعوي المُدن كالذئاب
تتضوّر جوعاً إلى الفريسة
لا البحر يطفئ ظمأها ولا النجوم التي تبرق بمقتٍ وسخرية
تتضوّر المدن، تركض للافتراس
(وجبتها الروح والطفولة والأحلام)
تتضور المُدن التي بناها همج محدثون، كالذئاب لا، ليست كذلك
فالذئاب تحلم بالغابة والصحراء
الذئاب التي تُسرج الآفاقَ
بموج حنينها إلى الله…
***
ينظر إلى الريح البحريّة
وهي تعيد تشكيل السُحب والغيوم
بينما طيور النورس والسنونو تتقافز فوق تلال خضراءَ،
بجنون الحريّة والهواء الطلق
ويرى أطفالاً ، طائرين من الفرح
في حدائقَ
تسكنها الأبديّة.
***
تكفيني من المطلق نظرة عابرةٌ
من طفل أو حيوان تحيط به سكينة الغابة
أو امرأة على رصيف قطار
في محطات عتيقة وطرق ملتفّة
يتصاعد منها الدخان
ولا تفضي إلى شيء
***
(إلى تاو تاو)
الصَبيّةُ التي عشقت البحر كثيراً، لم يبادلها الحب هذا المساء.. هناك على مقربة من جزيرة القرود التي تتسلق الأشجار بذكاء الانسان الأول، ألقتْ صنارتها، مع صِبية آخرين اصطادوا أسماكاً صغيرة تلمع في ضياء المغيب.
بقيت على صبرها تنتظر هديّة الذي وُلدت على ضفافه… وكانت ترى السماوات بضفافها تذوب في خضمِّ زرقته المتلاطمة.
بدأ الليل في النزول وأصوات طيور بحريّة تختلط بصفير الأعماق.. بدأ صبرها بالنفاد
(أريد سمكة حتى لو صغيرة صغيرة جداً) لكن المعشوق الأزليَّ أصمٌّ لا يستجيب:
لقد خذلك البحر أيتها الصَبيّة، خان خيالك المتوقد بالحبّ، هو الذي يعطي كنوزه أحياناً لمن لا يستحق مثل بلادنا.. لكنك على يقين ستعيدين المحاولة غداً، فليس لديك من مشاعل عدا البحر والبراءة والغيوم، ستعيدين المحاولة، فحلمكِ ما زال في نضارته لصيد البحر والحياة.
***
لماذا تكثر من النظر في المرآة
يا صغيري؟
الوقت ما زال باكراً
على رهاب الأعماق
انظرْ إلى الغيوم، حديقتك الحانية
في البحر والبيادر
إلى الدببة القطبية
تشق أنهار الجليد
إلى ظلال خيالك الطازج
وأنت تصغي إلى الحكايات.
إلى رذاذ ضحكاتك
التي أصحو على نغماتها في الصباح
إلى الأقمار تضيء مياها بعيدةً
في الذاكرة.
إلى دموع النجوم الصافية
بعيداً عن المرآة.
التي التهمتْ في أحشائها الوجوهَ والزمان
***
نوح، أيها النبيّ يا صاحب الفلك
ربيبَ الطوفان
لقد اكتسبت من عزلتك
المسيّجة بالمياه والظلُمات..
عزلتك الصافية
كحيود مرجانية في جُزر الأعماق..
كالتماعة الرعب والجمال في عيون فيالق القرش وهي تسرح بنشوة على حواف السفينة المغمورة بالسديم..
لقد اكتسبت ما هو أعمق وأكثر ثراءً
من ذريتك التي تنتشر في الأرجاء
أرجاء هذه الأرض
سلالاتٍ متقادمة
تتوارث الشرَّ الماحقَ
والخراب
يا صاحب الفلك
ربيب الطوفان
رسول الفرح والسلام
رحمةً على أشلائك الباكية
تحملها الريح بين الأصقاع
والأحقاب
***
«الطفل يعيش أبديّة مسحورة، إنه ليس مثلنا، خارج وطأة الزمن»
إذا كان هذا صحيحاً، لماذا يستيقظ الرجلُ
تستيقظ المرأة مذهولين أمام صرخات الطفل، في جوف الليل, في خضمّ هذا الليل المكتظ بالتهاويل والأشباح التي تتبدى من فرط حضورها وكثافتها تستحوذ على عالمه المسحور وتتسلّل إلى مخدع أحلامه التي توشك بتلاتُها على التفتح.. لينال قسطاً من سطوتها، على هذا النحو المبكر بالنسبة لطفل لم يتجاوز أعوامه الثلاثة؟! أم أن البلاد غير البلاد والزمان غير الزمان؟
***
أتذكركِ اللحظة و(في كل الأوقات)
يا أمي
أراكِ منبثّة في مظاهر الأشياء وجذور الكائنات.. تنظرين بحزن وشغف إلى الأرامل والأطفال، وقد دبغ الشقاء عيونهم وأجسامهم النحيلة..
تنظرين من عمق هاوية أو علياء سماء مقفرة ومليئة بالغيوم..
وأراك أكثر في عيون أطفالي حين ينظرون في نوع من زوغان البدايات لكائن يخطو خطواته الأولى نحو صحراء العالم والحياة.
(وسيكون إن أدرك، خريف النهايات
حيث الانتقال من انخطاف الدهشة
إلى انطفاء الشيخوخة وهذيانها الصامت)
أراك تبعثين شعاعاً، كلمة أو إشارة، من نور الأبد توقظ جمرة الحياة في الأرواح الصغيرة، تمنحهم بعضاً من الزاد حيث الطريق موحش وأليم..
إننا جميعاً نقبل يدك الطاهرة
أيتها النور الذي لا يفنى
***
(إلى ناصر وعزّان فجر سفرهما)
حين يغيب من تحب عن المكان الذي ألفتهم فيه، يستحيل إلى منفى وعقاب، ترحل الشفافية والروح الكلّية والغيوم، تنهال على خيالك المؤّرق الأطلالُ والغيابات…
المنازل التي خلّفتها وراءك والطرقات، الأصدقاء الذين قضوا، أحياءً وموتى، ألبومات العائلة التي لا وجود لها… لقد أحرقتها ذات ليل بهيم في البلاد الغريبة. لكن الوجوه ما زالت ضاجّة في رأسك، تحتل الأماكن والنزهات..
يقيناً ليست مثلكم
أيها الراحلون فجر هذا اليوم الدامي
في جهات القلب والروح..
تحاول أن تتأسى بالسابقين الذين لفح الفراق أرواحهم الدنِـفة بأعاصير لا ترحم ، تحاول أن تستدعي كثرة الباكين والمنكوبين.
لكن الجرح ما زال طرياً: قبل قليل كانت الألطاف السماوية تبتسم لك، كانت الفوضى الحميمة والنظرة الصادقة، ضوء الطفولة التي طوتها المسافة تحت أجنحتها العنيفة..
عليك أن تذهب إلى البحر، لكن البحر أضحى صورة من ذلك الغياب. طبيعة ميّتة.. لقد طوى زرقته وغادر مع الأحبّة إلى البعيد البعيد.
***
يعود الغريبُ
إلى ديار أسلافه الأولى
بعد طول غياب
منذ الخطوة الأولى
يتنفس هواءً مسموماً
وأحقاداً قديمة
يود لو لم يعدْ
لو دهسته شاحنةٌ
أو ابتلعته الأفعىالمجنّحة ذات الأجراس
وربما حلم بالحوت الخرافيّ
كما في الحكايات.
***
ذابلة هي الشجرة
على الشرفة البحريّة
لا تكاد تلقي بالاً
على نملة تمر بجانبها
أو فراشة.
البحر بضَبابه الخفيف
المصطافون بمناطيدهم الملوّنة
يحلّقون في الفضاء
والزوارق تمخر العُباب
ذهاباً إياباً، نحو الجزر القريبة
التي يحسبها الناظر بواخر عملاقة
تهمّ بالرحيل..
صباح آخر في هذه البلاد..
لكن ما الذي يجعلك
تفكر في ذبول الشجرة
والرجل النافق عن فقر وهزالٍ
يمد يده إلى المارة
في بلاد النفط..
صباح آخر
عليك أن تدفع نفسك إلى الخروج
لتلعب دور السائح
غريباً بين أناس غرباء
تستمتع بمناظر الطبيعة والنساء
الطيور تقفز في موجة فرح غامر
والأطفال يصخبون
أن ترى الأشياء الجميلة
تطبق عليها
كالنسر من قمة يأسه
ينقضُّ نحو الفريسة
***
بين الوجود والعَدم
خيط ضباب شفيف
لا يكاد يُرى
بين الحياة والموت
بين المتعة والألم
بين الفرح ونقيضه
عليك أن تدفع جسدك المثْخن
بقفزة صُنعت من هبوبِ عاصفةٍ
إلى أغوار البحر
وستأخذك أمواجه
إلى ديارها الحنونة
***
الشجر من ضفافه الهادئة
يبعث بقُبل ورسائل
إلى (تسونامي) القادم
ويقول:
رفقا بنا يا سيّد الحكمة
والجنون.
***
البنغالي الوافد إلى هذه الأرض المتاخمة يقول: إن بلاده صغيرة وبشرها كُثر.. أمطارها غزيرة ورزقها شحيح.. البنغاليّ لا يعرف شيئاً عن نمور بلاده التي فتنت الشعراء بألوانها، ألوان الكائن الغابيّ المنذور للجمال والافتراس.. ولا يعرف شيئا عن طاغور، زهده ولحيته الطويلة المشذّبة جيداً كما يليق بشاعر عظيم يتحدر من طبقة ارستقراطية، وليس من أحزمة المدُن وهوامشها…
ولا يعرف شيئاً عن التهجير القسري، شركة الهند الشرقيّة والمجازر التي فاقت الستين مليوناً.. إنه لا يريد أن يعرف إلا العمل البسيط، لقمة العيش والكفاف.
***
جنكيز خان، في تضرّع وخشوع يخاطب الإله الذي صُنع من أشلاء سماء قمريّة وغيوم عاصفة:
إلهي، بقدرتك اللامحدودة ساعدني على توحيد المغول وتجاوز هذه الأرض الجدباء الوعِرة..
استجاب الإله إلى دعوته، فوُلدت امبراطوريّة لا تُقهر، من حلم رجلٍ أسير وجموح إله.
***
الفراشة الوحيدة السوداء، وهي تعبر النبع باتجاه الغابة الخطيرة… لأكثر جمالاً، من حقل الفراشات السارح تحت سقف وغلاف.
***
فراشة حطّت على كتفي
حسبتُُ الملاك يبكي
على ظلم فادح أو طفولة هاربة
***
بعينيها السوداوين كليل الغابة
تنظر إلى الفراشات
ترفُّ على إفريز الزهور
أيُ الجنّتين تأخذك
إلى الضياع في مجاهلها الشفيفة؟
***
تنظر إلى الجعران
ربما حلمتْ به في ليل الاقتلاع والتشريد، فهي لا علاقة لها بليل الفراعنة حين كان الجعران السيّد حامي الغلال من التلف والاضمحلال.
***
في جبال نيوزلندا
يطير السحَرة ولحاهم من ثلج
وخديعة
على مقربة من البراكين المحاطة
بأنهار الجليد.
في جبال عُمان
يطيرون بلحى
تعشش في تخومها
الأصياف اللاهبةُ
والخديعة
يجتازون عقابا ووهاداً
لا قعرَ لأتونها
كأنها حلقات تتماوج
في أغوار الجحيم.
***
كان يحدّق في المغيب
ينظر إلى أحشاء المقتولين
في حروب غادرة
ويصغي إلى نباح كلاب تركض
جريحةً في أطراف المنحدرات والحقول
يرى أشباح خليقة تطلب المغفرةَ
من إله لا يستجيب
يرى عروشاً تسّاقط
في قيعان سحيقة
والدم يملأ الأفق
كان يحدّق في الأفق
ولا يرى إلا ذاتَه
تغرق في بحر من سديم.
***
منتفخاً بالنياشين والأوهام
يرى نفسه هارون الرشيد، وهو
حشرة تتخبط في مستنقع لزج:
تلك حقيقة الكائن الذي جنحت نفسه خارج وضعها الطبيعي بمسافة ضوئية، فسقط مدوّياً، من غير حركة ولا صوت أو ذكريات.
صرصار ذبحَه بدم بارد
فمضى مصحوباً بمواكب اللعنات والهبوط الحتميّ إلى أسفل سافلين في بحر النفايات الهائج.
***
كان يوشك على الانهيار
والسقوط
حين أرسلت نظرتَها
موجةٌ مشعة من أعماق.
غابة أو محيط
انتشلته من هاوية الوقت
فتحت خزائن السرِّ
أخذته إلى وارف النبع
والظلال..
***
في المدينة المحترقة بمدافع الصيف
وكأنما هولاكو يحاصرها على مقربة
تستيقظ مرتبكا تمشي
في الظلمة المكتظة بلغط الموتى
وأنين الأشباح
الملاك الصغير يتبع الأثر
من شارع إلى مدينة
ومن صخرة إلى منحدر
وحين تفيق إلى حضوره اللامرئي
تحمله لينام نسمة وديعةً
وكأنما الاثنان في مكان
خارج الزمان وخارج الأبديّة المضجرة.
***
الشجرة الذابلة على الشرفة
تعود نضِرةً من جديد
الماء الذي يجعل كل شيء حيَّاً
كوب ماء كل صباح
أحيا الشجرة وقد شارفت النهاية والهلاك
إذ لا أمطار تهطل هذا الصيف
الذي قطعتَ آلاف الأميال السماوية
من أجله
الجفاف يلاحقك أنى كنت
جفاف جبال الذاكرة الأولى
التي ترمق هروبك بسخرية لاذعة
الجفاف يحاول التسلل إلى القلب والروح
لكن خبيئة الشجرة
والبحر والكتب المفعَمة بمطر الخيال
تعيد دورة الروح
تُحيي الأرض الموات
***
سمعتني الشجرة
أصغت بجذورها
إلى ثرثرة البشريّ الحزين
وفي سرّية تامة
لجأت إلى خالقها بالتضرّع والسجود
لاحظتُ انحناءة الأغصان
أمام هبّة ريح خفيفة
تبعتها هبّات وغيوم
حين تجمّعت محمولة على عاصفة ممطرة
تبعثر هدوء البحر
أخذت تسحّ مدراراً على البلدة
والغابات
البشر إلى المظلاّت والبيوت
والطبيعة في انبلاجاتها
تستقبل فحل السماء الهائج
يدلق ماءه الغزيرَ
كما استقبلت في قديم الزمان عشتارَ
مياه تموز المندفقة
إلى أغوار فرجها العميق
أياماً والمطر يضرب طول الأرض وعرضها
أيام قليلة
هي ما تبقى لي في هذه البلاد
النائية.
***
سلاماً أيتها الشجرة
يا أخت المطر والريح
العزيزة على قلب البراري
في عزلتك المشرقة
***
كنت أنظر في فراغ المكان
رغم أن الزبائن يملأون الحانة
الزبائن القادمين من بلدان
كثيرة
لغط ألسن يصل البحر بالصحراء..
يأتي بكل هدوء
يجلس على مصطبة الحانة
يطلب مشروبه كالمعتاد
أغيب قليلاً عن النظر إليه
لأجد رأسا مترنحة
في معتَرك الجهات
لا يكاد يستقر على حال
وما يشبه الشرر
يقدح من عينيه المتعَبتين
اللتين تأخذان في الذبول أكثر
حين يصل درجة الثمالة
فكرت، ليست الخمر التي
لعبت برأسه
فهو لم يشرب إلا قليلاً..
كانت الصحراء بكامل خوفها
تعربد في أعماقه
الصحراء
بقبائلها وأشباحها المتطاولة
وتلك القطعان التي تبتلعها الأرض
لحظة الإعصار
كانت الصحراء
تترنح في رأسه
كانت العاصفة
والطفولات المغدورة..
صديقي القديم
لم تكن الخمر التي لعبت برأسه
كانت المضارب
الشوارع والمطارات والقتلى
الذين تُرمى أجسادهم المبقورة كل لحظةٍ
على قارعة روحه
كان العالم
يُسقط ظلاله الثقيلة كمرساة
في بحر أيامه وهواجسه الراكضة.
***
الصَبيّة المنتشية بالهواء والبحر
والحريّة
تقفز مع الفراشات وأفراس الماء.
سحابة العقبان التي تنقض
على الأسماك الصغيرة
تجعلها تسرح في عوالم لا مرئيّة
ربما فكّرت في جوارح بلادها
وهي تفترس الجيف والشياه
ربما عكّر المشهد مزاجها..
خارج المنزل المسيج بكلاب الحراسة
والأفكار المحنطة
خارج الحُفر التي يُدفن الناس
فيها أحياء…
هناك الفراشات تخلّت
عن الشفافية والهدوء
وأخذت تقود المواكب صاخبةً
إلى حتفها الأخير
هناك
حيث البشر يُباعون حتفهم بالتقسيط
والنحل نسيَ لذة اللقاح..
خارج سجن بلادها الحصين
منتشية بريئةً جميلة
تعانق الهواء المنعش والبحر.
***
(فصل من مسرحية لم تكتمل)
j بماذا يذكرك هذا الشارع، هذا المقهى، هذه الكراسي التي يتطاير البِلى من جنباتها تطاير الرفات حين يجوس إعصار إحدى المقابر المكشوفة العظام؟
– باللاشيء ، باللاشيء، ربما بأصدقاء ماتوا أو رحلوا (لا فرق) أو بامرأة أحببتها ذات دهرٍ وطواها النسيان، سقطت في بئره التي لا قرار ولا زمن يحدّ تخوم أمواجها المترامية الرهيبة..
j لكن النسيان له فضائل كثيرة، ولا ينحصر دائما في السلب والتدمير؟
– في الفضائل ونقيضها، في التدمير والخلق، انه يأخذنا إلى المكان الذي لا يعود منه أحد. المكان الذي لا بداية له ولا نهاية.
j لكنك تجنح إلى إعدام الأثر والمحو دائماً؟
– ما الذي يتبقى من أثر الخطوة والرائحة، من حقول الذرة وشعاع شمس الصباح الذي يلمع فوق ثياب عاشقين يتنزهان بين ظلال تلك الحقول قبل ان تمتطي الشمس هامة السماء وينسحبان إلى مخدعهما يختبران فعل الحب ورهافة العاطفة، قبل أن يلِجا عالم القسوة والخوف؟
j لكن القسوة في الحب. والكراهية موجودة حتى في أكثر العواطف صدقاً وتوحّداً.. تاريخ العلاقات يحفل بسيل من الأمثلة… والأدب همّه الأساس البحث في هذه المتاهة المتلاطمة المظلمة؟
– الأدب والإنسان، استفرغا أحشاءهما كما يستفرغ المصدور سائله المليء بالحشرجة والدم والعذابات، عذابات المحتضر على بوابات المقابر المكشوفة الأغطية والعظام في أفنية القرى والبلدات التي تحولت إلى بوتيكات ومجمّعات استهلاكية يسيطر عليها سماسرة جشعون، حيث الاعلانات المضيئة بنجومها وأقمارها ومجرّاتها الاستعراضيّة البلاستيكيّة وتلك المجلات والصحف المترفة التي تشبه عين الأمكنة وشخوصها وتفاصيلها الكثيرة.
j لكن ذلك النوع من الأدب والإنسان يبقى له مكانه الخاص، بعيداً عن هذا الاكتساح المعادي للطبيعة والأدب والإنسان، في إنسانيته وجماله الطبيعي الذي اكتسبه بعد قرون متراكمة من الألم والمعاناة؟
– ربما، ربما، من يعرف ماذا ستؤول إليه الأمور في مساء اليوم أو صباح الغد، لكن الأكيد، أن تلك الكراسي التي تتطاير من جوانبها رائحة القِدم وتلك الطرقات والمقاهي لن يعود خلاّنها من جديد.. وذينك العاشقين في حقول الزيتون وضواحي الذرة والنخيل، لن يعودا إلى النزهة بعد أن سئما فعل الحب وهجرتهما اللهفة والأشواق.
j لكن يا صديقي (يخاطب الظل صاحبه) أو ماذا أدعوك وتدعوني، قريني، شقيق التشرد والقهر والتيه؟ ألا تحدوك الرغبة في الانسحاب من هذا المقهى المزعج في هذا المجمع التجاري، هذه البلاد الأكثر إزعاجاً ورعباً..
أليس لك رغبة في الانسحاب، فالشمس تدنو من غروبها، ولا أود الانسحاب عنك، فأنا الوحيد الذي لن أتركك، حتى لو هجرك العالم بمن فيهم أبناؤك وزوجتك.. لن أتركك حتى في العالم الآخر، وربما سندخل معا إلى الجنّة أو إلى نار جهنم معاذ الله.. وهناك ما هو أكثر فضاعة وقسوة من ظهيرة الربع الخالي وعيون الجهلة والعَسس، أمواج النار المضطرمة التي ستلاحقك وتلاحقني وهي ترعى بنشوة عشبَ الجلود والعظام الذي يتجدد باستمرار كلعنة إبليس الأزليّة.. وربما ترى إبليس ذاته وتطرح بضعة أسئلة ماكرة على أكبر الماكرين والدهاة في الذاكرة البشريّة، حول سرّ انشقاقه عن مواكب الرب وملائكة السماوات، بعد أن كان صاحب الحظوة الأولى والمكانة الأسمى، أضحى به الحال شريداً ملعوناً في دروب التاريخ والطقوس والزمان… وهل هناك من بصيص مغفرة يمن بها الخالق (عز وجل) عليه كما ذهبت فرقة (اليزيديّة)، حيث يملأ ثلاث عشرة جرة أو ثلاثين جرة من دموعه الغزيرة ويقذفها في خِضمّ النار فتنطفئ ألسنة اللهب المتعاظمِ الشبق، ربما تكون النجاة والمغفرة؟!
إن الله على كل شيء قدير… بهذا المنحى الدموع، تطهر من الخطايا والذنوب حتى لو كانت بحجم خطايا الشيطان . لكن المسكين بعد هذه الأحقاب المتراكمة من الفجائع والقيامات، هل يستطيع ذرْف الدموع وسكبها في جرار أو إطلاقها حرّةً في الخلاء مثل أحصنة.. أم أنها تجمّدت كالصخر في المآقي والأعماق؟ وهو ما يزيده رعباً وعذاباً.
ونسأله، أيضاً هو من خبر القداسة، والدناسة، بعد هذه الرحلة الضوئيّة الشاقة، عن رأيه في هذه المهزلة الدمويّة (كما يقول فلاسفة) التي أسست الحياة في مساراتها المختلفة والمصائر على هذا النحو العبثي الساخر المخيف؟
أم أن هناك حقيقة أخرى قصرت العقول والمخيِّلات عن إدراك كنهها الملتبس البعيد الغور، فحدّق الناظرون في شواطئ وقفار سرابيّة موحلة ظنوا أنها الفحوى واللباب ، أم أن السراب هو حقيقة الكائن الأخيرة؟
لا أحد يدري، لا أحد يعرف، فلنذهب من هذا المكان المليء بالضجر والقبح… لكن إلى أين؟ إلى أين يا صديقي؟
من الجبل الأخضر إلى نزوى
من الجبل الأخضر
منحدراً إلى طريق نزوى
المسوّرة من الجهات
ريح ساخنة تهب على شجر السِدر الذابل
والنخيل
أتذكر حصان القلعة المريض
ورصاص الرحمة
الذي أطلقه السائسُ
على العنُق المشرئبّ بوهن
ليسقط مستسلماً على التراب
كانت غربانٌ ونسور رخمة
تحلّق فوق الوادي المجاور
بانتظار الانقضاض
على الفريسة القادمة..
كان الحصان يحتضر:
ربما تذكر رحلاته الكثيرة
بين الجبال المأهولة
بالأبراج والحروب
وبالأهل والصحب حين يجتمع شمل العائلة
ربما.. أودية وشعاب
تسيل المياه من أخاديدها
الدافقة
حين كان يشرب الماء القراح
مع أنثاه
برهة السفاد
حين يقبّلها ورأسها ما زال في المياه
لترفعه فاتحة فمها إلى أقصاهُ
من لذةٍ وهياج
هذه أنت يا حبيبتي
أتذكرك لحظة الزوال الرهيب
بعد رحيلك قبلي
بأعوام وسنين
***
فلج دارس العتيد
تؤمهُ أرواح أئمة أشاوس
ويمام
أرواح البساتين الخضراء
وشجر الغاف
تؤمه النسوة والأطفال
للشفاء من مائه الزلال
والسقاية
تؤمه النجوم العطشى
تلمع على صفحتِه
والوحوش..
فلج دارس
لؤلؤة الأفلاج العُمانية
وزوادة الحكايات..
***
قال لي عابر سبيل ذات دهر:
انظرْ، إلى هذه الجبال المضرَّجة
بغبار الصيف والنَدَمْ
ذاك القادم
من جلبة معارك (مالك بن فهم)
نقع سيوفه ورماحه وهي تشقُّ
العصورَ
باتجاه قلوبنا والأحداق.
***
مُثقلة هذه النخلة
بغبار الطلع
وعذاب المخاض
مثقلة بالرطب الجنيّ
ومرارة القطاف.
***
أيتها الغربان
يا شظايا أزمنة متراكمة
وحروب
تحلّقين بذكريات ثقيلة
كالليل المدلهمِّ في الآفاق
بلونك العميق
وصياحك الذي يختزل
في أعماقه خليقةَ
هذا المكان
***
زهور تتفتّح في ضياء المغيب
جذِلة برحيل الشمس
والنهار
الليل موعد نومها
وفي الفجر ينبلج النَدى
والنشيد
***
الهدهد سارق تاج
ملك الملوك
ساجر العواصف والبحار
الجبروت في كماله
ينحلُّ إلى كومةٍ
من روث طيور وبغال
***
يا شجرة الرمّان والبوت
خلف سور (السيبة) المهدّم
أقسم وأصلي كما صلى الرعاةُ
وأفواج الهنود الحمر في البراري المضمحلَّة
في ظلالك المورقة على مدار المواسم
قبل زحف الجفاف
حين لا يفاجئك حرُّ المدن الضاري
وجرذان الحُفر الموبوءة
أقسم وأصلي لكرم الخالق
ووارف أيامك السعيدة.
هامش
* شذرات من دفتر اليوميات الآسيوية.