آه، هذا العالم الذي تسفح
على غاربه المراثي
قد انتهى منذ زمن طويل
شبعَ موتاً
أنت الآن ، عن جثّته التي تطايرتْ هباءً
في فضاء اللـه
عن الجثة التي مات الدودُ الذي نخرها
جيلاً بعد جيل
عن هباء الجثّة تحاول أن تكتب
أنت الآن في ظلّها الشبحيّ تعيش
والذي يملأُ العالم هلوساتٍ وكوابيس..
ظل السحابة المنقرضة
ظلّ الثور المقدّس يجره الجزّارون مُدمّى
في الوحل
ظل النمر الذي شنقته أشجار الغابة
ظل الطفل الذي قتلته أمه من فاقةٍ
واضطراب
ظل النجوم الراكضة إلى حتفها
الأكيد
ظل الظلال وهي تقضي نزهتها الأخيرة
وسط حيطان مهدّمة..
عليك أن تتوقف عن سفح المراثي
ورمي الكلمات
فلم يعد هناك ما يستدعي عواء ذئبٍ،
أو عويل قردٍ ثكلتْه الريحُ
بين الأكمات..
***
كان يجلس في المقهى، وحيداً ينظر إلى الجهة المقابلة، خلف الشارع، حيث تنبعث أضواء خافتة لأكواخ شبه مهدّمة.. العجوز الايرلندي، الذي جاء جندياً إلى هذه الأصقاع البعيدة، ليقاتل عدواً غامضاً، بالطاعة العمياء للوطن والقيادة.. سارحاً في سهوب الماضي في الخرائب والطمي الذي يحمله النهر الأصفر في هيجاناته الموسميّة.. هناك دارتْ معارك كثيرة ضاربة.. هناك فقد أحبة وأصدقاء، هناك أباد أرواحاً وعائلاتٍ لا يعرف عنها شيئاًَ.. الجنديّ العجوز يحدّق في الجهة المقابلة، كأنما كوكب يتشظى في رأسه المترنح بالسُكر وأحمال الذكريات.
وهناك أيضا ، نور حبّ ينبعث من بين الحرائق والأنقاض المتداعية في المخيلة والمكان..
سكَتت المدافع والأسلحة، تهدّمتْ المدن والقرى.. وبقي ذلك النور القليل الراشح عبر المحطّات والأزمان..
***
يحتسون البيرةَ والمثلّجات
في ظلال الأشجار الاستوائية الفارعة
شيوخ أوروبا
هؤلاء الذين أنهكهم الزمنُ والحريّة..
يحتسون الخمور الثقيلةَ
ويفترسون اللحوم
في ظلال الفندق الغابيّ
رجالُ الشرق..
الذين أنهكهم صلفُ القادة
وأثقال العبوديّة..
***
يحيلُ النظرَ في أرجاء المكان الذي طالما سقطتْ على أديمه الشُهب مثل عيون الثعالب في غزوتها الليليّة، يتبع الراعي والقطيع..
وحده جذع شجرة «السُمر»، ما تبقى، ينازل الرياحَ الرمليّة، وحيداً يقاتل ضد البشر الممسوخين والتدمير..
***
(دع المقادير تجري في أعنتِّها)
ولا تنامنَّ إلا في بحر مضطربٍ بالكوابيس والحيتان..
***
يلوح المسافرون بأيديهم الشاحبة
عبر الموانئ والمطارات
يقرأون خرائط الجُزُر والغابات
أخبارَ الطقس وخلائق المستنقعات..
ينتظرون المفاجئ الرابض في أخدود أو عبر منحدر رمليّ يطل على بحر
في تمائم ولُقى يعلّقها السكانُ الأصليّون وقد أُبيدوا بقسوة المعرفة
الأفق شاسع وعميق
ووجوه الموتى
ينبعث رفاتها في المغيب..
***
البدويّ يحدّق في الشاشة الزرقاء:
ثمة أمطار على غير العادة في الصحراء، تكتسح التخوم، تبعثر الأشجار القليلة، أمطار مصحوبة بالرياح.. لا بد أن الجبال الرمليّة استغلّت المناسبة وزحفتْ ضاحكةً باتجاه الأكوام الحجريّة التي دُعيتْ مدنية..
حشرات الصيف تطير من مراقدها في الفضاء الحر، حيث الأطفال يعانقون ماضي اليمام البريّ وماضي الأسلاف.
***
على السفوح التي أبحر النخلُ في ليلها المحتشد مثل سفن تمخر العُباب..
الأطفال الذين لم يشهدوا منذ ولادتهم أمطارا، ها هي النعمةُ تغمر الأفلاج الجافّة والسُحنات.
ثمة أمل ، شعاع أمل، (داء الأمل) ثمة وعد بحياة..
***
لا تكاد تحطّ رحالهم العتيقةُ
إلاّ ويرحلون
نحو جهاتٍ مجهولة غالباً،
جهات يشطرها البرقُ مبعثراً أنحاءها في الإعصار
الذي يقذف لهبه الرمليّ من جهة الشرق..
لا تكاد رواحلهم تنزل المكان، قريةً أو مدينةً،
شقَّ حفرة حفرها الأزل في خاصرة
الجبل النائي.. لا يكاد حفيف الأشجار
يلامس أجسادهم المتعَبة، لا يكادون يسمعون صوتَ البلبل أو نعيق الغراب مختلطاً بنباح كلابٍ ترصد الفجر في انبلاجه الأول، إلا وتقذفهم الصدفة إلى مطارح أخرى، لا يكاد يُسمع فيها صياح ديكةٍ أو شحيج حمارٍ تائه في البراري الموحشة، البراري التي شهدت أول سهمٍٍ حجريّ يقذفه قابيل في سويداء قلب أخيه
وتبدأ الكارثة..
***
يخاطب نفسه ذاتَ مرة، وكل مرة:
ما الذي يجعلني مقيماً في هذه البلدة دون الأخرى؟ ما الذي يجمعني بهذه الأقوام المنتفخة بالآمال والشعارات والأسماء الوهميّة، أنا الهالك المنبوذ والغريق؟ حياتي التي مضت على هذا الوتر الكاسر المدمن غربةً بين أقوام غرباء.. أنا الذي لا أستطيع أن أرى الكائن أي كائن، أن أرى أيَّ جذْر يربطه بهذه الأرض، هو العابر بساطها المتموّج بالمآسي واللعَنَات، إلى جنة السماء أو جهنمها الأزلي الأكثر مرحاً من حياة كأنما إله الشر والدم البابلي (كنجو) تقيأها في لحظة غضب واضطراب..
(ما الذي يجعلني أمكث في هذه البقعة؟)
يهذي الرجل الغريبُ، تهذي المرأةُ الغريبة حالمةً بقطع حبل السُّرة الواهن، حالمة بالأرخبيلات البحريّة بين بشر لا يعرفون أسماء بعضهم (يأخذ تأخذ) قهوتها الصباحيّة في المقهى المتاخم لموج المحيط وتمضي إلى الفندق الصغير المحاط بالأسماك والنجوم.. المرأة التي حياتها مع الوحدة في المقاهي، والكلاب..
يستيقظ الرجل الهاذي من غيبوبته ويقول: بالفعل ما أجمل الحياة بين أناس يقتسمون ذات المصير..
***
ما زلت تطل برأسك أيها البوذا من غار الجبل الغابيّ..
أو معبدٍ صغير على قارعة طريق
حيث الثكإلى والمحرومون يسدّون الآفاق مثل دخان تمزقه ريح، حيث الحروب تبقر أحشاء الخليقة، حروب الأعداء ، حروب الاخوة الأعداء، حروب الأجنّة في رحم الأمهات، حروب الأوبئة والفيضانات، حروب القدّيسين والعاهرات، حروب الكواكب السيّارة والأسلحة الجرثوميّة لا تُبقي ولا تذر. حروب البعض على البعض والكل على الكل، حروب النخيل ضد قصف العواصف، والأطفال الذين تنهشهم هواجسُ الانتقام، ذاهبين إلى الأضرحة والحلَبات..
حروب الأدباء الطائفيّين بعد التبشير بالحداثة والقانون..
ما زلت تطل برأسك أيها البوذا
دموعك المتحجّرة في كهوف الغابات، تأملاتك، تعاليمك التي ذهبت أدراج الرياح الآسيويّة والطاعون ..
***
بالفعل، ما الذي يجعلك لا تغادر، لم تذهب، لم ترحل حتى اللحظة؟.. في ثقوب بيتك، في خلاء الوحشة الدمويّة، عشش عنكبوت سام وقتلة مأجورون يفتكون بالصغار والكبار.. وعلى مقربة، تلقي التحيّة كل صباح على مستوطنات البومة البكماء وسط الخرائب والقاعات..
همومك طاولت الجبال هامةً، وفاقت الشجر رقةً وانكساراً.. وفي الأودية الجافّة، حلّقت طيور قادمة من أزمنة الطوفان، تحمل في مناقيرها الجثث المتحلّلة في سديم الفضاء، الذي داخت من هوله الآلهةُ وطوح بها إلى ضفاف العَدَم الوحشيّ والإبادات.
***
يا سوريّا، ما الذي يجعلك تسلكين أكثرَ الطرق وعورة، من كل ما مرّ به الصنفُ البشريّ في تاريخه الحزين؟ منافذكِ سُدت بدم الشهداء. كبرياؤك تطاير بروقاً تخفق في ضفاف الأزل، ليفتتح بها العالم أبجديّته الثانية.. يا سوريّا، كنتِ الملاذ والنعمة، حتى أتى التتار الحديث، فدخلتِ في الظلام الغليظ أياماً وسنين.. روحكِ العطشى إلى المجد والحريّة، تبحر في الآماد والدماء.. لقد أوغلتِ في الترحل والبطولات، من أجل طفل يبكي، وأم تنتحب في غلواء الظلمة، في زحمة المقابر الجماعيّة والهذيانات والكوابيس..
***
بالأمس اجتمع أثرياء العرب والعالم، من أجل الأطفال اجتمعوا.. ما أجملهم، لطيفين أنيقين وإنسانيين، منتهى الإنسانيّة والكرم والحنان ، (إنسانييّن مفرطين في إنسانيتهم)..
من أجل الأطفال اجتمعوا، قاطعين مسافات شاسعة على طائراتهم الخاصة، لا تخلو من رياح موسميّة ومطبّات..
من أجل أطفال العالم اجتمعوا.. هكذا..
وعلى مقربة يرتجف أطفال سوريّا برداً وفجيعة وأشتاتاً..
سوريّا، دماء أطفالها التي تلجم القارات بنحيب لا ينقطع، وسُحب سوداء ، ثقيلة تطبع آفاق العرب والبشريّة جمعاء بطابع انحطاطها الأكيد..
وثمة أدباء كثر، اجتمعوا في مؤتمرات وندوات.. ناقشوا صُور الجمال التي أنجزها خيال الأفراد الحر، ولم ينسوا بالطبع، حريّات التعبير المقموعة في دنيا العرب.. لكنهم، ومن غير أسف ربما لدى أصحاب الحق والآصرة العتيدة، لن يأتوا ولو بكلمة شكليّة على جاري العادة، عن تلك التي تدخل أقصى النكبات وأقساها، من أجل حرِّيّتها وجمالها اللذين ضاعا في دهاليز الظلمة والهمجيّة عقوداً طويلةً، يخالها الرائي أحقاباً وقروناً… وهي هكذا..
***
أيها الكتاب، أيها المنقذ من ثقلاء الظل والمصير… تمنحني دائما شرفتك الحرّة حتى في قلب العبوديّة اليوميّة والرتابة.. تهبُ الجمال في قلب مشهد القبح الأنيق.. تمنحُ العطالة الفاتنة، تلك التي يهبها البحر لأسماكه الكسولة والفضاءُ لطيوره محلِّقة في سماوات النشوة والخيال.. عين نبع وصرخة مظلوم في ضياء الفجر.. وهبتَ السالفين واللاحقين، أيتها المعرفة التي تظلّ غامضةً وعصيّة، وهبتهم حسن الخاتمة والاختيار، حتى في عباب الموج الذي يحمل الموتَ والغياب.. رقصة الجمال في مرأى الشقاء والهاوية.. يا كتاباً أبدعه الجميع ولم يكتبه أحد، ظلّ ممتنعاً على الاسم والتصنيف، على ما مرّ من أسماء وعزُلات، تعجز حتى آلهة الرافدين عن الإحصاء والتدقيق..
الأفق مدلهم والأرض يباب
وأنت وحدك المضيء في اللانهائيِّ والمجزرة..
أيها الكتاب، لولاك لذهب المرْهَفون إلى المشنقة ببصيرة كاملةٍ لا لبس فيها، لحظة الولادة، أو في هذه اللحظة التي يرفسون في شباكها، في شباك هذا المضيق..
***
روحي تختنق، أيامي خاوية لا قيمة لها..
أيتها المرأة الجميلة ، شعر عانتكِ يرفع الشورتَ إلى أعلى، أم كبرَ المخفيِّ ذاك الذي يجعل الرأس يدور، في غَبَش الرؤيا، ويجعل الكائن يتعثّر في خطوه متدحرجاً إلى مزلقان الرغبة السحيق؟
***
أنظر إلى عنق الرجل السارح في منيّته، عنقه النحيلة بتجاعيد نسور دمّرّتها المسافة والخسارات..
إنني ذلك الرجل، ذلك الشبح الذي لا يعرف أين يمضي.. في ظلام هذه الظهيرة، القاتلة..
***
منشدُ الضفادع
يتلو سورتَه
في الليل الآسيويّ البهيم
***
سوريا .. سوريا، خَجِلين منكِ ومن أنفسنا، من التاريخ والضمير، خَجِلين من عجزنا.. ما الذي يجعلكِ تهشّمين رأس التمثال الذي صنعته البلادةُ والعبوديّة دهراً، التمثال الذي تقيأ عليه سكارى متشردون في ساحة (عرنوس) لحظة نام حرّاسُه وهربوا؟
ما الذي جعلك تحطمين رأس التمثال كي ينفجر شرُ العالم عليك؟
لكِ المجدُ والخلودُ يا سوريّا، ولهم العارُ الذي لا تمحى لطخته الأزليّة، لكِ الورد والجراح، ولنسائك النائحات في ليل الحزن المديد، نور الشهادة والإيمان.
كنتِ الفدية المُطفأة على مذبح الآلام والحريّة، كنتِ الفدية والقربان لألف عام من الكارثة، ولأنك مهبط الحضارات والأديان، يا بلاد الشام والهلال الخصيب، قوس الروح الضارب في الأعماق، قوس العدم الدموي الضارب في الهباء، تحت أشجار جنانك التي ستعود نضِرةً وارفةً بعد أن سقت جذورها وأغصانها دموع أبنائك أيما سقاية وحنان..
هذه الكلمات، وكل الكلمات فقيرة إلى جلالكِ
يا (سيّدة الكبرياء، والأحزان)
***
دمشق
حين غادرك الركبُ في ذلك الفجر الدامي، غادره الحبُ والأحلام، غادرته إرادةُ المحارب ورهافة الشعر..
بقي هكذا.. حفنةُ شحاذين على أبواب العالم
يا دمشق لن تكوني إلا سيدة مصيرك، مهما تطاول قتلة الحياة، كما كنت منذ بدء الخليقة، سيّدة الكبرياء والأحزان.. الرمزُ والمجاز والحقيقة المحلقة فوق هياكلك والأشجار المحروقة.
***
كان سقراط، يتحدّث عن ضرورة الانتقال في الإصغاء إلى صوت البشر بدل الشجر والحجر، مشيرا إلى فلاسفة الطبيعة، المأساويين الأُوَل في بلاد الإغريق.. عشرات القرون تصرّمت على تلك النقلة النوعيّة، وتحقق ما تحقق من إنجازات فوق جبال أسطورية من الجثث والأشلاء، الضغائن والكراهيّات، وما لا يحصى من الآلام والاقتلاعات..
أما آن الأوان إلى نوع من الرجوع إلى الشجر؟ لعله يخبئ من الأسرار والكنوز الجماليّة والروحيّة ما استنزفه الإنسان وأهدره على مذابح الرغبة الافتراسيّة والطموح والإبادات… الرجوع إلى الشجر، إلى المنابع الأولى الصافية النقية، إلى ما قبل المجزرة التي توسّعت وتعمقت في المكان والزمان، ربما لم يكبر ويتعاظم غيرها، إذ سُخِّرت كل الأدوات والمكاسب لإنجازها بضراوة تصفويّة… ولا نهاية تلوح في هذا الأفق البشريّ الجهْم.. أم أن ذلك الحلم بالعودة نوع من سذاجة فادحة لا يليق حتى بطرحها بعد أن جربها كثيرون وارتطموا بالسور والحائط والجدار.. أما زال هناك خيط رجاء وخلاص؟ أم أن الدائرة الجهنميّة أحكمتْ قبضتها على الشجر والبشر، فليس ثمة إلا هذا الزوغان المدوّخ، والتخبّط في المتاهة التي تتناسل صحارى ومفازات..
***
الشجرة ترخي أهدابها ، ناعسةً، على أغصانها تغرّد الطيور المهاجرة والمقيمة، وتحت ظلالها يسترخي أطفال ونساء يداعب النسيم العذْب الأردافَ والخصور كما في أحلام ملاك، وثمة غيوم شفيفة ناعمة تخضّب الأفق من جهة الغابة تنشر لطائفها على الشجرة ومخلوقاتها الهانئة..
***
شجرة (النارجيل) جوز الهند الصينيّة، منحتِ هذه البلاد البركانيّة، البركة والجمال، ومنحتها المنافع المتعددة الأغراض والاستعمالات ..
حملتِ في جسدك الرشيق الذي يتمايل في الريح والمطر، كأجمل ما يكون عليه هَيَف قوم واستدارة نهد، فكان الجمال الأرضيّ متصلاً بأقوى آصرة برحابة المطلق، بلطائفه وأسراره..
أعطيت الشعوبَ التي تناسلت تحت ظلال غاباتك الخصيبة، التأملَ والتسامح والأثرة التي عُرف بها مفكرون وقادة روحيّون على هذه الأرض.
وهبت المنافع الماديّة والروحيّة التي لا تُحصى.. إنك يا جوزة الهند الصينيّة، تشبهين النخيل في تلك البلاد، ولأنكما تنحدران من عائلة شجريّة واحدة جادت بها الطبيعة الأم عبر الأزمان والأمكنة المختلفة.. تشبهين النخيل بهباته وعطاياه وكرمه الباذخ قبل زحف الحداثة الهمجيّة التي وُلدت عمياء ومدقعة، تشبهين ذلك السؤدد التليد وروحه التي أوشكت على الغياب والانقراض..
***
يا غيوماً قادمة من خلف جبال الغابات، ابعثي بشآبيب غيثك المنهمر، إلى أرض الأحبّة الغائبين، التي أنهكها المحلُ والجفاف.
***
كان يصعد تلال رعبه أياماً وسنين، مع أطفاله وقطيعه، لاهثاً من غار، إلى كهف..
أما الآن ، وقد طالته يدُ الابادة والنهْب، فلم يعد الراعي خائفا كما كان… لقد هلك الحرثُ والنسلُ، وها هو ينتظر اللحاق بالأحبّة الهالكين..
***
في سماء آسيا يحلب البوذا، بقراتهِ السمان طعاماً للفقراء، ويقفز النمر من تلة نجميّة إلى أخرى
هرباً من سطوة الصيّاد.
***
أفيال يدربها المدرّبون على رقصة السامبا، بحكم شهرتها في إرضاء فضول السيّاح، وثمة بحيرات وتماسيح ترقص هي الأخرى برؤوس منكوبة.. قِردة تتقافز بحركات كوميديّة، مصطنعة.. وهناك حيوانات أخرى وطيور تستكمل حلقات هذا السيرك الذي اقتلعتْ حيواناته من رحابة اللانهائي الحنون، ليؤثث هذه المهزلة الباكية..
***
من أي الأصقاع قدمتَ أيها الطائر الذي حط على نافذتي
في جَذَل وحبور
من أي الأحقاب والسنين؟
كنتُ مستسلماً لبطش الليل والأرقْ
حتى مقدمك الميمون
الذي جعل الجهات
ترقص في نشوة وجنون
وجعلني في مقام الحضرة الربانيّة
والإشراق.
***
كان يوشك أن يكتب، عن أولئك المنفيّين في بلدانهم، ظِلالهم التي تعانق جدران الليل..
كان يحاول أن يكتب عن أولئك الذين اختفوا في الهاويات والشِعاب، التي وُلدوا فيها، ولم يتركوا أثراً، عدا هياكل مهشّمة تناوشها الكلاب..
كان يحاول أن يستدعي زفرة المتحضر، وحيداً، بين جبال العَوَز والموت..
كان يحاول أن يرصد لحظةَ سقوط الطائر، من علياء سمائه، إلى مستنقع النفايات والجذام..