بومة منيرفا 

(رحلات – مقالات)

رحلات

طنجة : مغيب المغرب 

العربي الكبير

«كلما أطلق جمّال حِداءه في نزوى

أو سعل حقلٌ في دمياط

يرتجُ لهما قلبُ المسافر في طنجة

أين أنتِ يا نجمة أعضائي الواهنة

غوايتي الأخيرة

في هذه الدجنَّة الباكية..»*

من (رأس سبارطيل)

أرى المحيط أمامي

منبسطاً، خاشعاً

كصلاةِ أقوام على وشك الإبادة..

وأرى المتوسّط

في خط التقاء الأطلسي

فضاءَ غيوب محشتدا بالأسرارِ 

والمخاوف..

هناك في زاوية ما

يخبّئ الرخّ أعشاشه 

ويتنزّه القرشُ ملكاً

على أمداءِ المياه والسديم.

وعلى مقربةٍ

أرى أضواء الجزيرة الإيبيريّة

لألاءةً، أحلم بالعيش فيها كلاجئٍ

من وعثاءِ الأسفار والحروب..

جيوش الفارّين من أهوال العنف، تتدفّق من الشام وبلاد العرب المتاخمة.. (قوارب الموت)… المغاربة أول من أطلق التسمية، قبل انفجار الوضع المشرقي على أولئك الباحثين وسط هوام الفناء الساحق، عن الكرامة والمعيش..

يقينا لا يتذكرون مجدَ الأمويين وفتوحاتهم ، لا يتذكرون شيئا، عدا اللحظة المحتدمةِ بالخطر والتلاشي.

لقد بخلتْ عليهم اليابسةُ على اتساعها، بزاوية ملاذ لأطفالهم والجرحى، فها هي البحار مع العنقاء المحلّقة بين العصور وجوارح البحر، تستقبلهم بحفاوة الهاوية والمصير.

* * *

كنت حين أعبر بين المواسم والأوقات في زياراتي المتكرّرة إلى المغرب، وفي الشمال منه،أقف في ذلك المرتفع بين أصيلة وطنجة، مكان لا ينقصه الجمال والدهشة والغموض بتلك التلال الغابويّة المطلة على المتوسط والاطلنطي قريباً من جبل طارق، حيث يلتقي البحر بالمحيط. نجلس في المقهى المتاخم لمغارة (هرقل). أثرُ قدمِه الأسطوريّة محفورة على الأرض قبل الدخول إلى مغارة نجل كبير آلهة الأولمب (زيوس) وقد وُلد (هرقل) من جماع هذا الإله الوثني مع جسم بشري، ليكوّن هذا الصنيع الخارق للبطل الخالد الذي لا يقهر.

هذا الحضور الشبحي لبطل الأسطورة أضفى على المكان غموضاً أكبر. سحر المكان الوحشي ممزوجاً بسحر الخرافة، فكأنما الجمال ممتزجاً بالمغيب يسيّر مراكبه وأشجاره في كل اتجاه.انه يبحر في المخيّلة والأعماق قبل أن يبحر في المكان والمياه.

حين أقف مع أصدقاء متغيّرين من وقت إلى آخر، أحلم وأمنّي النفس بالعيش فترة في هذا السديم الغابي المتاخم لهدير المياه مكسواً بالضَباب والمطر خاصة في الشتاء.. وحين أزفت هذه اللحظة، جئت في ذروة الصيف حيث الجموع تنتشر في أرجائه محوّلة ليله إلى نهار، فعرفت أنني أخطأت التوقيت، فلم تكن الإقامة فيه إلا خطفاً وسرعةً لا تكاد تحقق شيئاً من تلك الأحلام التي طواها الغروب.

* * *

من مطار (أورلي سود) أرحل باتجاه الشمال المغربي (طنجة) ومنها إلى ضاحية من ضواحيها البحريّة (رأس سبارطيل).

الصيف في أوجه. المطار يزدحم بالعائدين إلى البلاد المغاربيّة لقضاء إجازة الصيف في البلاد الأصليّة، وإطفاء بعض الحنين الذي يتراكم ويثقل كلما تقدم العمر وتشعبت الهواجس والظنون.

كان الازدحام على أشدّه منذ دخولك مطار الجنوب الفرنسي. طوابير تتناسل وتمتد من بوّابة المدخل حتى باب الطائرة، ساعات تقضيها كجزء من هذه الكتل البشريّة المتراصّة، ترقباً وتوتراً، حتى تنحشر في مقعد الطائرة التي تتأخر من فرط الزحام والحركة التي لا تهدأ حتى بعد الإقلاع.المغاربيون على الأرجح، مضطرون للسفر  في هذه الفترة تحديداً، بسبب ضغط الإجازات وشروطها الصارمة.

أما صاحب الخيارات مثلي، فيجد نفسه واقعاً في مصيدة عدم التخطيط لسفر أقل تعب وكلفة، لكنها الصدفة… وها أنا أمضي نحو المغرب، ورأس سبارطيل، تحديدًا المغرب الذي لم أزره منذ فترة طويلة، أنا الذي كنت أتردد على هذا البلد الكريم بشراً وطبيعةً، أكثر من مرة في العام بدعوات وهي كثيرة، جدًا جرّاء المناسبات الثقافيّة، من أصيلة إلى الرباط والدار البيضاء، فاس ومراكش، أو من غير مناسبة حيث يأخذني الحنين بين الفترة والأخرى إلى الربوع والأصدقاء، وتلك النقاشات والسجالات المعرفيّة التي لا تهدأ، آناء الليل وأطراف النهار عبر أجيال وأطوار ثقافيّة مختلفة، كما لا تهدأ وتيرة تلك الحميميّة والاحتفاء لأولئك الباحثين دوماً عن آفاق أكثر حرّية وأحلاماً، ما فتئت تفترسها جبال الوقائع والشروط المفضية دوماً الى انهيارات الوضع العربي الذي يمضي صُعداً من مرحلة إلى أخرى، أكثر قسوة واندحاراً، عن حياة العصر الحديث، عناصره واستحقاقاته…

* * *

على منعرجات الرمال، وصفحاتها الصافية، اضطجع إزاء المحيط الهادر، كما في كل صيف مضى، يتدفق المغاربة حشوداً لا حدود لها إلى المياه كأنما يغتسلون من أثقال عام مضى..

طفل وحيد سألني السّقاية من (قرعة) الماء (سيدي علي) بجانبي، وآخر يوْدعني حقيبته الصغيرة ليختفي في الموج المتعاظم للمحيط. العائلة الأوروبيّة الوحيدة بين الحشود تتنفس الهواء النقيض لبلاد الشمال الأوروبي مغمورةً بالشمس والحبور..

قوارب صيد وناقلات عملاقة تعبر، وأطفال يتقافزون مع الطيور في نشوة الموج والصخور.

* * *

على إفريز نافذتي المطلة على المحيط وتلال رأس سبارطيل الخضراء، يحط عصفور الدوري الوحيد هادئاً متأملاً في وقار لم يكن من صفاته، هو (الأزعر) فائق النشاط بين الطقوس والقارات. أنظر اليه من غير إزعاج، وينظر اليّ من غير وجل ولا رغبة في الفرار… أتذكر عصفور القائلة بعُمان، التي يتجمد فيها نبض الحياة وتمتد الأعناق إلى سماء بارئها بدعوات الخلاص،حين يحط على نافذة مكتبي لاجئاً من حرارة الطقس ليمكث خلف الزجاج كي تتسرب اليه نسمة من (التكييف) الذي يزأر داخل الغرف والصالات. عصفور القائلة المذعور من سطوة الصيف وأشباح البشر.

* * *

في هذه الأمداء المتمادية في النأي والغرابة، وقف ذات دهر عقبة بن نافع قادماً من جزيرة العرب، من غير خرائط ولا مجسّمات وأدلاء. وحدَها النجوم والكواكب دليله الوحيد في ليل المسافة الطويل، وحدَها الخيل والسيوف تلمع متآخيةً مع العواصف الرعديّة والبروق. وحدها الإرادة المضيئة التي لا يفلها حديد الأعداء وجيوشهم المتطايرة شظايا أمام وجيب خيله المتقدّمة صُعُدًا حتى تخوم المحيط.

في هذه الأمداء وقف ابن نافع، محدقاً في سديم المياه الفاصل عن الجُزُر والضفاف الأخرى مطلقاً آهةً حرّى ورغبة مخنوقة، ستتحقق لاحقاً على يد الأحفاد يمخرون عباب المحيطات (ليتني أعرف ما وراء هذا الماء).

* * *

المياه، المياه، بحاراً، محيطات وبحيرات تغمر هذه البسيطة… يهرع البشر جماعات وأفراداً في طواف حجيج شبه مقدّس، إلى المياه بأمواجها المتلاطمة في صيفِ المتوسط والأطلسي، حيث تطغى في هذا الخط البرزخيّ (بكيب سبارطيل) هدير أمواج المحيط على هدوء المتوسط الرصين، كأنما تلك الذاكرة المفعَمة والمحتشدة برؤى الأديان والحضارات الكثيرة التي نبتت وتعاظمت على ضفافه، تجعله يعقلن ذلك الجموح البرّي، جموع الجنون المائي واندفاعاتها الكاسرة، وليس بغياب التيارات أو قلتها مقارنة بالمحيط حسب علماء البحار فحسب.

يهرع المغاربة القاطنون مناطق الشمال، وأولئك القادمون من المناطق الأخرى، ليس فيها بحار أو انهار، الى الملاذ الصيفي، إلى حضن الأمواج وأفقها، حريتها ونسيمها الشافي.

في فسحة الحرّية هذه من أسْر الضغوط ومصائب الحياة اليوميّة، لدولة عربيّة، أو ما يشبه هذا النمط من البلاد التي لم تلحق بركب الحضارة الحقيقي بعد. تتدفق الجموع نحو البحر للاستمتاع بنعمة النسيان المؤقت السريع الزوال، لكنه الضروري المُلح. العودة الى رحم الأرض الأمومي، حين كانت هذه الأرض التي شبعت شيخوخة وموتاً، سديم مياهٍ وأسماك والقمر على وجه الغمر يضيء آفاق البراءة والجمال الوحشي.

«للبحر وحدَه سنقول، كم كنا غرباء على أعياد المدينة» لكن هذه الجموع المكلومة من المغرب الى مصر والخليج…. الخ هي غريبة بشكل ساحق على مدنيّة المدينة وعلى الأرياف التي تناسل فيها الأسلاف، وغربتها تربض على كافة عناصر الحياة الحقيقية فقراً مادياً ومعنوياً، غياب حرّية وعدالة او بعض منها، وليس على نمط الغربة الأوروبيّة المتاخمة..

انها مزدوجة ومكثفة في أكثر من شعور واتجاه..

من فرط ولع المغاربة بالبحر ومياهه الشافية هناك حكاية تقول: إن المنحوس والذي مسه السحر والحسد وسوء الطالع يذهب إلى شاطئ البحر ويستلقي، لتعبره سبعُ موجات مديدة خفاف، تقيه الشرّ والشؤم الذي يحيق بحياته، كأنما يذهب في معراج سبع سموات، يتدفق عليه النور الملائكي، سر الخالق الذي يتجلى في مخلوقات الطبيعة بعناصرها وجمال تجددها..

من الجبال والتلال الخضراء، يتدفقون أطفالا، شباباً وشيباً، حاملين ما تيسر من المؤونة، مؤونة الناس البسطاء، إذ أن للأثرياء شواطئهم الخاصة، هاربين من رحى الأيام التي تسحقهم من غير هوادة، ينشدون بعض راحة واستراحة في تخوم هذه الأبديّة الزرقاء..

أعود إلى إشارة صخب موج الأطلسي وهدير موجه الجاثم أمام هدوء المتوسط، متذكراً المستشرقة الأسبانية (… لوث) التي كانت تقيم في القاهرة لزمن طويل حتى تمصّرت، أو كادت. وبمرحها الأسباني المصري، أسألها حين يقترب الصيف القاهري الحارق، ونحن نجلس في أحد مقاهي وسط البلد…. يالوث، حين تكونين قريباً في أسبانيا، أين تقضين صيفك البحري، ناحية المتوسط، أم الأطلسي…؟ تجيب باللهجة المصرية الصاخبة.

«أيه المتوسط، دا شوربه، قدام المحيط….».

تقصد بالطبع ناحية المد الجارف وحركة الموج، إذ أن المتوسط كان في الماضي بحيرة كبيرة تكونت إثر الزحف القاري أو ما يسمى بنظرية الصفائح التكتونية حيث انفصلت أوروبا عن افريقيا قبل 65 مليون سنة..

في سلطنة عُمان هناك من الشواطئ والبحار الممتدة، المشتبكة بالصحاري والجبال والواحات ما يقارب أو يوازي شواطئ المغرب، والاثنان ربما أكبر الشواطئ العربيّة. لكن مع فارق الطقس الشديد الحرارة في صيف عُمان، أو معظم أقاليمها يجعل النزول إلى البحر غير ممكن، إلا في المساء.. 

هنا في المغرب لا  تتجاوز درجة الحرارة العشرينيات في ذروة الصيف. وأفضلية الطقس المغربي تشمل حتى شواطئ وبلدان جارتها القريبة، أسبانيا.التي تحتفظ بفارق جوهري آخر، هو اندراجها بشكل سريع ضمن الحضارة الأوروبيّة وإنجازاتها، تقنية وحداثة حياة، كانت المغرب وبلاد عربيّة ربما سباقة الأحلام والبدايات إليها..

مع فارق الطقس بين عُمان والمغرب لا توجد في عُمان وهي في أقل درجاتها الحرارية، ثقافة الاسترخاء البحريّة والسباحة في المياه المالحة ذات المنحى الشفائي التي لدى المغاربة حدّ الخرافة والسحر.

هذا الكرنفال المغربي البحري، هناك بلدان عربيّة وغير عربيّة،إذا بقي من معنى في راهن الوقائع والتاريخ لهذه الكلمة التي تشكل مفهوم هويّة حضاريّة جامعة، من فرط ما هي ماضية في تدمير ذاتها، هناك بلدان يشملها هذا الكرنفال وفق ما شاهدتُ ورأيتُ. لكن أعياد البحار المغربيّة أكثر جموحاً وتوحدًا مع هذه الأبدية العابرة.. علاقة المغاربة بالبحر، علامة تصوف وخشوع.

مساء البارحة، صعدت بالسيارة،إلى الجبال المتاخمة مخترقة الغابات والأحراش ،القصور والبيوت الفارهة. وهي الجبال أو الجبل الذي يفصل هذه الجهة عن مدينة (طنجة) حيث وقفنا على مشارفها، ثمة قصر كبير على حراسة كثيفة، خمنت انه قصر الملك الذي ورثه عن أسلافه الملوك، إذ أن العائلة الحاكمة في المغرب بمعيّة عائلة الحكم في عُمان، هما الأكثر عراقة زمنية في العائلات الملكية في العالم العربي. وسمعت من أحد الأصدقاء المطّلعين، أن محمد السادس بعد وراثته العرش، بدأ في دفع عناصر المجتمع المدني المغربي المتعدد الأحزاب والنقابات والهيئات ليكون فاعلاً في مسار تطور البلاد المنشود، وليس ديكوراً كما في بلاد عربية غالبه، باتجاه أن يكون المغرب مملكة دستوريّة حقيقيّة، لكن عوائق (المخزن) وطبيعة طبقة الامتيازات المثقلة بالتقاليد والأنماط التي تجاوزها الزمن الراهن، تشدّ الأمور إلى حدّ الجمود والاستنقاع.

وهي مسألة يقينا يتقاسمها المغرب، وبنسب متفاوتة مع اخوته في «العائلة» العربيّة حيث تسود أنظمة وأنماط حكم عفا عليها الزمن، وتجاوزتها الصيرورة نظراً وحياة ومؤسسات. لذلك تجد هذه الأنظمة هشَة تترنح أمام أي هزّة داخلية تمليها متطلبات الواقع الموضوعي واستحقاقاته المتراكمة والطبيعية. فتلجأ الى العنف الأقصى حدّ الإبادة البشريّة وسحق المُدن العريقة والعمى الكامل أمام أي قراءة للوقائع والتاريخ، متناغمة مع إرادة أجنبية لا تريد نهضة حقيقية في هذه البلاد، بل سحق، ، حتى الذاكرة والتاريخ.. لو حقق المغرب هذه القفزة النوعيّة نحو مملكة دستورية مثل جاره الأوروبي ، لكان في الطليعة والقدوة، إذا كان هناك من يقتدي بالأفضل والأصوب ، ليجنب البلاد والعباد. مآلات الخراب القيامي التي نشهدها في بلاد المشرق العربي خاصة.

كنت أتحدث عن الجبال الخضراء التي تزنّر رأس سبارطيل وفي الطريق ثمة إشارات إلى وجود الخنازير البريّة المفترسة وكي لا يرتطم بها العابرون. مثل هذه الاشارات في طرق الخليج أو الجزيرة العربية البينيّة، تحمل صور الجِمال محذرةً من خطر الاصطدام بها …

أتحدث عن كرم الطبيعة وسخائها في هذه المناطق بين خضرة الجبال والتلال المزدانة بلآلئ البحيرات والأنهار المتماهية مع الغابات وزرقة بحار شاسعة ومهيمنة. ورغم هذا الموقع الجمالي الفريد، الذي يصل حدّ الميتافيزيقيا، في مغيب شمسه الأطلسيّة،لا تجد مرافق من مقاهي ومطاعم واستراحات تليق به، وبصورة عامة، البنية التحتيّة للسياحة في المغرب لا تليق بتنوع إمكاناته الكبيرة. وهي صفة تشترك فيها المغرب مع سلطنة عٌمان بوضوح تام.

في المكان المتواضع الذي أقيم فيه، رغم غلاء سعره ، حيث موسم الصيف الذي يعوض فيه المالكون عن خواء المكان في بقية المواسم. وميزة هذا المكان هي إطلالته المباشرة على مياه المحيط، وصخبها العذْب، حيث يمكنك أن تنام على إيقاع الموج وهلوسات الحوريّات في ذلك الثراء البعيد لحكايات طفولةٍ غاربة.

الطعام يُؤتى به من المحلات والأكشاك التقليدية. الطواجين و(البروستيت) الكلمة الفرنسيّة التي ترجمها المغاربة إلى القضبان. مرة شاهدت ما يشبه الحريق المدلهم في الجوار، فسألت أحد الباعة من الشباب المنتشرين بكثرة، عن حرائق الغابات المجاورة. أجابني إن هذه سٌحب الدخان المتصاعدة من مواقد (الطواجين) وأكشاكها، والتي لا تطبخ (الكسكس) أكلتي المفضلة في البلاد المغاربية. عزيتُ نفسي بأني ذاهب الى (أصيلة) بضعة كيلومترات، وهناك أفترس الكسكس، ليس في المطاعم ذات الطابع الأسباني وإنما في منازل الأصدقاء، مثل عبداللطيف الطود، الذي كانت تطبخه زوجته (أم تاشفين) وهو اسم ولده تيمناً بالقائد الأمازيغي الاسلامي لمعركة (الزلاقة)الشهيرة.

بعد يومين من وجودي، اكتشفت مطعماً قريباً من المنزل، مطلاً مباشرة على خضمّ المحيط، صُمم بذوقٍ عالٍ. من الكونتوار في الداخل حتى الشرفة والحديقة التي تعرش فيها الأشجار والكروم متدلية بعناقيدها، وأنواع الزهور والنباتات، مع زوج حساسين يصدح وسط هذه الخميلة المشرقة بزهو الخضرة والموج..

عرفت أن المطعم يملكه رجل من الكاريبي وزوجته المغربيّة الفرنسية . المالك هو الطباخ نفسه. يبدع الطعام بخيال الفنان ومزاجه، من الأسماك والسلطات، فهو بجانب احترافه فن الطبخ، يمارس الرسم ، وعلى اطلاع بالأدب والفن ، تتحدث زوجته، أنهما حين أسسا هذا المطعم كان المكان لا يرتاده الا القليلون عكس ما هو عليه الآن.. وثمة مطعم على الضفة الاسبانية يملكانه وكذلك في إحدى جزر الكاريبي «الفرنسيّة». والمغرب بمثابة استراحة، مع قليل من الأعمال كالمطعم الذي يمليه المزاج والنزعة الجمالية أكثر من الربح ، فهما لا يحبذان زبائن كثرا بل أصدقاء وروادا «نوعيين»..

صرت أداوم على المطعم كل يوم، أتناول العشاء الذي صنعته ذائقة الفنان وأشاهد غروب الشمس من شرفته المطلة على أزليّة المغيب. حالة الطباخ الفنان الذي يحب شعر مواطنه النوبلي (ايميه سيزر والكوت) الذي رحل منذ فترة قريبة، جعلتني أستعيد حلما قديماً يتجدد باستمرار . فحين كان عمري في العقد الثالث كنت أحلم ببيت على البحر. كلما ذهبت الى قربه أو مدينة بحريّة ، قلت سيتحقق حلمي هنا. من المغرب إلى المشرق ، ومن أسبانيا إلى الشرق الأقصى الآسيوي، ظل جناح الحلم يخفق مع نوارس البحر وأمواجه المتعاقبة في معراج العَدم حتى وصلت الآن إلى العقد السادس ، ولم يتحقق شيء من ذلك ، لكن الحلم ما زال خفاقاً وسخياً..

«علينا أن نلغي العقود التي وقعناها في عباب الحلم».

لتكن الإقامة والسكنى في بيت هذا الحلم الأبدي.

في باريس التي قدمتُ منها إلى طنجة، كنت أمشي في حديقة (اللوكسمبورج) مع محمد سيف وخالد أمين (الاثنان من أهل المسرح الطليعي) وفي سياق حديث النزهات الحرة وخيالاتها، اقترحت عليهما ملفا حول (انتونين آرتو) تمثلاته وتأثيراته على المسرح والثقافة العربيّة… وكان على بعد أمتار يقع مسرح (الاوديون) الذي قدم فيه (آرتو) لأول مرة مسرحيته التي صدمت ذائقة الجمهور وحطمت ثوابته حول المسرح. فما كان من هذا الجمهور الراقي إلا السخرية والشتائم يقذفها في وجه الفنان الذي طوّح به الإحباط إلى مشارف الانهيار العصبي .. ووفق ما كتبت (انيَس نن) أنها أخذته إلى بيتها لتهدئ من روعه وتواسيه.

أثناء نزهة الحديقة الباريسيّة الشهيرة، تطرق الحديث إلى المنزل البحري، حيث أفادني خالد أمين بأنه يسكن مع نفر من أهل الأدب في منطقة بعد طنجة، تدعى (بني يونس) في طريق (سبته) التي يسكنها خالد الريسوني المتزوج من أسبانيّة. وهذا المكان مثالي للعزلة والقراءة والحياة، كما أنه ليس مرتفع الثمن.

منذ افترقنا وهذا المكان يسكن مخيلتي وأحلامي.. هل سيظل كذلك، أم سـأجترح المعجزة بتجسيد الحلم الهارب دوماً من سجن الوقائع والتاريخ؟!

* * *

جبل وبحر وشمس ناعمة، تعلوها بعض الغيوم الطالعة من المحيط: ذلك ما يتمناه الكائن الفاني في عبوره السريع.

* * *

تحت المنزل الذي أقضي فيه أسبوعاً، رجل يسيس السيارات والدراجات المتكاثرة في المواقف العشوائيّة بين الأشجار والصخور… كان أصم وأخرس يطلق أصواتاً وايماءات طوال النهار وجزء من الليل… أصم وأخرس، إنها النعمة وليس الإعاقة، في أرض عربيّة. نعمة الخرس كي يقي نفسه عواقب الكلام والتعبير وسط جحافل العَسس المنتشر والمترصد في كل زاوية ومكان، خاصة في ظل التطور التقني الذي لم تستفد منه بلاد العرب الشاسعة، الا في مجال القمع وتكريس الاستبداد..

ونعمة الصمم كي لا يتألم ويتعذب كل لحظة وثانية بضوضاء العالم القاتلة، وذلك التكرار المريع لهذيان تلك الحفلة الدمويّة الفاجرة التي تبسط سلطتها المطلقة على ربوع العرب والاسلام..

* * *

في أحد مطاعم طنجة، القريبة من البحر، جاء الجرسون بقائمة الطعام المكتوبة باللغة الفرنسيّة وحدها. طلبت زوجتي قائمة أو منيو، بالعربيّة أو الانجليزيّة. تجاهل الجرسون الانجليزيّة وعلق بحماس على العربية… يا مدام ، العربيّة في الكتب فقط. المغرب كله يتعامل بالفرنسية؟!

تذكرت أن عقوداً متعاقبة طويلة، من الاستيطان الفرنسي، كما في الجزائر، كونها محافظة أو جزءا عضوياً من التراب الفرنسي كما كانوا يحلمون، وعقوداً من الاستعمار للمغرب وتونس لم يفلح في فرنسة هذه البلاد الشمال إفريقيّة الناطقة بالعربيّة ذات التراث الاسلامي المتعدد اثنياً وثقافياً.

كانت مقاومة الفرنسة الساحقة أثناء الاحتلال بكل مظاهره وأبعاده، قوية ومصيريّة من قبل النُخب المغاربيّة الفاعلة في تلك الحقبة من التاريخ، كانت هذه النخب المقاومة تدرك بعمق. وهي في غمار حرب متعددة، الوجوه من أجل الاستقلال والهويّة والمستقبل، إن تدمير شعب أو أمة يأتي أولا عبر تدمير الذاكرة المحمولة على اللغة والثقافة والتاريخ.. 

يتبدى في البرهة الراهنة، حيث إن الانهيار العربي الشامل، من غير سقف ولا قرار ، يسهّل مهمة سحق الهوية والتاريخ من قبل «الطبقة» المهيمنة في البلاد المغاربيّة وغيرها..

كلام الجرسون الطنجاوي، رغم أن الشمال كان محتلا من أسبانيا والكثير من أبنائه يتقنون الاسبانية أو يتكلمونها،لم أسمع مثله خلال اقامتي في الجزائر آخر عام في سبعينيات القرن المنصرم، ولا في زياراتي المتعددة الكثيرة للمغرب ..

كنت قبل ساعة من جلوسي في المطعم بطنجة، قدمت من (اشبيليا) الأندلسية عبر (الطريفه) بضعة كيلومترات تفصل الضفة الأسبانيّة عن الضفة المغربية التي كانت موحدة في بعض فترات آفلة.. وفي الليل يمكنك أن ترى أضواء (الطريفة) أو (الخزيرات)، من فرط القرب والجوار . وكل قول عن الفروق الجوهريّة حضارياً ومدنياً، يدخل في باب البداهة والنوافل ، من شدة وضوحه.. بشراً، مكاناً وتنظيماً إدارياً … الخ.

 بحيث تعود إلى هواجس وأسئلة البداهة من جديد بعدما تقادمت عقود وسنين طويلة على طرحها. عوْدا على بدء الأسئلة الأولى: لما يتخلف العرب ويتقدم الآخرون؟ وأشياء من هذا القبيل، رغم أن الشروط والظروف في تاريخها وإمكاناتها تكاد تكون متقاربة حدّ التماثل ، وربما الجانب العربي له التفوّق في بعضها والسبق؟؟!!

عبر (الطريفة) ذهاباً وإياباً ، وكنت قبل سنين لا تحصى، إذ أن الغموض وتقدم الزمان الكثيف يبتلع العدّ والإحصاء، قد ذهبتُ من طنجة إلى الشاطئ الأسباني (توري موري نوس) (ملقا) عبر (الجزيرس)، أو الخزيرات هذه المرة ذهبتُ عبر (الطريفة) صوب الأرض الأندلسية، التي يحلو للزائرين العرب، تلاوة سورة المجد والزهو الحضاري حين يقتربون ويطأون أديم أرجائها .. لم يخامرني شعور الاستعادة (النوستالجيّة) هذا لتاريخ منقرض. كنت منتشياً بأنحاء هذه الطبيعة الأندلسية المحتشدة جمالاً وبهجة، بشراً وسخاء مكانا، ومن الجهة العربيّة كابوس الراهن الدامي والوحشي ، لا يترك نافذة لترف استعادة وحنين من هذا القبيل.

تذهب بي الذكرى إلى عهد سحيق حين كنت تلميذا في قاهرة السبعينيات، حين نظمت نوادي الطلبة رحلة إلى مدريد وبعض المدن الأسبانية جمعت طلبة من أنحاء الخليج والجزيرة، وكنا في الحافلة التي تقلنا بين المُدن والقرى الاسبانية المختلفة..

كان الوقت شتاء، الثلوج تغطي المساحات الخضراء والجبال والطرقات التي تجتازها الحافلة الأنيقة وهي تحمل الطلبة بين المعالم والمدن، حتى اقتربت من مدينة (قرطبة) بقصر حمرائها وجمالها الباهظ، حين انبرى أحد الطلبة من مؤخرة الحافلة صارخاً (لابد من استرجاع الأندلس من استعادة المجد التليد!!) قام طالب آخر قائلا: (استعيدوا أولا فلسطين قبل الأندلس).. ثمة وعي مبكر بالمأساة لدى البعض..

في هذا السياق المتشظي، لم يذهب بي الحنين الى الحكم العربي لشبه الجزيرة الايبيرية المزهر حضارةً، فناً ومعرفة، بل ذهب على نحو ما من فرط ما يحمل المرء من أثقال غثيان الحاضر وانحطاطه ، إلى القائد المغربي (يوسف بن تاشفين). كنت في الباخرة المغربية التي تقلني إلى أرض الأسبان . باخرة حديثة لكنها مخلّعة الأبواب والمرافق. كنت أتحدث الى الصديق عبداللطيف الطود في أصيلة. وأسأله عن ابنه (يوسف تاشفين) الذي يعشق البحر وأقول مازحاً، ان الأسبان لن يعطوه فيزة زيارة بسبب اسم ذلك القائد الزاهد والصارم،الذي سحق جيوشهم في معركة (الزلاقة) وأُجل قرنا ونصف القرن سقوط «الحكم العربي الاسلامي».

على رغم ما اتسم به عهد الموّحدين من محافظة شديدة على خلافِ العهود المزهرة السالفة… حتى حلت الهزيمة الحتمية بمنطق الصيرورة والتاريخ.وبدأت تبزغ دورة كبرى جديدة في تاريخ البشريّة مدشنةً أكبر مجزرة في التاريخ. هي بدايات صعود الحضارة الأوروبية الحديثة المستمرة والمهيمنة.

* * *

تغيرت (طنجة) التي كانت ذات زمن مدينة (كوزموبوليتية) خاصة من ناحيتها البحرية وصار الكورنيش الجميل، بمثابة رئة للمدينة المختنقة بزحام الصيف وملماته الكثيرة. وبسبب ظهور الكورنيش، اختفت سلسلة المطاعم البحريّة المتنوعة والتي تذكر بتنوعها الاثني بماضي المدينة التي كان الطابع الأسباني يغلب عليها.

وكنا في زياراتنا الغاربة، بصحبة الرجل الذي تعيش المدينة تشرّده، كتاباته، وأقدامه الضاجة، التي تهرب منهاالطرق، على قول (الحصيري) صعلوك العراق المبدع، روح الصعاليك تلتقي تختزل المسافات البعيدة، وتلتقي على قارعة الكون والكتب والحانات.

في ليل طنجة الموغل في السهر والصخب المتاخم لموج المتوسط قبل أن يلتقي بموج المحيط في (راس بطيل) بقليل – كان محمد شكري الذي نلتقيه في طريقناإلى أصيلة أو الرباط، وحين نمكث فترة في المدينة التي شهدت شقاء طفولته المبكرة قادماً من ريف الشمال البالغ الفقر والقسوة، وشهدت لاحقاً مجده الأدبي،الذي جاءه صدفة من غير أدنى تخطيط أو اتفاق.. كان شكري حين يضيق ذرعاً بوسط المدينة ينحدر الى مطاعم البحر ذات الأسماء الأسبانية غالباً، وهي تغطي رقعة الساحل الرملي من أوله إلى آخره بلآلئ أضوائها الملوّنة.

* * *

في أصياف طنجة بطقسها الذي يفوق الطقس الأسباني روعة ورقة ، يزدهر شكري مع محمد زفزاف وادريس الخوري،الثلاثي الرهيب. حيث يأتي الأخيران لقضاء فترة الصيف أو جزء منه في ضيافة المدينة البحريّة الكريمة،أو في ضيافة شكري على الخصوص..

وللخيال أن يذهب بمذاهب متاهاته وهاوياته المتعوّية الصاخبة في ظل كتّاب أحرار منفلتين من القيود الاجتماعية والتقاليد الوقورة من غير أقنعة عدا أقنعة الحقيقة العارية..

وحين اختصم شكري مع (بدريس) كما يدعوه الأصدقاء ، حد القطيعة، قلت للأخير ، ما رأيك في السعي للم الشمل من جديد، أجاب بأنه سيكون سعيداً.. لا أذكر . ماذا حصل بعد ذلك.. فأنا لستُ إلا زائراً موسمياً..

رحل زفزاف ورحل شكري، وبقي (بدريس) صامداً يقاوم صروف الدهر ولو الى حين.

ها أنا الآن في طنجة أمضي مع بهاءالدين الطود وعزيز الحاكم القادم من فاس وعبدالاله..القادم من القصر الكبير، إلى مطعم «الخبز الحافي» على اسم الرواية الأشهر لشكري.. وكانت صوره تغطي جدران المطعم، المشرب، محدقةً بطيبة ورعب في الحشد البشري الذي يستمر في غيابه  في صخب الحياة ومتعها العابرة..

كان الغائب الحاضر بامتياز، في فمه سيجارته المعهودة، من ظلمة الأجداث حزيناً وضاحكاً ينفث الدخان في وجوه الأحياء والأموات..

أتذكر مرة وجدت شكري صدفة في الرباط، على غير العادة، وكان نورالدين أفاية يقدم برنامجا ثقافياً في التلفزيون ومقره الدار البيضاء… استضافني وشكري كل في حلقة على حدة.. في الصباح المبكر أخذنا نورالدين بسيارته، وفي خضم الطريق أخذ شكري يتلوى من فرط الألم ويتقيأ،أوقف السيارة ثم استأنفنا الطريق حين هدأ بعد أن أخذ الدواء وشرب حتى توازن وارتاح قائلا: «معدتي ليست مريضة لكنها مهلوكة».

* * *

حين داهمه المرض ، هو من ذلك النوع الذي لا يتيح للمرض والألم فرصة عزله واعتقاله عن الحياة أولاً والكتابة ثانياً، إذأن لديه من التحصينات والوسائل ما يهزم العوائق والأمراض ويدحرها، هو الذي تربى تحت ظلال شجرة الألم والجوع والقهر، ما أكسبه هذه الحصانة وهذه المنعة..

أشرت إلى أن الكتابة بالنسبة له ثانية بعد الحياة، وهي ليست إلا تكملة بحث فيها.إحساسه الدائم مثل ذلك النفر من الكتاب، بأنه أتى إليها بالصدفة وطابت له السكنى.. وليس مثل آخرين واهمين بأنهم وُلدوا من رحم العبقريّة وحظوة الإلهام .. مرة جاءه كاتب قال له (سي شكري ثمة اجتماع لمثقفي الشمال لا بد ان تحضره) أجابه بأنه ليس مثقفاً… ومرة كنا نمشي أمام واجهة مكتبه في الشارع الرئيسي، حين لاحظ كتاباً ألصق بالواجهة الزجاجية من نوع (فريدريك هيجل يقارع عمانويل كانت) فجفل راكضاً وعيناه جاحظتان تمثيلاً لخوفه وذعره من العناوين الكبيرة… هو الصعلوك الذي لا يقيم إلا في «السطحي» والعابر.

حين داهمه المرض العضال ، قاومه بضراوة حتى بدأت قواه في التداعي والاستسلام . كان يرقد في مستشفى الأورام في الرباط العاصمة، حين زاره صديقه محمد الأشعري، وكان آنذاك وزيراً للثقافة.. قال شكري (أخيرا ها أنا أنام من غير حراك) العاصفة تنام على سرير المرض بعد أن أنهكتها المسافات والزمن.. أمام هكذا موقف مأساوي، أي كلمة مواساة أو تعزية ليست من غير نفع فربما تكون مُهينة..

فما كان من الأشعري بحسه المرح إلا أن ينتشل الموقف من لحظة الميلودراما المرتقبة، ويقول: (هو سرطان واحد يا شكري ، هذا لا يليق بمقام عظيم مثلك.. قول ثلاثة .. أربعة…).

الفكاهة السوداء إزاء ما هو حتمي، حسُّ المرح العابث التراجيدي أكثر بلاغةً في التعبير هو الذي ينتشل اللحظة المحتدمة من براثن قدرها الكئيب.

* * *

في عُمان ، زمن الطفولة البعيدة، لا نكاد نعرف شيئا عن البلاد المغاربية، كانت ثقافة بلاد المشرق العربي بكافة مناحيها، بجانب الإرث المحلي، تمارس مطلق الهيمنة على الوعي العام وهو وعي بدئي وتقليدي..

وكان هناك ما يشبه الكلام الغامض عن الثورة الجزائرية و(وادي ميزاب)، حيث يقطن الأمازيغ الاباضيون، الذين تربطهم صلة رحم مذهبية باخوانهم في عُمان.

وحين كنا في القاهرة، استمر هذا الغموض حول تلك البلاد الشاسعة والنائية.. نفر من الطلبة ذهب من الى المغرب ، وجاء بأخبار مثيرة عن طبيعة تلك البلاد التي تفوق بلاد المشرق ولطف تعامل أهلها مع الغرباء..

ذات صباح قاهري، صدرت جريدة الأهرام وعلى صفحتها الأولى على غير المعتاد، صورة الجنرال (أوفقير) وهو يقبل يد الملك الحسن الثاني. كان مانشيت الجريدة العريقة، مسنودا بمقالة محمد حسنين هيكل رئيس التحرير المعروف (بصراحة)، حول زلزال الانقلاب الذي قاده الجنرال، يد الملك اليمنى والضاربة بقوة الابادة لأعدائه، وقد خرج منها الملك الحسن سالماً بغرابة المعجزة التي يكتنفها غموض التفسير والأسباب.

تكررت بعد هذه المحاولة محاولات أخرى، ويخرج منها الملك العنيد أكثر قوة وبطشاً من ذي قبل… مرة كان ريف الشمال يشتعل بالاحتجاجات، ألقى خطبة، كأنما يتقمص فيها شخصية الحجاج ابن يوسف الثقفي.. (تعرفون من أنا؟) يخاطبهم بفصاحة عالية وشرسة.. لكن بدل أن يقول «أنا ابن جلاء وطلاّع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوني» وبسبب ثقافته الفرنسية، كما العربية، ينعطف الى (باسكال) (تعرفوني من أسلوبي. إن للرجل اسلوبه كما يقول باسكال).. اذا صح نسب العبارة اليه على هذا النحو.

لكن رغم بطش الخطاب وشراسته ، ظل الحسن الثاني يتعاطى مع السياسة ولم يقطع معها بسبب الأحداث الانقلابيّة، الاحتجاجيّة والعدائيّة لشخصه ودولته – ظل يتعاطى وفريقه مع السياسة والوقائع. وهذا ما يميزه عن ملوك ورؤساء المشرق من «أشقائه».. فرغم ان تلك الأحداث بعضها جسيم، يدفع أمثاله الى  التصفية، تصفية الحياة السياسية القائمة في المغرب من أحزاب ونقابات، واكتفى بتصفية خصومه المباشرين..

لو حصل ذلك في بلاد المشرق، مركز التاريخ الحضاري والروحي ومركز الدم والمأساة، لاستُؤصلت مدن وجهات بكاملها، وأحيلت الى انقاض كما هو الراهن وحروبه الأهلية ووقائعه التي تتناسل من غير هوادة..

هناك وبشكل من الأشكال، ثمة تعامل مع السياسة، صوابه وخطأه. وهنا تعامل مُنجز سلفا مع القتل والتصفية والترهيب بكل أشكاله..

مثل هذا الكلام لا يبرئ المغرب ، واذا نزعنا الى الشمول ، البلاد المغاربية، على بعض التفاوت، ويرفعها وينزهها ، عن مثالب الشرق العربي الفادحة.. وإلا لما كان الحال على هذا النحو من تخلف البلاد عن استحقاقات راهن الحداثة والعصر.

إنها وحدة بلاد العرب مشرقاً ومغرباً، وقد تحولت إلى نقيض الطموحات والأحلام، من قبل النُخب و«الشعوب». أكتب كلمة شعوب بين مزدوجات، متذكراً كلمةً الراحل أنور عبدالملك متحدثاً عن مصر وسائر البلاد العربية، كونها لم تعد تملك شعوباً بمعايير التاريخ والاجتماع، وإنما تجمعات سكانيّة عشوائيّة تعيش الفقر والإذلال..

* * *

مطلع الثمانينات زرتُ المغرب قادماً إليها من دمشق وعائداً إليها. نزلت مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، وهو لا يختلف كثيراً في تواضعه وبساطته عن مطار دمشق الدولي. كنت أحمل معي نسخاً من كتاب صدر لي للتو، (الجبل الأخضر) وحين لاحظ شرطي الجمارك السوري ، كثرة النسخ في الحقيبة، أخذني الى غرفة جانبية حيث سألني الضابط عن سبب كثرة النسخ وطبيعة الكتاب. أوضحت أنني كاتبه، وانني مقيم في الشام … الخ. حتى ضجر لعدم أهميّة الموضوع بالنسبة إليه، فأفرج عني وعن الكتاب الذي حملته الى المغرب والأصدقاء..

لحظة وصولي المطار المغربي ، وأنا في طريقي إلى منطقة تفتيش الحقائب، اندلقت الحقيبة التي أحملها وهي غير مقفولة كالعادة التي استمرت حتى هذه اللحظة، تطايرت نسخ الكتاب متبعثرة على أرضية المطار، مما جعل شرطي التفتيش يدعوني متجاوزاً الذين قبلي في الطابور. سألني بدوره عن الكتاب ولماذا هذا الكم من النسخ المتشابهة؟، أوضحت له مثلما أوضحت لزميله السابق في دمشق.. تركني أمضي في حال سبيلي من غير مشاكل وأسئلة اضافية تحفل بها مثل هذه المناسبات.. مضيت الى الردهة الخارجية للمطار حيث كان في انتظاري زاهر الغافري وأصدقاءآخرون مقيمون في المغرب من أجل الدراسة.

منذ تلك الفترة التي بدأت في التعرف فيها على الوسط الثقافي المغربي، أخذت الصلة في التوثيق والحميمية جمالياً ومعرفياً، عبر أطوار الزمن وتقلبات أمكنته..

وبدار توبقال، مع الصديق محمد بنيس أصدرت ديوان (رأس المسافر) الذي استقبل بشكل رائع وفريد . اتسعت العلاقة وتشعبت حضوراً مكثفاً… كنت أحضر في العام أكثر من مرة، من مراكش، فاس، الرباط، الدار البيضاء، وحتى أصيلة وطنجة خاصة في موسم الصيف والمهرجان الذي سيكمل عامه الأربعين، حيث يتجمع الأصدقاء من كل الأنحاء المتشظية والبلاد..

* * *

وجدت في المغرب والبلاد المغاربية عامة، ما لم أجده في المشرق. ذلك الشغف حدّ الهوس والجنون بالفنون والفلسفة، الطليعي منها واللامألوف الذاهب صوب المغامرة والخطر والمجهول. هوس عبر عنه أصحابه كتابة وسلوكاً، حياة وموتاً..

أحيانا يفيض هذا الهوس والاندفاع اللاغائي بالمعرفة، على الكتابة فتتراجع هذه الى آخر الهموم وهواجسها. كم من مثقف مفعم بالقراءة المبحرة في شتى المعارف والأنماط التعبيريّة، يزهد بالكتابة والشهرة، فتتحول هذه الحصيلة المتراكمة الى حياة وأسلوب حياة. الى خطاب يومي شفوي، يرفد الثقافة بهذا العمق الزاخم أكثر مما يكتب. هذا الرافد من روافد هذه الثقافة، يصب في متنها العريض بأسمائه البارزة في ساحة الثقافة والفكر العربييّن .. فقد أعطت هذه المناطق في الثلاثين سنة الأخيرة وأمدّت ثقافة العرب وفكرهم الذي وصل في بعض أقانيمه الى التنميط الايديولوجي وضجر التكرار العقيم، بكل ما هو جديد، مبعث سجال مضيئ..

الأسماء في هذا المنحى من فرط إلحاحها وحضورها، ليست بحاجة الى إيراد وتسطير..

* * *

أشرتُ إلى أن الحنين المفرط الذي يشبه المازوشيّة التاريخية، لم يعبرني هذه المرة، ذلك الذي يخترق العربيّ التائه بين العصور والحضارات.. لكنني وأنا أقضي الليل على سطح منزل من منازل (اشبيليا) القديمة، بدعوة من صابر الفقيه وزوجته الفرنسية (دافني) كان جو المدينة حارا بالمقاييس الأوروبيّة، لكن حين تهب نسائم الليل الباذخة تنسي سكانها حرارة النهار الصيفي.

لم أستطع الهروب من استعادة ليل السطوح الصيفي بأنسامه العذبة الرحيمة في دمشق خاصة وكذلك بغداد. حين يلوذ الساكنة بشرفات المنازل وسطوحها هرباً واستراحة من لهب القائلة، في تلك البلاد التي أعطت الأندلس وشبه الجزيرة اللإيبيريّة، مجدها وحضارتها معماراً، علوماً وفلسفة.. هذه الاستعادة تستدعيها تجربة الراهن قبل أن تنقض الحروب المتناسلة مفترسة كل شيء، السطح والقاع، الروح والجسد.. في الراهن، فكيف بالتاريخ، حين كانت بغداد مدينة السلام، مركز الحضارة والمعرفة. وقبلها دمشق الأموييّن الذين أسسوا كل ما هو ملحمي ونبيل. أولئك الذين اذا ضاقت بهم الدنيا ألحقوها ببستان هشام- حسب سعيد عقل- هشام ابن عبدالملك ابن مروان.

موضوعياً وتاريخياً هم بعد المؤسسين الأوائل، من أرسوا دعائم مشروع الحضارة العربي الاسلامي الذي في غضون عشر سنوات ، هيمن على العالم من حدود الصين حتى جبال (البرانس) في القارة الأوروبيّة، ما لم يتحقق زمنياً في أي حضارة أخرى قبلهم بما فيها روما العظيمة. ومن مفارقات الزمن الذي نعيش، والذي تحتدم فيه حروب العبث الطائفي البشعة سارقة أحلام التغيير الحقيقية، النبيلة .. تمتد المجزرة إلى ذلك التاريخ ، فيما يشبه تصفية حساب انتقاميّة، حين شاهدت ذلك المسلسل التلفزيوني الذي يتعاطى مع تلك المرحلة الثرية، وقد أظهر عبدالملك بن مروان بشكل هزيل شخصية (شرشوح). مثل هذا التعاطي سبق اليه كتاب وأدباء تفننوا في التنكيل بالتاريخ، الذي أضحى ماركة مسجلة لمصانع الحقد وغرائز الانحطاط الطائفي الذي تغذيها وقائع الانكسار الجاثمة.. هذه المجزرة التي تترحّل من الراهن بأبعاده الواقعيّة والرمزيّة الى التاريخ البعيد والقريب، عبر هذه الطائفة من الكتاب و«المفكرين» العرب الذين تفوقوا بشكل ساحق على مرجعياتهم الاستشراقيّة، في أسوأ أحوالها. رسخوا ما يشبه المعطى الجاهز والنمط، حيث متن هذا التاريخ لا يزخر، إلا بالشرّ والدم، والانحدار القيمي والقمع والفجور والوحشيّة بالمطلق (كذا) تقابل هذا المتن الهوامش التي هي النقاء الثوري الطهراني بالمطلق!!!

هذه الطائفة التي اتسعت رقعتها في ضوء الحاضر، وصار التاريخ العربي نهباً مستباحاً للغرائز الطائفية والعنصرية ولشعوبيّة «الحداثة».. التي تنشد الى نيتشه وأقرانه. نيتشه الذي عبر عن غضبه العميق والجذري تجاه تاريخ البشر قاطبة، حيث لخّصه في كونه عاراً في عار. أما هيجل العقلاني الكبير، فقال ان تاريخ البشر ليس إلا مذبحة.. ليس تاريخ العرب فحسب ولا الأتراك أو الرومان أوالفرس…

لو قرأ أولئك بحد أدنى من الموضوعيّة، وهو مطلب مستحيل على الطائفيين والشعوبيين المحدثين، لكان هناك ضوء ساطع للحقائق المغيّبة..

نهرب من سطوة الحنين ومازوشيته، لكن جفاف الواقع وفظاعته، يدفعك لا شعورياً الى فتح نافذة ولو ضيقة في جنّة الحنين الآفلة من غير عودة.. أعرف انه حنين ساذج، لكنه نازع من نوازع طفولة وفتوة لم يبق منهما إلا خيالات شاحبة تعبر بين الحين والآخر…

* * *

يتناهى الى سمعي هتاف المتظاهرين السلميين وسط طنجة تضامناً مع الحراك المطلبي للحُسيمة..

هذا الصباح أقرأ في إحدى الصُحف المغربية ذات المقروئيّة الواسعة.. وبالمناسبة منذ زمن كانت (الاتحاد الاشتراكي) التابعة لهذا الحزب. و(العلم) التابعة لحزب الاستقلال وصحيفة (أنوال) الحزبيّة هي الأخرى تحتكر هذه الصفة.. أول ما يؤشر لهذا السياق.. جملة التغييرات والتطورات في المجتمع والسياسة، أفسحت المجال لصحف أخرى ليس لها صفة حزبيّة على هذا النحو الكلاسيكي الراسخ تاريخاً أو نضالاً.

أقرأ عن ظاهرة (المغاربة السوريون) في ألمانيا. وهم يعدّون بالآلاف معظمهم من المغرب، والبعض من الجزائر وتونس. وجلهم مراهقون وقُصّر، يشكلون ظاهرة عنف لا نظير لها في بعض المُدن الألمانية. من الاغتصاب والسرقة وانتهاك كافة القوانين والمحضورات. 

أحدهم اغتصب مسنة خارجة من الكنيسة، عمرها تسعون عاماً. وفي ليلة رأس السنة بثوا الرعب وأسالوا الدماء، تحرشاً وتدميراً في كل اتجاه..

هذه الفئة المثالية عمراً للممارسات العنيفة، ضمن هكذا  فوضى مفتوحة، أو ضمن استقطاب التنظيمات المتطرّفة المتكاثرة من كل حدب وصوب. فرّت من المغرب حتى وصلت الى الطرُق التي يسلكها السوريون الفارون مع أطفالهم وعائلاتهم من جحيم الحرب والإبادة.. عبر تركيا، ومغامرة التهريب، في «قوارب الموت»، قوارب التيه والضياع في خضم ليالي المحيطات المدلهمة بالخطر والاضمحلال. هذه المرة لم يسلكوا في رحلة التيه هذه عبر البحار والمضائق القريبة التي تفصلهم عن أسبانيا وأوروبا أرض الأحلام. ذكاؤهم المبكر قادهم الى الأبعد لاستغلال فرصة المجزرة السوريّة، والرحيل مع ضحاياها وكأنهم جزء من تغريبتهم المأساوية، لذلك قبلهم الألمان على أنهم سوريون هاربون من حرب بلادهم حتى انكشف أمر الهويّة والبلاد التي ينتمون اليها.

* * *

البارحة راودني حلم سرَى عبر سطح الزمان والمكان. منذ الأمويين وحتى ثمانينيّات القرن العشرين، ومن ثم الهنيهة الماثلة في هذا المكان الليلي النائي. مطامر الأعماق واللاشعور تختزن شظايا الأحداث ودخان الكلام الذي طواه النسيان لتقذفه كالحمم الصغيرة في ليل الغرباء..

البارحة حلمت بأنني مع عبدالقادر الحصني، نجلس في مكان ما، ما لبث عبدالقادر أن اقترح الاتصال بأبي الوليد يوسف سامي اليوسف، الراحل عن عالمنا منذ سنوات، أخرج هاتفه الخلوي، من جيبه وأخذ في الاتصال. بدا من صوته أن الخط كان مشوشاً. ثمة تعثر وغموض في الكلام بحيث أن الجمل تتقطع من غير افادة ولا دلالة، يمليها خطاب صديقين فرقتهما المسافة والأيام . في غمرة هذا الارتباك أعطاني قادر الهاتف لأستأنف المكالمة. بدالي صوت (أبوالوليد) بعيداً.. بعيداً موغلاً في البعد وفقدان الحماس للكلام حول أي شيء من أحوال البشر والبلاد. ورغم نأي المسافة والصوت رأيته في جلسته وهو يتحدث بهيئته القديمة على كرسيّ مُحاط بكراسٍ فارغة. لكن كلامه لم يصلني منه مثلما كان عند قادر الذي قال حين توقفت المكالمة: يبدو أننا اتصلنا في وقت غير مناسب. كان مزاجه معكراً وغير راغب في أي حديث، على نقيض الأيام الخوالي.

في هذه الليلة الاشبيلية زارني هذا الحلم الذي يمكن تفسيره. إذا كانت الأحلام لها من معنى، غير كينوناتها الهلامية العابرة.. (أحد الفلاسفة الجدد يعتبر (فرويد) ليس عالِماً مكتشفاً لقارة اللاشعور الفردي، وأحد رموز العصر الحديث، وإنما مشعوذٌ ودجّالٌ). 

إن أبا الوليد، في تلك الأزمنة الخوالي التي درسْت كل رسومها وأطلالها، كان كثير الحديث والفخر بزمن الأمويين وقادته، بصوته العالي العميق كان يردد متنزها بمتعة بين ضفاف التاريخ، أحداثه، وعقلِه الصاعد مقابل العقل الهابط الخانع الذي لا ريب كان ينظر إليه في مرآة أزمنة الانحطاط الساحقة..      

أعشاش صيفية في ضوء الفجر..

كتب (نيتشه) إلى صديق له:

أتمنى أن تجد لي منتجعًا جبليًا أكثر هدوءا من الموتى… أتذكر أمنية الفيلسوف الحرّى، حين أكون وسط قيامة الضجيج للآلات من حفارات ورافعات وفظاعات تعجز اللغة عن مقاربة وصفها، إذ تدير الرأس والكيَان وتطوح بهما إلى متاهة مرعبة من الألم والانسحاق.

أين أنت يا سكينة الغابة والموتى، بهجة الناظر والمتأمل في ضفاف الأعماق.

*  *  *

أرتشف القهوة من قعْر فنجاني الفارغ

أرتشف الفراغ العميق

في الطاولة المقابلة أمامي 

آسيوية فارعة، يابانية

صينية ربما..

أسلافها قدماء الفلاسفة،

قدسوا الفراغ وأقاموا معه 

صِلات التأمل والقداسة..

ما تبقى، وهو الجوهري، يؤسسه 

الفراغ المظلم العميق.

*  *  *

يمرض الشجر، تشحب الأغصان والأوراق وتضعف الجذور. لقد غادر الأهل الأرضَ والبلاد ميممين شطر المحيط، تاركين الشجر والنافورة في صحن البيت الدمشقي القديم. الشجر الذي كان حصينا ومزهرا، يمكن أن تقتلعه هبة ريح خفيفة، وهو ليس بحاجة اليها، لقد اضمحل في قلوب الأحبة الغائبين والأطفال.

*  *  *

أولئك القلة الذين يضيئون الحياة بنور الحقيقة الخفي والجمال. أولئك المستحيلو الظهور اللامرئيون من فرط الشفافية ونكران الذات، يهبهم القديرُ لعباده عبر أزمنة ضوئية متباعدة على منعطفات أحقاب سوداء عجاف… ما تبقى من رأفة لم يجفّ مطرها بعد.

*  *  *

يحملون أيامهم وأحلامهم 

كما تحمل السفن البضائعَ في عتوّ العاصفة

عمّال الموانئ

في غَبش الفجر البحري.

تبدأ جلبة الصفير والطيور المهاجرة

في استراحتها على الأعمدة والصواري،

يحملون تحويشة اليوم 

إلى عائلات أنهكها الظمأ والفراق

*  *  *

الأوزّة الكبيرة

يهرع إليها الأطفال والطيور

وهي بشموخ جمالها

ملكةٌ على الغاب والغيوم

*  *  *

تقترب الأوزّة مني

محدقة في أعماقي..

إلى ما تنظرين أيتها الأبدية

للعابر في التخوم؟

*  *  *

العيش في الغابة

لساعات وأيام

بين البحيرات اللألأة والغيوم، وذلك المجهول الرابض

بين الأشجار والأكمات،

عودة الروح إلى سكينتها الأولى

قبل أن تُسال على أديمها

الدماء والنكبات

*  *  *

سناجب تحفر في تربة الجذور

وغربان تموج أسرابها في الحقول، لا تذكّر بالجيفة

ولا الفراق 

وهذا العقعق من سقفه القرميدي

يتلو آية المرح والسلام.

*  *  *

في (شيروود) غابة 

روبن هود الأسطورية، مشهد طلوع الشمس من بين تضاريس الأفق والأشجار العملاقة، التي تتوحد مع الطقس الغائم ، تذكرني بظهورها من بين الكثبان والجبال الرملية، في صحراء (بديّة) بعُمان على مشارف الربع الخالي.

ثمة صفات مشتركة بين أركان الطبيعة الكونيّة في تجلياتها وتمظهراتها المختلفة مهما شطّت المسافة والنأي الجغرافي والطقس بينهما.

برودة آخر الليل الصيفي الساطع في الغابة حتى تقترب الشمس بعد ظهورها الرحيم ، من كبد السماء، إذ تبدأ حرارة مقبولة يطرب لها ويصخب أصحاب البلاد.

أما على مشارف الربع الخالي وصحرائها العميقة فحال انبلاجها من خلف الرمال العالية، تبدأ بعد برودة الليل القاسية في انفجار حرارة لافحة.

هذا الاختلاف لا يغير صفة الجذور العميقة والميتافيزيقية، في تجليات طبيعة النجمة المركزية وظهوراتها المتباينة في عالم البشر.

الغابات صحارى، كثبانها الرملية وجبالها وتلالها ومنعرجاتها، وترّهاتها، هي هذا الغلاف النباتي البالغ الكثافة والغموض، كثافة الخضرة اليانعة بديم الأمطار المستمرة في كل الفصول. والصحاري غابات عارية، إلا من شجيرات تتوزع في أرجائها الموحشة وبأمطارها الموسمية النادرة والتي تأتي أحيانا على شكل طوفانات وعقاب وهي تبتلع الفصول في مدارها الخاص.

الخطر والإيحاء باللانهاية والدوار والوحشة الوجودية توحد بين الصحارى المجدبة والغابات الممطرة، بين أركان الطبيعة الخالقة والمخلوقة على هذا النحو من الإبداع الجمالي والتأمل والابتكار..

*  *  *

أشرت إلى «الترهات» وهي الدروب المتشعبة في أنحاء الغابات والتي لا تفضي إلى شيء. دروب تتناسل إلى دوائر ومتاهات، لا تفضي إلا إلى الضياع والعدم.. ربما لهذا وسم الفيلسوف الألماني (مارتن هايدجر)  أحد كتبه بـ«الترهات» وهو المقيم والمولع على نحو روحي عميق بالغابة السوداء، في ألمانيا ، إذ لا يرى في «المدينة» إلا زيف العلاقات والثرثرة، والوهم والعدوانية، على نقيض الإقامة في الغابة، إقامة الروح في جسده الطبيعي المتناغم الخلاق.

*  *  *

أمشي خطوات في حقل البيت الخشبي المجهز بكل أنواع الراحة الحديثة، أصطدم بجيفة حيوان صغير نافق ، فأرا أو سنجابًا ربما، أتجاوز ما يشبه الساقية التي تتكاثف فيها النباتات والأشجار الملتفة إلى خمائل وأكمات… أرى بَعراً ما زال على نحو من طزاجة ونضارة، أحيلُ النظر في أنحاء المكان ولا أرى أي حيوان في القريب.

أتذكر قول امرئ القيس..

(تَـرَى بَعَــرَ الآرامِ في عَــرَصَاتِـهَا

                وَقِـيْــعَانِـهَـا كَــأنَّـهُ حَـبُ فُــلْــفُــلِ)

(ويوم نحرتُ للعذارى مطيتي

فوا عجبا من كورها المتحمّل)

ماذا لو نحرتها هنا  يا أمرئ القيس، وسط هذه الربوع الخضراء الشديدة الخضرة ربوعنا أصبحت قاحلة أيها الملك الضلّيل، أصبحت مجدبة في كل شيء بعد طول خضرة ونماء، صعقها زلزال الجفاف..

قليلا… وتظهر الأوزة العرجاء التي أصابها مكروه ما ، لا شك هي الآن تحت الرقابة والعلاج وربما لها ملف يحتوي بدقة منذ الولادة على تاريخها الصحي. وفي مساء الأمس رأيت الأطفال يطعمونها الخبز والحبوب شفقة بحالها أكثر من بقية الحيوانات والطيور السليمة التي يستمتعون بإطعامها وملاعبتها. وهو سلوك لا يبتعد عنه الكبار ، خاصة أولئك الوحيدون وقد تقدم بهم العمر، في غياب الجليس والأنيس.

وتذكرت حكاية لألبير كامو، في إحدى رواياته، حول ذلك الرجل الوحيد ذي النزوع العدواني حين يستدرج الحمام أو القطط بإطعامها في شرفة منزله، وحين تتجمع مطمئنة إلى كرم الضيافة، يقوم بالبصق عليها..

*  *  *

مساء البارحة توغلت أكثر بمحاذاة البحيرة في الأماكن الأكثر غموضاً وجمالاً. وقد سمعت الأطفال يتحدثون عن منزل الشجرة الكبير، وانه كان مأوى (روبن هود) وبعض رفاقه، قبل أن يتكاثرون حوله مشكلين ما يشبه الجيش الذي يطمح إلى إحلال الحق والعدل، بسلب الأغنياء أموالهم، وإعطائها للفقراء والمعوزين..

بعض الحكايات والأساطير تتكرر بأشكال مختلفة في تاريخ الشعوب والجماعات البشرية مخلفة إرثا يضيئ ذاكرة الأجيال المتعاقبة.

لم أبحث عن منزل الأشجار المسيج بالخرافة، توغلت بمحاذاة البحيرة بعيدا عن الطريق المعبّد والمستأنس.. هناك في الدروب الصغيرة، و«الترهات» الوحشية، كلما أوغلت خطواتي وخيالي السارح في آفاق اللانهاية، أحسست بالاقتراب أكثر من ذلك الجمال الأكثر خطورة ورعباً وتقاطرت في وعيي ومخيلتي تلك الأسماء التي قضت انتحاراً باختيارها في مقاربة الحقيقة الأبدية المستحيلة.

وألمت بي تلك الهواجس الجميلة والمريعة التي طاف هاتفها على أفئدتهم وخيالاتهم البالغة الهشاشة والشفافية… حتى لامسني ما يشبه اليقين، أن الجمال في جوهره ، وبكل تموضعاته وتجلياته، في الطبيعة والمرأة، في الفكرة والبطولة واللغة والطفولة، لا بد يعود إلى أعماق هاويات سحيقة مظلمة ولا محدودة يتيه فيها الباحث والدليل.

*  *  *

حين تكون في  قلب المشهد الجمالي، الحقيقة الجمالية الهاربة باستمرار، ازاء هذه الحالة في قلبها وعلى جوارها وتخومها حتى وهي تخترق كيانك بروح إشراقها وتطوح بك في غيبوبة العذوبة والانخطاف. هل تعيش الحالة أو تكتبها؟!.

ماذا تستطيع أن تكتب ازاء هذا الفيض، ازاء هذا الإعصار المنفلت على كل منطق وقانون ومفهوم؟ وهل تعيش حالة الوَجْد والحب العميقة بكل إمكانات كيانك الروحي الذي ستتسع دائرة إدراكاته وحدوسه أكثر من غير كتابة ربما تعكر صفو هذه النشوة الاستثنائية الخاطفة، أم أن الكتابة تساعد على الاقتراب أكثر في إدماج حالة النشوة الراعدة، في سياق أكثر جمالاً وديمومة، وان كانت كلمة (ديمومة) ربما لا تناسب جوهر هذه البروق الخاطفة.

*  *  *

السنجاب أمامي يعدو على طول الحقل، بسرعة صاعقة، تخيلته فهد الشيتا، وهو يعدو في الفيافي الأفريقية أو الآسيوية وراء طريدته التي لا يعني لها الاستسلام أو الهدنة إلا الموت يمزقها شلواً شلواً بين فكيْ هذا المفترس الذي لا يرحم حين يرغب أو يجوع.

لكن لا طريدة قريبة أمام السنجاب ، انه يعدو لغريزة العدو فحسب، وربما لأسباب لا أعرفها تتعلق بصفات الحيوان.

هذا الحيوان الصغير الملغز في حياته وموته. بين أدغال آسيا الحارة أو غابات أوروبا الباردة كيف يدير حياته بين الضواري؟ حين يشتد البرد في هذه الأرض الصقيعية يحفر في جذوع الأشجار، منازله الشتوية بعد أن يكون قد أمن المؤونة ولم يعد يحتاج إلى الخروج في برد الصقيع القاتل.

أي حكمة أودعها الله في هذا المخلوق الصغير وسائر المخلوقات، خاصة تلك المهمّشة واللامرئيّة، في خضمّات الطبيعة والكون؟ 

*  *  *

تنزل الأوزة المريضة ، تجلس بقربي، محدّقة ولسان حالها يقول: أين الأطفال الذين يلعبون من غير تعب ولا انقطاع ويطعمونني برأفة وحنان.. أنت الغريب السادر في تخوم ضحاياك ومخلوقاتك الوهميّة.

الأوزة المستأنسة في حقولها وأدوات حضارتها، ليست هي الأوزة البرية التي اكتوت بمرارة المسافات والتجربة.

وربما حلقت فوق ساحات حروب ومذابح يرتكبها البشر في بعضهم بإيمان راسخ لا يلين.

*  *  *

البط والأوز والسناجب ما زالت نائمة على ما يبدو.. الساعة الرابعة فجراً أصحو. ثمة ألق راسخ في الأفق وذلك المترحل بين الأشجار والنباتات لا أعرف إن كان فجراً كاذبا أم ذلك الصادق الذي يتداعى بعده الصباح والضوء إن لم تكن هناك غيوم تلبد الجو بظلامها الخاص الشفيف. لا فرق بين الفجرين في هذا الغاب المولود من رحم المراحل الجوراسيّة والأسطورة.

ثمة بضعة أرانب برية تحفر بمرح في التربة وتتبادل الأماكن والكلام الذي يعبر عنه صمت النظرات. وذلك الطائر النشيط السحري الذي يحلق فوق الأرانب.. حيوات الحقل كأنما تلعب لعبة الغمّيضة الأثيرة على قلوب الأطفال والطيور…

وذلك البهاء، البهاء النظِر الباذخ بشآبيبه وثراء جماله المدهش، البهاء القادم من لدن الرّب مباشرة من غير وسائط وطقوس .. لو يأتي الموت في هذا المناخ  المترف بالنعمة وألق الروح، لكان أجمل أو أقل فداحة من ذلك الرحيل القاسي بين الجدران وسط جَلَبَة (المكيفات) وأثقال الشموس:

وقبل أن أنسحب إلى مخدع النوم، تذكرت تلك البجعة الكبيرة التي تمخر مياه البحيرة، شبيهة بسفينة فضاء، ربما تلك التي صممها (استانلي كوبريك) في فيلمه (أوديسة الفضاء).. فقد كان ذلك المخرج المتماهي مع الطبيعة والعزلة بعيداً عن صخب الأضواء والشهرة والاجتماع، ربما كان يسكن غير بعيد عن هذا المكان، في بيته المنعزل النائي عن الجيرة والعيون، مسوراً بالكلاب البوليسية والأسلاك الشائكة من فرط رغبته في توفير شروط عزلته بعيداً عن فضول الصحافة والإعلام، خاصة لمثله من أصحاب البريق.. أمام تماهيه مع الطبيعة الحية، الذي لم يقتصر على مسلك حياته الشخصية، بل على أسلوب عمله في السينما. فقد كان لا يرغب في حدود الممكن حتى لو كان شاقاً، التصوير في الاستوديوهات بل في ربوع الطبيعة والجمال الحسيّ المباشر. يُروى أن المخرج الايطالي فريدريكو فلليني، المعجب بسينما كوبريك، رغم اختلاف أساليب العمل السينمائي، ومنها حب هذا الأخير العمل في الأستوديو، حيث يشيّد عمارته الفنية الباهرة. وكان يعلّق على طريقة كوبريك، بأنه حين يستدعي سير العمل تصوير عشّ طائر في ضوء الفجر. يعسكر كوبريك مع فريق العمل الضخم لأيام في إحدى المناطق، حتى يحصل على المشهد المناسب كما تجود به الطبيعة ووفق تصوّره.. يعلق فلليني أن تلك مشقة بالغة، فلو صمّمه داخل الاستوديو في ظروف مريحة، ووقت قصير، ربما يحصل على نتيجة أفضل.

اختلاف الأسلوب والرؤية بين كبيرين في تاريخ السينما العالمية.

ثمة حكاية أخرى من الطرائف العميقة يرويها (فلليني) حين أخرج فيلمه (السفينة تبحر) وهو من أواخر أفلامه العظيمة، بنى وصمّم السفينة ببحرها ومخلوقاتها باستثناء  الممثلين  بالطبع، وحيواناتها، حيث نشاهد وحيد القرن في ردهة في السفينة.. حين أكمل عمارة مناخاته وعناصره التي تتحرّك في مساحتها الشخوص والأحداث، جاء منتج الفيلم (كارلوبوتي) صديق المخرج وزوج الفنانة (صوفيا لورين) واقترب من فضاء السفينة، أخذ في رفع بنطلونه كي لا تغمره مياه البحر الخيالي..

المُتخيّل والفنطازي أحياناً أكثر حضوراً وواقعيّة من الواقعي والطبيعي، وتلك فضاءات، لها سياق جدلها ووقائعها.

*  *  *

أعشاش في ضوء الفجر البهيّ المضيء، أو الشاحب الكئيب، أعشاش في غسق الغروب، أعشاش وأعشاش بطيور وديعة مسالمة، طيور البر والبحر، أعشاش لتلك الضواري التي تندفع إلى الأعالي والمرتفعات الوعرة. بسمو غرائزها الافتراسية وبطبيعتها،  تجافي المنخفضات وحضيض الأمكنة والأشجار والتلال، تذوقتْ وأدمنت منذ ولادتها هواء القمم الصافي، فلم تعد تستسيغ أي هواء آخر، حتى لو كان دونه الموت الزؤام والانتحار. هناك فصيل من نسور الأعالي حين تلحق بها إهانة أو ضعة، لا تستطيع ردها، تنتحر بمحض إرادتها وتغادر مسرح الحياة البائس.. 

في هذا المنحى، يمكن التشبيه بالبشر الأحرار الذين أدمنوا شعور الحريّة، طعماً وفضاء، حتى ولو كانوا داخل سجون الطغاة، لا يستطيعون الحياة كيانيًا، في حظائر العبودية ومستنقعاتها. ويفضلون الانتحار بأكثر الطرق نجاعة وفتكاً..

طيور تحرس أعشاشها عن اعتداء طيور أخرى وغدْرها او تترك مهمة الحراسة للأنثى، حين الذكر يجول ساعياً لجلب الرزق والطعام لصغاره في الأعشاش.. على عكس عالم الأسود خاصة، اللبؤة، هي التي تسعى ليلَ نهار، لتوفير أساسيات الحياة للصغار، بينما أسد الغابة يتولى الحراسة، حيث يطوح به كسله أحياناً ويغرقه في نوم مستمر، لتأتي الضباع الماكرة وتفترس الأشبال بفكيها الأكثر قوةً وقذارةً بين فصائل الحيوان.

حين كنا صغاراً كانت الأعشاش في الوديان والهضَاب، فوق الأشجار وفي جذوعها وأحياناً في جروف الصخور الجاثمة، هي مهوى رغباتنا الطفولية. نسعى إليها منذ الصباح الباكر، حين ينبلج ضوء الجبال فوق الأعشاش المضمّخة برائحة الأعشاب البرية، ورائحة الطيور والنيازك المتساقطة ليلاً وتلك الظباء الجفولة.

يذهب بنا جنون الطفولة أحياناً إلى تكسير الأعشاش وتحطيم حياة الصيصان الخارجة تواً من بيوض الأمهات، بلذة غامضة وجموح.. أي فَقد وجراح تحسّه الأمهات المحلقات حول الأعشاش من غير قدرة على الدفاع الحاسم عن صغارها، فلو كانت من الكواسر لانقضت علينا ماحية كل أثر لوجودنا في تلك البريّة النائيّة.

أي المشاهد يرصدها ويختارها (استالي كوبريك) لأفلامه وفي أي سياق درامي، وأي درجة لانعكاس ضوء الفجر على الأعشاش وحيواتها النابضة المتفتحة على حياة مقبلة ستكون بذلك العمر الزمني المصحوب بكثافة الجمال والبراءة؟

*  *  *

أخبرني (عزّان) وكنا نتنزه في الغابة، بأنه ذات يوم صباحي حين كان منزلنا في منطقة (العذيبة) بمسقط، رأى صوصاً يسقط من عشه في غدير الشجرة، كان الفصل شتاء وفق طبيعة الطقس في بلادنا، ولم تكن أم المخلوق الصغير الذي ما زال يرى النور منذ قليل، ذاهبة لجلب الغذاء لأفراخها «زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ»- حسب الحُطيئة.

رآه عزان يسقط من العش إلى الأرض، أخذه إلى أمه وذويه الذين اخذوا  يعتنون بالفرخ الصغير، ويسقونه ويطعمونه حتى شبّ قليلاً، ثم ذهب به عزّان إلى شجرة ولادته التي طار اليها منطنطا من غصن إلى غصن حتى وصل العش فكان في رعاية الأم مع اخوته، التي أخذت ترفرف نشوة وفرحاً.

وحين كنا صغاراً، كنا نرى الأعشاش الكثيرة تتدلى كبيرة وصغيرة من أشجار النخيل والسدر والغاف والمانجو وأشجار مختلفة. ولا يتورع الصيادون الملفّعون بالبنادق عن توجيه الرصاص اليها لتسقط الأم مع أفراخها، مثلما تبعثرها رياح الغربي أحيانًا، وتذروها في الجهات. وإذا سلمت الأم أحياناً بسبب غيابها المؤقت عن العش وحصلت الواقعة المأساوية، فيمكنك أن تراها، تطلق من على صخرة في الوادي أو داخل أرخبيل النخيل، صوتاً يشبه النواح والنشيج.

*  *  *

جيفة الحيوان الصغير، في آخر مراحل تحللها حتى التماهي الكامل، ذرةً من تراب الحقل الذي شهد ولادتها منذ زمن قصير.

*  *  *

موكب غمّة وغمام.. خطرت لي هذه العبارة إثر سماعي أخبار بلدان عربيّة، أو البلاد العربية النائية في المسافة، لكن القلوب مأهولة بجراحاتها ونحيبها الذي لا تقطعه المسافة والزمان.. شلال دماء ودموع.. فقد كان زحف الغَمَام وتكاثف السُحب والغيوم بعد أيام صحو وسطوع، يريح النفس القلقة، لكن مثل هذه الأنباء الحزينة تقلب الطبيعة والطقس من إنعاش للروح إلى كآبة ودوار..

*  *  *

من المبدأ ذاته بغية تهدئة القلق  والاضطراب دخلت منذ أيام مقبرة تقع على سفح المدينة، في منحدرات جبلية تسلمك في نهاية مطافك الجنائزي إلى حي مليء بمطاعم ومقاه تركيّة وأثيوبية. كلمة «جنائزي» غير دقيقة في سياق زيارة مقبرة أوروبيّة على جاري العادة، ثمة جنة أشجار كثيفة وارفة النعمة والظلال تغطي عموم المقبرة الأنيقة دائما. لكن هذه الأناقة لم تستطع إخفاء الطابع «الطبقي» للمقبرة، فهناك قبور الأثرياء المترفة بالرخام والقبب والنقوش ، تبدأ من قمة الهرم الاجتماعي حتى أدناه. كأنما الموت والتراب لا يستطيع تذويب التفاوت الاجتماعي، لكن أرواح الموتى جميعها تنعم ببهجة الخصب، ونماء الطبيعة وجمال الطقس. بحيث أن مخيلة الأحياء يمكن أن تذهب بأن موتاها ينعمون في أعماق حفرهم الأزليّة، ولا تبعث ذلك الرعب والقشعريرة التي تبعثها المقابر في البلاد الأخرى، مثل بلادنا، التي تقصفها الشموس والقحالة على مدار الأزمان، من غير علامة ولا اسم ، عدا شاهدة يتيمة تضمحل بعد أيام من رحيل الفقيد. طبعا الأحياء لا يعلمون ما وراء الحُجب والغُيوب لكن الخيال، له قوانينه الخاصة،  أو بالأحرى كسر القوانين المتبعة بتسلسلها المنطقي، الأخلاقي والديني.

ما أثار انتباهي أكثر أن حافة بوابة الخروج مليئة ببراميل الزبالة الكثيرة المليئة بالفضلات.

فالمقبرة لا يقطنها أحد، مثل مقابر القاهرة، التي يسكنها ملايين الأحياء، وعلى طريقة ابي العلاء المعري، حيث الهواء يشهد تزاحم الأضداد في احتقانه وتتطايره برفات الموتى المتراكمة منذ بدء الخليقة، هناك في المقبرة العربية تزاحم الأحياء والأموات على بقعة الأرض المخصّصة للمقابر والتُرَبْ. في المقبرة الانجليزية لم أشاهد، ليس ساكنة فحسب، وإنما حتى حارساً أو زائراً بالصدفة الذي ربما يأتي أيام الآحاد.

إذن ما سرّ براميل الزبالة الكثيرة في حيّز المقبرة وليس على حوافها أو خارج أسوارها المرصودة يقينا مثل بقية أركان المدينة بالكاميرات والحراسات الالكترونية؟

*  *  *

«… كأنّ القلبَ حين يُقال يُغدي

بليلى العامريّة أو يُراحُ

قطاة عزّها شرك فباتت

تجاذبه وقد عَلِق الجناح

لها فرخان قد تُركا بقفر

وعشّهما تصفّقه الرياحُ

اذا سمعا هبوبَ الريح نصا

وقالا: أمنا تأتي الرواحُ….»

ماذا لو قرأ (ستانلي كوبرك) هذه الأبيات المحتشدة بالفقد والحنين والجراح بين أفراخ الأعشاش الوليدة والأم العالقة في أشراك الخطر وهي تنازع شبح الموت الجاثم والشوق وحلم العودة المكسور… ماذا لو قرأها المخرج وهو في غمرة تصوير أعشاش الفجر، كيف سينقل هذا المشهد المأساوي الفريد الذي نسبه الرواة إلى أكثر من شاعر «عذري» من لغة الشعر والكلمة، إلى فضاء السينما وإمكاناتها المتعددة ، ربما لغة الشعر والأدب أحياناً تكون أكثر غنى، دلالة وتعبيراً، عن لغة السينما والفنون الأخرى؟!

*  *  *

قبل انفجار الحركة في أنحاء المدينة، أذهب إلى المقبرة، الضوء ما زال يزحف على المكان ضوء غائم معجون باللطافة والمسرة، نور أمل في حياة ممكنة قادمة. على الأرجح هذه المرة لم اذهب إلى ديار الموتى لتأمل الوجود والعدم، الموت والحياة، وإنما كحديقة شاسعة، هي الأقرب للمنزل الذي أقيم فيه أجد ذلك أجمل قبل الاندماج بحركة الجموع كغريب في مدينة غريبة. أتطلع شارداً في الأشجار السامقة المختلفة، خاصة أشجار السرو «حارسة أرواح الموتى» وقد طردت قبل قليل فكرة ثنائية الموتى والأحياء. فنحن كلنا موتى وفق تنفيذ مؤقت، لثوان او ساعات أو ربما لعقود وسنين… مع تعاقب تلك الفصول على حياة المرء وتسابق الأعوام وأثقال الذكريات يكون الموت خاتمة طبيعية. أما خطف الكائن منذ الطفولة، أو في مقتبل الحياة، عنوة وقسراً، فذلك ليس إلا اعتداء صارخ ووقح على برعم حياة يمكن أن ينمو ويزدهر في مسار هذا الخضم من الاحتمالات والاختيارات التي يجود بها الخالق والزمان.

*  *  *

من الرائع أن تبدأ يومك بمعانقة الظلال والأطياف الخضراء لطبيعة أزلية، وُجدت قبل الانسان والحيوان، وستستمر بعدهما، من هنا تلك الثقة والطمأنينة والصلابة، الغائرة كبيئة وجود لتلك الكينونات والحيوات الروحيّة والجمالية من غير زهو ولا ادعاء ولا شعارات ولا نشيد، عدا نشيد الأزل الصامت العميق.

وإن لم تجدْ السماءُ بمثل هذه الحدائق والغابات القائمة، فربما سيكون هناك البحر، أن تلقي النظرات الأولى والتحية، بعد صحوك من نوم ثقيل، إلى البحر الموصول بالمحيط والأبديّة، فذلك نوع من عزاء، خاصة إذا استحال عليك السكن على ضفاف الكون الوحشي بعيداً عن تلك «المُدن» التي بناها السماسرة والمقاولون، على عجل. لتكون نقيضة للجمال والأحلام. أفكر في المُدن العربية، فتلك الأضرحة، من كتل الطوب والأسمنت والحديد ، على غير معمار جمالي وعقل هندسي محكم، تكون الطبيعةُ والخيال جزءاً من كينونته ووجوده. المدينة العربية الكلاسيكيّة دُمرت، وما تبقى منها ليس إلا علامات فلكلورية لجولات السياح والعيون الفضوليّة العطشى إلى كل ما هو غرائبي اكزونتيكي. المدينة العربية الحديثة التي بُنيت على أنقاض القديمة لم تحقق أي شرط من شروط الحداثة، إنها تجميع عشوائي تجاري لعناصر لا يجمعها إلا القبح ورداءة الذوق والانحطاط. انها أضرحة الأحياء بامتياز.

المدينة الأوروبية على سبيل المثال، التي بلغت فيها معايير الحداثة الحقيقية طوراً أعلى ورفيعا، أشبعها فلاسفة وفنانون وشعراء، هجاء مفزعاً في معاداتها لانسانية الانسان ولفظاظتها ورأسماليتها الوحشية. إذ لا شيء يعلو على النقد حتى لو توسل الرفعة والجمال. من هنا استمرار حضارة الغرب، وأمريكا جزء من هذه الحضارة- بقوتها ومتانتها على صُعُد ومستويات شتى. ظلت هي مركز  الكون ومتنه الحصين. تلك الحضارة التي تنبأ فلاسفة ومفكرون منذ القرن التاسع عشر بانهيارها واضمحلالها. يقف كارل ماركس ومدرسته ، في طليعة المحللين اقتصاديًا واجتماعيًا وآليات اشتغال، لانهيار تلك الحضارة القريب. وقد هاجمتها التناقضات والأزمات المريعة الخانقة التي كادت أن تودي بها أو تضعفها ، لكنها في كل مرة، خاصة مطالع القرن العشرين حتى نهاية الحرب الكونية الثانية، تستطيع تخطي الأزمات والانهيارات، بفعل قدرتها الديناميكية على المراجعة والنقد والتجديد والإصلاح ، لدرجة أن لو عاد ماركس في البرهة الراهنة لأعاد النظر في الكثير من اطروحاته الأساسية، حول الطبقات ورأس المال، والمؤسسات المدنيّة، والنقابيّة، التي عملت على ضخ الدماء المتجددة في عروق الحضارة ودولها وتجمعاتها ومؤسساتها… الخ.

وربما ساهم ماركس نفسه في طرح تلك الحلول والأفق البديل.

هذا على صعيده الداخلي، أما دول العالم الأخرى، العربي هنا، فأي محاولة جديّة للخروج من عهود الظلم والطغيان المطلق، الغرب الحضاري أول من يصادره، بالمكر والخداع والاحتواء التدميري، أو بالقوة الضاربة.. 

أما القوى الأخرى مثل روسيا الراهنة والصين مثلاً، فلا تناقض بين داخلهم الطغياني على النمط الآسيوي الاستبدادي، وبين رغبة جرّ الخارج على مثالهم. هناك انسجام وتناغم كاملان.

*  *  *

أشرتُ إلى (النزل الذي أقيم فيه) الشقق الفندقية المؤقتة في الحالة العائلية، الهوتيل و(الموتيل) بلغة الخواجات. الأول بنجومه ومقاماته المختلفة. والثاني أكثر ملاءمة للمتسكعين بين المدن والأرياف المختلفة.. كيف تستقيم الإقامة التي تعني الثبات والاستقرار مع المؤقت والعابر؟. هناك تناقض سطحي يتبدى في اللغة والدلالات التي يحملها ظاهر القول، والنطق ، لكن في حقيقة الكائن والوجود الأعمق، ليس من تناقض وأن العابر والراسخ المستقر، يتبادلان المواقع والأدوار، حتى العابر والأبدي، لا يندرجان في ثنائية متناقضة، بقدر ما يتحدان اندماجاً وهياما في ضوء تلك الحقيقة الخصبة المتشردة بين أزقّة الأفكار والوقائع باستمرار.

في حكاية ذلك الصوفي الذي نزل ضيفا على أحد الملوك العابرين الذين تصفهم الحكايات دائما بالحكمة والتأمل والثقافة. أعجب الملك بالصوفي ومعارفه ورؤاه العميقة، فطلب منه أن ينتقل من اقامته المؤقتة، إقامة الضيوف العابرين إلى جناح في قصره الشامخ الشاسع، ليكون جزءاً من هذه المنظومة الملكية القارّة والمكينة. رفض الصوفي طلب الملك وحين سأله عن علة رفض هذا الكرم الباذخ، الذي لم يسبق لأحد أن رفضه، أجاب صوفي الحكاية والسرد: إن القصر والمضافة السريعة العابرة لا يختلفان في جوهرهما، وإنك أيها الملك العظيم لست إلا ضيفاً وعابراً في هذا القصر المنيف الذي يحمل تاريخ أشباح الغابرين من أقيال سلالتك الذين لاينقصهم المجد والعظمة. أنت ورثته عن أبيك، عن جدك ، عن جدك …. الخ، كلكم ضيوف في هذا القصر، تأتي برهة من الزمن المقدر لك وترحل. إقامة ورحيل، رحيل وإقامة، هكذا لا فرق بين القصر، والمضافة أو الفندق، لا فرق بيننا أيها الملك، نحن كلنا ضيوف عابرون. ولا نعرف من هو المقيم الحقيقي الأبدي في مهب عواصف الموت والفناء التي تغمر  الأجيال المتعاقبة بشلال محوها الذي لا ينقطع…

*  *  *

حين أجلس منتشياً في ركن من أركان الغابة ، أو البحر أو الصحراء.. أحرص أن يكون هناك حاجز بيني وبين الفضاء اللامتناهي للفراغ المهيب.. انه يخيفني أكثر من أشباح المفترسات البشرية والحيوانية والضباع. ترعبني دواماته وهوامّه، أخاف أن يبتلعني في تضاريس أعماقه السحيقة.

*  *  *

هل رعب الفراغ المظلم الممتد من غير بداية ولا نهاية، هو الذي دفع قدماء فلاسفة الصين واليابان، إلى إقامة ذلك الحوار العدمي، لكن الخلاّق كون فلسفة الشرق فلسفة عدم ، مقابل فلسفة الكينونة لدى الغرب كما عبر باحثون. هل كانت نظرية الفراغ، هي الجذر العميق الذي انطلق منه أولئك الفلاسفة الشرقيون الرؤيويون بامتياز. وهل تستقيم هذه الثنائية على خط زمني طويل من غير تقاطعات أم نشهد اختراقات كبرى وتبادل أدوار واختلاط لا يمكن تحديده وفرزه على هذا النحو.

الفيلسوف الياباني (ناشيدا) بعد الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها، حاول الجمع في متنه الفلسفي ، بين روحانية الشرق وماديّة الغرب في مركّب فلسفي واحد. ربما يفضي إلى دمج «العدم» والكينونة في سياق يطمح إلى إنارة الأفق الكارثي المدلهم أكثر.

هناك فلاسفة في الغرب أكثر تعقيداً وجوديًا وتركيبيًا من هذا ، الضيق ، انهم عدميون كبار وان لم يكونوا على صلة مرجعيّة أو تفاعلية واضحة مع ذلك الشرق البعيد ورؤاه.

وأشار (هايدجر) في أحد حواراته أو كتبه، إلى أن تطور الغرب الحضاري التكنولوجي العلمي والفلسفي  ومعطيات هذا الانعطاف النوعي يفجِّر مفاهيم وأنماط تفكير نابعة من عمق مساره الصعب، ولا تمدّه الروحيّة الشرقية بأي زادٍ حاسم لحل إشكالاته ومساراته التي لم تحظ البشرية الأخرى بما يماثلها.

الروح العدميّة ربما، لا يحدّها شرق أو غرب، انها عابرة تاريخ وجغرافيا ومفاهيم، وان ارتبطت بمسار تاريخها الخاص. فهي مترحلة على الدوام بين الثقافات والفلسفات، وربما الأكثر دقة بين أفراد ونخب بعينها، كما كان ارتطامها بوقائع التاريخ في انعطافاتها الحادة بالمفاهيم والمعارف القارّة المكرسّة، بجانب روحها المرهفة المتأملة في الباطن والأعماق، هباء الكائن العابر متنَ التاريخ وهامشه ان صحت العبارة؟!

مسألة ثنائية الشرق ، في تعيينه بفلسفة العدم، والغرب بالكينونة، مسألة نظرية تكثر فيها النماذج والأمثال المخترقة لجهاز هذه الثنائيّة وإن لم تلغه بالكامل:

البوذا ولاوتسي كانا عدميين على رغم نزعتهما لإصلاح العالم من خلال إصلاح الخلل الجوهري والانحطاط القيمي في كل صُعُده. وفي نفس السياق بعد قرون ابوالعلاء المعري وابن سبعين الذي صرخ (اكفروا بعصركم…) والسهروردي والحلاج على رغم صوفيتهم التي ترشح منها أثقال يأس من العالم.

حتى نتيشه ، هايدجر، سارتر ، كامو… والقائمة تطول وتطول، عصر العَدميّة يمتد ويشمل أنحاء شتى حضورا وفلسفات وآداب شتى مختلفة.

*  *  *

كان يتوسل يتضرعُ بانكسار:

أيتها الكراهية

امنحيني مزيداً من هباتك

وحناك

كي أستطيع إبادة هذا العالم

*  *  *

هذا المتضرع إلى صحراء الكراهية التي يقينا لا تنبلج منها ورود وينابيع، وإنما ضراوة السحق والتدمير..

لم يكن إلا متيما بالحياة والقيم الانسانيّة والجمال. وحين شاهد وعانى مرآى الصيرورة البشرية في فظاعات قسوتها وجموحها الغريزي التصفوي الذي تخجل كائنات الغاب الوحشية منه. ولاشك ستدمع لها عين ويرتجف قلب وتخجل حتى أن تكون ماضياً لهذا الجنس الباغي المدعو بالبشر أو الانسان.

*  *  *

أطاردكِ بالنظرات المتعبة نفسها ، التي ودعتك بها في العام الماضي، إلى آخر

الزقاق المؤدي إلى شارع الخسارات..

فرجكِ ، هو الانتصار الوحيد،

قوس قزح يلّوِن سماء المدينة المقفرة

مرتجفاً منذ الطعنة الأولى

بنشوة مياه البحيرة الوحشية

*  *  *

كان قبل رحيله من مكان إلى آخر ، من بلد إلى بلد وقبل أن تقله العربة إلى المطار أو الميناء، يتمشى في الصالة جيئة وذهابا سارحاً إلى آفاق لا حدود لها أو ضفافاً… كان يتمشى معتمراً قبعة تشبه قبعات رجال المافيا والعصابات، كأنما على وشك تنفيذ جريمة تقتضي إبادة الخصوم، فكّر أن كل رحيل جريمة في حق شخص مجهول كان هو الأقرب إلى الروح والعاطفة، اختطفه الرحيل الحتمي والغياب. وما زالت روحه تلاحق الحي العابر في الأزقة المظلمة والتخوم.

فـي أي بقعةٍ وطأتْ لأول مرةٍ

قدمُ الجدّ الأكبر؟

(مَن أخطأته المنايا قيّدته الليالي والسنون.)

الخليل بن أحمد

في الركن القصيّ من مقهى كوستا

المُضاءَ الجوانب والحوّاف، نرى النُدُل

جيئةً وذهاباً ، وسط غيمةٍ خفيفةٍ

وكأنما في كهف، أشباحه ورسومه

تتموّج بفيض غموضها السحيق.

من طاولتك تنظرين إلى ركني القصي

نظرةَ عاشقة أضناها غرامُ

البحث عن ضالة جوهرها الشريد.

سرحتُ في رحاب النشوة طويلاً

تخيلتُ دموعاً وأشجاراً بريّة، عصافيرَ 

وغنماً يسرح بها عذارى وعُشّاق..

لكن الاكتشاف لم يكن أليماً، حين

عرفتُ أنكِ لا تنظرين إلى أحد.

*  *  *

كان هولاكو يزهو بكبريائهِ

فوق الجبال والهامات

دانت له الأممُ والممالك

أحصنتهُ تخطفُ البَرق والطيرَ

من وكناتِه

قبل انبلاج ضوءِ الصباح.

وحين حانت ساعة احتضارهِ

لم يتذكّر إلا مؤخّرة امرأة قوقازيّةٍ

تهتز بمشربٍ في الساحة العامّة

بينما الجثث تتوزّع في الجنَباتِ 

والآفاق

*  *  *

لست من العابرين ولا من المقيمين.

لستُ إلا ذلك الشبح اللامرئي

وهو يحوم فوق جثة تاريخٍ

أحالتْه الأعاصيرُ الهُوجُ

الى أشلاءٍ وركام.

*  *  *

الراحلون في بهو الفندق، بالمناكب والأكتاف يتدافعون تدافع الموتى في قبورهم التي تبعثرت من غير شواهد ولا أشجار.

موظفة الفندق في حركةٍٍ عاصفة لا تفكر إلا في آخر الأسبوع وعطلةٍ هانئة.

*  *  *

من أين يأتي كل هؤلاء التائهين الحيارى والثقيلي الأحمال؟

من كل الجهات يتدفقون كهدير مياهٍٍ أسطوريّة.

لم يعدْ هناك مسيحٌ يُسند أرواحهم التي توشك على الاضمحلال.

*  *  *

الحقائبُ مُتخمةٌ

والقلوبُ جريحةٌ…

يا حادي العيس

ما في الهوادج من أحدٍٍ

والمسافات مصبوغةٌ بدماء الأحبة

والذين عادوا لم يشهدوا أثراً

لمنازلَ كانت

ظلّ مغيبٍ، رمادُ غضَى

حيث كانت الريح تهفو

والسماء تحن إلى ساكنيها

حين لا فرقَ بين سماءٍٍ

وأرض.

ولائم آلهةٍ وبشر

في شغاف القلوب.

*  *  *

في أي بقعةٍ أو صقْعٍ وطأتْ لأول مرةٍ قدمُ الجّدِ الأول، بعد مغادرته الفردوس ونفيه بسبب الخطيئة الساذجة التي أسّست لمجمل الخطايا والجرائم اللاحقة على مر الأزمان وتصرّمها؟

في أي بقعة من كوكبه المنكود كأرضٍ للعقاب والنأي عن السعادة، حين قال:

(…) «تغيّرت البلادُ ومن عليها

                ووجه الأرض مغبر قبيحُ»

كأنما كان ذلك الجدُ يعرف قبلاً تلك البلاد، أرض المنفى الأخير. حسب ما توحي العبارة المنسوبة إليه، وما حاق بها من انقلابات وصدوع، أفضت إلى هذا القبح شبه المطلق، أرض غبراء كابية لا تنزل النعمة ساحتَها ولا تنزل الرأفة والحنان.

*  *  *

لو كنتُ ملكاً على مملكة شاسعة الأرجاء والنعيم والمساحات، لارتكبت في ظرف ساعات ما لا يخطر على بال طاغية من سلالة طغاةٍ عريقة القتل والمحتد… ما لا يستطيع أن يرتكبه في كامل حياته وحياة سُلالته المديدة في الزمن والبشاعة والاستباحة ..

يحلم السجين بين الجلدات التي تهوي على جسمه المتداعي من سياط الجلّادين… (بعض توصيف لانسان السلالة الآدمية)

*  *  *

لست شاعراً ولا حالماً بمجدٍ أدبي تليد.

لكن الغيومَ حين لامستْ جسدي

وأرى الأبقارَ ناعسةً

في الحقول

أتحوّل بنشوة الحلم إلى قوس قزحٍ، سماؤهُ تمطر شآبيبَ الرحمة والأخوّة والحنان.

*  *  *

مثل نجمةِ الهاوية

تلمعين في ظلام الصحراء

أو في ترّهات الغابة

غضبكِ الوحشي (غضب الشجر المبارك من أجل خلق الخضرة الأبهى)

وحلمكِ الأقحوان

*  *  *

في هذه اللحظة، من صباح يوم غائم في بلاد الغال القدماء، حيث كانت تحتدم حروبٌ ومذابح من غير اسم ولا تاريخ…

أتذكرك يا ابراهيم الجرادي يا خيري منصور، موسى وهبة، جابر مرهون… وبقية العقد الفريد الراحل في هذا العام وكل الأعوام. وجوهكم أراها في مارّة كُثر توزع ابتساماتها بين الغرباء والحشود.

السحب تعبر ثقيلة ملآى 

الأقداح تُقرع على حافة النهر الذي يشطر البلدة إلى جنائن وضفاف..

هذه اللحظة في هذا المكان البعيد الذي ألوذ به من جبروت الظلام والشمس:

أتذكركم أيها الأصدقاء أحياءً وموتى، محمولين على أجنحة النأي والكلمات.. 

*  *  *

غروبٌ على دير الراهبات

يسيل شبقاً على النحور والشفاه

غروبٌ على ثكنةٍ للعسْكر 

غروبٌ على ضفاف الأحلام

غروبٌ على مكبرات للصوت

تنعق بالكوابيس والوعيد

غروبٌ على الصبايا المراهقات

يتقافزن على حبال الأمنيات

غروبٌ على المقابر والجوامع والاسطبلات

غروبٌ على الشعراء والعُشّاق

على الجلادين والسجون

غروبٌ يحمل البلاد إلى حتفِها

في مقبرة السُلالات..

*  *  *

بعد قليل: تذهب الأشجار إلى غروبها 

تعانق الظِلالَ

والأشباح.

*  *  *

القرويّات يحملن الغروبَ

في جرار الفخّار على الرؤوسِ

والأكتاف

الحطّابون ، أحلامَ الشجر المكسور

وقوداً لشتاءٍ قادم

رجال الأعمال يحملون الحقائبَ المُثقلة 

بالمظالم والجروح..

*  *  *

عطر حضوركِ

يملأ آفاقي

بحكمة الوردِ وجنون الأطفال.

*  *  *

كم أنت واهبة للحياة أيتها الأشجار 

أيتها الجبال والغابات

كل هذه الحيوات، ما ظهر منها، وما بطن أكثر،

ترعى وتتغذى في ظِلال مجدكِ الباسق.

كل هذه الطيور والحيوات ، والجوارح

والسباع، تتناسلُ جيلاً بعد آخر في أزلكِ

الذي بلاحدود..

يبزغ نمرٌ مرقّش من زرقتكِ الحالكة.

النمر يحمل جمال الآلهة وتمرد إبليس 

ذئب يعوي على مقربةٍ من بحيرة

ذئبُ الفَقد يعوي قربَ البحيرة التي

انتحر في تخومها (لودفيك الثاني) من فرطِِ

عواصِفه ورؤاه..

مزدانة بالنجوم والنيازك أنتِ

تسّاقط مع الأوراق الخُضر الأرجوانيّة

في حُضنكِ التليد

أيتها الناطقة بلسان الغيبِ

ولهيب الحواس.

*  *  *

«في كل حبّة رملٍ يمكن أن نرى العالم بأكمله…»

كم من العوالم في رمال البحار العُمانيّة الشاسعة؟!

لكنّ القوم لا يرون البحر والرمال، ولا يرون أنفسهم… 

عمىً وراثي ومكتسب، مُستحكم وعنيد.

*  *  *

مع كلبتها (آخر ما تبقى من حطام الدنيا) تتنزّه في الحديقة ذات الأبراج والتماثيل، المرأة المُسنة ذات المظهر الارستقراطي. لا تتذكر مجدَ الحضارة، ولا مغامرات الجسد

والمعرفة.. الكلبة وحدَها تقفز في الحديقة والذاكرة.

*  *  *

مثلما حبّة الرمل تلخص عالماً في رحابتها اللامرئيّة، فهذا العصفور الصغير الأصهب الذي يتقافز أمامي في صباح مأهول بغيوم تطل من قسماتها شمسٌ رحيمة، يلخصُ عالمَ الطيور والغابات في حركته وصوت وحيه الرباني، يسرحُ وكأنما في حقولِ أبديةٍ خالدة..

*  *  *

الخلود يتناهى أحياناً في حيوات متناهية الصِغر . تكادُ لا تُرى على وجه البسيطة والتاريخ الصاخب بالقادة والرموز، بالحروب والاكتشافات والأساطيل الذريّة..

*  *  *

«ان الدودةَ هي الامبراطور الوحيد والأكثر خبرةً»، بشأن التغذية، فنحن نسمّن الكثير من المخلوقات لكي تسمننا ، ولكننا نسمّن أنفسنا للديدان»..

أقرأ هذه العبارة لشكسبير التي تعيد اللحن الجنائزيّ لمآلات البشر ومصيرهم وتُذكر الأباطرة عبر التاريخ ، بأنهم ليسوا أعظم من دودة الأرض، فاغرةً شدقيها بشبق انتظار زيارتهم الأخيرة. الدودة أو الديدان التي سيكونون مع حاشيتهم وجندهم في ضيافتها الأزليّة عما قريب.. هذه المرة هي التي ستغمرهم بكرمها ودَفق نِعمها السامية جهةُ الافتراس والتنكيل والمحو.

لكن الأباطرة لا يريدون أن يتذكروا، أن يعكّر صفوَ معيشهم وبذخه أيُ معكرٍ، مهما كانت بداهته وحتميته الصارمة التي لا فكاك منها. رغم كل التمائم والقصور والأسوار العالية والجيوش (… ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفعُ) الأباطرة لا يرعون عن غِواياتهم وظلمهم الساحق لحياة البشر والحيوان والنبات، حتى تستلمهم تلك الهوام الأسطوريّة كي تذكرهم بماضيهم المجيد، وربما النَدم ولاتَ ساعة مندم. وربما سيكونون في مكان آخر خارج الندم والغبطة والعقاب. لكن الأكيد أن الدودة- الهامة، ستكون في استقبالهم بكامل جبروتها وكامل الصفات التي كانت تزيّن حياتهم ببريقها السحري الأخّاذ..

أقرأ العبارة الشكسبيريّة على سبيل الصدفة في الحديقة العامة بهذه المدينة الويلزيّة ذات الصيف الشتوي الممطر فوق البحر وعلى قنوات الأنهار، حيث قراصنة الشمال كانوا يعبرون بلحاهم الصهباء المضرّجة بالعواصف والنبيذ والذين لم يكونوا بحاجة إلى قراءة شكسبير أو إليوت، كي يتذكرون ويدركون صواعق الحياة والمآلات والمصير ، فهم يمتطون وقائعها اليومية وأشباحها المتناسلة، في ظلمات المياه والأعماق كل لحظة وهنيهة تحملهم إلى الأبعد والأكثر خطورة ووحشية.

ألحان الكنائس في غزارة أجراسها تتوالى مجلجلةً في هذا الفضاء المدلهم البهيج..

انه يوم أحد….

*  *  *

وأقرأ أيضا لباسكال «كل الشرّ الانساني بسبب واحد: عدم قدرة المرء على الجلوس هادئاً في غرفة»

بعد قراءتي عبارة الفيلسوف الفرنسي التي هي من تلك العبارات أو الشذرات المكثفة بالمعاني والدلالات حد الانفجار،  تبادر إلى ذهني أن قائلها يقطن بلداً مثل فرنسا طقساً واجتماعاً وحضارة، حيث الجلوس الاختياري في تلك الغرفة الموصوفة، يمكن أن يكون مختبراً يلخص العالم، الأماكن والثقافات والطقوس. جلوس حر في غرفة تمتد لأمتار، لكنها بحجم الكون دلالة ومعنى، يمكنها أن تمتص الشر والعنف اللذين هما من طبائع البشر الأكثر عمقا وأصالة، ويتجنّب صاحبها الارتطام بالخارج حيث يسكن الشر وينتشر العنف الصامت الخبيء أو الصارخ الفصيح. اللجوء إلى الغرفة لجوء إلى سكينة الداخل وهدوئه مقابل الخارج وصخبه.

بهذا المنحى تأخذ الغرفة بعدها الرمزي وليس المكاني فحسب. لكن انطلاقاً من هذا الأخير وسماته المتجسّدة في غرفة يحتويها منزل وحيّ ومدينة أو قرية.. لكن بما أن شذرات من هذا النوع «حمالة أوجه» فهذا. (والعبارة الأدبية عامة على الأرجح كذلك) البعد الواقعي الحسي للغرفة، ينقلب دلاليا ، إذا كان في بلد عربي على سبيل المثال وخليجي على الأخص، حيث اللجوء إلى الغرفة أو الأماكن المغلقة بالتكييف والهواء الصناعي ضرورة واجباراً كهروب من جبروت الطقس وحرارته البالغة. هنا ينتفي فعل الاختيار في معظم أوقات العام، للجلوس الحُر في الغرفة داخل البيت ، لينطلق منها الخيال المثمر، إلى مناطقه الشاسعة ممتصاً عنف الخارج المدلهم الذي يغري عنف الداخل الخبيء بالانطلاق والانفجار. فتجسد الشر كسلوك ونمط حياة، أفراداً وجماعات ودولاً… لكن العزلة، اذا أخذنا الغرفة كبعد رمزي للعزلة عن الحشد وقيم القطيع المهيمنة، تبقى ضرورة في كل زمان ومكان، ولا يمكن للانسان ، المبدع خاصة، أن يحقق شيئا ذا معنى إلا في ظلال نأيها العميق.

العبارة حمّالة أوجه ودلالات وربما ثمة بعد لاهوتي فباسكال بجانب صفتيه كعالم فيزياء وفيلسوف فهو لاهوتي يربط الوقائع والنظريات بأبعاد لاهوتية. وربما غير ذلك.

*  *  *

هذا الصباح في حديقة فندق (السانت بول) بمنطقة (همر سميث). هذا الفندق الذي يحمل علامة تاريخ حاسمة في التاريخ الأوروبي ، كونه احتضن الاجتماع الذي سيقلب معادلة الحرب الكونيّة، بين ونستون تشرشل والرئيس الأمريكي ازنهاور، مع جنرالات الحرب . ومن أفقه ينطلق إنزال (النورماندي) الذي احتفل أحفاد المنتصرون بوقائعه منذ شهر من هذه اللحظة التي أتسلى بالكتابة في فنائه الأخضر، وقد كان سَكني فيه بمحض الصدفة فذكريات الحروب والمعارك في البرهة العربية الراهنة، لا تبعث إلا الأسى والألم، بعيدة كانت أم قريبة.

أسرّح النظر  في الأشجار العتيقة الملتفّة بجذوعها وأغصانها وجذاميرها غير عابئة بحروب البشر وفَنائهم، انتصاراتهم وهزائمهم، وأنا أقرأ كتيباً يُقارب سيرة (روسو) ويختزلها، مما جعل انسجام النظر والتحديق الشارد في أشجار الغابة الصغيرة مع مقولات روسو ورؤاه التي تشبه الشطح الصوفي، حول الحضارة وقذاراتها المرضيّة والوبائيّة «إن تقدم العلوم والفنون يفضي إلى إفساد الأخلاق».. وحنينه إلى (انسان الطبيعة) الفطري الحر المطمئن الذي لا تُحرك حياته المصالح والصراعات التي بالضرورة تفضي إلى سفك الدماء والمجزرة..

والبالغ الطرافة والمفارقة في هذا السياق ، حين بعث (روسو) بمشروع كتابه (خطاب التفاوت بين البشر) إلى (فولتير) والاثنان من أبرز مفكري عصر الأنوار والعقلانية الحديثة الذي مَهد بشكل حاسم لانبعاث الحضارة الأوروبية والبشريّة. ضاق فولتير ذرعاً بمقولات زميله المتشظي بين أطاريح العقل والبناء الحضاري وإنجازاته الدستورية والمؤسسية والقانونية (العقد الاجتماعي) وبين حنينه إلى فجر بدايات الكائن على هذه الأرض والفطرة والغريزة، فكتب فولتير ردّه الساخر «لم يُسّخر أحد فكره بقدر ما سَخرته أنت لكي تجعلنا شبيهين بالبهائم، يشتهي الانسان حينما يقرأ خطابك أن يمشي على أربع».

لو أطلّ (روسو) راهناً من قبره سيرى ما أنجزته الحضارة من عظمة وابتكارات كان نزوعه إلى نقيضها ، رغم مساهمته الفاعلة في صياغتها، لكنه يرى بشكل أكثر انسجاماً مع رؤيته وحدْسه، ذلك الجانب المظلم الوحشي الدامي في السحق والتدمير على مستوى الكوكب الذي انقرض منه شبح (الانسان الطبيعي) واضمحل ليجد رجال الأعمال والتفاوتات الطبقيّة، بأرقامها الفلكية ومسوخات الجشع والمال.

تبدّى (روسو) انه من ذلك الرعيل من الفلاسفة النادرين في تاريخ المعرفة ربما ، أولئك الذين يغنيهم فكر التناقض ويثريهم التباين الغريب بين الواقع والحلم والحنين، فهو يعرف  استحالة بعث «انسان الطبيعة» والوقائع راهنا ومستقبلاً هي التي تؤرخ للتقدم الحضاري علماً وفناً وابتكارات لا تنتهي عند حد، لكنه احتفظ بحلم الشاعر وحدسه العميق.

روسو ، الذي يتبنى أكثر الفضائل الأخلاقية سمواً وبعداً عن المنفعة والغاية بنزوعه الطبيعي لا يتورع، عن أن يرسل أطفاله السبعة إلى دور الأيتام .

أي متاهة من التناقضات تتلاطم في الواقع والمخيلة نظراً وسلوكاً لدى بعض أرباب الفكر الثاقب والرؤية العميقة، بحيث يحار الباحث والقار ئ في سبْر هذه الأغوار المعتمة أو الترحل في تخومها المفُعَمة بالالتباس البهيمي وكذلك الانساني السامي؟!

*  *  *

تضاريس جذوع الأشجار العملاقة وخرائطها المحفورة بمعاول السنين المتراكمة، الخصيبة منها والعجاف، شامخة بحزن، أمام الزمن والعواصف الرعديّة والمطر. كلمة الشموخ لا ينبغي أن تستعمل إلا للأشجار والجبال وتجليات الطبيعة الوحشيّة، وليس لبني البشر… كم من ملك وجنرال تنزه في ظلالها ، ذهبوا إلى عدمهم الساحق من غير أن تحس بوجودهم ولا بالغياب مثل الحشرات والدواب في دوراتها الحياتيّة القصيرة. لكن هذه لا تفكر في مجد أو غزو وإنزال في خضمات هذه الحياة الفانية.

الطيور والسناجب تتقافز بفرح غامر تحت الأكمة الملتفة في دروب الحديقة. والكلب يركض وراء كرة العشب كأنما يطارد حلم أنثى قد تعود بعد قليل، بين القفزة والأخرى يطلق نباح الأمل والانتظار.

حيَوات هذه الكائنات قصيرة لكنها مفعمة بغبطة الغريزة والفرح والحريّة.

*  *  *

رجل في منتصف العمر على ما يبدو. (لكن أي سنة تحدد مفاصل العمر ومنتصفه؟)  يجلس على كرسي الحديقة المستطيل، بحركة مرتبكة يفتح علبة البيرة التي تحدث فرقعة في هدوء الحديقة. على رغم هيئته الرثة لا يبدو عليه انه مشرد (هوملس) مكلوم المظهر والملامح. حدست ان ميله إلى الشقارة لا يجعل منه انجليزياً، انه من نواحي أوروبا أو من بعض دول أمريكا اللاتينية المنحدرين من أصل أوروبي خاصة الأرجنتين، بعد أن سفح عدة علب رخيصة، تحدث عبر السياج مع نادلة المقهى الذي أجلس فيه بلغة تنتمي إلى احدى دول أوروبا الشرقية. فهؤلاء أصبحوا جيش عمالة يمد المراكز بما تطلبه في سياق بنائها وحياتها. تبدو هذه الدول التي تشكل المستوى الثاني في التطور التكنولوجي، أشبه بالهوامش بهذا المعنى، لكنها لا تقارن بالطبع بالهوامش المستنقعيّة للعالم الثالث التقليدي فهي بعد تحررها من عنف التولتيارية الشيوعية، تعبر هذا المخاض العسير من التشظي والفساد والديمقراطية الرخوة… وما زالت تتطلع إلى الحياة والمستقبل الذي يليق بمسارها التاريخي وقدراتها علماً وفناً وجمالاً.

الرجل ينهض من كرسيّه في الحديقة، بعد أن أباد كل مؤونته الخمريّة ماضياً في المدينة الكبيرة إلى مجهوله الخاص.

وهناك طيور دوري وبلابل وعقاعق وطيور ماء وما يشبه القطا تتجمع في مراعي جذوع الأشجار العملاقة تنقر رزقها وتتطاير على مسافات قصيرة في سماء الحديقة الخضراء النديّة.

*  *  *

غيوم الصيف التي تتلوى وتعبر في سمائها، 

تلك هي أعمارنا والذكريات.

الأشجار المنتشرة على كوكب

اليباس

هي ما تبقى من وعد للخليقة المنذورة للهلاك

المدينة هي المدينة، بشريّة 

تندفع في بريّة الدم والأرق

دخان وصليل عربات ومذابح 

الأنهار تمارس أزليّتها من غير خطأ في الاتجاه.

لا شيء يعلل تحليق الطائر،

عدا علة الطيران في أفق الحرية

طيور تتكاثر على منصّات الأشجار

طيور هائمة

وديعة وأخرى تخبط الجذوع

والأغصان في نشوة سفاد

أو نذير قيامة

طيور لا تعرف المدينة إلا كمقبرة

أو صحراء غادرتها رمالها الأبديّة

طيور تدخل المقاهي والحانات فترتطم

بالجدران والزبائن بعنف مَن أضاع 

طريقه ووقع في مصيدة:

المقاهي التي تعبرها كل يوم لا تعرفها 

إلا عبر الفضاء الطلْق.

الغريبة المزدانة بالهواء والطيران 

*  *  *

اليوم لا أعرف ما هو اسم هذا اليوم فلم أتطلع إلى الشاشة كي أعرف الأخبار، بداية من اسم هذا اليوم في نهر الزمان الذي أتركه يتدفق في جسدي وجسد الخليقة بمياهه العذبة والمرّة… ما أعرفه أن يوم عودتي من هذه البلاد الباردة يقترب، لكني أحس في هذه اللحظة من الصباح المطل على أشجار الحديقة المتماوجة بفعل ريح خفيفة، أحس بصفاء ذهني لم أعهده في أيام كثيرة تعبرني في هذا المكان أو ذاك الزقاق، صفاء لا أعرف مصدر شفافيته وحضوره الروحي الأخاذ لدرجة انني أريد أن أفتح النافذة وأقفز إلى صحن الحديقة كطفل أو طائر منتشٍ بطيرانه في أنحاء الحقل والنجيل المخضب بندى أمطار البارحة. هذا الصفاء وهذا الانخطاف الروحي في هذا اليوم التائه في زحمة الأيام على رغم الحديث المأساوي في سهرة البارحة مع شخص تعرفت عليه حديثاً على غير عادتي، أسرني مع زوجته، باللطف والدماثة وتلك الثقافة والتجارب، من  غير تكلف ولا ادعاء يصاحب عادة سلوك الكثير ممن ينتمون إلى هذه الفئة «المثقفون» أو الكتاب. سرده لبعض تجاربه هو ما تبقى من تلك القرية الفلسطينية التي أضحت قصية وبعيدة من غير ذلك الاسم الذي حملته ، حين كانت مأهولة بسكانها الأصليين، لقد سحقها المحو والاحتلال. تجارب فاجعة أحاقت بالصديق الجديد وزوجته، ليس في البلد المحتل الذي لا يكاد يذكره كحياة ومعيش، وإنما عبر الصدفة المشؤومة في بلاد الحضارة والقانون أودتْ بأمثاله إلى العُصاب والجنون والموت..

وقبل ليلة البارحة كان سياق صدفة الحديث دفعتني إلى أن أروي لشاعرتين من عُمان والعراق، عن ذلك الحدث المأساوي، حيث أواخر الستينيات حين كنت طفلاً أزور مع العائلة صهراً لنا، كان قاضياً في مدينة (نزوى) وشاهدت الحصان المُلقى على الأرض في برهة ألم أقصى واحتضار، وكانت الأحصنة حوله تصهل بنشوة، تسرح في فضاء القلعة بأفراح الحيوانات الخاصة…. تجمع مسؤولو حظائر الخيل حول الحصان المريض الكابي يتبادلون أحاديث غامضة بالنسبة لي في ذلك العمر المبكر، لحظات ورأيت أحدهم يطلق على الحصان عدة رصاصات أودت به في الحال مغمضاً عينيه المرهقتين إلى الأبد.

سمعت لاحقاً أن تلك المقتَلة تُسمى (رصاصة الرحمة) تخليصاً له من أهوال آلام تتفاقم من غير رجاء ولا أمل.. وهو ما انتقل في العصر الحديث خاصة إلى عالم الانسان، حين يبلغ المرض العضال بالكائن درجةً لا عود منها ولا رجاء..

إذا كانت نهاراتي في الأيام الفائتة أقضيها في الحدائق الكبيرة والجنائن مبتهجا بمشاهد الطبيعة والمياه والحيوات، فالليالي الأخيرة مع بعض الأصدقاء المقيمين، على النقيض كانت سرداً مأساوياً لا ينتهي عند حد، وبمثله لا تبخل الأرض العربية خاصة في هذه البرهة من أزمنة الانحطاط الكاسر.

المهم في هذا اليوم الذي لا أعرف اسمه وأنا أتطلع إلى فضاء الحديقة، أحس بهذا الصفاء وذلك الانخطاف الذي يذكرني بلحظات التحليق والشطح الصوفي.

*  *  *

الحصان المقتول برصاص الرحمة، ظل عبر المسافات والسنين الضوئية، يلاحقني صهيلهُ وأنينه الجريح حتى انطفاء العينين الكبيرتين، كما يلاحقني تاريخ ثورات وشعوبٍ منحورة مغدورة… ولا يفتأ كذلك حتى انطفاء هذا الكائن حامل الجبال والذكريات على كتفين أضناهما ليلُ الهاجرة والرحيل والغياب.

*  *  *

لكن السؤال، ما الذي يجعلني منتشياً بصفاء روحي وصباح رائق بعد ليلتين من أحاديث دمويّة كابوسيّة، أو بالأحرى ليالي على هذا النحو المحتشد بآلام البشر والحيوان. في البرهة العربية الراهنة، ما ان نلتقي بصديق حتى لو كان يعيش في أجمل مدن العالم ، إلا وينفجر لا شعورياً حول تلك البلاد المنكوبة بكل أنواع الأوبئة والمذابح والكراهيات، ولا نفع من محاولة التخفيف أو نفعه ضئيل ، من الهروب من براثن ذلك الوحش الأسطوري الذي يربض على النفوس والقلوب.

أما تلك الهنيهات من الصفاء والروقان فربما على الطريقة (الأرسطوية) في الوظيفة التطهيرية للمسرح التراجيدي.

*  *  *

البحر ، أمواجُه تعلو سماءً

خفيضةً في (صور)

والبّحارة يتحدثون عن أمجاد غابرة

حين كانوا يدفعون السفن نحو الأقاصي

بأيدٍ مجدولةٍ من شغف وعزيمة

مشتبكين مع قراصنة ووحوش

بحريّة لا أسماءَ لها

بينما الأعاصير الرعديّة تزمجر في الأعماق

كان سهيلُ دليلهم 

والظلام يلف الكون برداء الموت.

هل تذكّروا آخر تلويحة وداعٍ

بتلك الشواطئ والضفاف؟

تذكروا الأطفال والنساء

نشيد العودة القريبة

الى الأهل والديار

صور التي تنام في هدير المحيط

وكتب التاريخ

سلاماً على أرواح بحارتك

في الذاكرة ما زالوا يمخرون العباب..

*  *  *

رغم أنها تدفع عربة طفلها إلا أن ضحكتها بين أشجار الحديقة، تبعث الرغبة حتى في الموتى والطيور..

*  *  *

ناصر  وعزّان ، ينظران إليّ من علياءِ نافذة الفندق الانجليزي، حيث أجلس في المقهى المتماهي مع الشارع الصاخب بالمارّة والمركبات..

نظرتهما لامست عمق كياني، قبل أن أغرق في أمواج الحشْد، أخذْت بيدي إلى أفق الروح البعيد، أنقذت الغريق من براثن يأسِه الدامي.

*  *  *

على طريقة السورياليين

وأنسي الحاج..

يقولون: إنكم لا تكتبون شعراً، ومن قال لكم إننا نكتب هذا المسمى كذلك؟!

الشعر ذهب مع أبي مسلم البهلاني وأحمد شوقي وقبلهما أجيال وأطوار، من أفذاذٍ لا يجود الزمان بمثلهم إلا قليلاً..

اننا لا نفعل، إلا أن نمرّغ ونسحب ، عبر الكلمات والصور، جنازةَ العالم إلى هاويتها الأخيرة.

رفيف النورس في الحديقة على حافة النهر ، هو الشعر/ لعب الأطفال مع السناجب والحيوانات هو الشعر.

صمت المقابر والضفاف على غَمْر المياه هو الشعر..

عجوز يتذكر انكسارات أيامه ولياليه هو الشعر ..

نباح الكلاب ونقيق الضفادع في الليل العماني الحالك هو الشعر..

سيلان الأودية الجارف ، بعد طول انقطاع ومَحلٍ هو الشعر..

الصلاة المرفوعة بإخلاص إلى بارئها 

دعوة المظلوم ولعنته

ظباءٌ ترعى في ذاكرة المحبين ، نورسٌ يقود البحّارة إلى جزيرة الكنز المنهوب،

حيث لم يتبق إلا طيف الذهب والحطام،

هناك يقيم الشعر..

ويسكن أيضا في عينيْ القرصان، خريطة التيه ، وفي الأوزّ المهاجر.

في الموجة التي تعيد تكرار نفسها 

في عبث مرآة الوجود.

طفل يلهو باطعام الحمام والسناجب في البلاد الويلزيّة، بانخطاف فرحٍ أقصى، على رغم أجواء سماءٍ مدلهمة حيث الغداف يكرك على صغاره خوفاً من الرعد والعاصفة.

الشعر ليس إلا ذلك التحديق المذعور في صخرة الأزل..

دورات عقاب نسْر القفقاس وهو يفترس كبد سارقِ نار الآلهة.

إلا عزلة الموتى البهيجة

وحلم الفارس المكسور في حوْمةِ الوغى

ارتجافة جسدين وحّدهما، وَلهُ أبديةٍٍ عابرة

الشعر ليس أكثر من هذا المشهد، حيث أطفال الحياة يلعبون الغمّيضة مع الطيور والحيوانات وسط أشجار الغابة، وكأنما في أركاديا الإغريق حيث (انسان الطبيعة)

في انسجامِه العميق

الشعر أن تخرج من مخبئك وتقتل أي شخصٍ تصادفهُ في الطريق

أو تفتك بما تيسر من سبايا وسائحات 

الشعر أن لا تقول شعراً

أن تصمت ، وتذهب إلى أعمق طبقةٍ في الكراهية والجحيم

وتباً في العصر الحديث والقديم.

* (روسو) أندريه كريستون .ت: نبيه صقر.

(المقالات)

تطاولُ هذا الليل  وبطشُه

ألا هَلْ على اللّيْلِ الطويـلِ مُعِيـنُ

إذا بعـــدت دارٌ، وشــطّ قــــريــنُ

تَـطَـاوَلَ هذا الليْـلُ ، حتـى كأنّمـا

على نجْـمِـهِ ، ألاّ يَـعـودَ ، يَـميــنُ

كَـفَـى حَـزَنـاً أنّـي بفُـسـطاطَ نازِحُ

ولي نحـو أكْنافِ العِـراقِ حَنيـنُ

أبونواس

موريس بلانشو الفيلسوف الفرنسي ربيب العزلة والنأي، يقول عن أولئك الذين يطوّح بهم الأرق كل ليلة ، بعيداً في اليقظة القاسية، إنهم يجعلون الليل حاضراً… في حين يغيب الليل وظلماته المتلاطمة وأهواله وكوابيسه لدى النائمين بوداعة وغبطة تشبه غبطة الحيوانات والصخور في نومها الأبدي..

حضور الليل في الوعي المؤرّق وصَحوه، مقذوفاً في تيهِ الهذيان والهواجس والذكريات التي لا ترحم، متوافدةً من كل حدْب وصوب في المكان والزمان. خاصة لأولئك الذين تقدّم بهم العمر قليلاً أو كثيراً، سيكون هذا الاستعصاء للنوم أكثر ذعراً وخطورة… يتوازى حضور الليل، ثقله وغلاظته مع حضور العالم والتاريخ والوقائع في ذهن المؤرق ووعيه المضطرب، إذ يجد نفسه في معركة لا متكافئة مع جبروت هذه الصحراء الدمويّة التي يتيه فيها الدليل وتمّحي علامات الطريق.

*  *  *

يحدث أحياناً أن يتغلب المؤرق أو المؤرقون (بضم الميم وشد الراء) على فراشهم يمنة ويسْرةَ، للأعلى والأسفل بحثاً عن خلاص ما، خلاص مؤقت يقي شرّ هذه الليلة وهوامها المحتدمة، بحثاً عن نور حنون يتسلل من نافذة بعيدة، من هديل يمام في الجوار، أو ذلك الهسيس الخافت لحقول الطفولة وسط أنفاس الجبال بانحدار طيورها إلى السفوح تلتقط رزقها من التمور المجفّفة والحيوات الصغيرة اللامرئيّة. وعلى مقربة تضيء عيون الثعالب خُطى الطير، وتعوي الذئاب في مخابئها عواء خفيفاً حانياً على الصغار وهم يخطون الخطوات الأولى على أديم هذه الأرض الشاقة..

يحدث أن يتسلل في ضوء فجر المحنة، ذلك النور البعيد الحاني إلى فراش المؤرقين في ليل العالم الدامي، فينعمون بهنيهة راحة مُستحقة عابرة.

*  *  *

«لا نستطيعُ أن نفك شباكنا

من براثن الجوارح

لا نستطيعُ الذهاب أبعد من ربقة المضيق

سارحين بعذوبةٍ في مهب المقيل

آكلين السمك الذي ادخرهُ أهلنا

للصيف

وبشيء من المواربة كان القمرُ يسطعُ فوق

نُوام السطوح

إكليلَ شجر وطلاسم

ولا شيء يفصلُ بين أجسادنا

وطيور الأبدية».

*  *  *

أبطال الأرق ، إذ لا بطولة في الفراش إلا للأرق كما عبر فيلسوف آخر.

ولكسر تمادي هذه البطولة يلجأ المؤرّق إلى القراءة. ثمة كتب يحبها أكثر من غيرها وهي الأثيرة إلى قلبه ومشاعره، يدخرها لمثل هذه الليالي المدلهمة، وما أكثرها… يقرأ ويعيد العبارة، الصفحة والسطر، تدخل العواطف والأطياف والأزمنة، إلى مسامّه وخلاياه، لتخفّف من أثقال ليله وسيلانه وحضوره. تنطلق شخوص الكتاب منفلتة من عقال الحبر والصفحات، لتنتشر في الغرفة كما في أحاسيسه وأعماقه، مترنحة أحياناً بجراحها، ومبتهجة نشوانةً في لحظات أخرى. وفي كلتا الحالتين يغمره حميم المشاركة في هذه الحياة السريّة الخارجة على مواصفات المحيط، الاجتماعي والتاريخي.

فثقل حضور الليل، ليس إلا حضور التاريخ والاجتماع مقذوفاً في تلاطم الظلم والمجزرة التي تلف الكون منذ بدء الخليقة الأولى، وحتى الأكثر ضراوة في عصور الحضارة الحديثة. كل بمقدار غلتِه من الإنجاز والمعرفة.

إذا لم يكن مزاجك مدفوعاً لقراءة الكتب التي تحب، فثمة لحظات تكون الأفلام المشرقة بالجمال والرؤى والجنون المبدع، حلاً آخر من حلول تبديد كوابيس الليل والأرق. وهي بداهةَ منحى معرفي وجمالي، يكون أحياناً أكثر تأثيراً من بعض الكتب في السياق نفسه، أو هي تحويل لكتب مشهودة في سياقها إلى لغة السينما، بالشخصيات الحيّة والحركة والأضواء والألوان، لتغتني أكثر بالجمال الحسي والروحي وتكتسي بالمشاهد الضاجّة بالتعدد والحيوات والأمكنة. مثل أفلام فلليني ورفاقه في السينما الايطاليّة، وكيروسافا في اليابان، برجمان في السويد وأورسون ويلز في أمريكا والقائمة تطول وتطول متاخمةً لأفق المغيب واللانهاية قراءةً ومشاهدة.. من باب التذكير السريع، تلك التحف الخالدة التي خضعت للاقتباس الأدبي أو التحويل، لفضاء السينما الشاسع، (كازنوفا)، (ساتركون) لفلليني، حين جمح خيال هذا الساحر، إلى ما يشبه محو الأثر الأول مبتكراً طرق تعبير ورؤية شخصيتين شديدتي الفرادة. وهناك (الفهد) رواية الكونت الصقلي، حول انهيار الطبقة الارستقراطية وقيمها النبيلة إزاء صعود البرجوازية التجارية، وقيمها الجديدة؛ التي حولها (انطونيوني) إلى فيلم شاسع الأرجاء. (راشمون) لكيروسفا، و(العيون على اتساعها) لستانلي كوبريك… الخ . فطيش ليل هذه الصحراء أو المدينة وجبروته، خاصة في فصول الصيف حين لا يستطيع أن يخطو بضع خطوات خارج الغرفة والتكييف؛ هذا الليل الذي لا تعرفه المِلل الأخرى بكل مستويات بشرها ونخبها، لابد من إعداد العدة لمحاولة دحر هجومه الكاسر، أو التخفيف من بطش عدائيته وسَحْقه.

في البلاد الأخرى، أو حين يكون الطقس لطيفاً وحنوناً يكون المشي والتأمل والكتابة أثناء التجوال وهذه تتواصل مع القراءة خلف الأبواب المغلقة، كنوع من حل.. تمشي وتمشي بينما البشر نيام، وسط الظلال الحنونة والأشباح والشجر متمايلاً بذؤاباتِه مع الريح، حتى يغمرك التعب والنعاس وتظفر بهِبة الانتصار على بطش الظلمة والليل.

ليكن اللجوء إلى حلول الجسد والجنس، أحياناً ناجعاً، وأحياناً يقذفك إلى يقظة وفراغ بعد الانتهاء وتظل تتخبّط في عَدَمه من غير نوم ولا ضوء أمل قريب.

اللجوء إلى جسد المرأة بحقوله المتموّجة، وذلك الفرج الذي ينبتُ في ضفافِه عشبُ الخلود، والنهدُ الذي يقفز حُراً في نسيم الحديقة. تلك الانحناءات والحنايا والنتوءات، لطائف الأنوثة وزخم اللهفة والشوق، التي خلقها الله ، كملجأ وعزاء خاصة حين تدلهم الليالي وتُهزم الإرادات والبطولات، إذ لا بطولة في الفراش، إلا للأرق، والجسد الأنثوي ليس إلا عزاء وهروب وملاذ، «ولباس» وفق الآية الكريمة، كما هو جسد الرجل للمرأة. ومن يدعي البطولة والفحولة في هذا الفعل الغريزي الذي تمارسه أصغر الحشرات على الأرض، ليس إلا ساذج لم ينله من قبس الألم العميق، ليس إلا طفيلي حياةٍ وسقط متاع..

*  *  *

«أضلّ النهار المستنير طريقه

أم الدهر ليل كله لا يبرّح؟»

أولئك الذين عانوا وكابدوا، طويلا من ليل الانحطاط على كل صُعُده، مثل الانحطاط العربي الراهن، يمكنهم أن يتمثلوا بيت الشاعر كأحد أوجه الاحتمال والمجاز التي يزخر بها الشعر الكبير، حين يطل عليهم ولو من أفق نافذة بعيد، نور خلاص أو وهم خلاص. بهذا المنحى يلتحم أرق الليل الشخصيّ، بكابوس الأرق الليليّ المظلم العام، وينصهر الاثنان في محرقة ذات جرّحها التاريخ وأضنتها الظُلمات.

*  *  *

الأرق في البلدان الواقعة في تخوم الصحراء وقبضتها الضاربة، أكثر قسوة، من أرق البلاد التي ينساب فيها النهر أو الأنهار، في أعماقها وعلى الحواف والضفاف. تلك المياه التي تجري في عروق الأنهار، قبل أن تجري الدماء في العروق البشرية حسب شاعر أمريكي. تخيل النوم في مدينة مثل عاصمة السويد الاسكندنافية (استوكهلم) التي تسيّجها سبعة أنهار تسبح في نعيم جناتها الخضراء. دعك من النوم في الأرياف التي جمعت بين نعمة الحضارة وهدوء الطبيعة والمجتمعات البدائية. سيكون نوم النائم، حتى المصاب بلوثة الأرق وحيرة الوجود وأسئلة المصير ، سيكون أقل مشقة وأقرب إلى النوم الطبيعي المنعش.

في البلاد  العربيّة التي حَظيت بكرم الأنهار أريافاً ومدناً، قضّ مضاجعَها هيمنة الفساد والاستبداد، تلك الهيمنة البهيمية التي يكتسح ظلام ليلها كل جمال في الطبيعة والبشر، ويكتسح نبل الانسان فطرته وأحلامه بسعادة ممكنة ولو عابرة، كونها سعادة الانسان الفاني والعابر على أديم هذه الأرض الشعثاء. حريّة الكائن الحقيقيّة ليست من ترف الكماليات، إنها الضرورة الوجودية الأكثر إلحاحاً، القيمة الجمالية والحياتيّة التي لا تعلوها قيمة أخرى وسط القيم التي تنبلج منها كما ينبلج النور المخلّص من الأرق والكوابيس، من منابعه اللامرئية البعيدة.

*  *  *

كانت الصحراء في الماضي الذي أضحى سحيقاً، مرتع هدوء روحي وسموِّ أخلاقي لا يُضاهى. مرجع عُزلات كبرى وتأمل وابتكار فيما يخص القيم العليا التي تحلم بانتشال الانسان من سقطة وجوده من مستنقعه وبهيميّته الضاربة في ليل القِدم والغريزة الوحشيّة.

منها انبعثت الرسالات السماويّة بسردياتها الكبرى التي أنارت سماء العالم وأخذت بيده نحو حلم الإنقاذ والخلاص. ومنها خرج شعر ونثر عظيمان، صحراء البلاد العربيّة والمشرقيّة خاصة، قيم البطولة في خوض غمار حياة شاقة، لكن مسيّجة بسياج قيم التضامن والنزاهة والصدق في الخطاب والسلوك. حتى أن نبي الاسلام الكريم قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» بمشروعه الحضاري الكبير. كان يمكن للنائم المؤرق أن يخوض غمار «هذه التجربة الكئيبة» براحة وبمشقة أقل..

كل ذلك ذهب بدداً في خضمّ عواصف التغيير ودورات التاريخ والطبيعة الماكرة…. وإذا عدنا إلى عصور أكثر قدماً وتوراياً في طبقات الأزمنة، فنذكر ما ذكره «الجيولوجيون» حول تلك الدور الكبرى من التصدع والانزياح، التي نقلت الجزيرة العربيّة نقلة نوعيّة من الخضرة والخصب والنعيم الغابي بطقسه الآسر الذي تشقه الأنهار والجداول والقنوات ، إلى حقبة القحالة والجفاف.

لم تكن الصحراء في الماضي، تَعِد بمصالح شخصيّة وطموحات بالمعنى المنفعي الفج، أصبحت على النقيض بعد تفجرّ باطنها بالثروات والمعادن الثمينة.

كانت الكلمة فيها للطبيعة وتجلّياتها، أصبحت الكلمة للآلة والإنسان.

في العصر الراهن لم تعد الصحراء إلا مكبّ نفايات ومحارق نفط. سماسرة دوليين ومؤامرات. لقد اغتُصبت روحها وقُذفت في أقصى طبقات الجحيم من التنكيل والعذاب. ولم يعد لبدوي تائه في خضمّات الرمل المتحولة، من شجرة يستظل بها لغفوة مُستحقة في ليل الظهيرة القائم..

*  *  *

(…) «وإنك كالليل الذي هو مُدركي

وإن خلتُ إن المنتأى عنك واسعُ»

ليل النابغة الذبياني، ليل المذعور المحاصر من قبل ملك الحيرة، وهو يقذف سهام رعبه إلى قلب الشاعر الكبير في عصره وكل العصور،  هذه السهام المسمومة التي انطلقت من جعبة الدسائس والأكاذيب بداية موغرةً قلب الملك الغضوب ذي المزاج الزئبقي المتقلّب.

لكن خوف الشاعر وجزعه من الخطر  الملكي الذي يحاصره في الصحارى والحواضر، أبدع شعراً خالداً لكل زمان ومكان.

شعر الليل الشرس الممتد على مساحة العالم حيث لا عزاء ولا خلاص، فهذا الليل بقسوته اللامحدودة يتمدد بأشداقه الفاغرة ملتفاً نحو مخلوقاته، كما يلتف وحش أسطوري على ضحاياه في كهف مليء بالأشلاء والخفافيش…

*  *  *

(…) «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ»

هذا الليل الطويل، الطويل وكأنه الدهر مضغوط في حيّزه وثناياه المحتشدة بالألم وهواجس الافتراس والموت، حيث يتفجر نداء جريح من حلم الشاعر وخياله نحو انبلاج صبح خلاص ما، ولو كان سراباً ووهما، لكن حتى هذا الوهم والسراب لا يلبث أن يتبدد هباء في سياق النداء الشعري المتوسل، إذ ان ذلك الفجر أو الصبح ليس بأقل فداحةً من ذلك الليل الأليل، بعتاده الثقيل وضباعه المنتنة…

بيت «الملك الضليل» هذا، بطاقته الدلالية وثرائه الذي لا ينضب معينه ينطبق على وجوه واحتمالات شتى من الضنى والعشق المأساوي والشقاء واليأس والغياب… لكن في هذه البرهة من تاريخ هذه التراجيديا الكونيّة والعربية على وجه الخصوص، في الإبادة والتهجير واجتثاث الكائن البشري من كينونته وأرضه التي تناسل فيها الأسلاف جداً بعد آخر، في سلالات لم تنقطع أواصرها منذ القِدم….

هكذا منذ «نكبة» فلسطين 1948 وحتى اللحظة كأنما تلك المأساة الكبرى، التي ارتكبها الصهاينة مدعومين من بلاد الحضارة والعالم الحر، شكلت التلخيص الزمني المكثف (مثل كثافة بيت امرئ القيس)، لما ستؤول إليه أحوال الأمة في الفترة الراهنة التي تنفجر بحاراً من الدماء والجثث والاقتلاعات… لكن هذه المرة بشكل أساسي، على يد احتلالات الداخل ومنطق الطغاة والتناحر والتشظي الذي لا يقيم أي وزن لأي قيمة أخلاقية أو فطرة انسانيّة، دعك من عقد الاجتماع والقانون والدستور الذي لم يعرف طريقه في دنيا العرب وأشباههم…

*  *  *

كيف ستكون حالة أولئك المشردين والمقتلعين من ديارهم وسط الصحارى والغابات وفي عرض البحار.. كيف ستقر عينٌ للأمهات والآباء وسط أشداق الخطر الهائج، وسط دوّامة الموت والاعصار؟

من ينجو من براثن هذا الموت المحقق سيظل ذلك الجرح العميق يفترس الأحشاء والذاكرة وعبر أجيال تتوارث هذه القسوة والثأر والدمار.

وضعية هؤلاء الذين قذفتهم حروب بلدانهم وفسادها، لا يقارن إلا من بعيد، بأولئك الذين همشتهم مجتمعاتهم، أو هم اختاروا هذا الهامش. ينامون، يصحون تحت أنفاق المترو ومحطات القطارات ووسط الهدير والقيء، حطام الزجاج المكسّر والحشرات، تراهم في الصباح الباكر، منتفخي العيون والعروق جرّاء السهر والكحول القوي ، وهم على الأرجح لا ينامون إلا خلسة نتيجة التعب الجاثم والإرهاق.

*  *  *

 الأطفال مثل الأشجار عند هرمان هسّه، التي لا تعترف بالتفاصيل والتاريخ، بقدر التزامها بقانون القِدم وحده…. كذلك الأطفال لا يتبعون إلا غزيرة البراءة الأولى في انطلاقتها الفوضويّة التي لا تحدها حدود مسبقة أو قوالب ومواصفات… كنت ماراً على الشاطئ، حين رأيتهم يمارسون رغبة الهدم والبناء على الرمال المتحركة، وسط زوابع ريح آسيويّة، من غير ضجر، يبنون قلاعاً وبيوتاً وأنقاض بيوت. سمعتُ أحد الأطفال يقول لقرينه هل تؤويني هذه الليلة، لقد تهدم بيتي ولم يعد لدي جدار أو سقف ألوذ به؟

*  *  *

ترى كيف ستكون عليه أحوال أولئك البشر المقتلعين عنوة وقسْراً في الداخل والخارج بملايينهم المستعصية على العد والإحصاء، في المعسكرات والملاجئ والمخيمات في ذلك الليل الدموي المجرد من أي رحمة أو شفقة حتى ذلك التوّسل الطاعن في وهمه وسرابه.

كيف سيكون ليل المشردين والهائمين على وجوههم في صحراء العالم الجليديّة أو المفرطة الحرارة والهاجرة، الصحراء التي درستْ كل علاماتها وأعلامها، فلا شحيح ضوء في أفق مستعصٍ على النظر ولا تباشير محطة قادمةٍ تلوح…

*  *  *

«على الأقل سيكون الليل هادئاً» هكذا كتب أحد شعراء السورياليّة، غداة انتحاره. سينتهي الصخب والضجيج، الحيرة والأسئلة التي تمزق دماغ الشاعر وتفترس أحشاءه، ستنتهي جلبةُ الليل وحضوره الماثل الثقيل، بعد فعل الموت الاختياري الذي سيضع خاتمة لكل الوجود والموجود ربما… وربما ليس إلا تغيير عوالم ، كما عبر شاعر (المايا) في الحضارة اللاتينيّة التي كانت تلجم بطش ليل آلهتها بالقرابين الدمويّة والأضحيات. تلك الآلهة التي لا يخفف غليل انتقامها الصاعق إلا الدماء البشريّة المُراقة في المعابد والقصور والفيافي..

* جزء من كتابة أطول والمقطع الشعري الذي بين مزدوجين من ديوان (رجل من الربع الخالي) لنفس الكاتب.

ليل المقاهي والجرائم  والقطارات

كان الليل ينأى عن مريديه الأثيرين باتجاه الأقاصي، والهاويات التي لا يلملم قطعانَه السود إلا في أنحائها ليأخذ غفوة قبل أن ينتشر في أرجاء الكواكب والمجرات والغيوب.

ليل قطبي البرودة والمزاج، وآخر صحراوي الهاجرة أجردَ بزحفِه الشرس على الكائنات والأشياء والعناصر.

ليل المتصوفة والعشاق يودعونه سرهم بعيداً عن الرقباء والحاسدين. ليل الغنوصيين، والأقوام التي كانت تقدّس الظلام والليل وتعبد الجبال، لأمواج الظلام التي تضطرم وتصخب بغموض أسرارها، في أعماقها الصخريّة العصيّة حتى على الزمان…

الليل نبع الشعر والفلسفة والتأمل في أوجه الخوافي والحقائق الهاربة خلف وعول الغيب، والعناصر والحيوات وقد لفّها الظلام بردائه العميق.

ليل ينزلق بين الصخور الجاثمة والوديان الموحشة بحيواتها النافرة كالجواهر والأسرار الشريدة بين الأزمنة والعصور.

ليل لا يمكن سبر أغواره وطبقاته بمجسّات العلم والهندسة ولا يمكن تشريحه وتهديمه كالأجساد والأمكنة والمواد الأخرى. ولا يمكن تمزيق تماسكه الصلب من فرط تناغمه بطاقة النيران والقنابل والمتفجرات. يمضي وهو محصّن إزاءَ أدوات البشر التدميريّة. انه الأزل وقد تجسّد في صحرائه الأبديّة.

*  *  *

أم تحمل طفلها بحنان طاغٍ في ليل المقهى المضاء بالنيون. المقهى الواقع أمام محطة القطار، مقهى المسافرين، والغرباء والمقيمين. جلستُ فيه منذ عقود وها أنت في اللحظة بنفس الكراسي والطاولات والردهات المتلألئة باللوحات والألوان والأشكال المتداخلة كأرواح مريديه الذين رحلوا وفرقتهم أنواء الحياة وربما جرفهم الموت والمصائر والمسافات. كنا حين الليل أمواجَ أشباحه وبرده القارس، نلجأ إلى المقهى، يلجأ الغرباء إلى المقاهي ومن لا يمتلك حداً أدنى من المال يلجأ إلى محطات المترو والقطار، لينال دفء الظلام في تلك الأغوار والأحشاء الأرضية التي تمتلئ بالصفير والزئير، بالنحيب والأحلام المحطمة.

حفظنا مقاهي المدن والبلدات في القارات المختلفة، بمداخلها الأمامية والخلقية وبمخارجها، ردهاتها المعتمة ونصف المضاءة المنعزلة عن الجمْع الصاخب، للراغب في النأي والكتابة والتأمل، أو القرفان الذي لا يريد الاختلاط والحديث… مقاهي تتناسل في الواقع والخيال في اليقظة والنوم، راقية ملفّعة بنعم الحضارة والمعمار البديع المشرق، والكابية البائسة مثل المكان الذي قذفته الصدفة فيه، من مقهى (زهرة الدقي) وريش وعلي بابا، في القاهرة إلى مقهى اللوتس في الجزائر، وباليما في الرباط، مقهى الروضة والنافورة وساحة النجمة في الشام. الهورس شو والمودكا والوينبي في بيروت. مقاهي شارع أبي نواس.. حتى كلني والبيري جوردين وغيرها الكثير الكثير… كنا نعرفها أكثر من معرفة غرفنا الغارقة في البؤس والغموض، والعابرة، التي لا نغشاها إلا للنوم والراحة بعد أن يهدنا تعب المدينة واللهاث ونكون على مشارف الانهيار. لتكون تلك الهجعَة، التجديد الضروري الحتمي، لنبدأ دورة اليوم الثاني بوتيرة أقوى وأكثر حيوية من أجل هدف ما أو من غيره، لا فرق، فدورة الحياة تواصل اندفاعها العبثي والجمالي على رغم ضيق ما في اليد وضآلة المورد إن وُجد فهو متقطّع وغير قار، سيكون الإفلاس طيرك الأليف. والتضامن بين الغرباء ما زال موجوداً تقتضيه طبيعة هذا النوع من الحياة المترحلة.

يحدث أحياناً أن تنعدم أي فرصة ماديّة تؤهل لشرب فنجان قهوة، فنظلّ نحوم على المقاهي والمطاعم والمحلات. من يمتلك حس المغامرة في الاختراق والجلوس والسرقة البريئة سيقضي يومه وليله، اعتياديا مطمئنا، وإلا فليطوي على عوز وجوع، حتى الماء يعز أحيانا في البلاد المتحضّرة، حيث إن دخول الحمام على الأرجح له تسعيرته الخاصة.

صديق عزيز حين تداهمه هذه الواقعة من الإفلاس وينفض من حوله هباءً في أفق ليل المدينة الشتوي العنيف، تنفجر فكرة في رأسه، إلحاح ضرورة الحياة ومواصلتها حيث يدخل القطار المتجه إلى بلجيكا على سبيل المثال. وبما أنه يمتلك مراساً طويلاً وخبرة قاسية في التحايل على المواقف، من تذاكر وغيرها، يستمر في القطار حتى يبلغ الحدود المرسومة بين البلدين ويعود أدراجه إلى المدينة نائماً مرتاحاً حليق الذقن لامع الحذاء، بحيث أنه حين يدلف المقهى في الصباح، كأنما نام في منزل وثير مترف، هو الذي لا يعرف منزلاً أو غرفة يأوي إليها، في ذلك الزمان، عراء المدينة وقلوب الأصدقاء، كانا ملاذه ومسكنه.

*  *  *

الليل الممطر بغزارة وسخاء كأنما السماء تسفح دموع البشر والحيوان منذ وجودهما على هذا الكوكب. ليل ممطر، ناعم رهيف ومتوعد مخيف. الساكنة ترفع المظلات بألوان وأشكال مختلفة، الساكنة المتدفقة إلى المقاهي والمطاعم والساحات، بعد قليل تندفع إلى البيوت والملاذات. المظلات ومارة تجري مسرعة، ثمة مشهد في أحد أفلام هيتشكوك، لموكب مظلات متفجر بالهواجس والريبة.

الأشجار العارية في الحدائق والغابات والشوارع الكبيرة والأزقة تستقبل مدرار المطر بفرح غامض يلفّعه حزن الشتاء الذي سيخلي المكان بعد قليل لقدوم الربيع والنماء الموْرق والاخضرار، أشجار الشتاء والخريف لا تخبئ شيئا إنها الحقيقة عارية في مغيب المطر والصحو.. الحقيقة المتشظية إلى أوراق ساقطة وأغصان وجذوع عارية تواجه المطر والريح العاصفة والمجهول. مجهول الليل القادم الذي بدأت طلائع أعاصيره في الصفير كنذير يترى ويتقدّم غامراً الأنهار والشوارع والعمران حتى مخابئ البشر في الحانات والأزقة والمغاور لا تنجو من الوعيد والخوف والريبة.

ليل المطر والعاصفة والبشر الذين تتحول أفراحهم إلى تكهنات ومخاوف وربما انهيارات.

ليل بربري الوجهة والمزاج..

*  *  *

ليل الشاحنات، سائقو الشاحنات في تلاطم المسافات المظلمة الوعرة الموحشة أيما وحشة، وسط الخطر الداهم من كل الجهات يوجهون كتل الحديد والعجلات الضخمة، صوب الوجهة البعيدة، ناقلين البضائع والمنافع التي يتبادلها البشر وفق الحاجة والطلب وسط الزوابع المتنقلة التي قد تتحول إلى عواصف مدارية وأعاصير يسوقون الشاحنات. ثمة عطل هنا أو انفجار عجلة وتوقف محرك، وسط المطر العاصف والغبار. وحين تشتد الوحشة الليلية بالسائقين يتبادلون الأحاديث البذيئة والنكات من النوافذ والأبواب. أو يفتحون الراديو على أهازيج وأغانٍ شعبية حفظوها منذ الصبا والطفولة، ويأخذون في ترديدها وترجيعها بنشوة وعذوبة تبدد عزلة الليل الانتحارية الدامية. يحدقون في صور العائلة والأطفال التي علقوها أمامهم كتعويذة تقيهم مفاجآت الأخطار والحوادث، وتكبح جموحهم إلى السرعة وتجاوز حدود السياقة اللائقة في مثل هذه الظروف. ربما مروا في طريقهم على مجازر وحوادث وحشية ارتطاماً وانهياراً لزملاء عرفوهم عن قرب أو لم يعرفوهم. إنها حرب السائقين والآلة الجامحة الثقيلة والطرقات الطويلة. من أجل كسب الرزق، والعيش الكريم وتربية الأطفال.

ليل السجناء والمجلودين تحملهم شاحنات الليل الشديد القسوة والوحدة والظلمة الكاسرة.

لا يعرفون وجهتهم وإلى أين يذهب بهم جلادوهم، معصوبو العيون والوجوه، ترتجف أعضاؤهم وترتعش، كما ترتعش أفخاذ الذبيحة بعد فصل عنقها، يظل يرتجف لحمُها المُدمى، أو مثل رقصة الديك المذبوح بعد ذبحه.

ليل المحكومين بالإعدام، في هذه الفسحة المحشورة في شاحنات الليل والألم والموت، هل يسعفهم الزمن والذاكرة في استحضار شيء من ماضٍ مضى وانقرض، عن طفولة لم تكن لأحد، عن هنيهة حب غارق في السديم والضباب.

هل تعبرهم رغبة في شيء ما من هذه الحياة الآفلة، هل يودون الاعتراف أو لقاء كائن بعينه، صلة رحم أو صداقة ماضٍ مشترك أو صاحب النفوذ لينفجروا صرخةَ مظلومين تهز مجلس الحاكم وتهز عرش الكون.

الشاحنات تمخر عُباب الظلمة الوحشية وتحث الخطى والعجلات نحو وجهتها المجهولة الراعبة.

*  *  *

في الزمن الماضي في تلك البلاد النائية في الذاكرة والزمن والتاريخ، كانت هناك بضع شاحنات تمخر ليل الواحات الجبلية والبلدات المبعثرة بين الجبال والتلال والمنعطفات الكهفية بظلامها الغزير، ظلامها المحتدم كأنه تجمع أجيال من الظلمات تكدّست، وانتشرت  وتراكمت في هذه البقاع التي نسيتها العناية، ونسيها الزمان.

شاحنات قليلة تحمل بضائع المؤونة لسد رمق الساكنة الموزعة في ذلك السديم الوحشي، وتحمل البشر على ظهرها المحدودب بفعل الحمولة الثقيلة، حيث أبسط حركة توقف مفاجئة، كأن يعترض سيرها حمار، أو جمل أو أي حيوان تائه في تلك البرية الشاسعة المقفرة، يفر الركاب من أماكنهم وترتطم الأجساد ويعلو الصراخ، وإذا لم يسقط أحد منهم فوق الصخور المسنّنة، فلا بد من رضوض وجروح وارتجاجات يصنعها الخوف أكثر من الارتطام. ولأن الصمت الجنائزي وسط ذلك الليل المحتشد بالهوام والأشباح، يسمع أهل القرى والواحات من البشر والحيوانات، صوت الشاحنة ويصغون السمع برهافة وترقب باحثين عن مصدره الموزع في الأرجاء وبين الصخور العاتية، حتى ينبلج ضوء خافت من جهة ما، يقترب ويتعالى بسطوعه، كما يتعالى صوت الشاحنة الذي يشبه الحنين المخنوق.

*  *  *

في إحدى حانات بغداد، حين ينزل الليل بكلكله، يدلف (س) إلى الركن المعتم من المكان الصاخب بالويترية وقناني العرق والأقداح مختلطاً بغناء أم كلثوم، وناظم الغزالي وزهور حسين ذلك النواح الكربلائي الذي لا ينقطع عبر الزمن والفناء. أم كلثوم على المحل، في صورة جداريّة تصافح عبر (الفوتومونتناج) صاحب الحانة من فرط إعجابه بعالمها الشاسع.

المهم أن (س) يجلس في مقعده المعهود يجرع العرق المسيّح من غير كلل ولا وقفات، انقضاض جمل برّحته الهاجرة والعطش على نبع ماء في قلب الصحراء…. وحين يأزف وقت إغلاق المحل لأبوابه التي يستأنف فتحها في اليوم التالي، ويرحل آخر السكرجيّة، يبقى (س) من غير حراك في مقعده الذي يشبه الكنبة، ثم يتهاوى بقامته على طولها وشخيره يغمر الحانة ويتسلل إلى أرجاء الحارة البغدادية وقد غرقت في ليل نومها العميق. هكذا حتى اليوم التالي ويأتي الويترية لإيقاظه، يأخذ كؤوس التوازن التي يسميها العراقيون (كسر خماريّة) والمغاربة (تحيّيد التمن). ومن ثم يذهب إلى شأنه حتى ينزل المساء بمرساته الثقيلة ويعاود (س) سيرته اليومية التي اعتادها واعتاد عليها آخرون.

*  *  *

كتائب الليل الدامس تتوافد على المدن تحمل أنباء الأعاصير والجوائح القادمة.. ألهذا شبّه (الحديث الشريف) الفتن بقطع الليل المظلم التي تفترس في طريقها كل إنسان وطفل وشجرة وعلامة حياة.

الفتن والحروب حين تنزل على الأقوام نزول الصواعق الليلية الماحقة، تكون أعظم ابتلاء وبشاعة على بني البشر، على القيَم الانسانية والجمالية والأخلاقية. كما هو موجود على أرض العرب خاصة، حيث تفترس الوحوش الهمجية المطلقة السراح والشر موغلة في ليل الانحطاط والقذارة والغدر.

الجرائم دائما في الأدب والنص الشعبي والخرافة، يرتبط ارتكابها بالليل والظلمة التي تحمي وتموه المجرم والجريمة، تحت جنح الليل تسري كتائب القتل والإبادة، وتحت جنْحه تُحاك الدسائس والمؤامرات حتى حين تكون الجريمة أو الحرب التي هي بلا ريب ذروة الجرائم وخلاصاتها المكثفة، تحت جنح النهار وفي ضوئه الساطع، يستحيل إلى ليل وظلام وغبار كقول بشار بن برد:

(كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكُبه)

في هذا الطقس الملحمي المظلم للجرائم والفتن، التي تسوّقها أنظمتها وعصاباتها ينغمس فيه الجميع قطعاناً إلى الذبح بصناعة أيديها وأدواتها وذكائها ذكاء المجرم في التخطيط المحكم لإنجاز أفعاله بأقصى درجات الضراوة والخسّة.

في مثل هذا المناخ المدلهم، يبقى أفراد معدودون لا يصغون إلا إلى ذلك الانبجاس الخفي لحياة غير مرئية، لتفتح زهرة في ليل نشوتها السرية، لغناء طائر يعبر المضيق، لأرواح وحيدة تتنزه في الحدائق والكتب، لامرأة عاشقة تنحني أمام صورة حبها الراحل، لغيمة تُنزل ماءَها ليطفئ عطش الحقول.

*  *  *

كان على طاولة الإفطار الصباحي، يفكر مع تصاعد روائح القهوة الزكية المتناغمة على نحو هارموني مدهش مع غناء وحركة الجرسونة الأسبانية الفتيّة، ألا يذهب هذا اليوم إلى الحديقة الكبيرة التي تشبه الغابة، وأن يأخذ الاتجاه العكسي نحو حديقة (الهايكو) الصغيرة المكثفة التي تتوسطها نافورة مزنرة بتمثال (فينوس) آلهة الجمال عند الإغريق، وأن يذهب باتجاه النهر القريب.. لكنه وهو يخطو خارج النزل، وجد نفسه محمولاً للسير باتجاه الحديقة الكبيرة، محمولا بفعل قوة غامضة تتمثل في رجليه اللتين تقودانه عكس إرادته …. ها هي وظيفة أخرى أكثر حسماً تضطلع بها الرجلان. ليس حمل هذا الجسد الذي صدعته السنوات والذكريات فحسب، بل التفكير وأخذ المبادرة أو خطفها من العضو المختص منذ بداية دبيب الكائن البشري على الأرض.

لماذا أعطى فلاسفة اليد الأهمية الأكثر حسماً، إلياس كابتني على سبيل المثال، ولم تُولِ الرجل ما تستحقه إمكاناتها المفتوحة على التعدد والاجتهاد؟

الحديقة أو الغابة ملفعة بليلها حتى في ذروة النهار، حين تكون السحب والغيوم متدافعة في سمائها، كثيفة ومحتدمة حتى الانفجار الوشيك. تخلع معاطف وأردية ظلال ليلية قاتمة على الأشجار والنباتات والسواقي وعلى كل الحيوات والتماثيل التي تستحيل أشباحاً ترقص الفلامنكو، في أرجاء قارتها التي بدأ المطر يخضّب أرواحها بنضارة متجددة..

من الطبيعي أن يكون ليل نهار الحديقة والغابة أقل وحشةً ودجنةً.. انه ليل مُستعار من كوكب آخر من طبيعة أخرى. أما حين يندمج ليل الاستعارة بليل الطبيعة الذي يعقب النهار والمغيب فتكون هذه القارة السوداء محتشدة بكل ما هو سري وجاثم وخطير.

*  *  *

ليل الأقفال الحالمة على جسر الفنون، أقفال المحبين والذين أضناهم الهوى والحنين، تُرى بماذا تحلم في ليالي الشتاء القاسي، وقد ضرجها بأرواح الذين رحلوا من غير عودة، تركوا أسماءهم وجملاً ضاربة في الشعر والهيام تخليداً لذكرى عبرت قلوبهم الهائمة في الآفاق.

هذا العام تقلصت الأقفال أعدادها ومساحتها كما تقلص الحب هارباً من عالم الأرقام والأزرار التدميرية، جراح المحبين ولوعتهم، هارباً إلى عالم النيازك والنجوم.

لكن النهر الكبير يجري متدفقا عبر الأجيال، حاملاً معه الشعر والجمال وأسماء المحبين المجهولة وقد اختزلتها ذاكرته الشاسعة في الليل والزمان.

هل الزمن يشبه النهر أم النهر يشبه الزمن تلك مسألة تعود إلى هيرقليطس وإلى الارجنتيني المبصر في ليل العمى والمياه…

*  *  *

ليل الحديقة والورود البرية في تفتحاتها الأولى بغفلة عن العالم وصخَبه. تفتحات الطبيعة في وثبة صحْوها وإشراقها على الروح العطشى إلى الجمال والحرية. بغفلة عن العالم تمارس طقسها السري لإمداد شجرة البهاء بغصن جديد وشجرة النعمة وهي تستقبل ربيعاً جديداً في فصولها المتعاقبة.

*  *  *

الغرباء يعبرون في ليل الحديقة. النشوة الغامضة والخطوة المتعثرة بين الأكمات، بصمت يعبرون وبعيون زائغة بالغياب صوت الأفق تحدق الأبصارُ والأفئدة، كأنما تبحث عن الكنز الذي طمرته السنون والضباب، عن الحبيب والولد والقرين، عن مرابع طواها النسيان، بعد أن حملها النسر بين جناحيه إلى حيث لا عودة ولا أثر يشطح نحوه الهذيان والحنين.

*  *  *

يبحث النسر عن بيوضه في ظلام الغابة المحتشد، في الأعالي والسفوح جيئة وذهاباً يدخل في هياج وجنون، بعد أن فقد الخيط الذي يقوده إلى عش أفراخه وسكناه.

القطاة أكثر فطنةً وبصيرة، تهتدي إلى عشها حتى في الظلمات المتلاطمة بالرعود والمطر في ليل الغابة الرهيب.

أما زالت بومة منيرفا تستطيع التحليق في الظلام؟ 

(حول الكتابة فـي الأزمنة الصعبة)

خلاصة الأحداث العربية العاصفة ومسارها المتقلّب، لكن الثابت على سياقٍ ضارٍ من المجازر والتدمير المادي، الروحي، المعنوي يتجاوز الصعوبة والمشقة التي هي من طبيعة الحياة والكتابة، إلى الكارثة. من هنا ينبثق سؤال الكتابة في ضوء كارثة الراهن العربي التي تتناسل فصولاً وأوجهاً متعددة لحرب ضروس وإبادات مستمرة… 

بومة «منيرفا» التي لا تُحلق إلا في الظلام، عبارة الفيلسوف الألماني (فريدريك هيجل)، وكان يقصد بها الفلسفة، فقد كانت البومة عند الإغريق القدماء، ترمز الى الحكمة أو الفلسفة ، حتى ساءت سمعتها في القرون الوسطى الأوروبية، إذ تحوّلت إلى رمز للشؤم والخراب. وكذلك في الوعي العربي الذي يتطابق واقعاً ورمزاً مع تلك الحقبة السوداء في التاريخ الأوروبي التي سبَقت ومهّدت للانعطافات الحضاريّة الكبرى اللاحقة.

في المنحى العربي الشرقي، نجد البومة في أسوأ صورها حتى لدى حيوانات «ابن المقفّع» حيث يقوم (الغراب) بقذف البومة بأقبح الصفات صورةً وصوتًا وسلوكًا.

ما يعنينا في هذه العجالة، أن الفيلسوف الكبير كان يقصد أن الفلسفة تزدهر أكثر في خضمّ الأزمات والمحن ، التي تعصف بالبشر والحياة. وفي هذا السياق أستأنس بمقولة الفيلسوف وإن لم أقصد الفلسفة تحديدًا، والظلام تحديدا هو الظلام العربي، وإنما أقصد طرح سؤال الكتابة بصورة عامة في زمن الانحطاط القيمي والسلوكي، أزمنة الحروب في شتى أوجهها والاستبدادات القصوى. زمن الثورات والانتفاضات التي تنقلب إلى نقيضها الحادّ عنوةً وقسراً وتدميرًا، يتضافر فيه الداخل الأعمى عن رؤية التاريخ والذي لا يعرف إلا لغة القتل والاستباحة لمن يرفع إشارة اعتراض على «منظومة» أصبحت خلف الزمن والتاريخ وخارج الصيرورة بقرون… والخارج عبر التدخل العنفي المباشر ساحقاً في طريقه المُدن والحياة والأمل. أو عبر تكتيكات الدهاء المعروف والمناورات.

المهم أن لا تقوم قائمةُ نهضة حضارية حقيقية في هذه المنطقة المفعمة بتاريخ الحضارات، العمران ، المُدن ، المعرفة والأديان التوحيديّة جميعها، على هذه الأرض التي تتوالى على أديمها الزلازل والنكبات.

(تيودور ادورنو) وهو فيلسوف ألماني آخر من أصل يهودي ، طرح في أعقاب الحرب الكونية الثانية سؤاله حول معنى الكتابة بعد (اوشفيز) والمجازر التي ارتكبها المتحضّرون تجاه بعضهم ؟. وثمة مفارقة مأساوية لكن أضحت بديهيّة، كون ضحايا الأمس أصبحوا قتلة اليوم، في احتلالهم أرض فلسطين وتشريد شعبها. ونمط الجلاد الضحية والعكس، يستمر حتى في الحروب العربية – العربية المتألقة على قدم وساق..

ما يجري ويُرتكب على أرض العرب، أكثر هولاً وفظاعة من الأمثلة الآنفة. فكل يوم (أوشفيز) وكل يوم مذبحة تنجب أخرى. مما يجعل الكتابة تجرجر أثقالها مرتبكة، باحثة عن معنى وجدوى إبحارها في هذا الليل الطويل لبحار الدم المُراقة.. إزاء هذا الجفاف والقحالة المُظلِمة. جفاف ساحق أدى إلى موت الضمير واضمحلال مشاعر التعاطف الإنساني، الذي ساهم في إطفائها هيمنة «الصورة» المكررة النمطيّة التي محتْ الفروق بين الوقائع الدامية على الأرض وبين خيال الأفلام والمسلسلات الفنطازيّة. صار تفجّر الدم البشري في ساحات الحروب العبثيّة، نوعاً من فرجة لا تختلف غريزياً عن مشاهدة حفلات المصارعة وألعاب الفيديو. وتفقد إبادات البشر الجماعيّة وقتل الأطفال والإجهاز على الجرحى والعُزّل بعدها الإنساني البديهي، ويفقد الموت جلاله، وهيبته الأزليّة.

إزاء هذا الهول القيامي، كأنما الشاعر المجري ينفجر صوته الغاضب، من أعماق الضحايا المنسيّة كما من ضمير كل كاتب حقيقي وانساني:

«ليتني أحفر الكرة الأرضيّة

من القطب إلى القطب

وأحشوها بالدينميت

ثم أفجرّها»..

هذه الصرخة المعبأة بعواطف الثأر من قتلة الحياة والإنسان والقيَم، يستشعرها «المتوحّد» وهو مكبّل بالعجز وعدم القدرة على اجتراح أي فعل ذي معنى، أمام رُعب المشهد والاستباحة.

اللغة تتبدى وكأنما أصيبت بالعقم لغة خرساء عاجزة، عن المقاربة واللحاق بمواكب الجزّارين وما راكموه من فجائع وانحطاطات مُفْحمة بليغة، أين منها لغة الضاد الأكثر عراقةً وثراءً بين لغات العالم . بلاغة الحدث أربكت اللغة والتعبير وتكاد تخرسهما.. لكن هل الصمت ملاذ، حتى لو كان معبراً ودالاً، أمام فداحة الحدث والمشهد؟!

وهل يستطيع الصامت أن ينام ويمارس حياته العادية في مثل هذه البرهة التي يجري فيها سحقُ ما تبقى من قيم انسانية وجماليّة التي استعار خطابها القتلة لتكريس قبح الانهيار الشامل وبشاعته؟

هل يمكن الصمت والانسحاب إلى غابة آسيوية بعيدة تتأمل فيها المارة الغرباء وتماثيل البوذا بحياد بارد، الانسحاب الهادئ في أي ركن قصي من العالم؟

إنها اللحظة الفارقة، العارية تماما من غير صفات ولا مرجعيات، لحظة الزوغان في قلب المتاهة التي لا يعود أحد منها سالماً.

اللحظة الباحثة وسط الأنقاض والحطام عن أفقها التعبيري الخاص كي تستطيع ملامسة الحدث وقيامة الدم.

* * *

مطلع سبعينيات القرن المنصرم، وما تلاها، كان ثمة سجال حول هيمنة الخطاب السياسي بمختلف اتجاهاته وأهوائه وصراعاته، على الخطاب الأدبي- الفني وتبعيّة هذا الأخير، مما يفقده ماهيته الجمالية والدلالية، التي تتولّد وتنمو في مناخ الحرية والاحتمالات.. وليس من قسْر المفاهيم المسبقة، خاصة إذا كانت سياسية مؤطرة في نُظم وأحزاب وتكتلات. كان عنف الخطاب السياسي، صخَبه وتبشيريته اليقينيّة يناقض جوهر الثقافة الأدبية والإبداعية عامة. 

الأدب وفضاء فرديته وبحثه القلق، على عكس خطاب الجموع الذي يصل لدى الفرقاء أحياناً أو غالبا في بيئة مفعَمة بقيم القمع والإقصاء الى قطيعية نابحة وطاردة لما عداها.

هكذا، كان خطاب تلك المرحلة التي يلتقي فيها تصور الأنظمة الحاكمة «الثوريّة والرجعيّة». مع الأحزاب المعارضة، حين كانت هناك أحزاب تحلم بالتغيير ونوع من سوية حياة سياسية، تلتقي في عدائها للأدب والثقافة باستثناء الثقافة التابعة الملحقة بأجهزة هذا النظام أو ذلك الحزب. يتواصل هذا التصور للثقافة مع مرجعيات عالميّة، على رأسها المنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي وفق رطانة تلك المرحلة من التاريخ. هكذا جرى إفقار الخطاب الأدبي الثقافي إفقاراً مدقعاً، وما تبقى من أدب حقيقي حمل توقيع تلك الفترة وكافة الفترات والحقب، تَشكّل بمعزل عن ذلك التصور المضاد لجوهر الأدب ومنافٍ له ..

في الفترة الراهنة التي نعيش ونشاهد ونسمع، تتبدى تلك المرحلة، أقل بكثير في قطيعيتها واستحواذها الاستبدادي على كل ما هو مختلف عن النسق السائد. تتبدى في نزوعها الايديولوجي القومي اليساري واليميني، على نوع من لطف وأقل جلافة من هذا الهول البركاني لخطاب الانحطاط وقد بلغ العتوّ والذروة بمساندة حاسمة لتطور تقنية التواصل الاجتماعي الشعبوي التي لا تترك شاردة أو واردة إلا وأحصتها ووضعتها في عجلة هيمنتها السريعة. العامة هنا هم الضحيّة الأكثر مثاليّة لهذا السحق.

الأحلام والأوهام الدامية، إذ يمكن لهذين اللفظين أن يتبادلا المواقع بيسر وسهولة في الحالة العربية ومآلاتها، والتي كانت تتمحور حول الوحدة والاستقلال والعدالة ومواكبة العصر الحديث الذي تخطانا بمسافات شبه ضوئية.. ورغم مآلات الخيبة، لا تخطئ عين الناظر لتلك المرحلة وما قبلها، ربما يمتد لمطالع القرن الماضي، من نبل للمقاصد والأهداف، وتلك التضحيات الفردية والجماعية الجسيمة الصادقة. أما البرهة الراهنة فالنقيض الفادح هو المتربّع على عرش الخراب والانهيارات. الحروب الطائفية والأهليّة حلت محل أحلام التغيير والتحول الحقيقيّين وتسويق القيم والخطابات ان صحّت هذه الأخيرة، التي تعجز أبالسة الجحيم عن تخيّلها. لقد تفوق أبالسة انحطاط العرب والعالم على أساطير الشر والقبح التي ابتكرها خيال البشر في تاريخه..

الفضاء جهْم، تتخثر فيه الدماء وتطفو أفواج الجثث والمشرّدون. واللغة عاجزة عن وصف ومقاربة ما يحدث على الأرض العربيّة النازفة..

عدا لغة الاعلام، مصادره وتقنياته التي صنعها الآخرون لتضخّ كل هذه الأكاذيب والقيم المضادة للحياة والانسان ، الحريّة والجمال.

في ضوء هذا الانكشاف والخواء، الذي هو نقيض لرؤية الخواء والفراغ العميق في الفلسفات الآسيوية، تحطمت كل الأقنعة في سطوع هذا العري الدموي.. ولم يعد هناك أدنى احساس بالخجل والحياء، من تدبيج المدائح للمجازر والاستباحات التي يرتكبها أهل الداخل والخارج. الاستقطاب القطيعي على أشده وهذا الجزء من العالم يوغل في عذابه وانحداره. الملايين ترزح تحت آلة الحرب الإجراميّة قتلا وتشريدًاً في خضمّ تيه الصحاري والمحيطات.

* * *

أتذكر حلم ذلك الكاتب الفرنسي… وكان أطفال كثيرون يتامى وموتى، يتجمعون حول السيد المسيح ، يطلبون العون والحنان . فما كان من المقتول صلبًا وغدرًا، إلا أن أجابهم والانكسار يلف صوته: يا أطفالي كلنا يتامى جريحون ومغدورون، يا أطفالي المساكين الجميلين.. أود عمل شيء لإنقاذكم لكن… كأنما كل القوى الخارقة عاجزة أو متواطئة إزاء هذا المشهد، الذي يفوق مآسي الماضي «البربري» ألماً وتنكيلاً .. وصوت المذابح والميديا يخنق كل صوت عداه..

إزاء هذا ، كيف سيكون صوت الأدب والفن، صوت المعرفة الحقيقيّة والضمير.. وكيف ستكون الارتدادات البركانيّة لملايين الضحايا والمغدورين الذين اغتُصبت طفولتهم وأحلامهم الغضّة، يتناسلون في الجوع والعراء واليأس؟

إزاء هذا، هل ثمة مشروعية منطقيّة للسؤال البديهي، حول أسباب «الإرهاب» الجاثم على الأفئدة والصدور؟

والذي صار يشفط الوقائع والحقائق كما يشفط الثقب الأسود في خضم هيجان جاذبيّته الكواكب والشُهب والأجسام … جاذبيّة اطروحات الإرهاب، لأن الأقوياء صنعوا أسطورته لتبتلع الصغار والكبار، كل بحجمه ومستواه وفق الأهواء والمصالح. وصار أعتى المجرمين والقتلة، على اختلاف مواقعهم ينخرطون في عملية «مكافحة الإرهاب» التي لا يطالها الشك والمساءلة طالما هي تنعم بالرعاية الخاصة للمرضعة «الأعظم» للقوة والسيطرة في العالم وسائر المرضعات صغيرات وكبيرات (مرضعات الفقر والموت)، متحلّقات كالضباع الكاسرة حول المأدبة الكونيّة الضخمة.

وبشَبق الافتراس، الذي لا يترك للآخرين من ثرواتهم ومصائرهم إلا العظام والنفايات. تلك الشباك الجهنمية التي لا يفلت منها أحد مهما سعى وتذاكى، لا بد أن يسقط في متاهة (الميناتور) انها العولمة. وما يتجاوز بكثير، ذلك التحليل الماركسي اللينيني حول الامبريالية العليا، وأقصى مراحل الرأسمالية. العولمة، الغولة الكونيّة التي تلف القارات والآفاق والبلدان. من أقصى قرية بائسة في جزيرة العرب وعالمهم، إلى آخر قرية في غينيا بيساو وتشيلي أكثر بؤساً. الكل يدفع دمه وحياته ويرهن مصيره، أتاوة وجزية وجعالة، إلى غيلان العولمة التي تتواضع أمامها الأساطير والخرافات. لعل تلك المحاورة الحميمة المعبّرة للامبراطور العربي هارون الرشيد، وهو في قمة زهوه. متأملاً من شرفة قصره البغدادي ، غيمته العابرة «امطري حيث شئت فخراجك لي».. نبوءة على وجه من وجوه الهيمنة العولميّة الماثلة.

* * *

إذ كانت الدول والتكتلات السياسيّة والاقتصادية لها مصالحها الصماء أمام صوت الضحية. وتعرف أن استمرار وجودها يرتبط لا بد بتلك اللعبة الكونيّة (الكارتلات والتروستات) التي صنعها وصمّمها الكبار (أمريكا والغرب) بالدرجة الأولى. وهي عاجزة عن تصميم وصنع أي دوائر ومجالات حيويّة لوجودها ضمن العالم واستمرار هذا الوجود، خارج تلك (اللعبة) ومتاهة مسالكها وتشعباتها المدوّخة- فما هو مبرر (الأفراد) خاصة أهل الثقافة والفن. أي مبرر مهما كان واهياً يصمّ الآذان ويعمي القلوب عن سماع صوت الضحايا الذي يلجم الآفاق والكواكب بنحيبه الهادر الجريح؟

* * *

مضى ذلك الزمن الذي كان فيه السجال على أشدّه حول خطاب تبعيّة الأدبي للسياسي او طغيانه عليه، انتقل السّجال إلى مستوى آخر تماماً.. صار خطاب المذابح الذي يلبس (من غير حياء) لبوساً طائفياً متداخلاً تداخلاً عضوياً مع جَلبة (الميديا) بأفرعها ورؤوسها المتعددة، تعدد رؤوس (الهيدرا) في حكايات الاغريق…، إلا اذا اعتُبرت الغرائز السوداء الوحشيّة التي يغذيها تاريخ متوهّم وملفّق على هوى لحظة الانحدار الراهنة.. خطاباً تغذّيه القوى ذات المصلحة في استمرار تدمير المنطقة، فكأنما التاريخ العربي في برهته «المعاصرة» و«الحديثة» يمضي باندفاع القتلة القهقرى استطراداً وتصاعداً. فحين تبلغ مرحلة من مراحله ذروة تحللها يقول القائلون والشهود ها هو العد العكسي للتخلف والظلام والشرذمة، قد بدأ. إذ لا قعر ولا قرار أبعد من هذا الدَرك الذي وصلنا إليه. وإذا بالتاريخ أكثر مكراً من شهوده ومحلليه، إذ أن هناك أعماقا أكثر ظلاماً وغلظة وألماً نبلغها تباعاً متذكرين على نحو دنيوي، الآية الكريمة (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا).

فكأنما ذلك الجحيم الذي أنذر الله به الكفرة ومرتكبي المعاصي الكبيرة والجرائم، جحيم المآل والمصير والرمز، ينسحب على الراهن العربي… هل ثمة فرق في هذا السياق الملتبس المتفجّر بين الحقيقة والواقع وبين المجاز والرمز والخيال؟!

* * *

ماذا تعني الكتابة في بلاد الخليج العربي، بَذخ السلعة والاستعراض الذي يتساوى تحت قبّة مُطلقهِ، الأغنياء مالكو الثروات الماديّة، والفقراء الذين يكدسون ثروة الوهم والاستسلام لنهم الاستهلاك وقيمه وأنماط سلوكه؟

ميلاد الكائن المشوّه

رغم هذا الجو الاستثنائي الغائم في العاصمة العُمانية، أراني مأخوذاً بالتفكير في ظاهرة العنف والشر البشريّين التي أصابت الكثيرين بدوار الجحيم، هذه الفضاءات والحقول الشاسعة الممتدة في أصل الوجود وكائناته الحيوانيّة، البشريّة منذ «طفولة» البدء الموغلة في القدم.. أليس الوجود البشري على الأرض وفق الديانات التوحيديّة وُلد من أعماق خطيئة وصُلب قاتل؟!

هذا المنحى الدموي العنفي، مع الأسف، هو الأكثر أصالة وعمقاً في تاريخ الكائن السحيق وصفاته الكيانية، نزوعِه وسلوكه، وعيه ولا وعيه، من نزعة الخير والسلام المُقصاة والمحاربة، رغم التشدّق بشتى أنواع التنْظيرات والشعارات .. وهي مُقصاة ليس من الدول والتكتلات المصلحيّة الكبرى عبر حروب السلاح، الاقتصاد والسياسة والثقافة، وإنما حتى في الحياة اليوميّة بين الأفراد والجماعات بأشكال شتى، تبدأ بالحساسيات والمصالح الصغيرة لتنتهي أحياناً بالسلاح. خاصة في البلدان التي لا يحكمها الدستور والقانون بمؤسساتهما الحقيقية وليست الشكلية كما في أماكن كثيرة ضمنها البلاد العربية…

هذا الفضاء المشحون بالتناقضات والآلام والمجازر هو الملهم الأول للآداب والفنون، والفلسفة، أكثر من نقيضه بنسبة لا تستدعي مقاربة ولا قياساً من فرط شساعة الهاويات المليئة بالهوام والضحايا بينهما. في ضوء هذه الطروحات التي نجد مصداقيتها وتطبيقها الصارم شبه اليقيني في تاريخ البشر الطويل وسلوكه، أو في تاريخ الأدب والفن، يعجز الخيال الابداعي العربي مهما كانت طاقته وحيويته عن مقاربة المجازر الناطقة المباشرة، وتلك الصامتة الضمنيّة واللحاق حتى من مسافة ضوئية بقطار الدماء المُراقة في أرجاء هذه الأرض الثكلى.

* * *

أترك الدخول في التفاصيل التي هي ماثلة وناصعة، وأحدّق في الغيوم المتدافعة أمامي على غير العادة، في سماء مسقط، تلك الغيوم التي هي أحلامنا، وهي هباء الكائن وهو يتأمل شريط العمر الهارب، ولا يستطيع القبض على أي مفصل منه أو هنيهة راحةٍ وسلام..

أترك التفاصيل، بحر التفاصيل الهائج في الواقع والمخيلة السحيقين، وتهجم عليّ شذرات من السلوك الواقعي لأفراد مروا علينا في خضمّات الزمن المتقلب والحياة. ومن فرط إلحاح الشر والعنف المصلحي الإقصائي الصامت. الذي يستحوذ عليهم، يتطوّح الناظر من مسافة، أو ذاك المكتوي بنار شرهم وانحطاطهم ويرتبك في المقاربة والتساؤل بما يفوق ذلك التراث النظري الضخم، الذي قارب حدّ الاستقصاء والاستيعاب (النسبي طبعاً) لتلك الظواهر والأرواح الجهنميّة التي يموج بها تاريخ الكائن على هذه الأرض الهرمة..

هل الشر والعنف حتى عبر مظاهر الخبث الصغير.. إذ ثمة فرق رئيس بين الدهاء في المواقف التي تستدعي ذلك، وبين الخبث المراوغ الصغير.. على الأرض العربيّة الدامية يسود الأخير حتى في المجازر والإبادات الجماعيّة.. فأي دهاء لدى هذا النظام أو تلك الميليشيا، المدجّجة بكل أنواع الأسلحة الجويّة، البريّة والبحريّة، والتي تغذّت وتراكمت من أرزاق تلك البشريّة المدقعة الفقر، في إبادة شعب أعزل يطالب ببعض حقوق وكرامة، وأي شجاعة؟! ونفس هذه القوى تتفادى أي احتكاك أو اشتباك (غير لفظي) مع عدو حقيقي أذاقها الخزي والعار، تواجهه بمزيد من التنازل والتطمين، وهي التي رفعت بيارق القومية والمستقبل عالياً، وعلى مسافة عمرها المديد.

ما ينطبق على «الأنظمة» تلك، ينطبق بشكل ما، على الأفراد، أولئك المشبعين بالحقد الصغير وخبث الوضاعة، حتى من غير هدف مصلحي واضح محدّد أحياناً، حتى ليخال المتأمل في هذه الظاهرة المتشعّبة المترامية في هذه الساحة اليباب، انها إرث «جيني» مثل الكثير من الأمراض والأوبئة، التي تفترس الكائن جسداً، ومعنى، واقعاً وقيماً، وليس فقط مكتسبات البيئات الاجتماعية وقيمها الفاسدة السائدة.

أو أن هذه الظاهرة تُولد من جُماع هذه المنجزات الجينيّة والبيئيّة ليستوي الكائن، المسخ مواصلاً مسيرة الخراب الشامل الذي لا سقف له ولا قرار…

* * *

صـوت غـراب البيْن ينعقُ فـي أعمـاقه منذ ما قبل الولادة..

بين الأغشية التي يتخبط في أنحائها الجنينُ، يتناهى صدى الطائر السحيق، وهو يقرأ سورة الغياب القادم بين أوديةٍ نائيةٍ وجبال.. 

(للموضوع تتمة …)

صحراء الألم  والموت

أبرْقٌ هذا الذي يلمع في

الفضاءِ الموحش؟

أم ذئبٌ روّع القطا

قرب الغدير، فتطايرتْ

كوابيس أحلامه

في مهبّ الرياح؟

*  *  *

أحييك تحيّة الصباح اللكسمبوري، حيث تشرئب الحدائق والأشجار بأغصان وأعناق سماويّة. التماثيل تسرد رحلتها الطويلة من شغف المعرفة وبطش الحياة. بودلير يتحدث عن ضفاف موتى صاخبين في سطوع القمر والنبيذ. فاليري، يستوطن مقبرته البحريّة حيث لا عزاء للأحياء إلا بالتآخي والانحلال في حيوات الطبيعة الخالقة.

وحدَها عصافير الدوري والبط تترحّل بين الأزمان حُرة طليقة، تسرج القارات بنشيد سفرها الذي لا ينقطع.

صديقك أندريه بريتون، يفتح نافذته للصدفة كي تدخل منها امرأة أو موجة تعبر المحيط.

الأمير عبدالقادر الجزائري يتلو وصاياه على المقابر، المكتظة التي خلفتها حروب الأهل والغنيمة..

فيلة أفريقيّة وآسيويّة تتسكع بين أدغال الحديقة تحمل رعود طفولاتها تلك التي تصرمت من غير أمل في عودة ووئام. وَحْده، أندريه بريتون يصرخ وهو يمتطي أحد الفيلة «مزقوا كل تلك المواثيق التي وقّعناها في غياب الحلم».

لقد استفدت من بريتون أكثر من غيره، رفضه المطلق لحياة البؤس تحت أي ضغط واقعي وظرف.. الخيال والحلم ملاذ الفرد من بؤس الواقع والتاريخ. رغم اني لا أتخيل في أي ظرف ومرحلة ، بؤساً في باريس يقارب ولو على مسافة كبيرة، واقع البؤس العربي، حتى لو كانت تحت جحيم القصف النازي.. وكما كنت تردد للمتنبي..

(هَوِّن عَلى بَصَرٍ ما شَقَّ مَنظَرُهُ 

              فَإِنَّما يَقَظاتُ العَينِ كَالحُلُمِ)

معنا في بلاد العرب والعجم كل شيء يشق منظره، فأنت من البيت والعتبة، إلى كل التفاصيل والتضاريس، إذ لا جوهر هناك، تكابد مشقة النظر والنظرة والرؤية، المشقة والشقاق المريع.

في هذا المستنقع الهمجي كل شيء يدعو للمشقة والشقاق والانشقاق وكذلك البكاء المرير والضحك الهستيري القاتل أكثر من البكاء، إذ أن الدموع تظهر أحياناً وتشفى..

قادر بوبكري، اقتلعت جسدك، مثل كثيرين، من صحراء الجزائر ميمماً نحو باريس، عانقت أشباح الأسلاف الآفلين، من غير أمل ولا يأس، عدو الثنائيات أنت والاختزالات البلهاء. من نافذة الطائرة، حدقت في غيوم تلتف وتتلوى مثل أفاعٍ هائجة في فراغ السديم، في بركان المغيب: قلت هذه هي الأبدية التي تحدث عن غموضها الفلاسفة والأناجيل.

كم من الأزمنة انقرضت، وأنت تحرث المدينة أفكاراً ومكاناً كأنما تطارد حلماً هرب منذ ولادتك في الصحراء ولن يعود إلا بعد الرحيل الآخر والموت. كم من الوقت مضى، ثلاثون، خمسون عاماً، أنت ممتطيا حصانك الذي جمعت أشلاءه من قارعة الطرق لتمخر به ليلَ المدينة العصي، ونهارها. عاشرت الكتب أكثر من البشر وذهبت في نأي العزلة بعد أن شاهدت القطيع يوغل في انحداره المقيت، وتمثلت قول البحتري:

صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي 

            وَتَرَفَّعـتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ

لم تعد صحراؤك الأولى يا بوبكري، لأنك أغلقت بواباتها السبع، قذفت المفاتيح في أحشاء وعلٍ نَحره الأقدمون قرباناً لإله غامض.

صحراؤك يا قادر بوبكري مثل صحرائنا العربية، الربع الخالي، الذي تفوق مساحته الجغرافيّة مساحة فرنسا التي تسكنها، كما سكنتْها الحضارة العظيمة منذ البدايات الأولى لميلاد الحداثة أو الحداثات.. بادية الشام والعراق، رحلت مع سكانها الأصليين، ولم يتبق إلا رفات ذكريات للموتى والراحلين والأطلال. وتلك الأشكال والرسوم والتماثيل، التي تنحتها وتسفوها الرياح الرملية المتحوّلة على الدوام.

آه على الذين رحلوا قبل الأوان أو فيه، رحلوا في الأماكن المتشظية أو إلى رحاب الأبدية.

صحراؤك الجديدة تمخر عبابها بحصان هزيل، صُنع من عجلتين وغيمة، تدلف الطرق الملتوية بين الشاحنات العملاقة والقطارات.

تدلف الحانات والمكتبات ولا تتورع عن سرقة الكتب لأنها وُضعت بعد كدح طويل، لمن يقرأها وليس لمن يقتنيها كديكور من كماليات المنزل والاستقرار، ولا أصدقاء كي تذهب إلى بيوتهم ونواديهم، صادقت الشجر والحمام، جيوبك مليئة بالأرز والحبوب، كي لا تبقى في باريس حمامة جائعة.

ما حاجتك إلى البشر، فحين يأزف أوان رحيلك عن هذا العالم، يكون الأوان قد فات، وترحل باصقاً على هذا العالم، كما يعبر صاحبك (أبي قور) وتكون قد أنجزت مهماتك الرمزية في القتال الضاري، ضد الزمن والقدر وانحطاط التاريخ. سترحل مردداً أنشودة نصر مجيد:

(لقد عشنا حياة طيبة)..

وسيمضي في الموكب الملكي، اليمام وأطياف الشجر والعصافير وكذلك السناجب والمشردون مرددين بفرح لقد عاش بوبكري ورفاقه حياة طيبة.

لقد وصلت إلى خضمّ السبعينيّات وما زلت على نضارة وصحة جيدة. صلابة جذور الصحراء بشراً، حيواناً وأشجاراً تغالب حتفها وسط العواصف وتحولات الرمال الهائجة فأنت لا تعترف بالمرض كواقعة فيزيانيّة وتعزوه إلى الوهم.. هذا أيضاً جذر ينتمي إلى الصحراء الآفلة أو على وشك الأفول والهروب من عالم «الحداثة» الخلبيّة وانسان الاستهلاك والوهم والصورة. بسبب تلك الجذورالغوريّة أو بسبب الحرية والزهد ودراجتك الهوائية التي تعانق الموج  كل صباح!

لا تعترف بالمرض .. حين أتيت مرة إلى باريس للعلاج من دوخة تطوّح بي نحو الانهيار بين الحين والآخر، عبر صديقنا الدكتور خليل النعيمي. إذ لا سبيل للعلاج لأمثالنا في مدينة مثل باريس إلا عبر التأمين الصحي، أو عبر صديق:

قلت لي ان مرضك وهمٌ كبير وعليك أن تتحرر منه، ليس هناك إلا واقعة الولادة وواقعة الموت. وهذه الأخيرة علينا تأجيلها، ليس لأن هناك ما يستحق الحياة، كما عبر درويش.. وإنما هناك ما يضحكنا في هذه المسخرة المتقنة.

لكني أذكرك (بسيوران) الذي تسكع ردحاً من الزمن في الأماكن نفسها غنياً مترفاً وفقيراً، ضاحكاً وحزيناً، حين يقول «لا سبيل للحوار مع الألم الفيزيائي؟».

هل يمكن الحوار مع الألم الروحي وفداحته؟!

بالنسبة إليك هذه الوقائع والأمور جزء من فنطازيا المهزلة البشريّة.

الأرواح الهائمة في الأفق، أرواح الطيور وأطياف الفكر والغابرين بحفيف عبورهم السريع، هي الوقائع الأكثر واقعيّة وحقيقيّة..

أما أنا فما يرعبني  أو ما هو علامة رئيسية في هذه الخضمّات المتمادية، هو المرض، واقعة المرض القاصمة وليس الموت. أن تكون عاجزاً في هذا العالم الوحشي البشع فتلك هي المأساة والاختبار الوجودي الأقسى فنحن في الصحة والحركة والترحل الدائم مع ذلك نغرق في كآبات لا حصر لها. أخاف مفاجآت الجسد، حين يمضي في الخذلان مع تقدم العمر، لكنني على الأغلب أترك أمور تفاصيل الحياة اليومية تمضي في سياقها الاعتيادي وأكابد من أجل أن تمضي هكذا، محاولاً تجنب الوساوس الكثيرة وسلطتها، التي ترمي الواحد منا في هاوياتها البعيدة، والتي هي المرض والمعاناة المضنية عينها..

أخاف الموت والغياب الذي من غير عودة على من أحبّ، وأكاد أقع أحياناً في لجة ذلك الوسواس القهري. لكنني حين أرى أخاً أو عزيزاً وقد بلغ به العجز والألم مبلغاً قاتماً، أقول ان الموت تتمة منطقية إن كان من معنى للمنطق هنا، وأخلاقية ورحمة للروح والجسد إن صحت هذه الثنائية، وربما هي صحيحة بشكل غير جوهري. واذا استأنسنا بابن عربي الكبير، فوحدة الوجود لن نصل إليها إلا عبر المرور بهذه الثنائيات.. بعض الفلاسفة قال: إن الحياة مهزلة لا قيمة لها لو لم تُربط بواقعة الموت الخالدة والأزلية.

الحياة لا تكتسب أهميتها إلا في ضوء ذلك الغموض الميتافيزيقي لرحيل الكائن الحتمي والغياب.

أولئك الذين عرفناهم في الماضي لا نريد أن نلتقيهم بعد فراق طويل جداً، وقد أخذ الزمن والعمر والمعاناة تحفر ندوباً وأخاديد ووهناً في الوجه والجسد، انهم مرآة ذاتنا الغابرة والحاضرة. ان هذه اللحظة المحتشدة بالسنين هي الأكثر حزناً وقسوة، تلك القسوة البالغة التي يتركها تقادم الزمان، يحاول المغترب حين يكون في حضرة الوطن، وما يشبهه وتلك الوجوه التي تغيرت قسماتها، تروي حكايات الماضي، تلك المتعلقة بشقاء طفولة ريفية في ذلك الركن المنسي من العالم تحاول أن تخلق مرحاً وضحكاً منتزعاً من براثن الصخور المسنّنة والأيام. والمغترب بدوره يحاول أن يبدد احتشاد تلك اللحظة، كأن يندمج في جو المرح والذكريات، يراوغ وحش الأعماق والتغير والتصدّع الذي أصاب الروح والمكان.

حتى حدث الموت الماثل والحتمي دوماً هناك محاولة تبديده قصد التأجيل، بالتمويه على الذات والآخر.. منذ فترة رحل صديق، في الواقع الأصدقاء يرحلون تباعاً تاركيننا لوحشة جدار العالم ، والحكاية والذكرى….

حين ألتقي بصديق مشترك ننبري نبحث في الفقيد، عن مبررات موته السريع، آه كان لا يهتم بصحته يأكل الدسم ولا يمارس الرياضة، كان ينسى نفسه في السهر والأكل والشراب…. الخ

كمن يهذي أمام واقعة الموت والفقد، مثلما هذى واضطرب أيما اضطراب ذات دهر، بداية الهواجس والأسئلة البدئيّة الحائرة، جلجامش، أمام جثة صديقه أنكيدو. كأنما الزمن أمام حدث الموت غموضه ورعبه، لم يتقدم آلاف السنين علماً ومعرفة واكتشافات تحاول هتك الغوامض في أسرار الكون حياةً وموتاً.

ليس هناك من منقذ إلا الجمال حسب ديستوفيسكي، جمال المرأة، الجمال الجسدي، والروحي، الجمال الإلهي، جمال الطبيعة الخالقة والمخلوقة، جمال الشعر والأدب. الجمال، الجمال، هو الذي ينسينا ولو لهنيهة، سلطة القبح، والقتل التي تبسط هيمنتها على العالم.

*  *  *

نهار رمضاني مضجر… ومتى كان توالي الأيام في هذه الصحراء الكونيّة الموحشة، غير مضجر، على الأقل في رمضان، ثمة تحفز روحي منعش بانتظار الإفطار. الماء والتمر الذي ستكسر به صيام يومك الصيفي الطويل الحار. تتذكر آخر اليوم، تلك المقولة الرائعة «إطعام جائع خير من بناء مائة مكان للعبادة» وتقول لنفسك: ما بال القوم يتسابقون في دور العبادة الفخمة، حتى تزاحمت بكثرتها البلاد، مساجد وجوامع بالغة الكلفة والثراء، لكن لا أحد يبني جامعة أو مدرسة أو مستشفى؟!

مناخ شهر في العام يكسر أيامه وعاداته الرئيسية. كل الأديان تلتزم بفروض الصوم وسننه بطرائق وأنماط مختلفة. الأديان التوحيدية قواسمها مشتركة أكثر من الوثنيّة التي تصوم بطريقتها الخاصة. كأنما البشر قاطبة بحاجة الى هذه الوقفة مع الذات ليتذكروا إخوانهم الذين تسحقهم المحن والحروب..

في هذا اليوم أتجول في أركان المنزل وردهاته، أدخل صدفة غرفة العفش والحقائب. ثمة حشرة تتسلق الجدار، مواء قط ونباح كلب في الجوار، وفي الخارج تتكاثف سحب وغيوم تميل الى القتامة والسواد على غير العادة في مثل هذا الفصل. ثمة نُذر بإعصار قادم بدأت طلائعه من المحيط الهندي وبحر العرب حيث أُعلنت جزيرة سقطرى، جزيرة منكوبة، طلائعه تصل إلى المنطقة الجنوبية من عُمان بصلالة. حالة الطوارئ ترفع أعلامها المتدرّجة حتى تصل إلى الأحمر ومنطقة الخطر المخيف. مسقط والداخل الحجري بعيدان عن صلالة. ربما بمنأى عن مركز الإعصار وقوته، لكن ستصل تأثيراته على الأقل سحباً وأمطاراً تلطف لأيام حرارة الصيف الضاربة.

الحقائب في غرفتها بأحجام وألوان مختلفة، نائمة تحلم بالحركة والرحيل، بالطائرات والقطارات، بالمدن والمطارات التي يتجمع في صالات انتظارها المسافرون والغرباء من كل مكان في عالم البشر وبلدانه الكثيرة..

أخال الحقائب في غفوتها الرمضانية، تحلم وتحدّث بعضها أحاديث غامضة عن رحلات قادمة، تسكن فيها بلاد أخرى وترافق حقائب جديدة في الطرق المتشعبة قبل الوصول.

تنشط حركة أحلام الحقائب وترفس بعضها متدحرجة من رفوف الغرفة الى أرضيتها محدثة ارتطاماً صاخباً وفوضى هائلة، كأنما حركة طلائع الإعصار وتغطياته الإعلاميّة التي بلغت شأواً عالمياً صاخباً يفوق حجمه بكثير، أحدثت فيها رغبة ملتهبة بالرحيل والانفصال عن الرتابة والسكينة..

العاصفة المداريّة، التي توشك أن تتحول إعصاراً تترحّل في أرجاء الفضاءات والآفاق الشاسعة، عدواها تصل إلى الحقائب التي أخذت تحلم بقوة بالرحيل.

رجل يسكنُ في حقيبة

رجلاهُ مفارقُ الطرقات

في كل مفرقٍ سماء مكفهرة.

ذات مرة رأى نعاجاً في الأفق

فتذكر جدهُ

أوقد شمعةً في كهف

ظل يطوف حولها

قرناً بعد قرنٍ

حتى تصدع ظلُه

وفاضت أيامه بالدمع.

*  *  *

لم يبق أحد على أرض المسلمين والعرب خاصة إلا وزايد على القدس وفلسطين، العرب أو بالأحرى الأنظمة العربية منذ كارثة 1948، حيث فُتح هذا المزاد الكرنفالي الصاخب . الأنظمة كل الأنظمة من مشرقها وخليجها الذي سيكون حضوره لاحقاً، أقوى وأبرز إلى مضارب الأطلس الكبير. توزعت الأدوار والحصص كل حسب هاجسه الأمني والاجتماعي في بلده ومتطلباته، ونصيبه من هذه الكعكة المقدّسة ووفق الشعر والأدب الذي ينتظم في هذا السياق (معظمه رديء) لا يرقى إلى التعبير عن ألم خفيف في الأسنان أو صداع رأس عابر، فكيف عن قضيّة تراجيديّة كبيرة بهذا الحجم وهذا الاقتلاع والشتات المريعين.

لكنه كرنفال المصالح ومزاده في افتراس جسد الضحيّة الذي ما زال طرياً يتفجّر دماً وعويلاً وظل كذلك حتى مع تقادم السنين والعقود.

وحدها السلطة الإيرانيّة بثكنة شعاراتها وقيمها الأيديولوجية المتقنة والتي استوت بعد زمن ليس بقصير، استطاعت التفوق على أنظمة العرب في هذا المزاد اللاسياسي واللاأخلاقي.

قُمعت الشعوب الحالمة بالكرامة والإصلاح والحريّة ودمرت إمكانات التنمية تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» أي المعركة ضد الامبرياليّة الكونيّة وربيبتها الصهيونيّة.

وحين ينظر الناظر إلى ما يجري ويمور على أرض الوقائع والتاريخ، يحسب أن المعركة تجري وتحتدم في كوكب آخر، غير الكوكب الأرضي، وطبعاً غير القدس وفلسطين.

الكل تبنى مصيرياً ووجدانياً على نحو تمثيلي، هذا المزاد واندمج مع مزايديه وزبائنه الذين ضجت بهم بورصات السياسة المحليّة والعالميّة.. فلا نرى ونسمع ونشاهد إلا تلك المزايدات بترجيعاتها الجهنمية الباذخة الكذب والادعاء.

حتى الأفراد «المميزون» بالمعنى المادي الكبير المسروق حتماً، والفقر الروحي وصلت بهم المزايدة ليس إلى التبرعات المتبجّحة فحسب، بل أتبعوها بكتابة شعر ينضح بالثورية والفصاحة حد التطرف في التحرير والاستقلال، وإبادة الأعداء، إبادة لا رجعة فيها..

وحدهم أهل القدس وحدهم الفلسطينيون أو معظمهم، لم يكونوا طرفاً في هذا الكرنفال الذي تقمص روح المأساة واستعار شعار القضية العادلة، لأنهم يعيشون التاريخ والواقع في عمقه وقسوة تفاصيله اليومية، ويعيشون الأخطاء الكبيرة أيضا لأنهم في قلب المشهد العاصف وقلب الممارسة النضاليّة لاستعادة الحقوق المغتصبة، إذ من المستحيل تحقيق الأحلام والطموحات دفعة واحدة في ظل الانهيار العربي الشامل، عدا عند أصحاب البازار والمزايدات، منذ السقوط التاريخي المدوي لفلسطين والذي ساهمت فيه مساهمة حاسمة تلك الشعارات والمناورات والأكاذيب.

الرافعة العتيدة لشعار الحق والقضية العادلة، يتكرر بأوجه شتى في زماننا وربما كل الأزمنة والشعوب. المزايدات الكرنفالية التي تسِم هذه المرحلة أيضاً، هي قضية الإرهاب والتطرف، وهو واقع لا شك فيه، لكن بدل تحليل وتحديد جذور أسبابه وشروط الحياة البالغة القسوة والسحق التي ولّدته من حروب وقمع وإذلال، تعمد مرجعيات العالم الكبرى وتتبعها الصغرى، إلى تقديمه مفهوماً وكياناً جاهزاً كأنما نزل بمظلات أو بدونها من مجرات وكواكب أخرى على طريقة بعض الأفلام الهوليوودية التجارية (مارس أتاك) وما على نمطه المعهود، بعض كتاب العرب الأكثر سوءا وانعدام أمانة في البحث ومقاربة الحقائق من أسوأ المستشرقين، عزا الإرهاب وأرجعه إلى جذور الدين الإسلامي لا غيره ، وإلى مراجعه الأساسية من قرآن وحديث!

من هذا المنطلق تكتمل الرؤية العبثية الجاهزة لأهل الكرنفال والمزايدات، وتكون الوليمة المشؤومة في قلب المعايير في رفع شعار الحق الذي يراد به باطل…. الخ. إذ ينخرط في مفهوم محاربة الإرهاب أعتى المجرمين والفاسدين، فيختلط الحابل بالنابل، وتُسحق المدن والشعوب أكثر مما هي مسحوقة تحت آلة هذا المفهوم الغامض.

وكما ذهب المفكر ذو الأصل البلغاري (تودوروف): «الاستسلام للخوف كسلوك غرائزي، والتصدي للإرهاب على هذا النحو يتلبّس صورة الارهاب الأساسي…».

في المستوى العربي خاصة أضحت هناك حشود من الأوبئة والأمراض من شتى الأنواع المعروفة، وتلك التي لم يعرف اليها العقل البشري الطبي الخلاّق سبيل تشخيص وتسمية، أوبئة ليس أقلها الانفصام الأقصى، وفقدان السمات الفرديّة تحت سطوة مفهوم القطيع الجاهز الذي صاغه بإتقان خبراء التفاهة والكراهيات المتناحرة بما يفوق طافة بشر يقاتلون من أجل حد أدنى من عيش وحياة.

أسارع القول وكما أشرت في هذه العجالة كي لا يتَصَيّد المتصيّدون، أن الإرهاب واستباحة دم الآخر بسبب من دين أو عرق أو مذهب، أو بسبب من خلاف أيا كان نوعه ونوازعه، هو الجريمة عينها في كل العصور وخاصة في عصرنا المفعم بالعقل والاكتشافات والمفاهيم الديمقراطية في الغرب الأوروبي الأمريكي أكثر وعلى الخصوص تطبيقاً وسلوكاً في ضوء أوضاع ونظم البلدان الأخرى.. لكن البداهة العقليّة تذهب أبعد من سحق الآلة العسكريّة الضخمة والبالغة الدقة والتدمير وهي البداهة نفسها التي تذهب إلى أن الظلم المتطرف والاستباحة والفساد هو وقود الإرهاب والتطرف وحقله الخصيب.

*  *  *

أما ما كُتب في حقل الشعر والأدب حول المدينة أو المدن المحتلة والمنكوبة التي ستكون نموذجاً مبكراً لنكبة مدن وبلدان عربيّة أخرى، فيصل إلى أهرامات وجبال من التفاهة والسطحيّة والادعاء، حتى تقمصت فلسطين وأولى القبلتين خاصة، مقولة محمود درويش التي أضحت شهيرة في تاريخ الأدب (ارحمونا من هذا الحب، من هذا الشعر.. من الطفح المستنقعي الذي هو على النقيض الفظ، من نُبل القضية وجلال المآسي الكبرى التي يحفل بها التاريخ، والتاريخ العربي في هذا السياق وفي البرهة القائمة المتشظيّة التي نعيش).

تنويعات  على مأساة واحدة

أسئلة التجديد والتقليد، هذه الثنائية التي وصلت حدّ النمط والتكرار، معطوفة على ثنائيات طبعتْ مناخ الثقافة العربية عبر عقود من الزمن، متعاقبة مستمرة في دوران حلزوني لا ينتهي ولا يشفي غليل أسئلة المعرفة الحقيقية والثقافة، كالأصالة والحداثة وغيرها …الخ. 

إنها تشبه أسئلة الفكر النهضوي وأسئلة الحضارة والتقدم التي بدأت عربياً منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين المنصرمين ولم تصل إلى محطةٍ أو مطرحٍ يشهد تبلوراً عملياً وتطبيقياً في الواقع والتاريخ، ظلت الاسئلة والتنظيرات المحتشدة بمرجعياتها المختلفة بمسارها الحالم المُحقّ في جوهره، وظل التاريخ بوقائعه وانعطافاته الحادة القاسية، بمسار آخر يزداد قسوة وفظاظة.. في هذا الأفق الجهْم تتولد المفارقة المرة الساخرة لكنها الحقيقيّة كوْن أسئلة النهضة والتقدم والحضارة التي تمليها استحقاقاتُ العصر الحديث وشروطه تكرر نفسها في كل مرحلة ومفصلٍ حتى اللحظة الراهنة.

الأسئلة والأطروحات التي أصبحت من البداهة بمكان، وتعاقبت عليها السنون تعاود طرح نفسها -:

عودا على بدء في دنيا العرب التي حكمها الاستبداد والفساد والتخلف والظلام حتى وصلت إلى هذه اللحظة الكارثية التي تتشظى فيها المجتمعات العربية إلى طوائف وجماعات متحاربة بضراوة إبادية قلّ مثيلها. وإذ أترك هذا الجانب الكابوسي للأطروحات المختصة في هذا السياق، أشير إلى التقليد والتجديد في الجانب الأدبي وهو الجانب الذي شهد حيوية إبداعية على صعيد الإنجاز بمختلف الوجوه والأفرع من الشعر الذي اتسم بالتحرر من أسْر التقاليد وتقعيداتها الصارمة المؤطرة سلفاً، نحو فضاء البحث الجمالي الحر.

وفي هذا السياق يندرج السرد قصة ورواية وكذلك النقد، في تفاعل هذه الأقانيم مع ثقافة العصر وحداثاته المختلفة تبدع سياقها ومنجزها العربيين الخاصين. إذ ليس هذا الإبداع الحداثي في الأدب ظِلاً محضاً للآخر كما ادعى بعض دعاة التقليد المغلق.

ومع غض النظر عن عقم الكثير من السجالات حول التجديد والتقليد، أصاب الأول قدراً مقبولاً بمعايير  الثقافة العالمية في تحققه الإبداعي وتعبيره عن هوية الأماكن أو الأوطان العربية المنكوبة والمنفصلة عن مسارات حداثةِ العصر الشاملة اقتصادياً وصناعياً ومعيشياً، إلا في المظاهر والقشور. إنه تجديد حداثة انحصرت على الأغلب في السياق الأدبي والثقافي للنخب العربية ولم تخترق صميم المجتمعات وجهاز تصوّراتها وقناعاتها الجاهزة .

ولم تخترق البنيات المؤسسية الحديثة شكلاً والخاوية محتوى ومضموناً كونها مفصولة عن التطور الحقيقي لحداثة العصر وقيمه إلا في ما يدعم التسلط والهيمنة.

هكذا منذ عهود الاستقلال وتأسيس (الدولة الوطنية) ذات النزوع القومي التقدّمي على صعيد الإعلام والشعارات فحسب أما الواقع فيغلي بالنقيض الفظ والكاسح.

انفصال الأشكال الأدبية والتصورات الثقافية عن خط سيرها التقليدي وقِدامتها التي وصلت حدّ العقم والجمود، لم يُنجز بسهولة، إذ أن القدامة بتقاليدها وأنماطها بالغة الرسوخ والممانعة.

فقد تم هذا الاختراق وهذا الإنجاز عبر صراع طويل ما زال مستمراً على نحو ما في الذائقة العامة التي يستثمرها بعض الخاصة لتمرير أشكال وتصورات عفا عليها الزمن أمام نداء التجديد وإلحاحه كضرورة روحية واجتماعية . كونه يعبّر عن برهة العصر المحتدمة والمتطلبة لما يواكبها من أشكال تعبير وتفكير.

هذه المكابرة والممانعة للتجديد بقيت طويلاً في بلاد المشرق العربي من العراق وسورية ولبنان ومصر، حتى البلاد المغاربية لاحقاً.

تلك البلاد التي بدأت فيها أسئلة الحداثة والتجديد مطلع القرن المنصرم، فكيف بالنسبة لنا أبناء الخليج والجزيرة العربية التي كانت أكثر انكفاءً على إرثها السلفي المتعارف عليه منذ قرون. بهذا المنحى مقاومة التجديد ستزداد ضراوة ومنعة في استدعاء الإرث المتراكم من أشكال تعبيرية قارّة وراسخة في الذاكرة الجمعية. وليس الشعر المقفى والموزون بمواصفاته وقواعده المعروفة إلا العنوان الأبرز لحشد التبريرات والمتاريس في وجهِ الجديد الصادم، والذي لا يتردد مناوئوه عن قذفهِ بشتى أنواع التهم التي تتجاوز معايير الأدب والفن، إلى العمالة والتخريب والإلحاد، وثمة وقائع ماثلة شهدتها بلاد الخليج العربي في هذا السياق. 

وإذا كان الشعر الكلاسيكي الذي هو المؤشر الأبرز لذاكرة الجماعات العربية، شهد إنجازات إبداعية وجمالية في عصور مختلفة، تصل إلى مستوى العظمة والخلود أو تلامسهما. فاستدعاؤه لمقاومة التجديد والتحديث ليس استدعاء لوقائع وإنجازات في التاريخ والزمن وإنما لإدراجه في المقدس مثل الدين والوحي؛ المساس به مساس بهذا المقدس الذي يُسلخ من بشريته وتاريخيته ليدرج في العصْمة والقداسة المتعاليتين على الزمن والتاريخ. وإذا كانت قصيدة التفعيلة في خروجها على العمود الخليلي صادمة أُسيل حولها في تلك المرحلة سجال كثير ومتشعب معظمه من غير مردود أو ذي مردود ضئيل على المعرفةِ وإثرائها، فإن ما دُعي بقصيدة النثر التي ترافقت نشوء مع شعر التفعيلة ستكون مصيبتها أكبر في جرح الذائقة والتصور المحصّنين بسياج الرسوخ  الجماعي والعقائدي.

مقاومة التجديد في أشكال التعبير الأدبي والثقافي، عمّ فضاء الثقافة العربية بأكملها وبدرجات متفاوتة لكن كما أشرت، في بلدان الخليج العربي التي تسودها ثقافة نمطية ونبطية، من غير منازع ستكون أكثر شراسة وانغلاقاً، ومع تعاقب السنوات وتضافر الشروط الموضوعية لإفساح المجال ولو بصعوبة، وأمام هيمنة أنماط السلوك الاستهلاكي المفرط المعادي في العمق للثقافة وللقيم الجمالية والأخلاقية، يمكن القول أن ما تحقق في الجانب الأدبي الثقافي شيء مهم وذو معنى ودلالة.

أشرت في الأسطر الآنفة إلى أن أنماط التعبير الشعري من شعر كلاسيكي إلى تفعيلة ونثر ليس بمعيار القيمة الابداعية المطلقة صُعُداً من شكل لآخر. فمثل هذا الكلام لا قيمة له وهو هذر مجّاني وتعصب يشبه التعصب القدسي لكل ما هو قديم. وهناك كتابات يختنق الأفق من كثرتها . كُتبت على نمط التفعيلة والنثر خاوية من غير قيمة أدبية أو جمالية.

ما تقدم ليس إلا إشارة سريعة إلى مقاومة التقليد للتجديد وتمثلاته، في جوانبها المضيئة المشرقة التي يمليها التطور وحركة الزمن . وهذه المقاومة ليست في عصرنا الراهن فحسب وإنما كما تقول وقائع تاريخ الأدب وأحداثه موجودة في أطوار وحقب مختلفة.. 

* * *

الحروب أكثـر أوهام البشر وحشيّة وقذارة

الثقافة بالمعنى (النيتشوي)، تعني مجموع النشاطات الانسانية من بنى اجتماعية وإنتاجيّة، الى الفنون والآداب والفلسفة أي ما يوازي مفهوم الحضارة عند الفرنسيين..

العرب: أو هذه الأمة والشعوب التي تندرج ضمن هذه التسمية ـ المصطلح ـ لا تندرج راهنا ضمن أي مفهوم في  السياقات الحضارية الثقافية والمدنيّة إلا شكلياَ. وذلك الزخم من الأحلام و«المشاريع» التي عجّت بها أرض العرب منذ نهاية القرن التاسع عشر واستشهد في سبيلها خلقٌ كثير، وقدحت عقول ومخيلات خلاّقة زنادَ أدواتها المعرفية وأحلامها الطموحة إلى تجاوز حقبة الظلام والتخلف التي هيمنت عقوداً طويلة.

ليس هناك ما يشير الى ذلك حتى في حدوده الدنيا كتلك الموجودة في البلدان التي تقع خارج منظومة المركزيّة الاوروبية، الأمريكية في أمريكا اللاتينية أو الشرق الأقصى الآسيوي.

إنها فترة استثنائية واقعاً وخطاباً، عدا الخطاب التسويقي الإعلامي الذي لا يعمل إلا  على إخفاء واقع حقيقة البؤس الدمويّة الملتهبة بشتى أصناف الأوبئة والحروب والاستبداد ..

هذا على صعيد راهن العصر العربي «الحديث» أما ذلك الذي مرّت عليه الأزمان والعقود، فبلا شك يمكن (مفهمته)، أو مقاربته ضمن الأطر، المفاهيم والمعايير الحضارية الثقافية ففيلسوف صعب المراس مثل (فريدريك نيتشه) يعتبر ارستقراطية الحضارة العربية الاسلامية، واحدة من أعظم الارستقراطيات في التاريخ،  وتعبير أرستقراطيّة ينسجم مع مفهومه الثقافي للحضارة.

وكذلك (شبنجلر) الذي اعتبر تلك الحضارة العربية من كبريات الحضارات العشر وفق معاييره وتصنيفه للدورات الحضارية الكبرى التي تعاقبت على أرض البشر باختلاف الزمان والمكان.

هذا على عكس ما يروّج «الوعي» الانتقامي المهجوس بالإقصاء الأعمى والإبادات الرمزية التي تتوازى وتتداخل مع المؤامرات والحروب وشتى التصفيات المادية، البشرية والجغرافية في محاولة بائسة لتغيير ذاكرتها وقيمها ومعالمها.

وقبل مشروع الحضارة العربية الإسلامية، التي تناسلت إلى حضارات تحمل الصفة الأخيرة وإن تغيرت الأعراق مثل المغولية في مرحلتها الثانية، والعثمانية كمفصلين كبيرين، كانت أرض العرب تمور قبل فجرها الاسلامي بالأفكار والأديان، وأنماط الحياة المدنية الحضارية ضمن إطار دولة أو دول بمعايير ذلك الزمان.

وحتى إرث الحضارات القديمة. الكبرى تظل جداول خفية ورسوبات تتدفق في الوعي العربي ولا وعيه. من هنا تأتي قراءة مفكرين تاريخيين مثل جواد علي وغيره ممن لا يحمل وجهة «الآخر» تظل ضرورة ملحة، لدحض تلك «الكليشيهات» الساذجة المضجرة عن بداوة العرب ورفضهم للحضارة. فالبداوة والحضارة لا يمكن اختزالهما في هذه الثنائية المبسطة وهي ذات تركيب معرفي وتاريخي تحفل به مظانّ الكتب والنظريات الباحثة في العمق من وقائع التاريخ ودوراته، والمعرفة. أليست معظم حضارات العالم إن لم تكن جميعها، وُلدت من عصبيات قرابيّة وبدويّة، لتتكون وتستوي فتوةً وشباباً ومن ثم وهناً واضمحلالاً، لتحل محلها أخرى؟ .. (ابن خلدون) مؤسس هذا المجال الحيوي لنشوء الحضارات والعمران، وعن أولئك الفرسان ووجيف خيلهم فوق كثبان الرمال العاتية: (شهوتهم محو المكان).

وهي موجودة في تاريخ الأمم والشعوب على مستوى البشر قاطبة وإن بدرجات وأوجه مختلفة تناولها مفكرو التاريخ والحضارات والانثربولوجيون البعيدون عن عُقد الانتقام وتصفية الحساب. 

دعك من المفهوم (الدلوزي) عن الترحل البدوي في المعرفة والرؤى، في الجغرافيات المختلفة مكانياً وروحياً..

ربما مثل هذا الكلام يجد ضرورته الملحّة، أمام الخطاب العامي الشائع والذي يتبناه أيضا بعض أبناء هذه الأمة المنكوبة حيث العرب أصبحوا تاريخا وزمناً (الحيطة الواطية) حسب التعبير الشامي، قراهم ومُدنهم العريقة تباد تطهيراً عرقياً وفتكاً ومن غير أن يرتفع صوت يقارب حجم الكارثة.. وأصبحوا نهباً للفكر الرعاعي اللانقدي واللاتاريخي وطبعاً المجافي لأي موضوعيّة.. فهم بدو إرهابيون معادون للحضارة والمدنية… وتسود عبارات وتصورات مجافية للحد الأدنى من المنطق والأخلاق والإنسانية مثل «العرب السنة» وكأنما الشيعة، ضمن هذه القسمة ليسوا عرباً، وهم يتحدرون من قبائل وعشائر وحمولات، من أصول سلاليّة واحدة «وتعبيرات مثل السنة التكفيريين» و«الشيعة عملاء ايران» هذا الاختزال المريع جملة وتفصيلاً لتأسيس الذاكرة والقيم النقيظة لكينونة الأمم والشعوب.

ومثل هذه التعبيرات المنحطة التي روّجها دعاة الحروب والكراهيات، تلقى رواجاً في الإعلام العربي وكأنها مسلمات!! تلك الملايين التي لا تحصى، من البشر مقذوفة في صحراء العري الدموي  قتلا وتشريدا واقتلاعاً في مجزرة قل مثيلها في التاريخ «البربري» وفق المصطلح الأوروبي، تحصل الآن والهنا، في القرن الحادي والعشرين، قرن الحضارة القصوى والعلم والفنون، المعمار والموسيقى وثورة المعلومات العبقرية ومجلس الأمن والأمم المتحدة التي نظّر لها قبل عقود من تأسيسها الفيلسوف الألماني (عمانويل كانط) الذي يقول في كتابه المرجعي (ميتافيزيقيا الأخلاق): «شيئان يثيران الدهشة في أعماقي النجوم في السماء والأخلاق على الأرض»، لا نجوم إلا النجوم التي تضيء سماء المجزرة، كما تضيئها الكاميرات والمحطات الفضائية والأقمار الصناعية. ولا أخلاق إلا «أخلاق» البربرية الحديثة الأكثر فتكاً وإبادة وانحطاطا من البربريات التي عرفها الماضي القديم والوسيط.. هل تتذكر أوروبا الأمريكية الممسكة بأسباب القوة والحضارة الأساسية وبالديمقراطية والرفاه داخل بلدانها…

إن هناك خارج هذه البلدان والدول التي ما زالت منيعة بمؤسساتها وعلمها، ان هناك من يستحق الحياة والدعم الفعلي لا اللفظي ويستحق المنزل والديار التي توارثوها عن أسلافهم التي لم تنقطع سلالاتهم البدوية والحضارية وتستحق الكرامة والدولة الجامعة الرشيدة؟! 

طرح مثل هذه الأسئلة والهواجس ربما من السذاجة لكن لا بد من طرحها من فرط إلحاح الكوابيس والدم المُراق والاستباحة. وسياق الطرح إلى من يرفعون رايات حقوق الانسان وحريته وكرامته المادية والمعنويّة. وليسوا من هم خارج ذلك ممن القتل والاستباحة والاستبداد لُحمة نسيجهم وسُداه ..

في سياق هذه العجالة المكلومة، أتذكر أبا الطيب المتنبي «من يهن يسهل الهوانُ عليه…..» ولا أكمل البيت المأساوي، لأن الأمم العظيمة لاتفتأ تدافع عن كينونها، حياتها ووجودها حتى في أحلك الأوقات وأظلمها. عهد الانحطاط الطويل الذي خبرته أمم وشعوب زائل، والمستقبل النقيض تصنعه الأجيال القادمة، التي لا ينبغي أن نسقط يأسنا المطبق، على أحلامها ووجودها. وتذكر بمقولة (جوته) الشهيرة «رمادية هي النظرية يا صديقي وشجرة الحياة في اخضرار واغزرار». التي ينسبها البعض إلى مواطنه كارل ماركس، الذي استعارها من فرط التقدير والإعجاب..  

لا يمكن، لا قوّة الميديا ولا قوة السلاح المهيمنة، ولا الرواية الزائفة للتاريخ والوقائع التي يصنّعها ويتبناها نفر من خارج البلاد العربية وداخلها، أن تمحو ذاكرة هذه الأمة وقَبر أحلامها ونزوعها الى الحرية والاستقلال.

* * *

لا نعرف من خلال قراءة التاريخ العربي إلا نادراً، مثل هذا الانكشاف والانحلال على جميع الأصعدة، مثل ما هو عليه الحال في البرهة العربية الراهنة، عصابات ومليشيات مرتبطة ارتباطاً عضوياً بجهات أجنبية، تهزم جيوشاً. بُنيت عبر السنين من قوت هذه الشعوب المسكينة، المُذلة أيما إذلال، التي تنحل بدورها (الجيوش) إلى ميليشيات، وتسيطر على بلدان ومساحات واسعة من الأرض .. ميليشيات وعصابات طائفية كلها تدعي تمثيل الإسلام الذي يقف على النقيض منها، سواء تلك التي تزعم تمثيل الشيعة وولاية الفقيه أو تلك المتطرفة التي تحلم بعودة الخلافة المتوهّمة تقتل وتسحل وتبيد مثل أخواتها في الجهة المقابلة .. من الواضح أن القوة الأعظم وفلكها ضمنياً، لا تقف إلى جانب أحد بالمعنى الفعلي، وإن وقفت فلضمان ديمومة المذبحة، وليس إيثاراً وحباً، حتى يحين أوان ذبحها في مسلسل القسوة الطويل هذا، وتحارب الثانية حرباً إن لم تكن لطيفة فهي غير ساحقة كما عودت العالم في هذه المسرحية السوداء الدامية التي تدفع ثمنها الشعوب العربية وما تبقى لها من إنجازات إذا صّحت العبارة، بعد هذا التاريخ الطويل من المسار التدميري الاستبدادي للنخب الحاكمة التي احتلت الفضاء العام بالمطلق وكذلك الخاص حيث الرعب من قول كلمة حق عابرة ولو كانت بين أفراد العائلة الواحدة .. هذا ما آلت إليه «الدولة الوطنية» الجامعة المانعة التي أتت بعد رحيل الاستعمار بمعناه المباشر، وكانت الشعارات الصاخبة والموّارة بأحلام المستقبل والفردوس الموعود..

ليس أفظع وأكثر قسوة من هذه المسرحية الفجّة الوقحة بتمثيلها وإخراجها الرديء العاري من الموهبة، لكن النتائج كارثية والقادم أكثر فتكاً وانكشافاً، طائفيةً وانحطاطاً، حيث أمواج الفتن كقِطع الليل المظلم حسب قول شريف ..

وحيث جشع المسيطرين، في سدّ أي أفق فيه بعض الأمل والضوء لهذه الحشود المحرومة من كل شيء عدا نعمة التصفيق والولاء المطلق.

إننا أمام جردة الحساب المؤلمة والفاجعية لتاريخ ليست الرحمة من طبائعه ومساراته..

فحذار لأولئك الموهومين بالنصر الكاذب، فالذي ينتظر على منعطف الطريق ليس أقل من مجزرة خرافية تُولد ولادة رحمية من سابقاتها.

* * *

حين ينظر الواحد منا، إلى أحد أطفاله وقد اعترته وعكة زكام وحمّى يتذكر الملايين من أطفال سوريا واليمن والعراق وليبيا، وسائر البلاد المنكوبة، يرتجفون برداً وجوعاً وعطشاً ..وسط ذلك العراء الفاجر!

* * *

الأنظمة القمعية المستبدة التي يسيطر عليها الجشع والجهل والفساد، تُستفز من أي رأي صادق أو رؤية ناقدة..

لأن المرآة تكشف بالضرورة بشاعة الوجه الناظر فيها..

النفاق والمنافقون هم لُحمة هذا النسيج وسُداه 

حتى تقع الواقعة مثلما هي عليه في سورية والمشرق، طليعة المأساة العربية والتاريخ البشري عامة، والعراق الذي يتناثر أشلاءً، حطامَ أرواح وحياة وعمرانا، مثالاً لا حصْراً، 

والحبل على غارب المجزرة..

* * *

كتب «المغترب» إلى صاحبه :

وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه ؟

نازعتني إليه في الخلد نفسي ..

رد عليه المقيم :

كيف يستقيم هذا الهوى والحنين، والمواطن في وطنه لا يتحصل على حق قرد في حديقة حيوان كي لا أرتكب هفوة قاتلة وأقول، غابة 

أو حق حمارٍ في حظيرة..

* * *

الكتاب الأول

ربما من الصعب، أن يتذكر امرؤ، عاش في سوريّة فترة من عمره، في هذا الظرف أو الشرط الكارثي الذي تمر به تلك البلاد مغرقاً شعبها بكل أنواع الألم والفجيعة، حيث تضافر وتلاحم قتلة الداخل مع قتلة العالم أقوياؤه العتيدون وضعفاؤه التابعون، في التمزيق والتدمير. كأنما شرّ الأزمنة انفجر دفعةً واحدةً تجاه هذا البلد العريق. 

أقول من الصعب الكتابة بمعزل عن هذه الشروط الجارفة، كيف أستطيع استلال تفصيلٍ لذكرى صداقة، حب أو كتاب، في خضمّ هذا المشهد القيامي .. 

ذكرى كتاب سيكون بمثابة الكتاب الأول المنشور لي في سياق وضع ثقافي متشعب تحتضنه دمشق. ويتقاطع فيه السوري مع القادم من بلاد عربية، مشارقها ومغاربها، إذ أن المدينة وخاصة بعد الغزو الصهيوني الكاسح على بيروت عام 1982 وما ترتب عليه من نزوح جماعي لمثقفين وكتاب كانت العاصمة اللبنانية والحاضنة الفلسطينية لهم السُكنى والمآل ..

والكثير من أولئك قصدوا العاصمة السورية مما جعل الحركة ثقافياً، تمور بحيوية ونشاط أكثر من ذي قبل.

وإذا كنت قد بدأت الكتابة قبل وجودي في دمشق الذي بدأ في العام الأخير من سبعينيات القرن الماضي وقد كان أول إصدار لي مكانه دمشق ..

أتذكر حين هيأت الديوان للنشر، ذهبت مع الصديق الجزائري أمين الزاوي لناشر كان مقره في الصالحية. وحين لم تضبط الأمور، ذهبت بصحبة الصديق واسيني الأعرج إلى ناشر كان مقره قريباً من جامعة دمشق . كان اسمه أبو خالد على ما أذكر وكانت الدار تدعى (دار الجرمق).

وذات يوم أرسل لي أبو خالد صاحب الدار مجموعة نسخ في كرتون، وحيث أنّي لم أكن موجوداً في المنزل الواقع في ساحة (شمدين) بركن الدين، ترك الكرتون لدى جارنا البقال (أبو هائل) وحين عدت وجدت (أبوهائل) يخرج من البقالة ليناديني من الشارع قائلاً «والله لولا أنكم مش سورييّن وعزيزين عليّ ما كنت استلمت هذي الكرتونة ممكن يكون داخلها مصيبة وأروح في داهية بسببها» 

صدر الديوان بأخطاء مطبعية نتيجة لعدم خبرتي في تصحيح الكتب، ومن القطع الصغير. وقد صمم الغلاف الفنان (جليدان) كما صممت الذي يليه مباشرة في الصدور وليس الكتابة، (الجبل الأخضر) الفنانة (سحاب الراهب). وقد كنا نجلس معا ومع أصدقاء كُثر في مقهى (اللاتيرنا) و(مطعم الريّس) بالصالحية المفعمة بحركة الأصدقاء من مطلع الصباح حتى الليل.. وكذلك في (الفريدي) بشارع العابد قريباً من منزل بندر عبدالحميد الأرضي..

أتذكر في هذا السياق إبراهيم الجرادي الذي أصدر ديوانه ( رجل يستحم بامرأة) مصحوباً بالصور والكولاجات المثيرة، وقد أثار جدلاً في دمشق وصدمة في (الرقة) بلده الولادي.. وكذلك أسعد الجبوري وهاشم شفيق وجليل حيدر وكلهم سبقوني في النشر، وخليل صويلح الذي بدأ شاعراً وصحفياً وبعدها حمل شعره إلى الرواية واختار السُكنى في رحابها. وهناك رياض الصالح الحسين الذي ارتاحت روحُه العاصفة برحيله المبكّر، وطاهر رياض وعماد جنيدي ومحمد البخاري الموريتاني الذي كان يقرأ أكثر مما يكتب. وهو مفارق لجميع الذين عاشوا في دمشق التي لم يغادرها إلا إلى مثواه الأخير.. وأتذكر في ذلك الزمن سميح شقير وحسان عزت عبدالقادر الحصني، دعد حداد التي دفعتها معاناتها إلى الجنون (رأيتها ذات مرة تأتي إلى اللاتيرنا باصقةً في عبورها الهذياني السريع ) .. وغسان زقطان الذي انتقل من بيروت إلى دمشق، والقائمة تطول وتطول حتى المتاهة والمنفى والخراب..

كانت الشام ومن ثمة جارتها بيروت، جارتي القمر في خسوفه وإشعاعه الضاج البهي، منطلقاً للنشر وولوج الأجواء الثقافية، صداقة، كتابة وحياة. ومن بوابتهما دخلتُ العالم والمتاهة بالمعنى الجمالي على الأرجح..

بعد صدور كتابي الأول (نورسة الجنون) على عِلاّته الفنية الكثيرة، بحيث أني لو ألقيت عليه نظرة سريعة عبر هذه المسافة الزمنية الشاسعة بالألم والرعب والدماء، لوجدتُ فيه الكثير من الاسترسالات التي لا مبرر فنياً لها، وزوائد لفظية كثيرة. يبقى ذلك الدفْق الحماسي الذي يسم البدايات في الكتابة… كان المناخ الشعري بأسمائه وإنجازاته المختلفة الذي يهيمن على تلك البدايات، هو مناخ «بلاد الهلال الخصيب» وترجمات أهمها في الشعر ذاك المتسم بالنزوع السوريالي وشعراء الهاويات واللاوعي والجنون.. كان كتاب «أناشيد مالدرور» قد صدر مترجماً للتو من قبل اللبناني سمير الحاج شاهين، وظهر تأثيره أكثر في ديواني «أجراس القطيعة» الذي صدر في باريس.. وفي الفترة إياها قرأت رامبو ومركبَه السكران لأول مرة بترجمة الراحل الإسكندروني صدقي اسماعيل النوعية، ضمن كتاب من الحجم الكبير يحتوي على ترجماته الشعريّة المختلفة … أتذكر كنا نذهب إلى (رأس البسيط) مصطحباً هذا الكتاب، وعلى إيقاع الموج الدافق أقرأ مسكوناً بأطياف رامبو الشعريّة المنتشية بألمها، كشِفها وإشراقها، وبما يشبه القصف آتياً على علبه (الحمرا) واحدةً بعد أخرى … وكتبٌ على هذا السياق والمنوال. استُقبل الكتاب استقبالاً ايجابياً على الأغلب في الصحافة السورية والسفير اللبنانية وغيرها من الصحافة اللبنانية التي كان لها سطوة المرجع الثقافي بالنسبة لنا آنذاك.. ونقدَه البعض نقداً جدياً أو على نحو من طرافة، مثل مأخذ تأنيث النورس وهو قول لا يصح ضمن قواعد اللغة ومعطياتها ..! 

لم أعد أحتفظ بشيء مما كُتب لقد ضاع في الترحّل مثل الكثير غيره عدا هذا المقطع الذي كتبه الصديق إبراهيم الجرادي، ظهر فجأة بين أوراق هرِمة مُهملة كريش طائر منقرض ..

«سيف الرحبي يأتيك من جهة الخلاف، يتناقض معك، حين تتآلف مع السكون، ويتآلف معك حين تأخذك الحياة إلى مدارها الواسع، بعيداً عن الرخاوة والخطل. تختلف معه لا ضير! تتفق معه لا ضير! لأنه في الأساس لا يطمح في «الخلاف» أو «الاتفاق»، بالقدر الذي يريد أن يكون كما هو، شاعر يختلف عن الآخر في الأرق والهدأة، في الجنون والمأثرة، في الحب وفي لعنة الشعر، تلك التي تضيء الحياة التالفة بنورها العظيم. 

جاء من عُمان، وتلوث بالألم العربي اللذيذ! و»تصفى» ايضاً، بهذا الألم، الذي يتراكم في زمن عربي مغبر، نائم محبَط، لا ساعات فيه ولا دقائق!!

أي طموح تحمل هذه الكتابات؟ إن الرحبي لا يثقل عليك بشيء: التنظير أو «المثاقفة» «الجماهيرية» أو نقيضها. انه يكتب ليؤرخ ويحتج ويتشظى».

أما صديقنا ابو الوليد الناقد (يوسف سامي اليوسف) رحمه الله، الذي كنا نلتقي معه بشكل يومي فلم يعلق على التجربة. وقد كتب حول ديواني السادس (يد في آخر العالم) احتفاء وإعجاباً، من غير أن ينسى الإشارة إلى ذلك الشعر الذي كنا ننشره، في الإقامة الدمشقية في تلك الفترة، فلم يكن يستسيغه لإمعانه في الغموض والسورياليّة.والأرجح أن هذا الموقف ينطلق من تحفظه على قصيدة النثر الذي تجاوزه نسبياً فيما بعد. حيث يقول  

«(…) ثمة شاعر يكتب قصيدة النثر منذ عشرين سنة، أو اكثر بقليل. وهذا الشاعر هو سيف الرحبي، العماني الجنسية، والذي عاش في مصر وسورية مدة طويلة من الزمن. ولقد نشر الكثير منذ عام 1980، حين أصدر في دمشق أولى مجموعاته الشعرية بعنوان «نورسة الجنون»، وحتى العام المنصرم، أقصد عام 1998، يوم أصدر مجموعة جديدة، نشرتها دار المدى في دمشق ايضا، وعنوانها «يد في آخر العالم» والجدير بالتنويه انه قد اختار عددا من قصائده، فنشرتها له دار شرقيات في القاهرة تحت هذا العنوان: «معجم الجحيم» وفي تقديري أن هذه المجموعة هي خلاصة تجربته الشعرية السابقة على ظهورها، أقصد خلاصة مجموعاته الست التي ظهرت قبل هذه المختارات.

وعلى أية حال، دعني أصرح بأنني قلما استسغت شعر سيف الرحبي، لأنه شديد الميل إلى السريالية الغامضة، ولأنه مغرق في التجريد الناشف أو غير الموحي، اذ يكاد لا يؤشر إلى معنى خصيب أو يشف عن فحوى عميق، اللهم إلا أن يكون ذلك لماما وحسب.

فالشعر ما لم يكن موحيا شفافا محتقبا للروحاني والحميم أو الدافئ، فانه لا يستحق أن يصنف في صنف الكتابة على الإطلاق.

ولكن المجموعة الأخيرة، أي «يد في آخر العالم»، لها شأن آخر، فهي شفافة في كثير من الاحيان، وتتمتع بأسلوب سلس جذاب من شأنه أن يجعل اللغة برسم الذائقة (…)»

وبما أن كتاب (الجبل الأخضر) سابق في الكتابة على ( نورسة الجنون) الذي كان له أولوية الصدور بمحض الصدفة، فقد كتبتُ في استهلاله هذه الإشارات :

«هذه الكتابات الشعرية القصصية، هي التجربة الكتابية الأولى، ورغم الوصول إلى فهم جديد لطرائق التعبير، كما بدأت ملامحه الأولى في (نورسة الجنون)، وستتضح أكثر في المجموعة القادمة (أميرة الينابيع ذات الأحداق الوثنية)، تظل هذه الكتابات مؤشراً لفترة من التوتر الذهني الذي ما زال يسود، ولا يعني ذلك أنها مفصولة عن السياق الكتابي الآخر من حيث التوجه العام في الكثير منها إلا كونها اضطرابات بدء يستمر حتى تخوم الانتحار في أحشاء اللغة لصالح قصيدة لن تكتب إلا بحبر الموت (ربما) ولا يعني هذا التوضيح طلب شهادة حسن سلوك من أحد بقدر ما يعنيه التشنيع».

أُعاود القول أنه من الصعب استلال ذكرى ربما لا قيمة لها في غمرة هذا المشهد القيامي الذي تمر به بلاد الشام التي غمرتنا بكرم مثقفيها وشعبها، رغم انني أعيش خارج ذلك المشهد بعيداً عن ويلاته المباشرة لكنني وأصدقاء كُثر معبّئين بفظاعاتهِ التي تشهد على عار الإنسان، العربي خاصةً، وتشهد على موت الضمير ..

وكلنا أمل أن تستعيد تلك البلاد حياتها بعيدا عن قتلة الاستبداد والتطرف والوحشية الطائفية، أعداء الحياة والجمال في الداخل والخارج ..

* المقطع الأول قُدّم إلى ندوة مجلة (عالم الفكر) في الكويت عبر محور يحمل عنوان (التقليد والتجديد).

** «الكتاب الأول» كتبت بإيعاز من جريدة (الأخبار) اللبنانية عبر الصفحة التي تحمل نفس العنوان ويشرف عليها الشاعر حسين بن حمزة.

آخر العام..

المشهد في شتاتهِ وانهياره وموتِه..

«ما زلت أنحني أمام برتولوتشي وأنا أفعل ذلك منذ أول فيلم «ما قبل الثورة» عام 1964، ولطالما رغبتُ بعمل مثل هذا الفيلم. وقد فهمت في أكثر من مناسبة بأنني لن أنجح أبدًا في مقارنة معه. فأنا دائما ما قبلت بهذا المخرج بوصفه جزءا من التراث الكبير للفن الايطالي».

مارتن سكورسيزي

أتذكر كنت في رحلة طلابية من القاهرة الى اسبانيا التي طفنا مدُنها, حتى استقر بنا المقام الأخير في العاصمة (مدريد) كانت الرحلة خليطاً من طلبة ينتمي معظمهم الى الخليج والجزيرة العربيّة… وكنتُ في الفترة التي سبقت الرحلة، قد قرأت كثيراً عن (جمعية الفيلم) و(نادي السينما) عبر نشرتهما وكتّابهما، مثل رؤوف توفيق وسامي السلموني وشريف رزق الله… الخ، عن فيلم برناردو برتولوتشي «التانجو الأخير في باريس» وما أثاره من جدل في السينما والثقافة الأوروبيّة. ولأن الفيلم من الصعب أو المستحيل عرضه في القاهرة حتى في جمعية الفيلم، إن لم تُقتطع مشاهد منه كالعادة… حين رأيت بوسترات الفيلم على الواجهات المدريديّة.. أخبرت بعض الزملاء والزميلات، عن أهمية الفيلم ورمزيته العميقة التي تحدث عنها النقاد في مختلف بلدان العالم، وترجمها النقاد المصريون العتيدون في الفن السينمائي العالمي… ذهبنا مجموعة من الزملاء والزميلات الى دار السينما التي تعرض الفيلم المثير والصادم. لقطات ومشاهد وكادرات تتوالى بغموض على الأرجح، قياساً بما شاهدنا قبلا من أفلام عربيّة أو أوروبيّة، حتى تلك الموسومة بطابع الثقافة والمبادئ الثورية الهادفة حسب رطانة تلك المرحلة. لم يمض وقت طويل حتى شاهدنا بعض الزميلات ينسحبن مهمهمات بكلمات مثل: خدش الحياء ولا أخلاقية الفيلم وانحرافه….

بالفعل كان الفيلم صادماً للذوق والحياء التقليديين حتى لمن هم أكثر وعياً من الزميلات اللواتي ذهبن مثل غيرهن في طيّ الغياب والنسيان. خاصة مشهد (الزبدة الفرنسية) على أرضية الغرفة الغاربة والمعزولة كأنما في صَقع ناءٍ وليس في قلب حاضرة أوروبيّة.

بين (مارلون براندو) وكان في عمر الثامنة والأربعين وبين الفرنسية (ماري شنايدر) وهي بالكاد في مطلع العشرينيات… كان صادماً ومدهشاً على نحو مفارق وغريب غرابة الإبداع الكبير وهو يتجاوز صانعيه إخراجاً وتمثيلاً، الى آفاقٍ شاسعة من الحريّة والخيال.

كل مسار هذه الدراما الاستثنائيّة التي شاهدتها لاحقاً أكثر من مرة، يندرج في هذا السياق من مشهد الاستهلال حيث نرى (بول) مارلون براندو، تحت سكة قطار في المدينة الكبيرة وهو يسدّ أذنيه، صارخاً في بريّة المدينة الصاخبة المتوحشة، مدينة المال والأعمال واللهاث.

المتمرّد المهزوم في تمرده وثورته يعبر بالصراخ من فرط ألم العزلة والهزيمة، ما يلبث أن يدخل بصمت حزين الى شقة مهجورة، حيث اللون الأصفر هو المهيمن، وكأنما قذف خارج الزمان والمكان، حيث يلتقي بالصبيّة (ماري سنايدر)، وتبدأ سيرة الفيلم، بكلام قليل أو لا كلام وحيوانيّة كاسرة. من مشهد الافتتاح الى مشهد الختام حيث أحداث فيلم المكان الواحد، بتمظهراتها وهذياناتها المختلفة، وحتى المشهد الأخير إذ تقوم الصَبيّة، ذات الجمال الفائق والبراءة الفاجرة، بقتل (بول) في شرفة الشقة ليتطلع الى المدينة وهو يترنح في خروجهما الأول ربما من تلك الشقة، أو الصَقعْ المهجور ، إلا من حيوانيّة الجنس وأشباح الموت والغياب، في خروجهما الى ضوء العالم، ليسقط مضرجاً بدمه وانكساره.

توالت أفلام برتولوتشي الملحميّة التي تحاول القبض على لحظات التحول الكبرى في النفس البشرية وفي التاريخ (1900) أو القرن العشرين.

«الامبراطور الأخير» تراجيديا آخر امبراطور في الصين لحظة إطباق الشيوعيّة الماويّة على سُدّة السلطة والمجتمع؛ وغيره من الأفلام التي يحفظها تاريخ الفن الرفيع جيداً، مثلما حفظ تاريخ إبداعات أسلافه الكبار. روسليني ديسيكا، بازوليني، انطونيونيتي، فيلليني….الخ.

ومثل أي مخرج كبير، يكثر الجدل والرؤى المتناقضة حول صنيعه السينمائي المديد. لكن ذلك الرأي العجيب حول «التانجو الأخير في باريس» وفيلمه الآخر «الملتزم» الذي مثله الفرنسي (جان لوي يرينتينيان) كمثال على أن برتولوتشي، يذهب الى أن «عذرية الطهارة الأوروبية» دائما يكسرها ويهشمها الرجل الأمريكي. أي أن هناك هذه الثنائية: العذريّة الأوروبيّة، وساحقها الأمريكي. غريب هذا الرأي، ففيلم «التانجو» ليس الهويّات وتصادمها، وإنما على العكس تماماً ، حيث خراب الروح المتشظّية، وانخلاع الاسم والهويّة، والمكان والزمان. فيلم تدميري في عدميّته النافية لكل ثوابت الوجود والهويات والتاريخ.. من ناحية أخرى متى كان الأمريكي، على هذا النحو من المانويّة الهويّاتيّة تجاه الأوروبي سواء في الإنجاز الحضاري العظيم، أو في إبادة الآخر المختلف برهة الكشوف أو«الفتوحات» الجغرافيّة. تلك الظاهرة «الغربويّة» كما سماها فيلسوف روسي. ذلك الأصل المشترك لهويّة العرق والحضارة في أطوارها المختلفة. إذ أن الأمريكية ليست إلا طور أعلى ربما، لمسار الحضارة الأوروبيّة؟!

رحيل برناردو برتولوتشي عن عالمنا هو رحيل آخر الكبار في السلالة الإيطالية والعالميّة التي أبدعت ذلك الفن العصي على السقوط أمام اختبار الزمن وصروفه المتقلبّة، وربما الخلود.

*  *  *

 إذا كان الكرنفال البدائي يتسم من بين صفات أخرى، بفوضى الحريّة الجامحة غريزياً وجمالياً وبأقنعته الحيوانية المختلفة وبحشد من الأشكال والألوان الباهرة كعيد من أعياد الأقوام الآفلة- فكرنفال صانعي الحضارة وساكنتها من الأحفاد، يختلف في انضباطه الشديد ودقته العلميّة المحكمة. بالأرقام والأزرار الالكترونيّة وغيرها، لكن تبقى تلك الأواصر الخفيّة في امتداد اللاوعي الجمعي موجودة بطرق أخرى في حشْد الأقنعة والألوان والأضواء الصناعيّة هذه المرة..

احتفلت باريس والعالم المتحضر بذكرى الحرب الأولى. السادة يتربعون على منصات القوة والهيمنة والانتصار الأكيد, عبر هذه المسافة التي تفصل بين السنين المتراكمة…

في الاحتفالية الكرنفالية الضخمة، التي أقيمت في باريس لمائة عام على انقضاء الحرب العالمية الأولى التي تلتها الثانية بشكل أكثر اتساعاً ووحشية وفتكاً بحكم تطور أدوات القتل والإبادة والخراب. وهذه الأخيرة ليست ضد امبراطورية هيمنت قروناً طويلة، وشارفت في الفترة إياها على طور الاحتصار (العثمانيّة) أمام قوى الحضارة الغربية الصاعدة بقوة للإمساك بزمام المصائر والتاريخ وإنما بين قوى الحضارة الغربية الديمقراطية نفسها أو ما يطلق عليه ببلدان العالم الحر..

لذلك فالاحتفاليّة المئوية، بأبعادها الرمزية الكبيرة ، حيث اندحار الشرق أمام الغرب ، الذي التأم لاحقا في ضفتيْ الأطلسي واحتشدت الهيمنة المطلقة على مصير العالم والتاريخ، رغم المحطة السوفييتية المنافسة عسكرياً على الأرجح والتي سرعان ما اضمحلت أمام عتوّ دهاة التاريخ وأباطرته حيث شهد العقل البشري بكافة أطواره وأبعاده، (الغربي على الخصوص) تطوراً هائلاً. تجسد في قفزات نوعيّة، في الاكتشافات العلمية والاختراعات التي وسمت عقلاً وأفقاً من غير حدود ولا ضفاف. بداهة مال هذا النشاط والحيويّة الخلاقّين ، جهة منظومة الهيمنة والقوة والسطوة والشر، بفرعيها، القوة التكنولوجيّة العسكرية الكاسحة في تفوقها، أو القوى الناعمة التي لا تعوزها ولا تنقصها أسباب الهيمنة شبه المطلقة على أنماط سلوك العالم، ذوقاً وملبسا وفناً وأدباً وكل التفاصيل التي تدخل في فضاء هيمنة المعايير الغربيّة التي شكلت مرجعيّة كونيّة لا يُفل عضُدها من قبل أعدائها إن وُجدوا على نحو نديّ.

قبل عقود استطاعت قوى الرأسمالية وشركاتها العابرة والعملاقة أن توحّد العالم تحت راية هيمنتها المرئيّة والخفية. وفي العقد الأخير اندفع قطار التاريخ الجامح والمسعور ، الى مراحل (العولمة) لتطبق أكثر على حياة البشر ومسار الوقائع والتاريخ وكأنما تشهد أطوار التاريخ وحقبه فصول ثباته وهيمنته الأخيرة. لولا ما يشوب هذه النظرة من لاهوتيّة لا تنطبق على السياق الأرضي البشري الذي من طبيعته الجوهريّة التغير والتصدّع ، الهدم والبناء… الخ.

انجازات عظيمة وعبقريّة، تلك التي حققها بوتيرة فلكية العقل الكوني بقيادة الحضارة الغربيّة التي لا تفتأ ترتاد قفار المجهول والغامض، اكتشافاً ومعرفة واستثماراً، لا يوازيه ويقاربه إلا ذلك الانفجار القيامي للفروقات الطبقيّة والعرقيّة والمعرفيّة، هذه الأخيرة محتكرة من  قبل الحضارة، المهيمنة الغالبة ولا تفيض عنها على الآخرين إلا الفتات.. لا يوازي تلك الانجازات العظيمة إلا الخراب والحروب الوحشية والنهب المنهجي لثروات البلدان المستضعَفة، الإفقار والإذلال حيث كرست واخترعت بلدان الحضارات الديمقراطية والقانونية والحقوقية أنظمة للبلدان التي تقع خارج نطاقها أنظمة أساس تكوينها الفساد والاستبداد المتطرف والقمع والإذلال على مسار الألفية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أنظمة وسيطة كمبرادوريّة تخدم مراكز الحضارة والهيمنة وتسحق شعوبها .. أنظمة لا تعرف من معاني الدولة الحديثة، إلا أدوات القمع والتنكيل المستوردة مثل غيرها من لوازم الحياة الضرورية من المراكز المنتجة إياها.

مقام هذا الحديث يطول ويتشعب الى غير نهاية، لكن في هذه الأسطر، تحاول القول أن المتحضرين الديمقراطيين لم يتوقفوا لحظة في احتفالاتهم الكرنفالية المشعة المبتهجة التي شاهدها العالم أجمع، المسحوق والمفتون بساحقيه ومدمري تاريخه وانسانيته قبل غيره.. لم يتوقفوا وهم في ذروة الزهو البطولي والنصر، في ذروة صيرورة القوة القطبية الواحدة، حول ما جنت أيادي وعقول تلك الحضارة على الشعوب الأخرى من إبادة واستباحة وتصدير للأوبئة والحروب والكراهيات.

في ضوء ذلك يبقى خطاب الديمقراطية والمساواة والعدالة في الأرض الاحتفالية، محاربة الإرهاب، السلام على كل ربوع العالم …. الخ، مجرد لغط وتكرار ممل واستعراض.

من فحوى الأسطر السالفة وأنا أشاهد الصف الأول في الكرنفال الماسي المضاعف، حيث الملك محمد السادس يجلس بجانب رئيس الدولة الأقوى في العالم، وهو لا شك تقدير من الرئيس (ماكرون) ومنظمي الكرنفال وقد أخذت الملك المغربي سِنة من نوم ، رغم كل ذلك الصخب والهرج والمرح كما يقال…

أثارت غفوة الملك تعليقات كثيرة، لكن أرى أنها صدفة حلت في سياق منطقي وأخلاقي أمام زَبد الكلام عن السلام وهذَر الخطاب…

*  *  *

(فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لمؤلفه محمد بن خلف بن المرزبان المحوّلي لأنه كان يسكن باب المحوّل ببغداد في ذلك الزمان 309 للهجرة الموافق 921 للميلاد…

واذا كان معروفاً في الأدب والقص الحكائي ذلك الوفاء الذي يتميز به الكلب عن سائر مخلوقات الله، فان هذه العجالة لا تبغي بحثا في هذا السياق بل إطلالة على مشهد الاعلام العالمي ومراحيضه واخطبوطاته المجنّحة بقوة التكنولوجيا، وهي  تطبق على عنق العالم وقلبه وعقله محيلةً إيّاه الى أنقاض نفايات ومكبّ مزابل.

الأخطبوط الكوني الذي لا يقيم أدنى وزن لانسان أو قيم، لمهنية صار  لها تقاليدها ، لا يقيم وزنا إلا لمصالحه الضاربة بضراوة الجشع الجحيمي الذي يقول دوماً، هل من مزيد.. هكذا من إعلام الحضارة الممسكة بمصير الكون والبشر والحيوان ، الى البلدان الأخرى التي قذفت نفسها أو قُذف بها أو رماها التاريخ الى هوامش مستنقعيّة تنتج المادة الخام لاستمرار قوة تلك الحضارة وترفها… من الطبيعي أن يكون إعلام دول الحضارة حين يتعلق بأوضاعها الداخليّة يكون السجال المثري والتعدد والاجتهادات لمقاربة الوقائع والحقائق. لكن حين يتعلق الأمر ببلدان الهوامش والمستنقعات، يكون العكس على طول الخط، فيمكن لحدث صغير في الفحوى والدلالة أن يطغى على مجازر وإبادات، ضحاياها بالملايين وحبْل المجازر على غاربها المفتوح على ما هو أكثر رعبا وفظاعة. إعلام دول الضحايا والمنكوبين في كل أنحاء العالم تقريباً، ليس إلا الصدى الباهت لانعكاس تلك الآلة الاعلامية الاخطبوطية لدول الحضارات ، إلا مزيداً من التدليس والكذب والزعبرة التي تحوز فيها بلدان الانحطاط الشامل السبق والابتكار.

مشهد العهر والفجور أصبح في ذروة ازدهاره مقابل صحراء العربي الدامية وجلبة صراخ الضحايا والبلاد المدمّرة الذي لا يسمع صوتها الخاص وإن سُمع فيتحول من مجراه التراجيدي ، الى تسلية مثيرة أو باتجاه خدمة المصالح التي تسببت أو ساهمت في صنيع قيامة الألم والدم..

ليس أكثر فجوراً مما نشاهد ونسمع ونرى في البرهة الراهنة، في انعكاسها العربي خاصة.

(أفضل الكلاب على من لبس الثياب) وأي ثياب يلبسها ملوك ميديا هذا الزمن من الترف والبريق واللمعان الاستعراضي لأقصى الموضات وهم يتلون ليل نهار ، أنباءَ الكوارث والدماء والانهيارات الوحشيّة.

أي ثياب وأزياء لا يتخيّلها محمد ابن المزربان ولا كلابه ذات الوفاء النادر والقيم الرفيعة، كما ورد في حكاياته المشوقة وأشعاره الطريفة الدالة.

وروي عن بعضهم انه قال:

«الناس في هذا الزمان خنازير، فاذا رأيتم كلباً فتمسكوا به فانه خير من أناس هذا الزمان»..

قال الشاعر:

«أشددْ يديك بكلب إن ظفرت به

فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا»

يقيناً حتى الخنازير تستنكف عن الوصف والتشبيه.

*  *  *

كان يمكن القول بسهولة ان الحياة العربية، السياسيّة خاصة (سيرك) ببهلواناته ومهرجيه وأقزامه وعمالقته الوهميّين، الكل يؤدي وصلته ودوره حسب السيناريو الموضوع سلفاً لمهرجان هذا السيرك الجماعي. وإذا سَلمنا بهذه الاستعارة، سيرك الحياة العربيّة الراهنة، نسارع القول بأن أوضاع العرب الماثلة ليست مدعاة للكوميديا والضحك البهلواني، بقدر ما هي منذورة بقدر التراجيديات والمآسي، الأكثر عتواً وألماً، الى البكاء والنحيب. إلا إذا مضينا مع (صموئيل بيكت) بأن ليس هناك مدعاة للضحك مثل الشقاء أو المتنبئ، ولكنه ضحك كالبكاء…

لتمضي المقاربات والتعريفات والمفاهيم، في سياق سُبلها المتشعّبة، ونمضي نحن في الراهن العربي الذي لايشبه إلا نفسه وعصور الانحطاط المظلمة، حيث الدموع الدامية، مع ضحكات المواخير وفجورها. وناطحات البذخ القاهر تضرب أبنيتها ومخططات إعمارها وسط مضارب المجازر والمذابح والحطام، الذي تتصاعد من أنقاضه صرخات الأطفال والنسوة الذين ما زالوا عالقين وسط الأبنية المهدّمة، على آخر نبض لحياة قضت في انتظار بزوغ الأمل المولود ميتاً والخراب العميم..

سيرك وماخور، سلخانة وألم أقصى وضحك دموي هستيري في هذا الفضاء العربي المشرع على فصول الجحيم وأعاصير الصحراء.

عرّافة الأحوال والأزمنة المتقلبة، ترى الأطفال عالقين في أرحام الأمهات. أجيال الأطفال القادمين، متجمدين على حافة ظلام الرحم، وضوء العالم الخارجي المكفهر مثل صرخة هائلة توشك على الانفجار.

ترى التيه والظلم والدم في كل زاوية ومكان، وتلك الارتدادات الطوفانية التي تحصل بعد الزلازل واستفحال الفوضى والتدمير. لتكنس قذارة البشر في هذا الكون الفسيح .. ترى كل شيء ولاترى شيئا في لحظة الغيبوبة والزوغان، من فرط أثقال العذاب المتجدّد وحمولات الانهيار.

*  *  *

الحياة العربيّة تشبه ذلك الوعل الجريح، وحيداً في سهْله المحترق تتلاطم حَوله أمواجُ السراب؛ أو تلك الشجرة اليتيمة على حافة الصحراء التي تحلم بالخضرة والنماء، فاذا بتحولات الرمال الساحقة تحيلها الى عريٍ ويباب..

*  *  *

صيف الجزيرة العربية بدأ بعتاده الثقيل وأشباحه، في الزحف جيشاً مغولياً لا يترك من القرى والبلدات غير أسمائها وأجسادٍ أثخنتها الأسنّة والغياب..

أين المنتأى والمفر؟! كما يقول النابغة الذبياني:

(فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ)

*  *  *

المُدن التي صنعها خيال الرحّالة والشعراء ، هي الأجمل والأبهى، من مُدن الوقائع والتاريخ، المدن بأقواسها وأنهارها ونسائها الباسقات، ملفّعات بالشفافية والضباب.. تلك المدن اللامرئية.

*  *  *

الزعامات التي أفرزتها دولة «الاستقلال» بعد حقبة الاستعمار والانتداب والتي كانت أكثر مرارة على مسار  وأحلام الانسان العربي الطامح الى بناء دولته الحرة المدنية، القومية العادلة في حدود ما تمليه معطيات الوقائع والتاريخ.

وهي أكثر مرارة بسبب طبيعة الاستعمار البنيويّة وهيمنته على مقدرات الشعوب وثرواتها. وتزدوج وتتضاعف هذه المرارة كون هذه الحقبة ولدتها وعود كاذبة وخيانات تاريخية ساهم الغرب مساهمة حاسمة في إجهاض أحلام العرب وطموحهم في دولتهم العتيدة، بعد عصر مديد من الهيمنة الامبراطورية العثمانية امتدت لقرون طويلة.

وقف العرب أو بالاحرى قياداتهم الفكرية والسياسية آنذاك الى جانب الدول الغربية ضد العثمانيين الذين بدأت عظمة دولتهم في الأفول. فكانت المكافأة الغربية، الاستعمار والانتداب وكل مظاهر الهيمنة والإقصاء..

أزفت لحظة التحرر وبناء الدولة الوطنية، لحظة الدخول في التاريخ وتحقق أحلام الشعوب المهانة والمُذلة، تحت نير الهيمنة العثمانية والغربية لاحقاً…لم تدم فترة أعياد الاستقلال وكرنفالاتها طويلاً، إذ قفز الى سدة السلطة، زعماء معظمهم تحدّروا من ثكنات العسكر ومن بيئات بسيطة إذ ارتفعت الى «الطبقة المتوسطة» التي افترست نفسها مع الأيام والسنين كما افترسها الآخرون ففقد المجتمع صمام توازن كان ضرورياً..

تحولت الدولة- الزعامة- الى دكتاتورية كبرادورية تهيمن على فضاء المجتمع والسلطة وكل نوافذ الحياة والأحلام، محتكرة كل شيء لنفسها، وقد اختُزلت  هي ورموزها ومؤسساتها إن صحت العبارة، الى شخصية الزعيم الأوحد، وقبضته الحديدية المزاجية والطائفية ان كانت في بلد ينقسم الى طوائف. تلك القبضة اللامحدودة بسقف ودستور وقانون. ومن فرط هيمنته وأجهزته الحامية لسلطته المطلقة، انحصر مفهوم الدولة الواسع والعميق، في شخص الزعيم وتعاليمه وخطاباته التي لا يرقى اليها السؤال والشك، حتى خرج أو كاد، من طوره البشري الى طور إلهي مقدس.. كل كلمة أو إيماءة أو عطسة يعطسها الزعيم المبجل الضرورة، تكون مصدر حكمة ومصدر سر  يستعصي على وعي البشر الفانين تحت حكمه… إن عطسته ستكون نفحة من المقدس.

ها هو التاريخ وللمرة الثالثة عبر أقل من قرن من الزمان يمارس مكره التدميري على أحلام هذه الشعوب وبأكثر رعباً وقسوةٍ هذه المرة بعد رحيل الاستعمار المباشر وحضور الدولة الوطنية المحلوم بها، وحضور الزعيم الوطني المطلق المحارب الشرس ضد امبرياليات العالم، أبو الشعب الحنون ورب العائلة المتماسكة التي لا تنطلي عليها مؤمرات المتكالبين ضد حكمه العادل النزيه، كما تهذي وسائطه الاعلامية وخدمه.

هل بقي من مبرر لسؤالٍ، بعد هذا المسار من الفظاعات الوطنية والإذلال، أن تندفع الجماعات او الشعوب الى هذا الدرْك من جحيم الحروب، التي أسس لها ذلك النوع من الحكام والزعامات المسعورة بعقد الانتقام والتدمير؟! حيث الوطن والتاريخ والقيم ليست إلا استعارة لذلك الزعيم الأوحد..

هكذا استوطن سرطان الاستعمار الداخلي بقسوة أكبر من ذلك الخارجي الواضح والمحدد، الذي سُفحت حوله الدماء والأهاجي والأحبار. وعكس المثل السائر الذي كان يقول ان الاستعمار خرج من الباب ودخل من الشباك، فقد دخل من الأبواب الأكثر سعة واستباحة لأرض الثروات والجثث والأحلام المؤودة.

*  *  *

ليس أكثر دلالة وفصاحة من تلك الرسالة التي وجهها الشاعر والفنان الاسباني (فرناندو أرابال) الى الجنرال فرانكو رغم أن هذا أقل شناعة من الجنرال العربي. أذكر أن أرابال لم تمنعه عدميته ورؤيته العبثية الى الحياة والتاريخ من ممارسة حقه في النقد اللاذع والاحتجاج بل زادته حرية وعمقاً.

«أعتقد أنك معذب بلا حدود، إذ أن الانسان المقهور فقط من يستطيع فرض القهر حوله، حياتك مُتشحة بالسواد، أتخيلك محاطًا بحمام بلا أرجلٍ بأكاليل سوداء، في أحلام تطحن الدم والموت. لقد اخفيت في إسبانيا جبالاً من البراز بمروحة يد صغيرة. حدادٌ عميقٌ من ضباع تجهش قيحًا يسقط على رجال إسبانيا، ألم تكن من صرح في تلك الأعوام: إذا تطلب الأمر سنقتل نصف البلاد»..(*)

الدكتاتور العربي قتل، والقتل هنا بكل معانيه المادية والمعنوية، ثلاثة أرباع البلاد، والحبل على غارب أزمنة القتل والانحطاط.

*  *  *

«لستُ يتيمًا في هذا العالم ، مادام يسكنه هذا الرجل» 

هكذا عبر جوركي عن مشاعره تجاه تولستوي … اليتم هو الذي يسود هذا العالم ، اليتم والوحشة خاصة في هذا الجزء من العالم ، الذي أنجز فيه مخطط تسميم الروح وإنسانيّة الإنسان وتسميم الجمال بسموّه ورفعته ، أنجز مهماته بضراوة لا مثيل لها حتى في مجازر الحروب الصاخبة.

من هنا تبحث الأرواح والأفئدة الخاصة عن ما يشبهها ويتواشج معها في عمق الحلم والأمل المكسور.. النبي سليمان حين أراد عقاب الهدهد أقصاه إلى جنس من الطيور غير جنسه. الطيور وليس كواسر البشر..

« أضحت يباباً وأضحى أهلها ارتحلوا» 

هكذا عبر الشاعر القديم عن مشاعره في وقفة طللية حارقة .. 

وبمنحى آخر، هناك القصيدة الخالدة (الأرض اليباب) لإليوت، التي تتحدث أو تعبّر عن وضع مأساوي للحضارة الأقوى والأعظم في التاريخ، الاوروبيّة، الأمريكية.. وَيرِد فيها جسْر لندن. والحشود المندفعة لا محالة الى حتفها ، أو  أن الموت طواها أصلاً منذ زمن بعيد ، والشاعر الأمريكي الأصل الإنجليزي الإقامة ، لا يرى الخلاص إلا في اعتناق المسيحية الكاثوليكيّة . أفق خلاصهِ ربما لا يعنينا ما يعنينا تلك التراجيديا المدوّخة في الارتطام بعالم الحضارة .. وتلك المناخات المقفرة والمفردات التي تحمل قسوة الصحراء، نباتاتها الجافة وأجواءها المدلهمّة، وكأنما يتحدث عن الجزيرة العربيّة أو بصورة أدق، الربع الخالي…

لطالما بحثتُ في ظلّ حشدنا القطيعي المندفع في المعالف والاسطبلات والمجمّعات التجاريّة، علامة الاستهلاك الباهظة، بحثت عن فرديات تشبه الروح العطشى الى الصدق، العدالة  والجمال، لكن التسميم المهجيّ قد أحكم قبضته… لكنا لا نعدم عشبة متفتحة هنا، فسيلة خضراء هناك. وحين نلتقي خطفاً بهذه الروح المفارقة خيالاً ورهافة، بذلك الحضور المفرد، الذي يكاد يطغى بضوئه الجماليّ على ثقل القطيع الكاسر وعلى غائية المنفعة والغريزة .. يقيناً نكون سعداء بهذه اللقيّة التي تبدد شيئاً من اليتم والوحشة والاغتراب بكل أنواعه ومراجعه..

هذه القطعة الصباحيّة ، وددتُ مُشاركتك فيها ، وأنت تُحدقين في الأنهار والجسور والأشجار الباذخة.

الطقس هنا ما زال حاراً وثمة أخبار فلكيّة عن إعصار أو عاصفة مداريّة، على الأرجح هنا ، في العاصمة لن نرى من آثارها غيمةً شاردة ؛ أتمنى أن أكون مخطئاً وتغمرنا الغيوم كما تغمرنا صيحات أطفالنا المرِحة والعصافير.

فاضل العزاوي  في أدبهِ وصمتهِ

لم أعرفه في عُمان أو القاهرة، هذه الأخيرة بدأتُ فيها بمعرفة «رواد» الشعر العربي الحديث. لكن في دمشق عرفت شعراء المرحلة الثانية إذا صح التعبير ، في الشعريّة العربية المحدثة، من بول  شاؤول، عباس بيضون، سليم بركات، حمزة عبود ، ابراهيم الجرادي، بسام حجار….الخ، حتى «موجة» الستينيّات في العراق علي صعيد المشرق العربي وللبلاد المغاربية شعراؤها العديدون في هذه المرحلة.

عرفت فاضل العزاوي قراءة، وسركون بولص، عبدالقادر الجنابي، صلاح فائق، مؤيد الراوي… الخ.

موجة غير عاكسة ولا ناسخة لما قبلها، بقدر ما أتت بالجديد والأجد حسب تعبير لعبدالعزيز المقالح.

إذا كان سركون بولص طليعيّ المرحلة بشعريته الصادقة المفارقة، ففاضل العزاوي الذي أول ما قرأت له شعراً «سلام أيتها الموجة، سلام أيها البحر» ومن ثم «الديناصور الأخير»، أو مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، ذلك الكتاب المداري المفتوح على عواصف الشعر والنثر والفضاء المشهدي، ببروقه الخاطفة الآسرة. كتاب أثر في تجربتي الأدبية عامة وأفدتُ منه ربما أكثر من دواوين الشعر المحض. (الشجرة الشرقية)، (أسفار..).

فاضل العزاوي الذي يؤثر الصمت على الصخب والضجيج، وسعّ فضاء التعبير ، شعراً، ونثراً، رواية، تأملات نقدية وترجمة.

توالت قراءتي لاحقاً لمعظم ما كتب إن لم يكن جله ، «القلعة الخامسة»، وتلك الرواية الطليعيّة في الأدب، العربي ، «آخر الملائكة»، وحتى «الأسلاف» التي أهداني إياها مخطوطة، قبل صدورها عن دار الجمل. حين زارني هو المقيم في ألمانيا منذ نصف قرن، في قرية «شوبغن» الألمانية التي كنت أزورها بمنحة تفرغ كريمة من بيتها الثقافي…

المقيم يزور العابر ، وهذه الثنائية ربما من ضمن ثنائيات كثيرة لم تجد مكاناً في المتن الأدبي لفاضل العزاوي، كما في مرحلة الرواد.. فهناك دائما عابرون في ليل الأبد وأبديون في ليل العبور. الترحل والتشظي، تشظي الهويات الجماعيّة والأفراد والمخيلات يطبع هذا المتن للعزاوي. نَفَس واحد ورؤية واحدة بمقاربات وأوجه مختلفة تخترق هذا النتاج، من دواوين الشعر إلى الرواية والنصوص بتجلياتها المفتوحة. لا يدين العزاوي كثيراً لانجازات سابقيه في الشعر والأدب العربيين ، بقدر ما يتشرّب من مصادر ومرجعيّات مختلفة كونيّة وغربيّة ومشرقيّة. ما سُمي بـ«مدرسة» كركوك أو موجة الستينيات في الشعر والثقافة العراقية على تباين الأسماء والانجازات و المستويات ، كان تأثرها بمرجعيّة الشعر الغربي ، الأنجلو أمريكي على وجه الخصوص وطلائع هذا الشعر، أصواته وأمواجه الغاضبة أكثر من متون كلاسيكية بمناحيها ذات  الأجواء الملحميّة. كذلك كان هذا الشعر ضمن سياق شعر عربي، لم يرتهن لأنماط الحداثة العربية السائدة، جاء مفارقاً ومختلفاً في الصورة والعبارة، في الرؤية والمناخ الكلي. وفي حالة فاضل العزاوي جاءت الرواية ضمن هذا السياق على الأغلب، خاصة رواية «آخر الملائكة» بنبرتها الساخرة العميقة، التي تنطلق من المجتمع الكركوكي، المتعدد الطوائف والأديان والأثنيات. لتشمل العراق والعالم في اشتباك البعد الاجتماعي التاريخي بالوجودي، ذلك الاشتباك والتلاحم الذي برع فيه العزاوي أيّما براعة وإتقان .

أتذكر شخصية (درويش) في آخر الملائكة، التي ترمز الى الموت، والرمز هنا ليس نمطياً جامداً وتقليدياً. بقدر ما هو تكثيفاً للدلالة والمأساة. مأساة أو مآسي التحولات المفصليّة في التاريخ العراقي المفعم بالدماء والانشطارات.

حين نزل درويش من القلعة في صباح الثورة التموزيّة- إذا لم تخني الذاكرة- يلتقي في طريقه بأحد أصدقاءه أو معارفه، قائلا له، إن هذا اليوم والأيام القادمة، أمامي أعمال كثيرة لابد من انجازها…. الخ. ماذا ينجز الموت في مسيرة الأحداث المحتدمة، غير الدماء، خطف الأحياء وتكويم الجثث والأحلام ، في أرخبيلاته الخرافيّة؟

* * *

منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم ، بداية معرفتي بفاضل العزاوي عبر القراءة المؤثرة المتفاعلة كيانياً مع كل ما يكتب ويُصدر في حقول المعرفة والإبداع المختلفة، حيث لم ألتقِ به على الصعيد الشخصي إلا بعد عشرة أعوام على الأرجح، هو المقيم في الشطر الشرقي من ألمانيا التي اندمج شرقها وغربها في ألمانيا الاتحادية الراهنة. وهو ما زال مقيماً هناك مع رفيقة الدرب والأدب سالمة صالح، شاهداً حقيقياً على الإنهيارات القيميّة والمجتمعية على «فساد الزمان». مترحلاً بصمت الحائر والباحث عن حقيقة تظل هاربة باستمرار، بين المعارف والتضاريس والثقافات.

رسائل اليمام

والسَّيْل البشري العارم

أيتها الحريّة، كم أنت بعيدةً وعصيّة، تشبهين الحقيقة الهاربة باستمرار من براثن الواقع والتاريخ.

أيتها الظلال المتمايلة في تهاويم الفجر وأناشيد البدو المترحلة في ليل المتاهةِ والمجهول.

* * *

إلى جبار ياسين

في تلك الربوع الخضراء المفعَمة بالمطر والفراشات ووجوه الأحبة الغائبين.

دائماً يا صديقي رسائلك نصوص إبداعيّة من فرط رهافتها الجماليّة..

لا أعتقد أن من قضى معظم حياته في ذلك الفردوس الأرضي (لاروشيل)، 

أضاع وقته في ترهات هذه الحياة العابرة دوماً.

أما نحن فقد رمتنا أقدارنا إلى منازل الخطوة الأولى ، منازل الأسلاف الراحلين والمترحلين…. 

أضعنا أوقاتاً وجمالات كثيرة، لكن عزاءنا البسيط أن جحافل الجهل والظلام في الأرض العربية الجرداء على كافة الصُعُد، لم تستطع نهبَ أحلامنا التي تحملها عبر الأثير أجنحة الكلمات التي تشبه فراشاتك في تلك البلاد..

وعزاؤنا أن نكون مفيدين على نحو ما في تحفيز القراءة والكتابة وتأمل الجبال والصحراء التي عقدنا معها (ميثاق ولادة وموت) مهما شطّ النوى وطوّحت بنا الأيام. وكذلك أنتم تجاه العراق، والأصدقاء الآخرين تجاه لبنان والشام واليمن والجزائر… الخ. هذا الميثاق يمكن أن يكون رمزياً أكثر منه واقعاً معاشاً. فهناك أصدقاء كثر قضوا في المنافي المختلفة بعيداً عن الأرض الأولى. وهذه الواقعة أقرب الى قلبي ونزوعي نحو الغياب الحتمي. الموت والتلاشي بين الغرباء وليس في ربوع الوطن والعائلة، كي نكمل رحلة بدأناها باكراً في هذه (العاجلة المحبوبة) حسب أبي حيان التوحيدي.

هذا اليوم ونحن نطل على (نوفمبر) الممطر وربما المثلج هناك، ما زال الحرّ مستمراً وإن خفت حدّة غلوائه، تلك الغلواء التي تلطفها نسائم دجلة والفرات في الليل الصيفي لبغداد. (هل ما زالت؟) وسط هذه البرهة الكئيبة وغزارة الدم المُراق.

الأنهار في الجزيرة العربيّة أو ما يشبهها ، قد جفّت منذ قرون وبقيت أخاديد الأودية الجافة كسواق متربة مغبرة بين المدافن الجماعيّة للأقوام الآفلة.

المكيّفات تنعق ليلَ نهار ، وعلى ذُرى ماكيناتها الضاجّة تبني الطيور والغربان أعشاشها وسُكناها، استجداءً لبرودة تتسلل من بين الشقوق والجدران.

في هذه اللحظة وأنا أكتب إليك ، ألمح زوج يمام برّي يحط على نافذة مكتبي ، يستظل ويشرب الماء من القدح الذي أُعده يومياً لهذا الحدث الجمالي الفريد، وهو يؤنس وحدتي بجانب الكتب ورسائل بعض الأصدقاء.. أراقبه من وراء زجاج النافذة ، يرفرف في كونه البهيج، أفراحاً وقُبلا، غراماً محتشداً بالرقة والبراءة؛ لا يطال الضجرُ هذه الحيوات ذات الأعمار القصيرة كالفراشات وغيرها من حيوات الطبيعة (القصيرة) لكن المفعمة بالغبطة والجمال ورهافة العواطف التي يفتقدها أيما فَقد بشر الأرض القُساة.

إثر قراءة لرسالة 

أحمد علي الزين

كل شيء يتداعى، من كهوف الأسلاف ومنازل الآجر، حتى المدينة، التي كانت تقف على عتبة الحداثة والتقدم، وما لبث أن اختطفها الترييف، بالمعنى السلبي للكلمة، سلطةً وقيماً وأنماط سلوك، تستعير من التحديث مظاهره السطحية ومن الماضي «المجيد» والتراث قداسته كي تضفيها على سلطة انبعثت على الأرجح من أوساط أحزاب تبشر بالمستقبل والخلاص ومن أوساط بشر عاديّين في السلم الطبقي، ما لبثت بعد أن تمكنت من بناء آليات القمع والاستبداد الوحشيّة، أن خلعت على جسدها، كل صفات القداسة والصلاحيات المطلقة، وما المجالس والمؤسسات التي تتشبّه بحداثة الدولة العصريّة، إلا فقاعات لا قيمة لها أمام السيطرة الفعلية للطائفة وروحِها الفرد القائد الرمز الذي لا يجود الزمان بمثله لا في الماضي ولا في المستقبل، فهو الخلاصة المعصومة المتعالية على كل دنَس وتفصيل.

*  *  *

كان حتما ضمن النسيج العضوي لهذا الوضع الذي أحكم الاستبداد والعَمى السياسي والفكري قبضته عليه، أن يمضي بخطى سريعة نحو الهاوية، نحو الكارثة الحتمية، التي تغرق الوضع سلطة ومجتمعاً في ظلمة مستنقعات الدم والفوضى والانتحار .. ولن تجد أفواج البشر والشعوب بعد أن طوّح بها اليأس والذل وانسداد الأفق والنهب، الممنهج والعشوائي لأرزاقها وقوت أطفالها، إلا المواجهة والنزول الى الشوارع والساحات، بحثا عن أفق آخر. لم يعد هناك ما يخيف ويفزع، فكوابيس حياتها العاتية ليلَ نهار، لم تترك مجالا للتفكير في خطر الصدام والموت، الذي خبرتْ مرارته وألمه عبر الحروب المتعاقبة، والتي هي أكثر فظاعةً من نمط الحروب الأهلية المعهودة. (لا أريد لأولادي أن يعيشوا ما عشناه في هذا العهد) صرخت امرأة في غمرة مواجهة بلادها بين الحكم ومحكوميه المنفجرين صرخةً واحدة تعم المدن والقرى والدساكر، في أكثر من بلد عربي خاصة وغير عربي؛ فقدان الأمل أحياناً يؤسس لمستقبل آخر.. الأمل القادم من ضفاف اليأس والجحيم . هكذا تمضي الحياة العربية في البرهة الراهنة التي ستطول الى أمد ونهاية تحفّها المخاطر والاحتمالات الأكثر خطورة واحتداماً..

*  *  *

فإذا كان في وعي علماء (الجيولوجيا) وكذلك التاريخ العضوي أن الألفيات الخمسين، التي مرت بها البشرية منذ بداياتها الأولى على هذا الكوكب، لا تساوي في عمره إلا ثواني في الأربع وعشرين ساعة التي يشكلها اليوم ضمن منظومة الأيام والسنين، فان عهود الظلام العربية من فرط الإحساس بغلظتها وديمومتها المتناسلة قسوة وظلماً وانحطاطاً دموياً شاملاً، كأنما هي جزء من ذلك الزمن الجيولوجي المفارق لطبيعة الزمن البشري في المكان والتاريخ… من فرط فداحة المسار وانقلابات التاريخ من مطالع القرن الذي تصرّمت عقوده على المستوى العربي بالمفاجآت السيئة والانعطافات التي تحوّل الأمل والوعد الى رماد وحطام، وحتى البرهة التي يعيشها العربي، المفعَمة بانفجار الأسئلة المحظورة والانتفاضات سلما وانفلات عنف غير محسوب أحياناً أو غالباً. كأنما اللاشعور الجمعي، يمارس انتقامه من ذلك الماضي وتلك الأوضاع الجهْمة التي سادت طويلاً، طويلاً جداً.

*  *  *

قرأتُ رسالتك الأخيرة عبر (الوتس أب) التي تنطلق من حراك انتفاضة الشعب اللبناني بكل مشاربه وطوائفه ومستوياته الثقافية. انطلاقا من هذا الحدث الفريد في التاريخ اللبناني الذي درج على الاستقطاب الحزبي الديني، الطائفي وغير ذلك من (مشانق) تطبق على عنق شعب وتسِمه بسمات الشعوب والجماعات البشرية المتخلفة، رغم الوعي المدني المتقدم للشعب اللبناني على سائر الجماعات والشعوب المحيطة التي يتقاسم معها رقعة الجغرافيا واللغة والتاريخ المشترك. هذه الازدواجية المريرة بجانب أخرى، لاشك وسمت خطابك وخطاب جيلك، الذي هو جيلنا بأكمله بالمرارة ونبرة المأساة العميقة واليأس، من غير أن تغلق الدائرة على الجحيم الذي تتجدد جلود ضحاياه كاستمرار لديمومة التنكيل والعذاب. وعلى جاري عبارة (دانتي اليجييري) «اخلعوا كل أمل فأنتم على أبواب جهنم» والتي استبدلتُها في بعض كتاباتي «… فأنتم على أبواب الربع الخالي»، كبعد رمزي لفضاء الجماعات العربية من جزيرتها وخليجها الى مغاربها، هذه المساحة الشاسعة من الظلام والاكفهرار.. 

هذه الجماعات او الشعوب المحشورة في عرين الديكتاتوريات والمافيات الطائفية والمالية، والتي اتسع خرقها على أي راقع، لا تفتأ ازاء أي حراك أو انتفاض لفك تلك السلاسل الغليظة والأغلال، تحشد كل مخزونها المتراكم، شعاراتها ورموزها التي تجاوزها الزمن أيما تجاوز ونأي، حتى الوصول الى القوة العارية في سلخ الأجساد الحية والتمثيل بها، وقذف البلاد الى بلقع وحشي ويباب، أين منه يباب إليوت الانجليزي الأمريكي.

وكما عبرتَ في رسالتك من أن «المجرم مهما حاول الهروب والتخفي ستكشفه صرخات ضحاياه وعدالة التاريخ» لكن يا صديقي، في ظل برهة عصرنا الراهن، عدالة التاريخ، حتى في ظل انتفاضة ورفض جماعي لمنظومات الحكم السائدة، وفي ظل تعقد العلاقات الدولية والهيمنة المطلقة لتلك الأطراف الحضارية الديمقراطية (أمريكا الغرب) على وجه الخصوص، تتواتر التجارب المريرة للشعوب المنكوبة والمنكودة الحظ حتى اللحظة لمواعيد مختلفة مع التاريخ المتخثّر بجراحاته ومجازره… فتلك البلاد حضاريّة وديمقراطيّة داخل حدودها، لكن يبدو انها لا تحبذ ولا تشجع على إقامة أنظمة فيها قسط من العدالة والديمقراطية والانسانية، حتى لو كانت حناجر الملايين تصدح بنشيد الحلم المعذّب الذي طال أمد عرقلته وإجهاضه بكافة وسائل البطش والإبادة..

أشرت الى دول الهيمنة بعينها والتي تمتلك الكلمة الفصل لو أرادت ذلك بجدية، وهو ما لا يلوح في الأفق عدا زَبد الكلام عن حقوق الانسان وتقرير المصير، وهذَرَ الاستهلاك الإعلامي المبتذل.. ولم أشر الى دول أخرى كالصين وروسيا، مثلا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه فهي لا تختلف إلا في الحجم والمساحة والاقتصاد، عن وضع دول العرب ومن على نمطها، وربما أكثر بطشا وإبادة لمنتقديها ومعارضيها كما تؤكد على ذلك الأحداث الجارية والوقائع.

*  *  *

ما يحصل في روسيا باقتصادها شبه الريعي الذي يساوي الاقتصاد الاسباني أو يقل عنه، فهي عملاق برجلين خشبيتين على صعيد الاقتصاد والصناعة، إذا استثنينا ثكنات خردة الصواريخ السوفييتية التي لا تعمل إلا على دك شعوب ومدن منكوبة بأنظمتها ومعارضاتها.. والصين باقتصادها وشعوبها الأضخم، على صعيد الاستبداد والإقصاء، من التطرف والتدمير، يفوق بقية الدول الموصوفة، الأولى (روسيا) مظاهرة كاملة تُساق الى السجون على سبيل المثال، والثانية التي حولت حلم (ماو تسيتونج) الشيوعي، في التبشير بالفردوس الأرضي، الى رأسمالية دولة بالغة الوحشية بانتفاء البعد القانوني الدستوري الحقيقي، وطبعا الأخلاقي، ولم يبق من إرث المؤسسين الجامح الشعارات الإنسانوية والتبشير، إلا «نظرية إعادة التأهيل» تلك المسخرة التي مارسها (ماو) مع آخر امبراطور يحكم الصين، الى الفلاحين والعمال لتنقيتهم من الموروثات البرجوازيّة والرجعيّة.. وأكملتها زوجته وعصابة الأربعة المعروفة في التاريخ السياسي الحديث.. ها هي السجون الجماعيّة تفتح في الصحارى الشاسعة ليُساق إليها أكثر من مليون مواطن اليجوري صيني في ضوء رسم تلك النظرية التي بُعثت من جديد، مع اخوانها في عائلة الاستبداد الأقصى العتيدة..

كما لم يتبق من فلسفات ورؤى الحضارة القديمة بأبعادها الروحيّة العميقة (الطاويّة الكونفشيوسيّة البوذيّة) عدا رماد فلكلور بائس وعقيم.

لا تهمني البلاد الأخرى في هذا السياق إلا بقدر انعكاس قوتها وصعودها على الوضع العربي البالغ الارتباك والبحث عن خلاص.

*  *  *

المفارقة المأساوية الأخرى في بلد مثل لبنان وبلاد عربية أخرى، أنها منذ مطلع القرن العشرين المنصرم، كانت شعلة نُخب التنوير والعقل والثقافة الحالمة بمستقبل، يكون جزءاً من نسيج العصر بتقدمه ومؤسساته وتعدده، وكانت فاعلة ليس في لبنان وحده، وإنما في محيطه من بلاد تكبر لبنان في الحجم والسكان والموارد. كانت مساحة الهواجس والأحلام لتلك المرحلة، مشتركة وكان لبنان طليعة حراك ومعرفة.. كيف لوى مكر التاريخ عنق تلك الأحلام التنويرية، والعقل الخصِب ليجد البلد نفسه كما سائر البلاد الأخرى، بعد «الاستقلال» وعبر أطوار زمنية مقذوفاً في حفر مظلمة، يحكمها ملوك الطوائف والحروب. وتتحكم في مصيره «وصايات» من بلدان لا تفقه إلا شرعنة القتل والظلام والتدمير؟!

*  *  *

في مطلع هذا الحراك الجماعي الذي عمّ أكثر من أي بلد عربي . أطلق مثقفون وكتاب عرب على ما نُعت بالربيع العربي نَعت (الخريف العربي الأسود) وبعضهم باركه حتى جاء العصف الجارف الى البلاد التي يتناغم نظامها الإبادي مع هواه الطائفي على الأرجح، فتحول من الربيع الى الخريف بخفة سنجاب يتسلق شجرة حور عملاقة. وأخذ يستدعي تاريخ أزمنة من الانحطاط العربي بهيمنة الواحدية الدينية والاستبدادية، وكان الاسلام والعرب بالمطلق الضحيّة المثالية لهذا التنصل من أحداث الراهن المتفجرة وعواصفه التي تطرح على ذلك التاريخ انطلاقا من راهن التخلف والانحطاط في كافة صُعده، أسئلة الأفق المفتوح على احتمالات التغيير والعدالة والحريّة.

ومع غض النظر عن تلك التوصيفات الفلكية بين صيف وربيع وخريف، فهذه الحراكات المتناسلة الى موجات متواترة تحاول بعض أنظمة الأمر الواقع المفروض بقوة السبابيط العسكرية والسلاح، وان فُل هذا السلاح وتكسّر في الخضم الجارف كما جفت المياه التي كانت تسقي الدعاوى التبشيرية الكاذبة والشعارات التي لا تفعل طوال السنين إلا التغطية على النقيض السلوكي والبنيوي لتكوين هذه الأنظمة وفحوى وجودها منذ استيلائها على السلطة بقوة السلاح الانقلابي وتحطيم مشروع الدولة المشرع على احتمالات لها نصيب من الصدق والنجاح.

أما إشارتك يا صديقي الى ذلك الضرب من طغاة التاريخ مثل الجنرال فرانكو وشاوسيسكو، وبنيتوتشيه… الخ فعلى دمويتهم ووحشيّة وقوفهم أمام جماهير تطالب بالحرية  والعدالة، فلا أعتقد أنهم ارتكبوا من الفظائع والمجازر التي ارتكبها أقرانهم من طغاة العرب الذين جاءوا تحت شعارات الاستقلال والقوميّة، والاشتراكية في مقارعة الامبريالية وإكراهاتها في العالم، فهذا الصنف العربي من الدكتاتوريين كان ساحقاً وجذرياً في قضائه على انسانية الانسان وأبعاده الأخلاقية والروحيّة كما كان ساحقاً في تجفيف منابع الطبيعة والفن والجمال، بحيث لم يؤسس أي بنية تحتية، صناعية علمية، كما فعل أولئك في البلاد الأخرى، بل حطم ما ورثه من أسلافه في هذا السياق كجزء من تدمير مشروع الدولة الحقيقي الذي كان قائما قبل استيلائه على السلطة ومصادرته المجتمع بمؤسساته وتعدده وأحلامه..

انه صنف أقرب الى الكمبرادوريين وسماسرة الربح السريع حيث تتحول البلاد الى انعكاس لصورته وصورة أبنائه وعائلته المستجدة على الحكم والسلطة والمال..

إن لبنان يدفع كما عُرف ثمن لعنة الجغرافيا والجوار ومنقلبات التاريخ ويدفع ثمن تعدده وريادة مدنيته الحالمة، هذا، بدل أن يكون مصدر اثراء وإغناء تحول (أو حولوه) الى شقاق وحروب. والأول خوف المحبط من عدوى حلمه بالحريّة والمدنيّة والحداثة. 

يريدون لبنان المجلات السياحية (سويسرا الشرق) لكن على مزاجهم، ليست سويسرا التعدد والحضارة تلك المتعيّنة في الزمان والمكان بالطبع، يريدون لبنان مرتعاً لمحدثي النعمة والاستزلام والطائفية، يريدون لبنان (الماخور) لا لبنان الثقافة والحريّة وسموّ الجمال الابداعي.

*  *  *

إن ما كان على تخوم الكارثة، أصبح في القلب والأحشاء منها، كمسار منطقي وعلى المستوى العربي. لصيرورة التدمير والقمع والاستخفاف والتبعيّة والاستبداد عبر العقود المتواترة، وما كان حلماً وأملاً لبشر هذه المناطق المنضوية في الفضاء العربي، أصبح كابوساً كاسراً يربض على صدور الجميع. وتخرج الحيّات والثعابين والزواحف الشديدة السُميّة، والحقد الوضيع لتنتشر في أرجاء هذه الأرض من الخارج القريب والبعيد، معمقة جراحه وخراب قيامته التي ترتطم دائما بآلة الأعداء المتربصين من كل صوب، بعد انهيار سلطة الداخل وقد تكسرت نصالها وآلة رعبها الجهنمية وسط صليل قيامة البشر المقتولين أحياء وأمواتاً، وضجيج أصواتهم الناقمة الثائرة..

وربما في النهاية أو البداية، لا الدكتاتوريات التي انبنت عليها الممالك والدول منذ بدايات تاريخ البشر حتى مشارف العصور الحديثة الديمقراطيّة والتي انبنت على عقودها ودساتيرها الحضارة المركزيّة لهذا العصر، أن تدخل البشر الى الفردوس الموعود والطمأنينة المطلقة. لكن الشرور أيضا نسبيّة بحيث لا يمكن المقارنة في ضوء الراهن بين هذا الوضع البشري الحضاري والآخر..

*  *  *

عزيزي أحمد، كان عليّ أن أنطلق في هذه العجالة من إنجازك الروائي الذي أكمل الأربعين عاماً، وخاصة ثلاثيتك الروائية الأخيرة التي تتمحور حول صحراء التيه العربي، آليات القمع والاستبداد والدم المُراق على مدار السنين، من جزئها الأول «حافة الغروب» وحتى الأخير. الغروب في بعده التاريخي الاجتماعي الكاسر، أو بعده الميتافيزيقي، حيث تنعقد دوائر المغيب كتجسيد لحيرة الماوراء والمجهول، لكن القلم أخذني في ضوء رسالتك الكريمة، الى ملامسة (العام) مباشرة والإصغاء ما أمكن الإصغاء، الى صراخ الحشود الجريحة بلبنان وغيره، صراخ الضحايا والمشردين، الى أنين الغرقى في الأرجاء والمحيطات.

*  *  *

إلى عاطف أبوسيف

صار الشاعر العربي والكاتب ، من فرط تزاحم الأحداث الدمويّة ، مثل تزاحم الأضداد والأجداث في مخيلة أبي العلاء المعري الوجودية الراعبة. ومن فرط احتشاد القتل والإبادات في أكثر من بلد عربي وتناسلها من غير بارقة خاطفة تؤشر لأفق النهاية والخلاص.. صار الشاعر الكاتب والانسان قبل كل شيء، لا يملك كأعزل وسط جَلبَة السلاح والكراهيات المتراكمة في الداخل، والاحتلالات المتعّددة وعلى رأسها الاحتلال الصهيوني المديد للأرض العربية الفلسطينية، لا يملك أمام حالة العجز الجماعي، إلا سفح الكلمات الدامية أو ما يشبه المراثي والنعي ، نعي وهجاء عالم يغور أكثر فأكثر في طبقات الجحيم والانحطاط القيمي الوجداني والسياسي الانساني.

مسميات الأماكن تختلف من بلد عربي الى آخر،  لكن وجوه الضحايا وفحوى المجزرة واحد، المجزرة في وجوهها ومعانيها المختلفة، من المعنى المادي المباشر الذي يعني جزْر ، وتشريد الآلاف والملايين ، في صحارى العري الراشح بالموت الجماعي، والأخاديد التي فتحتها الطبيعة الأزليّة بخضمّ الرمال المتحولة، الى المعاني الرمزيّة، والأخلاقيّة الروحيّة التي قُبرتْ قبل دخول الضحايا المثوى الأخير في مقابرهم الجماعيّة، والفرديّة.

المعنى الأخير يمهّد للأول ويعبّد له الطريق لإنجاز مهامه الضاربة في الاستباحة الماديّة العارية من غير غطاء ولا قناع.

لم يعدْ القتلة في اسرائيل كما في ديار العرب نفِسها، بحاجة الى ثرثرة كما في السابق، من قبيل الأقنعة الأيديولوجية أو أي ادعاءات أخرى إلا من باب استهلاك المُستهلك وتسويق المُتبَتل في السلوك والخطاب.

عدا أولوية «محاربة الإرهاب» التي انخرط فيها الجميع كباراً وصغاراً حتى ضباع الإرهاب الحقيقي، عتاة القتل والإجرام والتصفية. الكل يحمل نفس الراية إزاء هذا الحيوان الاسطوري الذي يجثم على صدر البسيطة من الأدنى إلى الأقصى.

القتل العاري في ضوء سطوع شمس الصيف العربي، وسطوع شمس العالم الذي لم يعد يعبأ بأي انتهاك أو استباحة خارج ممالكه ، مصالحه وحدوده حتى لو كان يمتلك القدرة الجليّة على فعل ذلك.

ما سُمي بحربي الخليج الأولى والثانية ، لم يكن فاتحة لتدمير الشرق (العربي خاصة) التي ما زالت تأخذ المدى الوحشي الأقصى، وإنما أحدثت تحولاً بالمعنى السلبي، في وعي الشعوب الأوروبيّة حيث اللامبالاة تعالياً واستخفافاً إزاءَ خراب العالم واستباحته، حتى من قبل النخب الثقافية والمعرفيّة.

وفي السياق نفسه ذهبت الدولة العبريّة، نحو التطرّف أكثر في عربدتها الدمويّة على الأراضي العربيّة تلك التي تحتلها منذ 1948، أو الأرض الواقعة تحت قدرة نيرانها وتدميرها.. وأي الأراضي والبلدان ليست كذلك؟

في حملتها الوحشيّة الجديدة على القطاع ، لا تُذكر إلا بحملات سابقة، استنساخ حملات ومجازر.

رئيس الوزراء الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبريّة، يجتمع بجنرالاته لمزيد من التهديد والوعيد، في ظل استمرار القصف البربريّ والتهديم. الأنظمة العربية تشجب وتدين على جاري العادة (فاقد الشيء لا يعطيه). والصمت الدولي يخيّم وبتواتر.. المقاومون في القطاع يطلقون مئات الصواريخ تعترضها القبّة الحديدية، يسقط قتلى اسرائيليون، فتنطلق الكلمات مهللة، لينبني الخطاب الوهمي بالنصر القريب.

هل من تغيير في تفاصيل هذا المشهد المتناسل في دمويّته ووحشيّته؟!

يبقى سؤال البرنامج ، كما في الفضائيات العربية، هل هناك أرض وبشر في العالم المعاصر، في الهوامش والأطراف تحديداً، تشهد مثل هذه الاستباحة والتنكيل؟!

إنه سؤال أزمنة الانحطاط الكاسرة.

يبقى أن الهويّات الكبرى في تاريخ البشر، لن تموت وتضمحل، رغم الداء والأعداء، حسب جملة الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، ورغم الظلمة المفعَمة بالهوام وضواري الأشباح.

على مسار الأحداث التراجيدية الكثيرة التي تتواتر على المجتمع الفلسطيني، ظل هذا المجتممع على نحو من حيوية إبداعية وانتعاش أدبي وفكري، في الضفة وغزة وداخل فلسطين الخط الأخضر. علامة انتصار الحياة حتى في أحلك شروط الاحتلال والانقسام، انتصار روح الإنسانية والجمال.

نزوى حلم الحريّة والإبداع 

25 عاماً.. التحديق في مرآة هذا الزمن العاصف، مؤلم ومرير، خاصة على الصعيد العربي، الذي توالت عليه الأحداث والمآسي، فكأنما هو الضحيّة المثاليّة لحقبة التاريخ الراهن ، وكأنما هو المحاولة الأكثر دمويّة وخراباً وحلماً للخروج من هذا التاريخ ومضائقه ونكباته المتقادمة.

وبما أن المجلة ولدت في الفضاء العربي، بالضرورة لا يمكن أن تتنكب مآسيه وأحلامه.

 نزوى منذ بداياتها الأولى حاولتْ أن تشكِّل منبراً مفتوحا لجميع الكتاب والأدباء من مختلف الأجيال والأماكن والتوجهات الإبداعية والجماليّة بمقترحاتها وأفكارها، أي تلك الخارطة الموّارة بالتناقضات الحميمة، بالمحبة والضغينة والصراع.

أسماء متحققة أخذت حيِّزاً من الشهرة والإنجاز، وأخرى واعدة، في الطريق الى شغل حيّزها الخاص.. وهكذا…

منذ بدايتها حاولت أن تكون هذا المنبر الذي يلتقي فيه الأصدقاء من كل مكان لقاء الإبداع والحريّة، مهما كانت الالتباسات والمعوقات التي عادة ما تواجه أي عمل ينحى هذا الاتجاه، خاصة إذا كان في مناخ ما زال في طور التأسيس على صعيد الثقافة الحديثة وأسئلتها الإشكالية وواقعها المدني. في هذا السياق، حيث الحداثة والعلمانية قرينتا الالحاد والمروق.

هذا المناخ الذي لا يعرفه إلا من خَبر مرارتَه وعنْفَه المدلهم.. المحرر المسؤول والفني والعامل في إطار المجلة من أجل استمرارية إصدارها الفصلي، ليس إلا مسؤولاً عن تنظيم مواد الأصدقاء، الكتاب والشعراء، على مساحة المجلة حسب «الخطة» الموضوعة للأعداد المتعاقبة.. انه منظِّم حركة مرور المادة ليس أكثر. 

هناك من يتوهمها «سلطة» وتلك هواية لدى البعض. السلطة هواية جماليّة ، غرام وعشق وهيام، حتى لمن لا يملك من أمرها شيئا. حضور وهمها يتطاول على من يمتلك سدتها الواقعية وعناصرها. البعض الآخر يحدق في رعب الموت وعبور الكائن، فلا يرى إلا سلطة العَدَم..

وهذه (هواية) أخرى، إذا وحّدنا الهواية بالهاجس الأساسي للذات والمصير..

نحاول التحرير والنشر من غير شلليّة ولا محاور ولا طموح إحداث انقلاب في وضع الثقافة والفن، دعك من المجتمع.

من يكون على رأس (منبر) في الوسط الثقافي (العربي خاصة) مهما كانت محدودية تأثيره، عليه أن يفكر بالخروج من هذا المضيق، بأقل الخسائر فداحةً وجراحاً.

مضى ذلك الزمن الذي تشكل فيه المجلات تيارات تزعم خلق تغييرات مفصلية في سياق الأدب والتاريخ.

يبقى أن المجلة في حدود مساحتها وزمنها لا تستطيع تلبية نشر كل ما يردها من المواد الجيدة والممتازة التي تفوق هذه المساحة وهذا الزمن بأضعاف.

بالتأكيد هذا كرم الأصدقاء من الكتاب والشعراء، كرم وثقة على جانب عميق من الفيض والأريحيّة لولا استحالة (مع الأسى العميق) رد هذا الكرم بمثله بسبب ضيق الحال، منه الذي أشرنا وسواه..

يبقى ان تنظيم النشر منعاً للإحراج، في التفاهم المسبق حول المادة يشكل نوعاً من حل، ورفع عتب يندفع عند البعض الى ممارسة لغة عنيفة لا نستحقها، كما لا يستحق صاحبها عنف رد مماثل وربما أقسى تبعاً للأفعال غير المبررة، وردودها. (تبا لكم).. (من تظنون أنفسكم كي لا تنشروا مادتي؟) وغير ذلك الكثير، بالاسم الصريح، دعك من الاسماء المقنّعة في بعض مواقع الجرائد تصل حدَّ السباب والتجريح مما يقع تحت طائلة الملاحقة القضائية والقانون.. وإذ نعرف من يقف وراءها كتابة وتشجيعاً، فالترفع والتجاهل هو الحل الأمثل. الحقدُ، يُولد جاهزاً، مكتمل الطلعةِ والنموِّ ورغبة الافتراس، خاصة لدى أولئك الحالمين «بريادة» عربية حاسمة، لا تستقيم إلا بوهم تدمير القرين المنافس، وان لم يوجد فسيتم اختراعه وتعيينه، ومن ثم التربع على عرش الخراب..

وهناك جزء أساسي من المادة يسري عليه تقليد «التكليف». إذ لا يمكن لأي مجلة أن تكون رهينة البريد مهما كان فيضه وكرمه.

يبقى، أن هناك يقيناً، أخطاء وتجاوزات، سهواً أو نسياناً وسفراً، في غياب كادر يستطيع لمَّ شتات المادة القادمة من كل الجهات.

نعتذر حتى عن الأخطاء التي لم نقترفها..

الغفران طاقة إنسانيّة وأخلاقيّة كما عبرّت (حنا آردنت) إذا كان في حدود المعقول وتجاه من يستحق.

مع الأسف لم تستطع هذه الأسطر أن تبلغ من نعمة الاعتقاد مبلغاً، يؤهلها للقول مثلا: آه، التاريخ سينصف الجميع. ولا بد أن تنجلي الحقيقة!! وغير ذلك من عبارات اليقين الخيري الذي تشكل نوعاً من عزاء.

لنترك الأمور في مهبِّ الصدفة العاصفة التي تخلع الأبواب ليلَ نهار.

*  *  *

صرخة الألم .. صرخة الحرية.. أيهما أسبق هذا هو النموذج المدرسي لترَف المعرفة.

*  *  *

كان لا يبالي بالإبادات والمظلومين من فرط ما نام مع الضحايا على سريرٍ واحد.

* ملاحظة:

نشرت هذه المقالات في مجلة نزوى.

سيرة ذاتية 

(سيف الرحبي)

سيف الرحبي  شاعر وكاتب صدر له: «نورسة الجنون، شعر (دمشق، 1981)، الجبل الأخضر، شعر (دمشق، 1981)، أجراس القطيعة، شعر (باريس، 1984) رأس المسافر، شعر (الدار البيضاء، 1986)، مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور، شعر (عمّان، 1988) ، رجل من الربع الخالي، شعر (بيروت، 1994)، ذاكرة الشتات، مقالات، (بيروت- الشارقة 1991) منازل الخطوة الاولى، سيرة المكان والطفولة (القاهرة- مسقط 1993) ، جبال، شعر، (بيروت، 1996)، معجم الجحيم، مختارات شعرية (القاهرة، 1996)، يد في آخر العالم، شعر، (دمشق 1998) ، حوار الأمكنة والوجوه، مقالات، (مسقط- القاهرة 1999)، الجندي الذي رأى الطائر في نومه، شعر (كولونيا- بيروت 2000)،  قوس قُزح الصحراء، تأملات في الجفاف واللاجدوى (المانيا – بيروت ٢٠٠٢)، مقبرة السلالة (ألمانيا- بيروت 2003)، الصيد في الظلام (ألمانيا- بيروت 2004)، أرق الصحراء (بيروت)، قطارات بولاق الدكرور (ألمانيا- بيروت)، من بحر العرب إلى بحر الصين: سألقي التحيّة على قراصنةٍ ينتظرون الإعصار  (بيروت)..، نشيد الأعمى(بيروت )، حياة على عجل (بيروت) ، رسائل في الشوق والفراغ (بيروت) ، حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة  ( دبي)، نسور لقمان الحكيم (بيروت)، حوارات حول الكتابة والحياة (دار الغشام- مسقط)، زمن الرمة والحروب العبثية (دار الغشام- مسقط)، شجرة الفرصاد «في سيرة المكان والطفولة»، (بيروت)، صالة استقبال الضواري «رحلات وأسفار» (القاهرة).

قُدمت حول الشاعر، الناثر كتبٌ واطرحاتٌ تتعلق بأعماله المختلفة، كما تُرجمت مختارات من أعماله الأدبية إلى العديد من اللغات.

ويمكن مراجعة الموقع الالكتروني التالي:   (www.alrahbi.info)