كتاب

شجرة الفرصاد

(من سيِرة الطفولة والمكان)

سيف الرحبي

«بداياتي لا تهمني، ما يهمني هو البداية.. وإذا إصطدمتُ بولادتي، بهذا الهوس… فلأني عاجزٌ عن الاجتماع باللحظة الأولى للزمن. كلُّ قلقٍ فردي مردُه في آخر المطاف الى قلقٍ كوني، يقوم فيه كلُ إحساس من أحاسيسنا بالتكفير عن ذنبِ الإحساس الأوليّ..».

                       سيوران

الإهداء:

الى خالي أحمد بن محمد الرمضاني،

وتلك الأرواح والوجوه التي تشكل حقلَ الشفافيات والطيور التي ما تفتأ في الذاكرة، منتشيةً وجريحة..

***

 حين تقف حِذاء البلدة من جهة الوادي أو من جهة التلال الصخريّة وقد بدأ الليل في النزول واحتلال مواقع النهار كاملة، تكف حركة الدواب والبشر وتقل حركة المسافرين في الوادي، لا تستطيع أن ترى شيئا بوضوح، كل الكائنات غارقة في الظلمة والسديم. وحدها سرجان (بوفتيلة) الواهنة تغالب تلك الأشباح والكتل. مواكب النخيل وقد غمرها الظلام العميق مثل سفن مبعثرة في البحر غداة رحيلها. لا نار ولا نهيق حمار غارق في النوم يحلم باقتحام الاناث، والأفلاج تسيل في أحلام الشجر المسترخي على أكتاف الغيم حيث الطيور تحلّق في سماءها السرمديّة.

وإذ ركزّت قليلاً في مرآة الصمت السائل في الأفق، يمكن أن تحدس بالعْظايا والزواحف الأخرى التي بدأت تتسلق الجدران المتصدّعة والعواء الجبليّ المحتقن كبداية حدث يهم بالانفجار، حدث الحياة البسيطة وقد اقتربت ديكتها التي تبدأ خربشة الأوراق والصَيحَان التدريجي قبل الصباح، قبل خيوط الفجر الصادق التي ستبدأ الانتشار، في السواقي والعيون وهسيس حيوات قادمة من المجهول، قبل أن تنفجر الديكة والمؤذنون مطلقين أصواتهم إلى الأعلى، إلى أعماق سماوات، عطشى إلى الحنوّ والرحمة.. بعدها تبدأ القرية في الاستيقاظ والنشور وتدب الحركة في أحشاء البلدة وتُطفئ السرجان الذابلة و«تشحج» الحمير، ويمكن سماع غناء البلبل على شجرة الفرصاد، محدساً بمقدم ضيوف جدد.. وحدهم الأطفال و«صراريخ» الصيف لا تشكلّ لهم اليقظة حالةً مرحة حين تقترب أضواء الشمس الطالعة وتجبرهم على الاستيقاظ ملتحقين بموكب القرية وكائناتها المستيقظة من نوم وكأنما تقطع أرخبيلاً من السنين لتبدأ يوماً آخر.

***

حين تبدأ السُحب والغيوم في الظهور والتشكّل، على حوافّ سماءٍ تتماوج فيها الألوان مع زوابع الغبار المنبعثة من خرائب البيوت المهجورة والمسكونة بتحولات الجنّ، ومن الشِعاب المجاورة، يقولون لبعضهم: لا تنظروا إلى الغيوم الطالعة خوفا من أن تهرب إلى سماء أخرى، اخفضوا أنظاركم باتجاه الأرض العطشى: إن الغيوم تخيفها العيون المحدّقة نحوها، انها ترى وتحس من علياء سماءها وتسمع أيضا، إنها كينونات أثيرية مرهفَة… لا تتكلموا عنها حتى تمطر ديماً ومزاريب وشعاباً تتدفق من خواصر الجبال، تفيض جراّئها الأفلاج ويخصب الزرع ويتكاثر الضرع حتى تعمّ البهجة كائنات القرية بشراًُ وحيواناً ونباتاً، أحياء وأمواتاً..

هكذا كانوا يتحدثون إلى أجّنة الغيوم الطالعة من خلف جبال عصيّة، كانوا يتحدثون أيضاً إلى نخيلهم وأشجارهم بأعمارها المختلفة، من جيل الفسائل، الشابة الفتيّة، وحتى الهرمة التي تتمايل مع الريح بتعبِ السنين المتقادمة في عمرها المديد حتى توشك على السقوط، يتحدثون إلى تلك الكينونات المفعَمة بالجمال ومنافع الحياة كما يتحدثون إلى أطفالهم وأفراد عائلاتهم وأقرانهم في القرية الغارقة في الأقاصي والنسيان، كأنما تلك المخلوقات من بشر وحيوان ونبات وجماد مُؤلّفة قلوبهم بروح تفاهم وإصغاء مُتبادل لا يعكر صفو أيامه ولياليه إلا الضغائن والأحقاد التي توارثوها كما توارثوا حبَّ الأرض، يصغون إلى تسبيحها في الصباح حين يبدأون الحرثَ والبذار، تلك الأحقاد التي تنفجر بالبلدة وتفضي إلى سفك دماء وحروب.

كانوا حين تبدأ الغيوم في التوافد من خلف جبال (وادي العق) يتحدثون إلى بعضهم خافضي الرؤوس، يتحدثون همساً إلى الغيوم والى الخالق عزّت قدرته، بدعوات المطر، فيما يشبه صلاة استسقاء صامتة، كي لا تهرب إلى أماكن أخرى وتستمر لعنة المحل والجفاف..

ومن مألوف القول والسلوك أن نرى طالع النخل (كان أخي محمد لا يتردّد في طلوع أعلى نخلة «عوانة» في القريّة حتى لو كانت في مهبّ الريح..) وسقاة الزرع والشجر يتحدثون إليه ذلك الحديث الحميم، وكذلك الحمّار إلى حماره والجمّال إلى جماله… حتى الصخور والجبال تُذرَف على سفوحها في صباحات الرعي تلك الأغاني والأناشيد ومساءات العودة إلى المنزل والأهل.. العناصر والكينونات تصغي إلى بعضها كأنما تذكّر بصباحاتِ البدء لخليقة ستجرفها أمواج الطاعون والدم التي تترصد على الباب والعتبة منذ خطوتها الأولى على هذه الأرض.

حتى البرهة الراهنة ما زال سكّان المدارات الأكثر جفافاً من المناطق التي استوت في العمق من خط الاستواء، ما زالوا مسكونين بنوازل المحل وشحّ المياه، يستعيدون ذلك الإرث المتحّدر من أسلافهم، حين تعلن الأرصاد الجويّة قدوم منخفض جوي ربما يؤدي إلى عواصف وأعاصير وفيضانات. تبدأ النصائح والإرشادات، لتكون مادة الهواجس والكلام للساكنة على اختلافها، لأيام.. ويحدث أن يولي الاعصار أو العاصفة المطريّة وجهتها إلى مناطق أخرى، ليست بمثل هذا الشوق والالحاح إلى المطر والخصب، أو تذوب وتتلاشى في خضمّ البحار والمحيطات..

ينعطفون بغضب إلى الكلام على (اللعيان) والهدير اللفظي الذي جرف وعْدَ المطر القادم بعيداً عن البلاد.. النظر والتحديق إلى الغيوم والكلام الكثير عن المنخفضات والعواصف الرعدية الممطرة القادمة من خلف جبال الغيب، يجعلها تهرب.. سوء الضيافة والاستقبال يزعجها فتهرب لاهثةً إلى البعيد..

***

الأطفال وحدهم لا يزعجون الغيوم التي تبدأ في التشكُّل في السماء المتاخمة لقلوبهم وعواطفهم السيّالة، حين يبدأون في عدّها غيمة غيمةً، صغيرةً وكبيرة ومتوسطة، وفي تسمية هيئاتِها الحيوانيّة والبشريّة، على شكل وعول راكضة في سفوح الجبال كأنما تهرب من قنّاصين يلبدون على مقْربة، أو مثل طيور القطا تعبر المضيق، ودجاج الماء في روابي النخيل.. وعلى شكل عقاعق وحمير وأفراس وحشيّة، كأنما السماء مرآةً عملاقة لحيوات الأرض وطبائعها.. وأحيانا تأخذ الغيوم والسُحب، شكل الأطفال أنفسهم، فيتنادون بأسماء الغيوم والطيور.. هكذا يقضون الوقت حتى يبدأ الودْق. من الرذاذ،  حتى العصْف والجنون حين تنزل الديم الغزيرةُ السكوب.

والغيوم في هذا المنحى تشبه الأطفال، لذلك لا تنزعج منهم، بل تنسجم وتتوحدّ في البراءة والخيال الجامح، في الهدوء الماكر الذي يخبئ العواصف والرعود التي ستنفجر صواعقها بعد قليل.. الغيوم والأمطار تحمل روح أطفال يلعبون في ضفاف الأودية والبحر، والأطفال يحملون روح الغيوم وهي تترّحل بين الأماكن والقفار، المدن والمحيطات.. الغيوم صديقة الأطفال وهي تحل في المطلق والعابر، على أسطح البيوت المكلومة والورود. تحل في نَدى الصباح وأرواح المقتولين في ليل المدن وعراء المحيطات المدلهمة، بحثاً عن الحلم المُجهض وسط رعب المذابح، والحرية والحياة.. وهي مثلهم لا تسكن التوّقعات والثبات، مسافرةً في صفير القطارات وعواء الرياح الثكلى، في صرخة الذئب الوحيد بعد أن أُبيدتْ سلالته، في أحلام الطيور وهي تقطع المسافات بحثا عن أفراخها والغدير..

الغيم والطفولة والشعر، تسكن المطلق المتشّظي، في الضوء الذي دخلت منابعه النجمية طور الإحتضار وفي هياج المحيطات.

***

من أكثر الكينونات المحيطة التي تشغل الولد في أوقات فراغه الكثيرة، وتجعله في حضرة الخوافي والغموض، كانت شجرة الفرصاد في حوش منزل (التبينيّات) بسرور، والبئر، التي تحتل ركناً في حوش منزل (مطرح) الذي تؤمه العائلة أوقات الشتاء..

كانت شجرة الفرصاد خاصة على حافة الغروب، حين تبدأ العصافير الدوريّة والطيور الأخرى ضجيجها الذي يمزّق السكون، لكن من غير ازعاج، بل بحميمية آسرة، في العودة إلى أعشاشها ومنازلها التي استوطنتها في غدور الشجرة، أغصانها وأعماقها الدفينة.

تحتل اماكنها مع الأفراخ الصغيرة التي تولول بشغف إلى رأفة الآباء والأمهات، ومن ثم يبدأ صخب (المبِيتة) في الهدوء التدريجي ويسود السكون المطلق الذي لا تكدر هدوء لياليه الشديدة الظلام والعتمة، إلا عبور طائرة يصل صدى صوتها التائه بين كواكب ومجرّات، أو عبور شاحنة ركاب تبعثر حصى الوادي والمياه، باتجاه وادي (العق) والبلاد البعيدة.. ويبدأ الليل بأخذ مكانته سطوةً ونفوذا على الأرجاء قاطبة. ذلك النوع من الليل وظُلماته التي تغري المتصوّفة بالاقامة الواقعيّة والرمزيّة وتغري شعراء الأعماق والهاويات، مهبط الإلهام والإشراق.

في المساء على حافة الغروب، تبدأ شجرة الفرصاد في الارتخاء والاستراحة من توترات الشمس ويقظة النهار، وتستسلم بالكامل لمقدم الطيور، في غياب الصِبية بجلود القنْص، تستسلم لمملكة الليل والأحلام.

أما البئر بمنزل (اللولوّة) في مطرح، مكان آخر لألغاز الطفولة وخوافيها..

كل صباح يحدّق في أعماق البئر، بتيه وهذيان يرى وجهه على صفحة الماء البعيد، وكأنما في مرآة، في ظل غياب المرايا، كانت المياهُ هي المرايا التي يرى الكائنُ فيها تضاريسَ وجهه أو ما يشبه الوجه الذي يتوّج الجسد بعينين وأنف وأذنين، بتفاصيل خريطة وأشباح لا حصر لها. كل خيال يرى وجهه على طريقته وقدرته على الرؤية والتحليق في مرايا تلك البراري الوحشيّة.

أما هو فقد كانت صفحة مياه البئر تسحره بأبعادها وغموض كائناتها المتموّجة، أكثر مما سحرته مياه البرك والأفلاج القريبة التي تكاد تلامس عينيه ووجهه.. أحياناً كان يصرخ بقوة، يتصاعد صراخه حتى يخضّ مياه البئر وأركانها التي تتصادم من وقع عاصفة الصوت، الذي لم تعد حنجرته الصغيرة مصدرها، مصدر الصراخ ونبْعه، وانما أصبح تداعياً واسترسالاً لصراخ بشريّة كاملة، تتوافد من كل فج وصوب..

ربما من هنا تبدأ مأساة (نرسيس) الشهيرة، فربما لم تكن هناك مرايا في زمنه، فرأى صورته التي أفنتْ روحه وجسدهَ عشقاً، في مرايا المياه وسحرها المنساب من ينابيع الغيب.. ربما لم يقض نرسيس عشقاً لجمال صورته أو ما توّهم، حتى أضحى مضرب المثل النرجسيّ للأزمان المتعاقبة، انما قضى نحبه من الصدمة وهو يحدّق- في مرآة الطبيعة، من هول صدمة جمال آخر، ليس وجهه المنعكس في ظاهر المياه، إلا المدخل، لهول الظلام العميق الذي يلف حيوات الكائن والطبيعة، شيء يستعصي على الوصف جَلب الصدمة والموت.

تلك البئر كانت شاهدة على أول انفصال وصدْع كياني يحل بحياته، كانت البئر التي ينزفون منها المياه (في عُمان يُنعت غَرف المياه من الآبار بالنزْف) مياه الحياة، التي خلق الله منها كل شيء حيّ، لكنها أيضا هي الشاهدة على العواء الجريح لذئب يحتضر في كهوف الجبال المحيطة أمام البرك والينابيع التي خلفّتها  أمطار البارحة.

كم مرة شهدت بئر المنزل العتيق طلعةَ الشمس الأولى؟ شمس شتاء بحري غير قاسٍ، وكم شهدتْ غروبها، محمولة على أشرعة سفن تبحر نحو المجهول، كأنما كانت بوصلة حركة السفن، الأشرعة والعواصف، كما هي مرآة لأعماق الكائن الباحث عن ملامح وجهه الأولى في مرايا الموج، عن ملامح الحياة الأولى، والتي ستزحف لاحقا بثقل الجبال العاتيات والتي كانت في الماضي، ماضي الانسان السحيق خفيفة كجناح طائر يشهد الفجر والمغيب، في أعالي الشجرة الخضراء المورقة، وفي تلك المياهُ المتلألئة لتلك «البئر الأولى».

بثقل الجبال العاتيات وذُرى عُزلاتها بزمن لا يجدي تلطيفه، باستعادة نشيد طفولةٍ غاربة، ولا صلاة لغائب بذلك الورع الروحي المتوسّل لمطلق الجمال والرأفة، المتواري خلف عرش علوّه المُحاط بالغيوم الحالكة والغيوب.

***

يسألني عزان وهو في غمرة اللعب بعطلته الصيفيّة التي بدأت منذ فترة وكان يقلب أكثر من حيوان، في مسرح اللعب والأحلام (ما هذا الطائر….؟).. بعد سرحان وتردد، إذ كنت منشغلا عنه وعن عالمه الطفولي (خفّاش) ويُدعى أيضا في عُمان بالجَدلْ.. وأردف سؤالا آخر، من أين تعرف الخفّاش يا بابا؟، أجبته وقد حملتني آلة الزمن الضوئية إلى تلك العهود الغاربة، من بلدة (سرور): عرفت الخفّاش ذلك الثعلب الطائر من تلك القرية، أشجارها ومقابرها لكن ما يتجلّي ساطعاً في هذه اللحظة التي باغتني فيها عزان بالسؤال، ذلك البيت المهجور في حلة (النطالة) حيث كان يسكن خالي أحمد بن محمد الرمضاني.. كان في ذلك البيت المهجور الكبير، المتصدّع البنيان والأركان، شجرتا غاف وسدر كبيرتان بحيث يبسطان سلطتهما الكئيبة على المكان كله.. هناك كانت تتجمع الخفافيش أسرابا تأوي إلى ذلك الشجر، وكأنه محجّ أو واحة راحةٍ وطمأنينة بعد تحليقها النهاري في أرجاء وأماكن كثيرة.. تراها حين يدبـر النهار ويرحل،  تتقافز وتصخب باتجاهات مختلفة في فضاء الشجر والأغصان والجذور المليئة بالأعشاش وأحلام الطيور المختلفة التي تتعايش تحت سلطة الأشجار الرحيمة.. الخفافيش في ذلك الفضاء المترامي بالوحشة والنسيان، قرب المسجد الذي يخترقه فلج (الحيلي) تُبدع جواً غرائبياً مثيراً للناظر، يطوّح به إلى عالم الجن والسحرة الذين يتطايرون كما تتطاير الآلهة في الأساطير الإغريقية، مع تلك الثعالب المحلقة في غموض المكان المليء بالنذُر والقرابين لأهلنا الصالحين. تلك الكائنات السريّة التي تعيش مع السكان في أحلامهم ولا وعيهم الجمعي كجزء من حقائق حياتهم اليوميّة، مع الأطفال والكبار وسائر الحيوات الأليفة والمتوحشة في كون القرية المتناغم الكينونات والعناصر والأرواح، أرواح الإنس والجن، السحرة والشياطين والملائكة محمولين على مركبة حياة مشتركة في نوع من بهجة العيش والسلوك، على رغم شحّ موارد الحياة ومحدوديتها. بهجة لا يعكر صفوَ جريانها مثل مياه الأفلاج، إلا الموت والغياب الذي يصعق القرية بين الفينة والأخرى، والذي يُعزى جزء منه إلى أعمال السحر والسحرة حتى ضمن العائلة الواحدة، إذا مات أحد أو غاب (إذ لا فرق بين مفردة الموت والغياب في الخطاب اليومي للقوم) وهو في مقتبل العمر، أحيانا يطال الإتهام الأب أو الأخ الأكبر، بقصْف هذا العمر المبكر الذي لم يذق طعم الحياة بعد، ضمن صفقة أو عقد شفوي مع سحرة آخرين من القرية أو من أقاصي بلاد بعيدة إذ تمحيّ المسافات وقوانينها في حياة السحر، يمكن للساحر أن يقفز خطوة كي يجد نفسه في الهند أو زنجبار، ليتداول أهل القرية لاحقاً خبر رؤية الشاب أو الشابة الراحلينْ على ذلك النحو المفاجئ في وادٍ أو قفْر من قفار البلدة المحيطة أو في بيت مهجور مثل ذلك الذي تسكنه الخفافيش، أو في ضاحية نخيل كانت ترتادها العائلة في سالف الزمان. وأكثر من مرة سمعنا في الزمن الغابر عنف ذلك الصراخ الليلي والجَلبَة الباكية المتفجرة من مكان ما في أعماق البلدة أو حوافها مختلطة بعويل بنات آوى من شِغاف الجبال المحيطة ليتبيّن أن أخوة الفقيد هجموا على أبيهم في جو هستيري من الغضب والنحيب: كيف هانت عليه روح فلذة كبده ليعقد بها تلك الصفقة الكارثيّة التي لا مردّ لها حين تُبرم بين عتاولة الرعب والغموض. أما الأم فلم تجرِ حولها أي أخبار أو حوادث من هذا القبيل، ظلت طاهرةً معصومة في كنف الفقْد والحنين، في كنف الرأفة الأموميّة المحظ، المنزه من أي خدْش يطاله أو شك.. يمكن القول انه حتى الأب لا يطاله الشك في حبه لأبنائه لكن اختراق هذا الحب والتباسه يتم في جو مفعم بالغموض والريبة، من ألعاب السحر وقيمها النافذة..

تلك الخفافيش أو (الجدالا) بلهجة أهل الداخل العُماني، التي تشبه الثعالب أحياناً، والفئران أحيانا أخرى، وهي تطير في الهواء والريح، وعلى أعالي الشجر والخرائب والمقابر، وتلك الثعالب الزاحفة والراكضة، على أرض البشر والحيوانات الأخرى والتي يسميها العُمانيون أو أهالي هذه المناطق تحديدا بـ(الحصينيّات)، في غزواتها الليليّة وهي تنحدر من الجبال والسفوح والكهوف، إلى الحقول والنخيل لترصد الطيور الأليفة التي يربيها السكان، ووجبتها المفضلة الدجاج والطيور عامة، حيث تختار شجرة، تحدّس بحسّها الماكر، تكون مثقلة بالطيور النائمة في أبديّة الغدور والأغصان.. تقعي تحت الشجرة على قائمتيها الخلفيتيّن متحفزة للوثْب والانقضاض.. وعيونها، عيون الثعالب البريّة بذيلها الطويل (الفرّاخة) تشّع بأضواء حلميّة مبهرة باتجاه أعالي الشجرة، وفيما يشبه رؤيا النائم المترنحّة بين النشوة والصدمة، يتساقط الدجاجُ والطيور سكرى في القاع الطيني الرطب، لتكون الثعالب في استقبال وليتمها المنتظرة، حتى شجرة الفرصاد الباذخة في صحن البيت القديم، لم تسلم من غزواتها الليليّة المتعاقبة على طيور القرية، حيث يختلط الدجاج في سقوطه الحالم تحت وقع جاذبية سحر العيون الثعلبيّة المضيئة مع الحمام وعصافير الدوري الهاربة من قنص الصِبية النهاريّ إلى حضن الليل الدافئ والشجرة.

أمضي في هذا السرد المتقّطع مثل شظايا بروق بعيدة بينما ناصر وعزان يلعبان بقربي، بالحيوانات والطيور الاصطناعية، بالوحوش والثعالب السيارات وقفازات الملاكمة، الكرات الملونة بأنواعها، وسط ذلك الطيف الهذياني لما قبل الوجود ومسمياته وتحديداته الصارمة…

في ذلك المكان الذي كان يقطنه خالي أحمد بن محمد الرمضاني، واحة النخيل المنخفضة عن مستوى سطح القرية التي حفرها، سوّاها وعمرّها بجهده الشخصي، بيديه وأصابعه المدّماة من فرط شراسة الأرض الصخريّة، حين عاد من الشرق الافريقي (زنجبار) في مطلع الستينيات من القرن الماضي، اذ بعد عودته وقعت تلك الأحداث الدمويّة التي عاد على أثرها معظم العُمانيين قسراً وإكراهاً هاربين مع أطفالهم ونسائهم بملاس أجسادهم، من الابادة الجماعيّة والخراب، إلى وطنهم الأول، لاجئين إليه، والذي هو الآخر كان غارقاً في قسوة المعيش والتخلف والظلام، يحاولون تأسيس حياة أخرى بدايةً من الصفر والحطام. الخال أحمد كأنما كان يقرأ ملامح انقلاب الأوضاع القادمة والمذبحة المروّعة التي دبرتها الامبراطورية البريطانية آنذاك بشكل موارب وخبيثٍ كالعادة.

الخال أحمد استقر في بلدة الولادة سرور، أما بقية أقاربه واخوته من بني رمضان، أو الكثرة منهم فاستقروا في بلدة (السيب) مؤسسّين بصعوبة لتجارة بسيطة وحياة كريمة، في تلك البقعة الواقعة على شاطئ البحر والتي كانت تُسمى (الغبنة) (حلة آل يوسف حالياً)..

أتذكر، حين زرناهم لأول مرة مع الوالدة شقيقة الخال أحمد كان البحر يخبط بموجه المحمّل بالزبَد والحطام، بيوتهم السعفيّة والطينيّة، فلم يكن هناك بناء اسمنتي إلا نادراً معظمه في مسقط، كان المشهد البحري بعواصفه وطيوره، الغربان خاصة التي تجثم على الموج المتعاظم، وفوق البيوت والأشرعة سُحبا تتقاطع مع الغيوم المنْزلة ودْقها على البلدة الساحليّة، حيث يمتد شريط مناطق (الباطنة) من السيب حتى ساحل عُمان الشمالي حتى دولة الامارات العربية المتحدة راهنا.

كان المشهد البحري بكامله يبعث فينا نحن القادمين من بلدات الجبال والصخور والأودية، دُوار النشوة والغرابة، وكانت الغربان التي تقلصّت إلى الحدود القصوى في الفترة الحاليّة، تتقاسم المكان مع البشر، ومن غير المبالغة، انها تتبدّى أكثر عدداً منهم وسطوةً ونفوذاً… وفي تلك الفترة كنا نصطحب معنا بندقيّة صيد (سكتون) حين سوّلت لي نفسي بتوجيهها إلى سرب غربان جاثمة أو محلّقة حيث سقط فرد من أفرادها مضرجاً بدمائه. فما كان من جموع الغربان الغاضبة على الحدث المأساوي والتي تجمعت في لمحة عين ان هاجت، منقضّة عليّ من بين المتواجدين هناك من الصِبية والرجال الذين تجاوزتهم باتجاهي حصراً وتحديداً، فما كان من الأهل إلا أن أدخلوني داخل المنزل وأغلقوا الباب والنوافذ الصغيرة التي كان يتسلل منها الضوء ونسيم البحر المنعش. ظلت الغربان بجحافلها تخبط الباب بمناقيرها وأجسامها حتى حلّ الليل وذهبت إلى المنازل والأعشاش..

وأتذكر في تلك الزيارة عم والدتي الشايب سيف بن سليمان الرمضاني، وهو في طور الشيخوخة القاسي والأليم عليه أكثر من غيره، وهو أحد العائدين إثر المذبحة المروّعة، حيث قضى عمراً بأكمله في الشرق الافريقي المترف مقارنة بظروف عُمان في تلك المرحلة.. كان مريضاً ومع غياب الأطباء والأدوية كان يصرخ من فرط الألم طوال الليل ويضرب الأرض والجدران بيديه القويتين في الزمن الغابر، ذلك الزمن الذي يجرفه اليه الحنين والألم، فنسمعه في غمرة الهذيان ينطق بحكايات تستعيد ألطاف ذلك الزمن ورفاهيته في الوقت الذي يلعن فيه اللحظة التي قذفت به إلى أرض أسلافه من جديد.

ربما فكر الشايب سيف مثل آخرين، وهو في رغَد العيش الافريقي، بوطنه الأم وراوده شيء من الحنين إلى المرابع الأولى، وحين أُجبر على الهروب إليه، وهو في تلك السفينة الشراعيّة البدائيّة في خضمّ أمواج المحيط الهندي العاصفة، حاول اقناع نفسه بمنطقيّة العودة ووْصل ما انقطع في بناء حياة جديدة، حاول اقناع نفسه، لكن أوضاع بلاده الأولى وقسوتها صدمته حتى طوحَت به إلى المرض والجنون والموت.

لا أعرف إن كان الخال أحمد يملك تلك الأرض أم اشتراها حين عودته تلك الأرض الصخريّة الجدباء التي تقع على هضبة القرية من الأعلى، حيث حوّلها بعزيمة لا تلين وصبر لا ينفد، إلى واحة نخيل وأشجار فاكهة من أغنى وأخصب الضواحي في بلدة سرور، بانياً في الأعلى بيوتاً طينيّة وآجرّية راسخة حتى اللحظة حيث يسكن الأولاد والأحفاد.

وهي (الأرض) متاخمة للمقبرة التي تدفن فيها السلالةُ غالبا موتاها. وبيديّ هاتين دفنتُ في تسعينيات القرن الماضي والديّ في رحابها الجرداء المتقشفة إلا من شواهد صغيرة غير مكتوب عليها حرفاً واحداً.

تلك المقبرة التي طالما حلمتُ وتخيلت سكانها، يغشون القرية في الليالي المدلهمّة وينتشرون حول أماكنهم الحميمة ليطفئوا بعضا من حنينهم الجارف إلى العائلة والطفولات الغاربة ليعودوا إلى سكنهم من جديد.. خاصة تلك الوجوه التي غيّبها الموت حديثاً، دائما تستفزّ الخيال الطفليّ بمطارح وهيئات مختلفة من زيارتها للأحياء حتى طبيعة نومها في رحاب الأبديّة.

أسمعها وأكاد أراها من خلف أشباح الجبال والضباع المنقضّة على فرائسها وهم يتسامرون في الليالي القمريّة المشّعة مقيمين ما يشبه مضافات الاستقبال للقادمين الجدد وأولئك الذين مضى عليهم ردحاً من الزمن، مضافات تمتلئ بالتمر والقهوة وتمتلئ بأحاديث الأيام الخوالي بجمالها ومرارتها، تلك المرارة التي أورثتّهم الندم والعتاب.. أيام كانوا يلتقون تحت مصبّات مياه الأودية الحديثة العهد، وتحت رعاية الظلال الشاسعة للنخيل والجبال. لا يقطع عليهم ذلك الاسترسال الهذياني للطمأنينة والدِعة إلا تلك الصرخة التي تنفجر فجأة من أعماق البلدة والحريق،  ولا تقطعه الا تلك الأيام التي ينزل عليهم فيها الظلم الفادح والألم الممضّ ولا يعرفون تحديدا مصدر ذلك الشقاء الجماعي.

وأخال أن جرادَ المقبرة الصغير الذي يتسلل إلى برزخ جلساتهم من بين الشواهد والشقوق المنسيْة، كان يذكرهم بزحف جراد الشتاء الذي يكر عليهم أسرابا وجماعات ليأخذ الحديث دفّته عن الزرع والحصاد، المحل والخصب الذي تزدهر فيه الأعراس والولادات لتجديد الكائن في التربة والسلالة.

وكنت في تسعينيات القرن الماضي، دفنت فيها والدتي بعد والدي رحمها الله، وهي الشقيقة الوحيدة للخال أحمد، وكنت منذ الطفولة لم أزرْ تلك المقبرة ولم أرها بسبب غيابي الطويل عن البلدة.. وبسبب هذا الحدث الأكثر فجيعة في حياتي، كتبت على إثره ديوان (مقبرة السلالة) لأخفف ولو كقطرة في محيط الأسى والفَقْد، من وقع حِدته وثقله على الروح والمشاعر، إذ زاد في مأسوية هذا الحدث الفارق، ما سمعته ضمناً بين عائلة الخال والوالدة ومن أقران جيلها، بأنني ساهمتُ (من غير قصد بالطبع) في حزنها ومرضها بانفصالي وغيابي الطويل عنها، هي الحنونة البالغة الرهافة والرأفة التي تنزل دموعها لأبسط حدث يلم بأفراد العائلة أو حتى حين تسمع أخباراً سيئة من بلاد مجهولة بالنسبة لها، تنزل دموع العطف والتضامن في رقة انسانيّة لا متناهية… وكان الوالد لديه بعض هذه الصفات لكنه يخفيها تحت رداء الحزم والجلّد ازاء كل الأحداث صغيرها وجسيمها..

ربما فكرتُ أن لو قدر للزمن أن يعود أدراج عواصفة وأحداثه من جديد، لما تركتها ثانية تحت أي شرط موضوعي كان. لكن ما قُدر كان. ونحن جميعاً نمضي في الطريق نفسه، الطريق السالك عبر أجياله إلى  مقبرة السلالة العائلية والبشرية جمعاء، أخوتي في الرضاعة والمغيب..

ذلك النبع الذي لا ينضب حتى وهو خلف وحشة الليالي والقبور، النبع الأمومي الذي لا يشبهه إلا خالتي (نصرا) التي ما زالت تضيئنا بما تبقى من نور حياتها المتعَبة. فهي تشبه الوالدة في الشكل والمعنى. هاجمها الألم والمرض أكثر في الفترة الأخيرة حين فقدت اثنين من أحفادها في غمرة اليفاعة والزواج، وقد ذهبا إلى بلاد الشرقيّة من عُمان ليعودا هيكلاً محترقاً، لا يمكن حتى التعرف على الوجهين النضِرين بسبب ذلك الحادث الوحشي للارتطام.. وهو يندرج ضمن حوادث وارتطامات يوميّة تذهب بالعُمانيين كقرابين لذلك الوحش الأسطوري الرابض في الطرقات والذي لا يرتوي من دماء المسافرين في عالم الشقاء والبؤس المترحل معهم على الدوام.. وبما أن الأسى يبعث الأسى ويستدعيه، فكيف لي أن أنسى تلك الليلة الظلماء الموغلة في الألم والحزن الصاعقين، التي تعود إلى أواخر الثمانينيات، حين ذهب (مبارك) وهو ابن أخي الكبير محمد، والأخ الأكبر لمحمود وأحمد (الكاتبين) وكان يقارب عمري في السنوات إذ تربينا في مهد طفولة واحد…

ذهب مبارك بن محمد بسبب اتصال من والده، الذي تعطلت عليه السيارة، وهو قادم من مدينة دبي، إلى مسقط.. كان الوقت قبل طلوع ضوء النهار، حيث صدمته شاحنة فعاد جثة هامدة.. كانت تلك الليلة الهستيرية في علوّ صراخها الجريح واختلاط مصادره في ليل القرية الذي تُولد وتُغادر في أحشائه الأجيالُ والسلالات..

ليلة هذيانية يعلو ويتعاظم فيها نحيب الأم فوق كل الأصوات النادبة، بينما الأب ينفجر بعويل الندم والغياب الصادم لابنه البكر… في تلك الليلة الليلاء التي تجزّ الحشاء وتستدعي الراحلين بذلك الشكل القاسي الذي لا يُنسى ولا يغتفر، لا يعتقد المرء أن الأحياء الأب والأم خاصة، سيواصلون حياتهم. وحدَه الايمان والتسليم القدري الإلهي الذي يبلل جوانح المنكوبين بنوع من العزاء والتعويض ليتمكنوا من تجاوز الفاجعة وليس نسيانها.. الحياة بهذا المنحى أقوى من صدمة الموت، فهي المنتصرة لبرهة، وتواصل جريانها حتى النهاية الحتميّة، ومعانقة أرض الراحلين والغياب..

كنتُ أفضل دائما البقاء في منزل الخال واختلق الأعذار للمبيت اذا سمحوا بذلك. كان ذلك المنزل ومحيطه وبشره ذو جاذبيّة عاطفيّة خاصة بالنسبة لي، أفضل البقاء أكثر في ذلك البيت الذي نَحته الخال نحتاً، وهو يطلّ على تلك الجنة الصغيرة كعلامة على الارادة الصلبة حين يبدأ الانسان حياته من الصفر، وسط شروط طبيعية غير رحيمة عرفها الأسلاف العُمانيون وتكيفوا مع قسوتها وقلة مواردها، بالعزيمة والايمان والتضامن الوطني..

أبقى في منزل خالي بمعيّة جدتي التي ما زالتُ  تعيش آنذاك والتي كانت الوالدة على صورتها شكلا وسلوكاً وحناناً يتدفق على الأطفال والكائنات جمعاء… أبقى هناك ولا أعود إلى منزل الوالد في منطقة (التبينيّات) الواقعة على الوادي مباشرة. ذلك الوادي المسترسل بمياهه وأحلامه حتى وادي (فنجا) مجمع أودية كثيرة بما فيها واي (منصح) بمنحنياته وضباعه، حتى وادي (الخوض) ومن ثم المحطة الأخيرة في فضاءات بحر عُمان المسترسل حتى بحر العرب والمحيط الهندي.

لا أعود إلى منزلنا، منزل الوالد، إلا حين تأتي الوالدة لتصحبني قائلة بعتّب (فيه كبيش عندكم ضيعناه من فترة) ويشير الخال بصرامة اليّ بالرجوع… هناك صحبتُ أول حمار يمكن القول انه حماري.. كان فتياً بالغ القوة والريبة أمام أي خطر يهجْس بقدومه، كمياه الأفلاج والحيّات والعقارب السامّة، وأمام الغيول المتدفقة التي يكون اجتيازها ضرباً من المغامرة القاتلة. وتمتد هواجسه الحدسيّة إلى استشعاره قدوم الحيوانات المفترسة كالذئاب التي تنقض على القرية بين الفترة والأخرى، تراه يقف وأنا على ظهره مسمراً قائمتيه الخلفيتين بشكيمة رافعاً الأماميتين بينما الأذنين الطويلتين تنتصبان مثل رادار لاكتشاف الخطر الموشك على الوقوع… وحين أحاول اجباره أحياناً على المضيّ، بشراسة الطفولة ولا مبالاتها على المغامرة والإقدام، يتلكأ طويلاً كمن يعطي فرصة للنصح حدّ التوسل، ويتلفت بعينيه اللتين يتبدى الحزنُ على حدقتيهما الكبيرتين الحائرتين، وحين يدرك أن لا فائدة ويغمره اليأس من أي محاولة لاعادة صاحبه إلى الرشد، يتخذ قراره الحاسم بالرفس والانتفاض العنيف حتى يقع على الأرض أو يطيح به حين يكون خلفه، ويكون بذلك السلوك العنيف قد انقذ نفسه وصاحبه على السواء.. على رغم صغر سنه كان أكثر حصافة وحكمةً من صاحبه المتسرّع الذي كان في أحايين كثيرة لا يحسب حساباً لأي شيء مهما كانت صعوبته وخطورته، مثل الصراع  مع الاولاد بعد العودة من الكتاتيب أو أثناء اللعب بين ضواحي النخيل وعلى حواف الوادي الخصيب في تلك الأعوام، حيث ما من حساب ولا مشروع خطة لذلك الصراع الدامي أحياناً وللمواجهة الجنينيّة للعنف البشري التي ستكبر مع الأيام، هكذا، الدخول المفاجئ والصاعق لأتفه الأسباب أو من غير سبب. وحتى لو كان الطرف الآخر فيه أكثر من صبيّ، تكون الواقعة وبكافة الاسلحة المتاحة لحظتها، من مشتقات النخيل والأشجار أعواداً وأغصانا مثل (الخضاري) وفي ذلك العمر المبكر لم يكن السلاح المتمثل في السكين والبندقيّة الحقيقيّة بندقيّة الصيد والخنجر العُماني الشهير، كما هو أخوه اليمني، وارداً… كانت فترة السلاح المستلّ من الطبيعة مباشرة مع بعض الجهد البشري الصبياني، يكفي لأحداث الجروح والرضوض ويكون أداة النصر والهزيمة..

أما حين يكون هناك موعد للنزال (الضرابة) فيكون نوع من التدبر الفطري والتخطيط، كإن نتواعد أن يكون اللقاء في المكان الفلاني أمام معْلم بعينه بين كثبان النخيل المتمايل في الريح أو في أرض خلاء على الوادي.. وحين نكون في البندر (مطرح) غالباً ما تكون لقاءات النزال بالأيدي و(بالبُكس) حين سمعنا هذه الكلمة من كبار يتحدّثون عن نزالات محمد علي كلاي، ويجري تطبيقها المحليّ الولاّدي، على شاطئ البحر غالباً قريبا من المدرسة السلطانية وخلف سور اللواتيا ببرنداته الزاهية.. بالبُكس، بالأيدي والأجساد والوايرات من غير وسائط السلاح المنحوت من النخيل والأشجار. لكل بلدة قوانينها في الحرب والصراع مطرح غير سرور وسمائل وبلدان الداخل الحجري والساحل، هناك تفاصيل وفروق ما . بالاضافة إلى إن مطرح البندر، لا يوجد فيها نخيل يذُكر، عدا شجر النارجيل، جوز الهند أو ما يشبهه من العائلة نفسها، والذي يوجد غالبا في واحات بيت(البادري) ومستشفى الدكتور طومس، وفي معزل المرضى المُصابين بالجذام، يتجمّعون تحت ظلاله وظلال شجر الصّبار، يتبادلون الأحاديث والحنين إلى الديار… هؤلاء المُصابين بتلك الأمراض المعدية، تكون معازلهم في بلدات الداخل الجبلي، في شِعاب الأودية. هنا في مطرح المتاخمة بمنطق جغرافية تلك المرحلة، للعاصمة مسقط، والتي كنا نقطع المسافة بينهما مشياً على الأقدام الحافية عبر الطريق الجبلي المتعرج والوحيد.. وأحياناً يدفع بنا الجنون إلى اجتياز المسافة عبر قمم الجبال الوعرة المخيفة، حين ينفجر ليلاً من أحشائها عواء الذئاب ونحيب بنات آوى (المقعّاشات).. ثم ننزل من الأعلى إلى مدينة مسقط. (وكلمة مدينة هنا تحمل من المجاز أكثر من الحقيقة) من غير أن نمرّ بعقبة ريام التي يعبرها العابرون الاعتياديون.. وهناك نتسكع بين الفرضة، أو الميناء البحري القريب من السفارة البريطانية التي نراها ونتخيلها مع بيت البرزة، مركز الحكم وبيت الجريزة، أعظم وأجمل المباني في العالم…

كما كنا نتخيل في مطرح (بيت طالب) تلك العمارة المستطيلة التي تتألف من ثلاثة طوابق على نمط المعمار الهندي، والتي كنا ننظر إليها كأنما ناطحة سحاب أو ما يشبهها إذ لا طوابق بهذا العلو بتلك الفترة في عموم المكان. العمارة التي كان يجلس في ظلالها (الديزل) وهو رجل أقرب شبه إلى رجال المصارعة والملاكمة، مفتول العضلات، ضخم الجثة.. دائما نقف ونحن في طريقنا إلى المدرسة أو البحر متطلعين إلى هيئته بمهابة من لا يملك الجرأة على التحدث معه، ودائما ما نقارن  بينه وبين (ميشلان) في دعاية الشركة الفرنسية المعروفة في عالم (التواير) او (الاطارات)..

ميناء العاصمة دوماً كان مليئاً بالبضائع وبثمار جوز الهند القادم شحنات عبر السفن الشراعيّة من (ظفار) وسفن أخرى تحمل المانجا (اللمبا) والفواكه .. كان ذلك قبل أن «يستقر» بنا المقام لبعض الوقت قصد الدراسة في مسجد الخور، ومن ثم في المدرسة السعيدية فترة مسائية محدودة..

ليس ثمة كبير فرق بين مسقط ومطرح من حيث الطبيعة الجغرافيّة والتنوع السكاني، إلا بوجود مقرات «حكومية» للسلطان فيها من السيد أحمد بن ابراهيم ناظر «الداخليّة»، إلى السيد شهاب بن تيمور مسؤول العلاقات الخارجيّة.. الخ. السيد أحمد بن ابراهيم، أتذكر حين ذهبت لأول مرة مع والدي للتحيّة في احدى مناسبات الأعياد، حضوره المهيب بلحيته الطويلة المشذبّة جيداً، لكن حين يتحدث يفصح عن دماثة خلق وطيبة. أما السيد شهاب لا أتذكر انني رأيته حتى بمحض الصدفة.  وفي السياق نفسه رأيت صدفة السيّد طارق بن تيمور بداية العهد الجديد واقفا أمام منزله الذي لا يبعد إلا أمتاراً عن مسجد الخور، سلمت عليه وصافحته. يد المحارب القديم وقد غمرها ترف الحضارات والمدن التي عاش فيها، هو الذي قاد جيش السلطان سعيد باتجاه توحيد عُمان تحت سلطة دولة مركزيّة واحدة..

وفي الفترة نفسها أتذكر الأستاذ عبدالله الطائي الذي كان يأتي للصلاة في مسجد الخور، وقد عاد لتوه من خارج البلاد مثل السيد طارق وآخرين للمشاركة في سدّة المسؤوليّة العليا، وفي المساهمة في تأسيس العهد الجديد وصياغته… أتذكر كنت أجلس بجانبه في صرح المسجد وقد عرف انني تلميذ هناك  وأخذ يطرح عليّ أسئلة في الشعر، إعراباً وصرفاً، ويتطرق إلى بعض الاستنتاجات الدلاليّة. وذات يوم وجدته حزيناً منكسراً على غير عادته المشرقة، عرفت أن شقيقه نصر الطائي مؤسس الصحافة الوطنيّة قد رحل على نحو مباغت وهو في مطلع شبابه، وبعد فترة غير بعيدة رحل عبدالله نفسه رجل الأدب والسياسة الريادي، على ذلك النحو المأساوي الذي رحل به أخوه. واذ تصرمت الأيام والسنون، وتشعبت بي المدن والطرقات، اخبرني محمد ومعن وجمال أبناء سعيد الطائي شقيق الراحل أيضا، وكانوا بمثابة الاخوة والأصدقاء، حين أقمت فترة في أبوظبي، حيث كانوا يقيمون، وقد ساعدني الوالد سعيد في تلك المرحلة الانتقاليّة من عمري بايجاد عمل كمدرس في الامارة الناهضة بقوة أوآخر السبعينيات- أخبروني بأن والدهم اختطفته المنيّة وهو في مهمة رسميّة إلى السودان على النحو الصاعق الذي اختطفت شقيقيه منذ سنوات، كأنما هذه العائلة التي حظيت بالانفتاح والتعليم مبكراً في السياق العُماني مكتوب على بعض أفرادها المميّزين أن يرحلوا في غمرة الشباب والأحلام..

 وضمن الزيارات التي كان يقوم بها الوالد للأعيان والأصدقاء ويصحبنا أحيانا في زياراته المتكررة إلى منطقة (الطويان) لنفر من الرحبيين أو بني وهيب، الذين تنتمي الحارة إلى أغلبيتهم الساحقة. تلك الحارة من مسقط، اسم على مسمّى، فيها أكثر من طوي (بئر) حيث تسمع حركة المناجير الشجيّة، بثيرانها القويّة وهي تجر الماء من باطن الأرض لتروي به عاصمة البلاد خاصة في أزمة الفاقة والجفاف.

أما مطرح فيمكنك سماع مناجيرها في أكثر من مكان، وما يبدو واضحا في هذه اللحظة، محمولاً على فراغ الهوة الزمنيّة السحيقة، تلك الأصوات النازفة القادمة من حلة «اللولوّة»، حيث كنا نسكن في بيوت الشتاء الجصيّة أو من حلة (الزباديّة)، أما اذا تقدمتَ باتجاه (روي) تُسرّح النظر وسط خضرة المزارع والطويان المزروعة بكافة أنواع البقول أو الكثير منها التي تغذي البندر.

في بعض الأيام كان الوالد يأخذنا معه لزيارة بعض أصدقائه ومعارفه، مثل الشيخ سالم بن محمد الوهيبي والوالد حبيب بن سليمان الرحبي، حيث نقضي اليوم بكامله في مزارعهما المزهرة، بين الظلال الخضراء وسط طوق الجبال الجرداء العاتية. والتي (المزارع) أصبحت أثراً بعد عين حيث انقلبت خارطة المكان وزحف العمران الاسمنتي ساحقاً في طريقه كل غصن أخضر..

وما بقي عالقاً في ذاكرتي من اصطحاب الوالد لي في زياراته، زيارته للشيخ أحمد بن محمد الحارثي في الفترة التي أضحى فيها شبه نائب أو مفوض للسلطان سعيد المستقر  في (صلالة) بالجنوب. كان الشيخ أحمد ينزل في احدى الدور الفخمة بمقاييس تلك الفترة في مسقط قادماً من مقره الرئيسي في بلاد الشرقية.. وحين انتظمنا في مجلسه الكبير سأل الوالد: الولد ولدك؟ أجابه الوالد: بنعم. وفوراً أردف: أيش يقرب له أحمد بن محمد الرمضاني؟ بلهجة أهل الشرقيّة ذات النبرة الخاصة.. أجابه الوالد بانه خال الولد سيف.. كنت على نحو بالغ الوضوح أشبه خالي أحمد الذي عمل مع الشيخ الحارثي كأحد مسؤولي جباة الزكاة من الأنحاء العُمانية، ومن المقربين اليه لدرجة أن الخال أخذني ذات مرة إلى عاصمته (القابل) لألتحق بالمدرسة التابعة له ذات الطبيعة الدينيّة واللغويّة على جاري مدارس تلك المرحلة.. لكنني حين رأيت مجلسه الكبير الذي تؤمه القبائل من كل الجهات والمأهول بمسلحين كثر يشبهون المليشيات المتحفزة دوماً للحركة والانقضاض، وحين يريد الشيخ حاجة أو أمراً يشير بطرف اصبعه ليتقافزون بسلاحهم (بوعشر) حديث الصنع، لتلبية الأوامر والاشارات.. في اليوم التالي أو الذي يليه عدت إلى سرور، هرباً من ذلك المشهد الحربي الذي لا يتيح نسمة حريّة أو اشتباك مع صِبية آخرين..

***

زحف العمران «الاسمنتي» الساحق الذي لا يقيم وزناً إلا للربح السريع، على طريقة التحديث المشرقي زحف على كل المناطق والبلدات المحيطة، حتى حيوات تلك الطبيعة بتنوعها الفريد، التي تعتبر الحمير احدى مفرداتها الحميمة الحاملة لأعباء أولئك البشر الآفلين، انقرضت دفعة واحدة، فلا تكاد تلمح حماراً واحداً شريداً ليس في نواحي مطرح ومسقط وما حولهما، وانما تقطع مسافات طويلة من الجغرافية العُمانية وأقفارها الفسيحة من غير أن تشاهد هذا المخلوق البالغ الألفة والوفاء والشفافية.. ويأخذني العجب والغرابة حين يذكر بعض الأصدقاء من سكان العامرات (المتهدمات سابقا) بأنهم يشاهدون كل صباح قطيع حمير تائه في البراري الاسمنتيّة، كأنما بقاؤه على هذه الحال نوع من عيّنة أو علامة متحفيّة لكن من غير أن يكون هناك متحف عدا العراء الكاسر.. وحدثني بعضهم أن هذا القطيع الأخير يتجمع أحياناً في ظلال باحة مستشفى الأمراض العصبيّة «ابن سينا» حين علق أحدهم أن الحمير أيضا مصابة بشوزوفينيا الاغتراب وصدْع الإنفصال عن المكان باحثة عن مهدئات كي تستطيع راحة عابرة أو تستطيع النوم في لياليها الموحشة.

***

أي إغراء جاذب في (مطرح) للمجانين والمضطربين عقلياً وعصبياً؟! أي دافع لا شعوري يدفع بأولئك المطاردين بأوصاف الجنون والخَبل، للتجمع أفراداً وجماعات في مطرح التي يحدها البحر من جهة الشمال وتطوقها الجبال من الجهات الأخرى تطويق الاسورة بالمعصم على ما ذهب ابن بطوطة في وصف عُمان برمتها؟ فحتى تركيبتها الديمغرافية المختلفة التي تشي باحدى علامات المدنية من غير أن تكون هناك مدينة، تفرض نمطاً سلوكيا يتخلى بطبيعته عن تقاليد الكرم التقليدي والتضامن السلالي الجامع الموجود في مناطق أخرى حيث القبيلة والعشيرة أفخاذاً وحمولات تفرض مثل هذا التضامن في الفترات الماضية وليس  في الراهن حيث تصدّعت تلك البنى المتوارثة ولم يبق إلا هياكلها وخطاباتها الأقرب إلى الحنين المفرغ من شحنة العواطف الحقيقيّة، حنين ميلودرامي فارغ..

أسوق هذه الملاحظة لأن المجانين التائهين المنبتيّن عن القواعد والأصول والاستقطابات، أولئك القادمين خاصة من خارج المكان، يجدون أنفسهم ربما، في جو أكثر ألفة من البيئات التضامنية أو التي كانت كذلك.. هل تجمعهم هنا يحقق لديهم رابطة تضامن جديدة يمليها الشرط الحياتي والكينوني المشترك على عقلهم الباطن الذي ينطلق نحو مدياته الشاسعة في مثل هذه الحالات الاستثنائية في مسيرة الكائن المعرّضة دوماً للعطب والانهيار؟

في كل الأحوال تبقى مطرح وليس مسقط، المتاخمة هي الجاذب النوعي لأولئك النفر الهاذي ليل نهار، والمتقنّع بأقنعته وملابسه المختلفة وان كانت أكثر رثاثة من لباس البشر المدعوين بالعقلاء… يتجمع المجانين من أنحاء ومناطق مختلفة في بندر مطرح المركز والملاذ. بعضهم يأتي لفترة من الوقت إلى هذا المحج ويقفل عائداً إلى بلده الأول مثل علي بن ساعد، حين قرّر ذات ظهيرة، المجيء مشياً حافي القدمين حاسر الرأس، من سرور إلى مطرح في ذلك الحر القائل.. وفي مطرح أصيب علي بن ساعد بنوبة الجنون الأولى التي استمرت معه إلى النهاية. كان يعمل حارساً (يحرس ماذا؟) في مكان لا غطاء له ولا ظل شجرة حين اخترقه الدوار، أو ما يشبه حشرات تقضم مخّه، حتى طواه الجنون النهائي في هاويته البعيدة.. بعد سنين وجدوه هكذا، في مطرح، أرض جنونه الأولى، هائما بين السكك الضيقة والأسواق التي تفوح منها رائحة الفلفل والبهارات والقماش المستورد من الهند وباكستان، ميمما وجهه الذي لوحته الشموس والعُزلات، نحو البحر حيث تجمع أبناء جنسه الوجودي مصغين إلى رجْع الأمواج بين السفن الشراعيّة وثغور الساحل التي يتراقص في أثلامها السمك الصغير والشناجب الذهبيّة، ومن هناك يمكنهم أيضا سماع رجع «المناجير» وصداها المتناغم مع عصف أمواج البحر موقضاً في أعماقهم السحيقة شوقاً غامضاً وحنيناً..

بعد فترة غادر علي بن ساعد عائداً إلى سرور من جديد ويبقى السؤال المعلّق، لماذا حين هاجمته رغبة الرحيل، لم تحركه في الذهاب إلى مطارح أسلافه عبر وادي منصح حتى يصل إلى وادي الطائين، بل فضّل مطرح التي تظل ملفّعة بسرّها الجاذب لأولئك القوم الذين انفصلوا عن عالم «الأسوياء» يشكّلون سويتهم الخاصة التي هي مزيج من الهذيان والعبث في مساءات البندر غالبا يتجمعون شِللا أمام البحر وفي سوق (خور بمبه) يتبادلون الأحاديث والصمت الناطق أكثر عن دواخلهم المحتدمة، فترى المجنون الأخرس يتخذ مهنة القيام بدور شرطي المرور مقلداً حركاته واشاراته. وذاك الذي يقضي نهاره بقطع الأوراق والتفنن في تمزيقها خالقاً منها رزماً وأشكالاً مختلفة.

و(كروس) الذي يختلط صفيره مع هذياناته المحلّقة في الفضاء..

استطيع اللحظة أن أراهم هكذا، واقفين بهيئات مختلفة ازاء البحر، بينما السفن والمناور تعبر محملة بالنفط والأسلحة، معبئة بالأكباش الاستراليّة الضخمة، وتلك التي تحمل حجاج بيت الله الحرام… في ذلك العام تحطمت احدى تلك البواخر وتدعى (دامرا) وقضى جميع ركابها حرقاً واختناقاً كما تقول الحكاية التي ظلت ظلالها القاتمة تجثم على البلاد فترة طويلة..

واقفين ازاء البحر المضطرب ولسان حالهم يقول:

«شكراً، لهذا الجنون الذي حصّننا من الآمال الزائفة».

***

موضوع الهامشيين من البشر المجانين والحمقى، أولئك الذين طوّح بهم الزمن والمرض خارج ما يُعرف بالسويّة البشريّة موضوع شائق ومثير للأدب والابداع الفني، إلا أن (مطرح) ليست مركز جذْب للمجانين فحسب، وإنما ضمن تركيبتها الديمغرافيّة مقارنة ببلدات الداخل، تشكل نموذجاً للتعايش والانسجام، وكذلك (مسقط) المتاخمة لها والكثير من بلدات خط (الباطنة) الممتد… كانت مطرح، الأكثر وضوحاً في هذا المنحى. مشارب هويّات إثنية ومذهبيّة مختلفة، هناك المذهب الاباضي والسني والشيعي.. وغير الاسلامي هناك الهندوس والبوذيون والمسيحيّون ومثلما هو عليه التنوع الديني، هناك التنوع الإثني العرقي.. «وهناك في عُمان بشكل عام لغات تستخدم إلى جانب العربية لغات عدة كالحرسوسيّة والبطحريّة والكمزاريّة والشحريّة (الجباليّة) والمهريّة والهريبوت والسحواليّة والبلوشيّة والزدجاليّة والسنديّة (اللواتيّة) انطلاقا من أن هذا النوع له جذور في الخطاب الثقافي العُماني».. حسب الدكتور خالد البلوشي.

وما أعرفه ان ما بقي يستخدم من هذه «اللغات» بدرجات متفاوتة، هي البلوشيّة والشحريّة والمهريّة المتاخمة للحدود اليمنية وهاتين «اللغتين» أو اللهجتين يتحدران من أصل واحد هو اللغة الحميريّة. وكذلك السنديّة اللواتيّة، علماً بأن اللغة والثقافة العربيّة، هي التي طبعت الأجيال المتعلّمة من كل المشارب بطابعها الغالب الخاص..

لم تحصل في تلك الفترة أي أحداث وصراعات ذات بال، تخترق هذا النسيج المتعايش، أحداث طائفيّة وعرقيّة وأتذكر أن الأهل المنتمين إلى مذهب (الاباضي) وقبيلة، لم يربوا يعبئّوا أولادهم وذويهم بعناصر الاختلاف والعصبيّة التي تفضي إلى الصدام. دائما كانت المدارس البسيطة مشتركة لجميع الأولاد على الأغلب من المدرسة السلطانيّة في مطرح والمدرسة السعيديّة في مسقط، حتى المدارس والكتاتيب الخاصة، كما اختلاط وتداخل الجماعات البشريّة في المجالس والزيارات والشأن العام، كالتجارة، على محدوديّة  الموارد وشحّ الحياة في تلك الفترة.

وجوه كثيرة تحوم أطيافها في رأسي، أتذكر الحاج أحمد شمبيه، الذي كان يسكن في مسقط خلف عقبة ريام، وفي الصيف يذهب (للقيظ) إلى سرور، أتذكر ابنه الكبير (غريب) حين جاء لينصحني «يا ابني بسّك من الضرابة، روح المدرسة، اليوم كسرت رأس الصبي بكره أيكسرو رأسك»..

أحمد شمبيه كان علامة لدى أعيان عُمانيين، من الداخل، كان على صلة بالشيخ أحمد بن محمد الحارثي أمير الشرقيّة ومفوض السلطان سعيد، وكذلك علاقته بالشيخ خلفان بن جميل، خاصة حين يتواجدون في مسقط. وكان صديقا للوالد وسمعت من بعض الأصدقاء ان الله أمدّ في عمره حتى تجاوز المائة عام..

كنا نسكن حلة (اللولوّة) المتداخلة مع حلّة (كوهبن) التي تعني باللغة البلوشيّة (تحت الجبل) اسم على مُسمى حيث الجبل يبسط ظلاله وهيمنته على كامل الحلّة ويحتضنها بسلطان رعايته ونفوذه كما يحتضن مطرح بكاملها، ورغم اقتسام الجبل السلطة على المكان مع البحر، إلا أن هذا الأخير يبدو أقل حضوراً ازاء الهيمنة الجبليّة. ما زال منزل الوالد القديم هناك حيث آلت ملكيته لأخي الأكبر محمد.. كما كان على رأس الحارتين مسجد يصلي فيه الجميع من غير تفرقة.. أتذكر كانت هنا (طوي) أو بئر مركز سقيا المنطقة حيث يملئون «قِرَب» الماء. وكانت (الزيجرة) بمناجيرها التي تملأ المكان بالألحان العذْبة، وبثيرانها التي تنزف الماء عبر الحفرة الأرضيّة المستطيلة (المخّب) جيئة وذهابا، وهي تتصبب مع صاحبها عرقاً وتعباً.. وعلى بعد خطوات يقع مستشفى الدكتور طومس (الأمريكي) الشهير في أنحاء عُمان وثمة وادٍ يفصلها عن (سيح الرحبييّن) وهي حلّة شبه خاصة بهم حيث حملوا إرث الأماكن العصيّة ومفرداتها، وسموّها (سيح) في تلك الفترة التي تتلخص فيها عُمان بكاملها كونها قفراً فسيحاً نائياً وخارج الزمن..

الوادي الذي يخترق مطرح، ينبثق من شغِاف (خب السمن) مخترقاً سوق (خور بمبه) وسوق الظلام حتى يعانق البحر بشغف حدّ التلاشي والذوبان.

وهناك مساكن (البانيان) تجار هنود معظمهم من الديانة الهندوسيّة الغالبة على عموم الهند.. وكان العُمانيون منذ القِدم يرتبطون بصلات تجاريّة مع شبه القارة الهنديّة.. هناك قريباً من (الفرضة) التي يخبطها البحر بموجه ليل نهار ويغرق البضائع أحياناً إذ لا تحصينات كافية تحد اندفاع الموج المتعاظم أوقات المد والهياج..

حين تصل إلى تلك البقعة من البندر ترى أسراب الحمام المحلّق فوق البيوت وعلى البنردات الخشبيّة المشبعة بالرطوبة البحرية..

وترى البانيان بلباسهم الشعبي الخاص الذي سمعت من يسميه (المتفرة) ويمكنك أن ترى في عتمة الأزقة الضيقة، بقرة أو أكثر باشعاعها الرمزي المقدّس في الديانة الهندونسيّة وشعائرها. وليست للحليب والذبح، بينما رائحة التوابل والبهارات اللاذعة تضمخّ المكان بنكهة خاصة..

وهناك قريبا من سوق السمك، وليس بعيداً عن (سور اللواتيا) ببديع هندسته المعماريّة وبرنداته الساهرة مع أضواء السفن الراسية والعابرة، تُضرب مواعيد العراك بين الأولاد لتصفية حساباتهم مع الفراغ المحتدم في عمر تشكل الغرائز البدئيّة للكائن التي تكبر أكثر في جانبها العدواني والضغائني أكثر من الجانب الانساني المتسامح الرحب.

على الشاطئ الممتد تحلّق أسراب النوارس البحريّة التي كانت تُسمى (حويريّات) سحب من النوارس بمرحها وصياحها ولعبها تظللّ المكان، وفوق السفن والقوارب تنقر السمك والحب المتناثر.. وفوق رؤوس البشر العابرين جيئة وذهاباً، والى سوق السمك والخضار، نشاهدها أحيانا تتجاوز الساحل إلى سوق الظلام، تصطدم فجأة جرّاء غَبش الرؤية، وتخبط أجسامها النورانيّة الشفيفة بالأسطح والجدران، يسقط بعضها جثة هامدة أو جريحة، ليذهب بها الأطفال إلى بيوتهم للذبح أو العلاج..

وقد لاحظتُ أثناء زيارتي لبلاد جعلان، أن هذه النوارس، الحويريّات بحجمها الصغير، بشفافيتها البالغة، تختلف عن نوارس (البحر الحدرّي) أو بحر العرب، ذاك المتواصل مع أعماق المحيط الهندي، إن لم يكن مقدمة لتلك الأعماق المدلهمة بغموضها وهوامِّها، وإذا كان العرب القدماء سمو المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) فبول نيزان سمى المحيط الهندي (جحيم البحّارة) هذا الممتد حتى أقاصي آسيا والصين، وحتى الأقاصي الأفريقية حيث يلتقي بالمحيط الهادئ الأعظم، في تلك البقعة القصيّة التي يبيض فيها الرخّ وتضمحّل الإرادات.

لاحظت أن نوارس البحر الحدري الغاضب على الأغلب، أكبر حجما وأقل مرحاً، ولا أعرف ان كانت مهاجرة جاءت من أمكنة أخرى، أم هي مواطنة تناسلت سلالاتها في هذه البقعة من أرض المياه؟!

حين يثبر البحر ويترك خلفه جُزراً وأراضٍ طحلبيّة مقفرة، تحط أسرابُ النوارس والطيور الأخرى كذلك النوع من اللقالق أو (البناغير) بحجمها الضخم وعنقها الطويل، حين تحلق تشبه جزيرة بيضاء وسط فضاء أزرق..

يبدو ذلك الجزء من البحار العُمانيّة أكثر وحشيّة وبريّة من البحر الممتد من مسقط ومطرح جزائر وخلجانا مسترسلاً على خط الباطنة حتى دولة الامارات العربية، أو ما يُدعى ببحر عُمان والخليج العربي.

***

منزل الخال أحمد الواقع فوق تلك الهَضبة المطلة ناحية الغرب على الطريق الذي يمضي مع ساقية الفلج والنخيل إلى المسجد الذي تمتد بجواره شجرة الغاف التي تهيمن بسكانها من الخفافيش والطيور الأخرى وإن بدرجة أقل، على المكان بكامله بجانب سلطتها الظاهرة والتي تتقاسمها مع شجرة السمر، تتمتّع بسلطة خفيّة، بسرّ ما يتقمص الناظر إليها وسط تلك الخرائب والأنقاض..

وتحت المسجد يجري فلج «الحيلي» أكبر أفلاج سرور وأكثرها فيضاناً في أزمنة الخصب والنعيم.. وهي (الأفلاج) ثلاثة، بجانب (الحيلي) الذي يُوجد سَميّهُ في (سمائل) مخترقا بلدة (العلاية) من جهة حلّة (الحبّاس) حيث يقطن جزء من بني رمضان، أقارب الوالدة والخال، وهو ذو هندسة عموديّة انسيابيّة بجريانه السريع.

ولا أتذكر ان كان يمتد مختالاً بلالاءه الخاطف إلى منطقة (السياب) الواقعة على ضفة من ضفتي وادي سمائل حيث ينبت العشب الغزير ويتطاول «الروغ» ويتكاثف إلى غابات وجزر خضراء تتمايل بحريّة الهدوء والعصْف مع الريح، كما ينبت الشعراء ويزدهر الشعر في مجالس وقصائد تقول الطبيعة والانسان، الوحشة والأنس… لا أتذكر إن كان (حيلي) سمائل يصل إلى تلك المنطقة التي تسكن فيها الخالة (عزا) إحدى قريبات الوالدة والخال… لا يمكن نسيان ذلك المحيّا الوضيء للخالة عزا المتدفق بالحنان والحب والرأفة على الأطفال وسائر مخلوقات الله.

إنّ أي غضب وأي رغبة انتقام مشتعلة لابد أن تنطفئ أمام نور ذلك الحب الدافق الذي ينتشر أريجه في سِعة ذلك المكان. وهي في هذا تنتظم بعقد واحد مع الوالدة والخالة (نصرا) المفجوعة بأحفادها كما فُجعت قبلاً بولدها سليمان، حين ذهب في إعِصار نوبة عصبيّة من تلك التي تعصف به بين الفترة والأخرى، حين غاب عن المنزل غياباً لم يُجدِ فيه أي بحث، حتى أتوا به، وكان الصيف في ذروة حرارته، عظاماً ناشفة جافة من فرط ما سحقتها الشمس والعراء الراعب بين الوديان والشعاب. هذا النوع من الموت الصاعق الأكثر قسوة وذعراً للأهل والأخوان..

وفي (الحبّاس) أيضا يقطنُ علي بن منصور الشامسي، قارئ الشعر بذائقته الجمالية الرفيعة… من يستطيع أن ينسى تلك النشوة والإنخطاف التي ييقرأ بهما الشامسي الشعر، نشوة الصوت التي تحلقُ في سماء من الطرب والموسيقى والهيام، حيث القراءة تضيف إلى القصيدة المقروءة ابعاداً روحية وجمالية، وتجعل المتلقي والمستمع مأخوذا ومُستلبا في نشوة مماثلة في ذلك المجلس (الحبّاسي) على أنغام جريانِ (الحيلي) بين أشجار الروغ والنخيل والموز..

بجوار منزل الخالة في (السياب) أتذكر ثاني بن سالمين القنّاص قارع الطبول الشهير في الأعياد والعزوات بقامته الفارعة. احدى الحكايات حوله، انه ذات مرة في أعالي الجبال المحيطة، صاد وعلاً كبيراً لم يستطع حمله، فتدحرج معه والبندقية في يده عبر الصخور المسننّة والنتوءات القاتلة حتى بلغ السفح من غير أن يُصاب بأي أذى..

***

(السِياب) أيضا أتذكر انطلاقا من هذا المكان، أخذني ذات مرة أحد أخوالي سلام بن حمد الرمضاني، وكان ذا إلمام واسع بالشعر العربي (الغزلي خاصة) إلى المسجد الذي يصليّ فيه الشيخ حمد بن عبيد السليمي أحد علماء عُمان المعدودين.. هناك في مسجده الصغير الحجم المفعَم بنور الشمس القادم من بين سلاسل الجبال والنخيل والموز، والمفعم بنور الخشوع الروحي واشراقه.. هذا الفقيه آثر العزلة، على الأرجح، بعد أن تولى القضاء والفتوى لسنوات طويلة في أكثر من مكان في عُمان، من خلال تلك الزيارة الوحيدة – آثر العزلة المثمرة على الاجتماع الواسع والغالب لأمثاله، مثل العلامة خلفان بن جميل السيابي، في (سفالة) سمائل، والعلامة السليمي في علايتها وفق ثنائيّة التسمية التقليدية للكثير من ولايات عُمان، كان مجلس السيابي يغص بالحضور جيئة وذهاباً، وهو بجانب موسوعيّته الدينية كان شاعراً بالغ الصفاء والعمق خاصة في مجال الشعر السلوكي أو الصوفي مثل هذا البيت الذي يشكل مطلع قصيدة طويلة:

«على باب من أهوى يلذُ لي الذلُ

           فيا عزَّ قوم تحت أعتابه ذلوا»

كان الشيخ السليمي ذا مرح وانفتاح على الاجتهاد والحوار في قضايا الدين والمذاهب المختلفة مثل تلك الحادثة التي تُروى عنه حين كان ذاهباً إلى حج بيت الله، على متن باخرة حيث التقى بفقهاء من مذهب اسلامي غير مذهبه الاباضي، ودار بينهم نقاش حول «الرؤية» يوم القيامة وبعدها فاحتد الجدّل وكل طرف يحشد أدوات معرفته وبراهينه حتى وصل الحوار إلى طريق مسدود، فما كان من السليمي أن ردّ على مجادليه رداً عمليا، أو ما يشبهه: يا إخوان في ذلك اليوم الموعود، إن أراد الخالق رؤيته فذلك كرم عظيم وقَبس من رحمته الواسعة على عباده، وإن لم يرد لاستحالة التصوّر والواقعة فذلك أيضا تشريف آخر، فنحن مخلوقاته وهو على كل شيء قدير.

يستدعي هذا الرد من حيث الطبيعة والماهيّة رداً للفيلسوف المسيحي (باسكال) الذي أجزمُ أن الشيخ السليمي لم يقرأه، ومثله حين يحتدم السجال مع فلاسفة آخرين، يلجأ إلى حلول برجماتية احتماليّة، من قبيل اتركونا نؤمن، فإن كان هناك بعث وجنة ونار…. الخ فسنْكون من الفائزين وإن لم تكن والمسألة محض حدوس وظنون، فلا نخسر شيئاً..

وكان الشيخ السليمي بجانب موسوعيته الدينية صاحب مواقف تتسم بالدهاء والمرونة في التعاطي مع مستجدات الحياة والتاريخ..

والذاكرة وهي تطفو على مياه (السياب) لا يمكن أن تتجاوز الوادي الذي كنا ننام على حافته تغطينا ظلال (الروغ) الملتفة على كثافتها وأسرارها، من شمس الصباح الطاردة..

(الروغ) غابات منه تتوّزع على ضفاف وادي سمائل التي أعطته خاصّته الجمالية بجانب خصائص أخرى.. غابات يلعب فيها النسيم المنعش للروح، مع الطيور الصادحة والسابحة في فضاء موج الخضرة وبرك المياه والعيون الدافقة. الطيور على أنواعها، تلك العابرة كالاوز المهاجر الذي يحط عصا الترحال للراحة وشحن الطاقة من أجل مواصلة المسيرة والتحليق، وتلك المقيمة من اليمام والعصافير الدوريّة التي تحلق على غيم الشجر الوارف، ونشيد العنادل والحساسين والسنونو التي تعلن عن مقدم الربيع وتغيّر الفصول..

(ثمة فصول كانت) إذ أن  تلك الغابات والمياه لها دورتها الخاصة في الزمن، شبه المستقلة عن المحيط، نفحة من الفردوس وسط طبيعة جبليّة قاحلة… حتى اللحظة حين أمر بين كثبان الشجر والغابات في البلاد الغربية، أتذكر الأنسام الأولى بين روابي الروغ… طلعة الصباح الحانية وغيم الغروب وغموضه في ذلك المكان المسحور تحت السماء الأولى..

***

أما (حيلي) سرور فيمضي بهدوء وصمت، مأهولاً بأسماك المياه العذبة مثل (الصالحو) و(الفختل) و(الصدْ) الأصغر حجماً.. بجانب فلج الحيلي في سرور، هناك (الأوسط) ومن ثم (بوجدي) الذي ينساب من الينابيع الجبليّة الغائرة في الوديان كما بقيّة الأفلاج، على حافة الوادي مروراً بـ(التبينيّات) حيث منزل الوالد الذي أنجب فيه ذكوراً وإناثاً. وقد بنى أخي سليمان بن ناصر، على أنقاضه بعد أن طال البِلى والتصدّع بنيته الطينيّة، منزلاً جديداً. وما زال فلج بوجدي يجري وإن بوهنٍ عبر ضفافه النخيليّة حتى المسجد الذي بناه الوالد والسبلة المهجورة على الأرجح.

كنا نحدّق من مكان الوضوء في مسجد (النطالة)، إلى الأعماق المظلمة لساقية الحيلي المسقوفة والمُمتدة حتى شريعة الوادي، فنتخيّل الجن والعفاريت يسبحون في ذلك الظلام الدامس فنتراجع عن السباحة فيه أحياناً.. لكن ما كنا نراه رأي العين، هو ذلك النوع من الثعابين المائيّة، نوع من الغيلان تعشش في أسقف الفلج الكبير، تتلوى عُقداً فيما يشبه الصراع والجماع، بأحجام مختلفة. لا أعرف ان كانت تلسع أو تعضّ وإن كانت سامة أم لا؟ لكن منظرها مفزع ومخيف في الواقع وحين تتسلل إلى نومنا الذي يتحوّل إلى كابوس وصراخ. فهي كبيرة وسمينة أكثر من قرينتها التي تسكن وتتناسل في شقوق الجدران وجحورها؟ ولم نرها تغادر تلك الأحشاء المظلمة لساقية الفلج الذي كان يشبه نهراً صغيراً، إلى خارجه في سطح الأرض والضوء الكاشف للنهارات المشمسة. مثلما كانت تفعل الخفافيش، حين تغادر سكناها في غصون شجر الغاف والسمر بداية الليل الشديد الظلمة في غياب الطلعة القمريّة، محلقة فيما يشبه التمارين والألعاب البهلوانيّة فوق رؤوس المصليّن وفوق مغسلة الموتى اللصيقة بالمسجد. وتحلّق فوق رؤوس الحضور وهم يغسلون موتاهم أو يقرأون الأدعية على روح الفقيد الذاهب حتماً إلى مقبرة السلالة.

***

انه موسم طيور العقعق بريشه الملوّن البالغ الجمال والفرادة، فجأة تنزل هذه الطيور الغريبة على البيئة الحيوانيّة والجغرافية، كأنما قادمة من سماء بعيدة أو من الجنّة التي يجهد المصلّون الأتقياء للدخول إلى أبديتها الباذخة، بعد اجتيازهم للبرزخ الرابض في أحشاء مقبرة السلالة بقناديلها الليلية التي تضيء قبور الراحلين قبل أن يُسدل عليهم ستار التراب والحجر: (لماذا الحجر؟) سأل الطفل والده، ألا يزعج هجعة النيام هناك؟… لا، لا، كي لا يأتي لصوص المقابر لسرقة الجثامين..

ولا زهور تشبه لون طيور العقعق في بريق جمالها الآخاذ في البلاد الأجنبيّة الأخرى. لأن الانسان ذاهب إلى ما هو أجمل وأعظم إذ كان من أهل الصالحات والتُقى، هناك في جنة الخلد، التي يقول البعض أن تلك الطيور الجميلة التي صارت تتأخر عن المجيء في مواسمها، قادمة من ضفاف جمالها المطلق. وعلى رغم ذلك، لا يتأخر القناصون أولاداً وكباراً، عن قتلها أفراداً أو جماعات لتكون وليمة سائغة للصحب والعائلة.

***

في منطقة (التبينيّات) كان بيت الوالد والعائلة بأكملها، في حوشه المسوّر بجدار طيني تلتف حوله الحشائش والأشجار. تتوسطه شجرة فرصاد كبيرة تبسط ظلالها الخضراء الوارفة على الصحن والبيت والأرض المجاورة.. في غلواء الظهيرة كنا نترصدّ الطيور التي تحط في غدران الشجرة، وأغصانها المثقَلة عادة بعصافير الدوري خاصة تتوزع في أنحاءها نائمة أو مرفرفة في حالة نشوة وانخطاف. ونحن بجلود قنصنا (التركمان) نتصيدها ليتساقط في كل طلقة، أكثر من عصفور من فرط كثرتها وحبها الكبير للاقامة والمبيت في ملاذ شجرة الفرصاد التي تتربع سيدّة مُطاعة في صحن البيت القديم الذي شهد ولادة أجيال من الرجال والنساء والحيوانات حيث الكائنات تسبح متوحدة في أحضان الطبيعة.. ربما منذ الجد الأكبر الذي جاء من بلدة (نقصي) بوادي الطائين الذي يمتد هبوطاً من بوابته، الجرداء (وظل يَنضج بالجرداء ساحتها…) حتى (بَعد) بلدة أبناء عمنا بني محرز ومن ثم (نقصي) و(هندروت) و(مِس)، تمتد سلسلة القرى والواحات في أعماق الوادي وعلى سفح سلاسل الجبال، تمتد حتى غبرة الطام ومن ثم (المزارع)، حيث المصبّ المائي الذي تلتقي فيه روافد كثيرة ويبقى غزيراً بزلال ماءه وأسماكه الصغيرة التي تنتفض فرحاً حين تحس أن هناك من ينظر إليها في حياتها الخاطفة السريعة مثل حياة الأزهار والفراشات، وهو من أكثر الوديان خصوبة حتى في أزمنة المحل الماحق.. في قرية نقصي أتذكر حين اصطحبني الوالد لرؤية أرض الأجداد كما كان يعبّر، وقد كان يمتلك ضاحية نخيل هناك… في ذلك المساء وقد أقدم الليل وتكاثف الظلام، ولم يأتِ عبدالله أحد أبناء عم الوالد، صاح صائح القرية بغيابه في شغاف الجبال المجاورة، كان ذاهبا للصيد. ربما افترسه مفترس أو هشّمه جارح أو قُتل بسبب الثارات القبليّة الكثيرة في تلك الفترة…

ذهبوا للبحث، ببنادقهم تفرقوا في أكثر من اتجاه. وما كاد الليل أن ينتصف إلا وعادوا بصحبة عبدالله الذي صاد وعلاً ضخماً بشكل استثنائي ولم تقوى دابته على حمله. مزقوه إرباً وأشلاء ونزلوا به إلى القرية فرِحين بتلك الوليمة السخيّة..

ومن (نقصي) القرية الأثيرة أيما ايثار على قلب الوالد أكثر من غيرها، يمكن أن نذهب مسافة قريبة نحو الغرب، حيث مشهد العناق الأزلي الذي لا ينقص تصرّم الأزمان والأحقاب من حميميّته ومهابته الروحيّة بل يزيده ألقاً ونضارةً، بين ذينك الجبلين جبليّ (حلق الطير). وبعد عدد من الروابي المعشبة جزئياً والهاويات، تأتي منطقة (الرحْبة) على مدخل وادي منصح، التي ربما اشتق منها اسم قبيلة الرحبييّن.. والرحبة، كمكان موجودة أيضاً في اليمن قريباً من صنعاء أو ضمنها، حيث يقطن جزء من تجمع قبائل أرحب اليمنية الكبيرة التي تفوق العُمانية كثيرا… من ذلك «المهد» المتشظي بصراعاته وحروبه راهناً، انطلقت السلالات العربيّة حسب الرواية وزحفت نحو العالم الأوسع في أزمنة الخراب والجفاف، ومنها زحف مالك بن فهم، بجحافل الأزد، نحو عُمان، وبعضها نحو العراق، في رواية ملحميّة يعرفها العُمانيون جيداً.

والرحبة، منطقة أيضا في الجزيرة السوريّة بدير الزور، والقاطنون فيها يحملون لقب الرحبي، عرفت بعضهم ممن كان يعمل في الصحافة، حين كنت مقيما في الشام التي يتواطأ العالم الآن على تدميرها وسحقها.. وأخبرني هيثم حقي (المخرج) و(الكاتب) انه ينتمي إلى عائلة أو عشيرة الرحبي في تلك المنطقة، لكن هيثم كتب بالاسمين الأولين شهرة وتداولا من غير صفة الانتماء المكاني أو العشائري..

على مدخل وادي منصح بوحشته وغموضه، الذي يضيئه طيران القطا بانسيابه الحزين، ومن هناك يمكن رؤية جزء من سكان الجبال العُمانية الذين يُدعون (الشواوي) كما يُدعى سكان الصحارى بالبدو، محاطين بقطعان الماعز والجمال السارحة في البراري الجبليّة مع الصِبية والرعاة، وتلك المساكن، المحفورة في أعماق الأرض الصلبة لتقيهم برد الشتاء والغزوات، كما ببيوت الشعر والسعف على سطحها.

وفي (وادي منصح) هناك أيضا القرى المعلّقة على خاصرات الجبال، تلّة نخيل وأشجار، نبتت صدفة في براثن تلك الأطواد الصخريّة، يراها الناظر من مسيل الوادي غصناً أخضر وسط هذه القحالة المترامية الكاسرة، وربما تشبه بصيص أمل لمقاتل جريح، في ساحة حرب ضروس.. ويستحيل الصعود إليها عبر طرق الجبل الأرضيّة الوعرة تلك التي تسود الأرض العُمانيّة قبل التحديث، وإنما يطلع السكان القليليّن إليها بالحبال مثل المتسلقيّن، لكنهم ليسوا هواة تسلّق وإنما ضرورة الحياة وحتميّة الجغرافيا العصيّة.

جاء الجد الأكبر سرور بوادي سمائل ليبني هذا المنزل بجوار  الوادي تحدّه سلسلة الجبال التي تمتد حتى تخوم العاصمة…

***

في (نقصي) كان الوالد قد ذكر لي من غير تفصيل هذا الحدث أن هناك كانت مكتبة ضمن قلعة البلدة الصغيرة ، قد أتى عليها الحريق في معركة جرت بين سكانها من (أولاد عيسى) الذين ينتمي إليهم الوالد والذين يشكّلون سكان البلدة على الأغلب، وبين فخذّ آخر من أفخاذ قبيلة الرحبيين من القرى المجاورة، ربما وهذا ما أكده شقيقي سليمان أبو محمد الذي أتى بمخطوطات لأحد الأسلاف المنتمين لذلك المكان الذي يرشح نأيا وغموضاً..

وقد وجدت في كتاب المؤرخ مداد بن سعيد الهنائي (التاريخ والبيان في أنساب قبائل عُمان)، إذ يقول فيه: «أولاد عيسى بن محمد بن سعيد فيهم علماء زمن الدولة اليعربيّة، وفيهم مشيخة، ومنهم قضاة وقياديون في الدولة اليعربيّة، ومن علمائهم المتأخرين عديم بن عمر بن سالم بن عيسى، زمن السلطان سعيد بن سلطان وكان عديم رئيس المحاكم الشرعية».

***

اذا كانت (الرحبة) تشكل المدخل إلى وادي منصح المحاط بغموض القطا والغيوب، وهو يسترسل إلى (فنجاء) ومن ثم يدخل في تخوم الجبال حتى (الخوض) ومن ثم البحر الفسيح، فان قرية (غرابة) من الطرف الآخر تشكل المدخل المعاكس، المنفذ من جهة (سرور) بعد بلدة (لزغ) التي كان الوالد يمتلك فيها ضاحية نخيل أوكل أمرها إلى رجل أخرس تقول الحكاية ان الله عوّضه عن الكلام والسمع بفحولة خارقة، عرفت البلدة ذلك حين دُعي للزواج كمحللّ لزوجة طلقها بعلها بالثلاث، فما على الأهبل الأخرس إلا القبول، لكنّ بعد ليلة الدخلة، التي يبدو أنها لم تكن شكليّة أبداً، للتحليل فحسب، وإنما طوحّت بالمرأة إلى آفاق جسديّة أبعد لم تختبرها من قبل.. بعدها رفضت المرأة العودة إلى منزل الزوج والطلاق. وانتشرت الحكاية حول البيدار الأخرس الذي لم يكن هناك من يفكر بالزواج منه، حتى بلغ عدد زيجاته أربع وانتشر خبره في مضارب العشائر والقرى المجاورة..

أعود إلى بلدة غرابة، التي كان من أبرز سكانها أولاد هلال، واليهم ينتمي الشاعر خالد بن هلال الرحبي، أحد أبرز شعراء عُمان التقليدييّن إن صحت العبارة، إذ يمكن القول أنه كان مجدداً في اطار العمود الشعري، ونتيجة لاقامته الطويلة في الشرق الافريقي (زنجبار) واطلاعه على معارف لم تكن مُتاحة بتلك الفترة الظلاميّة المغلقة، في بلده الأم.. و(غرابة) اشتهرت بأشجار السفرجل، ويمكن القول انه اذا كانت (قيقا) جنة التين، و(بدبد) عرفت بتباشير القيظ وطلائعه، و(هصاص) جنة الجح والبطيخ، فان (غرابة) جنة السفرجل الكبير خاصة (بورقاب) تراها تجاور بساتين النخيل وتخترقها متفوقة عليها في الحضور والهيمنة أحياناً.

وعلى مقربة من (غرابة) تقع قرية (جردمانة) وهي بلدة يسكنها شيخ التميمة لقبيلة الرحبييّن.. تقول الحكاية أيضا إن أحد أولئك الشيوخ الغابرين بلغ من النفوذ على أفراد قبيلته بأنه حين يحكم بحبس أحد المتهمين في قضيّة ما يأمره بأن يقيّد نفسه بحبل مربوط على جذع نخلة خُصصّ لهذا الأمر، وينقاد المتهم طواعية ليربط نفسه بالحبل حتى انقضاء المدة المحددة لحبسه وقيده، ثم يفك وثاقه بنفسه ويغادر .. هكذا…

***

في الوديان المرصعة بالواحات والبلدات حِذاء الأوابد الدكناء وسفوحها المعشبة، يمكنك أن ترى قطعان الحمير والاغنام ترعى بنشوة ونَهم، خاصة حين تكون الأمطار قد زارتْ عما قريب… ترعى الحمير بشبق وتوّحد مع الأرض والمرعى، حتى لا تكاد تعطي بالاً للقادم من بين البشر ولا تعكر صفو عزلتها الروحيّة الجسدية في أمكنتها الحميمية، كأنما ليس لاشباع غريزة الجوع الحيوانيّة فحسب، وإنما يمتد ذلك الانفصال عن العالم إلى ما يشبه التعبّد والصلاة. ترفع بين الفينةِ والآخرى رؤوسها إلى السماء فيما يشبه الامتنان والشكر للعليّ القدير الذي انزل عليها هذه النعمة وهذا الهدوء.. وعلى مقربة من الحمير نرى الأغنام والخراف بصخب الأطفال وصمتهم أحياناً، حين ينصرفون إلى شيء يحبونه كالألعاب الفرديّة والطعام.. وربما نلحظ في البعيد خروفاً قادماً بسرعة العاصفة يتقدمه صياح فرحِه، وقد تاه عن القطيع وها هو ينتظم في عقده من جديد..

بصورة عامة حين نعيش مع الحيوانات وبالأخص سلوكها المفعم بالحس والعاطفة،  وعلاقتها المحبّة أو الكارهة، ببني البشر، لا نملك إلا أن نشك شكاً بيناً، فيما ذهب اليه (ديكارت) أبوالعقلانيّة الحديثة في قسمته الثنائية كون العالم لا يحتوي إلا على جوهرين متمايزين تماماً: النفس والجسم، فالنفس تتميز بالفكر أو الوعي الذي يستطيع أن يعي ذاته وهي موجودة في الانسان فحسب. أما الجسم فيتميز بالامتداد كجوهر مادي ممتد في المكان. وعليه فان (الحيوانات) آلات، وكل ما ليس له نفس فهو مادة. فالحيوانات شبيهة بالآلات التي يصنعها الانسان وان كانت على درجة أكبر من كمال الصنع..من غير الدخول في متاهة النظريات التي هي على نحو من التعقيد والتجريد، وأقرب إلى ملاحظات ومدونات علماء الحيوان والنبات، والأقرب إلى الأدب والشعر، حين نمعن النظر في المشهد الحيواني وحتى النباتي المتَشّعب والمنساب بجمالية نادرة حتى بين البشريّة المعاصرة. نجد في سلوكها ونظراتها إحساساً وحدساً، إنها أرواح هائمة في الطبيعة مغمورة بمشاعر الفرح والألم، حدس الموت حين تقترب مواسم الذبح والإبادات الجماعيّة للحيوانات من أجل غذاء الانسان الواعي «سيد المخلوقات» أو ذلك الحمار الذي يحس بالخطر قبل وقوعه وتلك الأبقار والعجول والثيران النائحة في زرائبها، بمواسم الأعياد بعيونها الحزينة تراها مستَنفرة وقلقة في الحركة والسكون.. أو سلوك الجمال التي لا تنسى الإهانة والإذلال مهما مرّ الزمن على الحدث تعود لتنتقم شرّ انتقام من ذلك الذي أذاقها الهوان. وسرديّة السلوك الحيواني، أحاسيسه ومشاعره الغامضة، عادته، لا تنتهي، خاصة حين نقرأ تلك الدراسات والملاحظات اللاقطة عبر التجربة والتي أملاها المعيش المشترك والعشرة الطويلة لعلماء الحيوان والنبات بروحه الأثيريّة الدامعة. انها الأقرب إلى حقيقة تلك الكينونات وطبيعتها الغريزيّة ومشاعرها أكثر من الفلاسفة، خاصة أولئك «العقلانييّن» على عظمتهم، الذين بوأوا الانسان مركزيّة الكون والكائنات على نحو صارم وحتمي وبوأوا العقل البشري القيادة والسيادة مقابل الإقصاء والتهميش حد المحو للكينونات الأخرى. هذا الاتجاه الفلسفي جرّد على الأغلب الحيوان حتى من الإحساس الغامض بالموت والحدس الغريزي باقتراب النهاية. الانسان وحده الذي يعي موته. ويا للمفارقة بين ارتكاباته الوحشيّة خلال حياته العابرة وبين هذا الوعي ذي الصبغة المأساوية لحرقة الموت، بداهته وحتميته التي لم تخفف من غلواء المجزرة على مرّ العصور …

ووفق المنظومة العقلانيّة العلميّة والفلسفيّة التي على نحو من الأنحاء يمضي على هديها فيلسوف (الجوكيتو) الكبير، أليست الحيوانات أسلاف البشر والجذر السلالي في سلسلة التطور العضوي والذهني. أليس من حنين يختزنه اللاوعي البشري إلى الجذور والبدايات؟!

***

سلاسل سحُب دكناء تطوف القرى والبلدات والواحات التي بدأ تشكلها من أعالي الجبال والهضاب، نازلة إلى أحزمة الوديان والشعاب. سًُحب طال انتظارها طويلاً. العيون شاخصة والابصار مخطوفة إلى جلبة الرعود وسلاسل البروق التي تخضّ السماء مثل ممخاضٍ يوشك على الانفجار، لا شيء يوّحد أهل القرية ويبلسم الجروح والخصومات مثل الغيوم والأمطار، ينسون مشاكلهم وخلافاتهم اليوميّة الصغيرة، وحتى تلك التي ترمّلت على أثرها الدموي النساء وتيتم الأطفال، تُنسى تحت وابل الأمطار وجوائحها، أعياد مواسم الخصب القادم.. ويمكن رؤية الذين قضوا نحبهم منذ سنين يتدفقون بوجوه ضاحكة مهللة في زيارات يشاركون فيها الأهل أعيادهم الجماعيّة. ثم يعودون إلى الأجداث بشفافية ومرح.

تتوحد الجماعة والحيوان والنبات في روح كونية واحدة، تتوحد وتذوب في غيمة زرقاء شاسعة تُنزل حمولات مطرها على جروح الأرض وأوجاعها، تتوحد وتنصهر أكثر مما تفعل في مناسبات الأعياد الدينيّة والاجتماعيّة. وحين تنزل الأمطار في مثل هذه المناسبات، يكون الفرح عارماً يحمل البشر على الطيران في فضاء القرية بدل المشي على الأرض. كأنما المياه المتدفقة من ساحة سماء لا مرئية مليئة بالغيوم هي التي تجعل كل شيء على نحو من وحدة وسلام روحي مع الذات والعالم.

***

ضمن سرد الذاكرة المتشظي هذا، لا يمكن أن أنسى زيارة العائلة إلى جعلان (بني بوحسن) حيث والي المنطقة الوالد محمد بن سيف الأغبري، صهر الوالد، جدّ أولاد أخي يعقوب لأمهم، ومنهم يوسف واسحاق وعيسى وابراهيم، وراحيل… الخ جلّ أسماء أبناءه إن لم يكن جميعهم من أسماء أنبياء بني اسرائيل.. وحين تُبدى ملاحظة من اخوته غالباً حول اختيار تلك الأسماء التوراتيّة من العهد القديم، يجيب بان أولئك الأنبياء ليسوا حكراً على العبرانييّن، أنهم أنبياؤنا أيضاً وجزء من تراثنا الروحي كما ينص على ذلك القرآن الكريم.

أخي يعقوب عُرف بتلقائيته الشديدة التي تصل حدّ الشطح الخيالي أحياناً… مرة كانوا جالسين في سبْلة (سرور) سألهم: أتعرفون كيف يُحشر البشر يوم القيامة وعلى أي صورة وطريق؟! أجابوه وفق الرؤية الاسلامية الراسخة والمتداولة في النصوص وعلى الشفاه.. قال لهم ان ذلك صحيحاً، لكن ثمة تصور آخر، انهم سيُحشرون على شكل (صَدْ)، جحافل من هذا السمك الصغير الذي عُرف في أودية عُمان وأفلاجها.. جحافل وأقوام وأمم ستشكل موقعةُ البعث والقيامة، وسيكون مكانها البحار والمحيطات، هناك تنتشر الخلائق السمكيّة التي راكمتها القرون والأحقابُ خارجةً من أحشاء الأرض وأجداثها، إلى البسيطة المائيّة المكتّظة بالسديم والظلمة، وكأنما تعود أدراجّها إلى حيث بدأت، من رحم العزلة والظلام..

وحسب «نظريّة» يعقوب أبويوسف، تكون هناك في الأعماق مصائد عملاقة لا بداية لها ولا نهاية، تغطس في خضّمها جميع المخلوقات التي تحوّلت إلى شكل ذلك (الصَدْ) أو سمك العِرَم، ومن ثم إلى رحمة بارئها ومصائرها التي تحّددها الارادات الإلهية..

أخي يعقوب الذي كان في طفولته يهوى تربية الحمام أو «الحقم» في (مروق) المنزل وعلى أسطحه مع التمور المجففّة. وحين حدث مرة أن صوبتُ بندقية الصيد «السكتون» إلى سربها القريب وسقط بعضها جثّة بلا حراك بعد أن تكاثر وصار يختطف قوت العصافير التي تسكن شجرة الفرصاد الكبيرة في صحن البيت.. فما كان من يعقوب إلا أن أشهر في وجهي سكيناً وهو ينتفض من الغضب، من فرط ولعه وحبه للحمام..

 كانت هذه الزيارة علامة في الذاكرة، حررّت المخيّلة الطفليّة التي تنزع دائما إلى التحليق في الفضاءات والآفاق المفتوحة، حررّتها من ربقة الجبال الحجرية التي تطوّق الداخل العُماني، فبدأ من بلاد الشرق وحتى الكامل والوافي وجعلان وصور، تتفتح فضاءات المشهد الذي يخاله الرائي لا نهائيا ولا محدوداً بصخرة أو جبل، فضاءات متينة الصلة بلا نهائية الزمان وتوأمه في الخلق والخليقة، المكان الذي تتوّحد مشاهده المتلاطمة بين مشارف الربع الخالي وشواطئ البحار الممتدة إلى آفاق الامداء والمحيطات.

ومن تلك الزيارة تفرعت زيارة أخرى، إلى بلاد (الحجرييّن) المنترب ذات الطبيعة الجغرافيّة والاجتماعية المشتركة مع أهالي جعلان في كرم الضيافة وسخائها وذلك ما لاحظته لاحقا في (سناو) حيث الغلوّ في كرم الضيافة يصل حداً اسطورياً يستدعي رموز أزمان تصرّم عهدُها حيث «الجفناتُ الغرّ يلمعن في الضحى..».

وحيث السباق إلى اغاثة المستغيث وكرم الضيف مثل السباق إلى المواجهة مع الأعداء والغزاة..

***

ربما موقع سرور، غير البعيد عن البندر او العاصمة، وبعد أن يجتاز المسافرون (وادي العق) معقل قبيلة (الندابييّن) بعقباته ومنحدراته الوعرة، يجعل القوافل والمسافرين يشعرون بنوع من الراحة باحساس قربهم من الوصول. سواء أولئك الذين لا يتجاوز مقصدهم البندر والباطنة وهم الأغلبيّة، أو أولئك الذي يحلمون بتجاوز الحدود العُمانية بحثاً عن العمل والرزق في تلك السنوات العجاف. وغالبا ما يرحلون بطرق التهريب والمراوغة للسلطات الرسميّة براً أو بحراً حيث يقضي الكثير منهم قبل الوصول إلى الحلم والهدف… لذلك ترى قوافل الجمال والحمير لا تهدأ حركتها في الوادي السحيق. وثمة مسافرون يتوقفون من فرط الاجهاد لقضاء ليلة في تخوم الوادي قرب خميلة أو عين ماء تحيطها شجيرات نخل وحَلْفاء. وهناك من يتوقف  لدى معارف في البلدة لينعم بحسن الضيافة والملاذ التي اعتاد عليها العُمانيون كجزء من نسيج السلوك الاجتماعي والديني حتى في ظروف الأزمة وقسوة المعيش..

في بيت الوالدين (التبينيّات) ما زالت تحضرني بعض وجوه العابرين وقد توقفوا ليوم أو يومين. ما زالت بعض تلك الوجوه تحفظها الذاكرة في حناياها وحجُراتها التي بدأت تقل فيها الاضاءة تدريجياً، أتذكر وجوها عابرة ليست على معرفة مباشرة بالوالد وأخرى تكون قاصدة ضمن معرفة تتفاوت درجاتها، من العامّة التي تمليها التقاليد والمروءة، ومن هذه الفئة ذلك الرجل الذي قضى في سبلة الوادي يوماً، وقد استقبله الوالد بحفاوة مع نفر من الأقارب والجيران، وكان اسمه (سيف)وهو الاسم الأكثر انتشاراً ربما في عُمان، يبدو الرجل من أعيان قبيلته الكبيرة في نواحي الشرقيّة والبحر الحدري، قدم من الكويت حيث كان يعمل، على وجه السرعة قَدِم رغم مخاطر الطريق تلبية لنداء الواجب القبلي، حيث نشبت «حرب» بين قبيلته وقبيلة أخرى. ودائما حروب القبائل والفخائذ والحمولات تستعر في ظل غياب أو ضعف الدولة المركزيّة لتنفجر الضغائن والأحقاد الصغيرة، خاصة ذلك الميراث السيء الذي قسّم العُمانيين بين معسكرين (هناويّة) و(غافريّة) في ظل تفكك الدولة القويّة الشاسعة،  لليعاربة الذي استمر حتى مجيء الامام أحمد بن سعيد البوسعيدي، لتستعيد البلاد ثباتها ووحدتها لفترة من الزمن.. تجري وتيرة الصراعات وفقا للانتماء القبلي غالبا وليس الطائفي كما تحتفظ مدونات التاريخ وأحداثه…

جاء الشيخ سيف ملبياً نداء حربه القبليّة أو العائليّة، أقام يوما في سبلة الوالد يستريح من عناء السفر، ورحل حيث عاد بعد فترة في طريقه إلى مكان عمله الكويت..

أثناء عودته، وهو جالس مع الوالد وصحبه في المجلس نفسه، بدأت أسئلة الأولاد الذين بدأوا للتو الهجْس بوعي العالم البشري وغرابته.. ها هو رجل بشحمه ولحمه مزنراً بالخنجر اللامع والتفق والمحزم الذي يحوي الكثير من الطلقات، يجلس بيننا وقد خاض حرباً واقعيّة تخيلها الصِبيّة بأنها تشبه تلك التي يرويها الرواة والكتب قادمة من أعماق التاريخ البعيد، أو أنها تشبه حرب الجبل الأخضر التي يلفعها الغياب والغموض بعظمة ملحميّة ما. برغم قربها الجغرافي اللصيق.. على عكس النزاعات المحدودة في البلدة والبلدات المجاورة التي يذهب فيها قتيل أو جريح، فلا ترفعها المخيّلة الباحثة عن الاثارة إلى مستوى الأسطورة والدهشة..

***

يتبادلون أخبار مصر والجزائر والعراق، فيتخذ الكلام منحى آخر حيث يدلي كل برأي أو جملة مقتطعة من سياق أو نكتة في الحديث المتشعب الذي تتخلله وقفات حيرة وارتباك، من غير ان تمنعه من الاستمرار وطرح آراء حازمة نافذة بينما الصِبية مدفوعين بحصار الظهيرة والصراع يدخلون جنونهم الخاص في الاشتباك والضرب وتحطيم كل شيء يقف أمامهم، أو يقفون كعادتهم للتطفل على النساء العاريات في خلوات الأفلاج، تصدمهم رؤية الأجساد بتكويناتها الأنثويّة مخطوفين بتلك النتوءات يداعبها النسيم الحدْري، لدرجة لا تترك لهم فرصة استراق السمع إلى أحاديث النسوة الخاصة، الذي يتبدى لهم مثل همس أطياف موغلة في البعد والغموض، وحدها الأجساد تستحوذ على خيالاتهم الغضّة .. ينتظرون الليل كي تتدفق الأحلام وهي تسبح في طيف مياه عزلة الأفلاج عن العيون المتلصصّة التي تخترق حجب الأستار السعفيّة والجريد…

***

كان يمكن لطيور الخفاش والوطاويط التي استعارت روح شجر الغاف والسمر وأرواح أشجار أخرى مورقةً أو جرداء، حتى صارت تشبهها في تضاريس الوجه، وفي التحليق في عوالم الأحلام وهذيانات السحرة وهم يعقدون جلساتهم الليليّة  تحت القمر الكبير الذي يتربع على عرش سماء مفعَمة بالنجوم والنيازك، تتقافز في أرجائها أحلام الصِبية كالطيور المذعورة.. كان يمكن عبر طقوس السحرة وبخور ضحاياهم، أن تتحول إلى بشر يتنزهون بنشوة في تلك البراري الخاوية والضواحي التي تخترقها الأفلاج، بينما عيون الأولاد ترصد أسرار النسوة العاريات في «المجايز» المسوّرة بجريد النخيل في مجرى الأفلاج.. ربما تلك الثعالب الطائرة كانت بشراً فيما مضى من الزمان المتدفق ليتحولوا مختبرين روح الطائر الهجين وسلوكه في تلقيح النباتات والأزهار.

***

يتجمع الأولاد من قبائل ومشارب شتى، تجمعهم طفولة جبليّة مشتركة، على حواف الأفلاج والأماكن المشرفة على الوادي وسط صليل الجبال وشحيج الحمير الذي يتردد صداه من أعلى القرية وفي أرجائها. يكفي أن ينهق حمار في ذاك الطرف حتى يبادر آخر من الطرف الأقصى وتنفجر جَلبة الأصوات لتحتل أفق القائلة السكرى بين السفوح وضفاف النخيل واليمام البري ونسور الرخمْة التي تحتشد دائما في مثل هذه البرهة، هائمة على أشباح الفرائس والأشلاء.. تنفجر جلبة الحمير في سلم موسيقي متصاعد، بدافع الجوع والعطش أو بدافع الهياج الجنسي، حين تنتعض أعضاؤها وتتدلى بقوة، تحت جاذب رائحة بول الأنثى على مقربة، حتى يندفع الذكر في نوبة غيبوبة قاطعاً خيّته، منقضاً على أنثاه كصاعقة من شَبق وهيام ليفترعها وسط استسلام مطلق لدافع الرغبة العنيف..

يتجمع الصِبية محدقيّن في موقعة الحمير الجنسيّة، وسط ذلك المناخ الضاج بزغاريد النسوة الغجريّات ورغاء الجمال المترحلة عبر الوادي إلى البنادر من بلاد الشرقية والصحراء، من الجعالين وصور، مركز صناعة السفن العُمانية والبحارة، أولئك المغامرين يمخرون المحيط الهندي إلى الهند وافريقيا بشكيمة مَن عركته التجارب في مدلهم الليالي والمواجهاتُ مع هوام البحر والعواصف وقراصنة المحيط…

صور مجد الصناعات البحريّة العُمانية التي تتآخى في التسميّة والبحر مع (صور) اللبنانيّة، لا نعرف على وجه القطع، أيهما تسبق الآخرى كحدث بحري في التاريخ، فتلك شهدتْ ولادة الامبراطورية الفينيقية المحتدمة بالدلالات والأحداث الجسام، وهذه من حواضر عُمان التي أرخى عليها الأزل جناحَه وكتب على صفحاتها السديميّة مسوّداتٍ لخلائق وجماعات لاحقة..

من شبه جزيرة العرب انطلقت الهجراتُ حين عصف بها القحط والجفاف، والعصبيّاتُ التي لا ينقصها شدة البأس والعزيمة، لتبني ممالكها في الأراضي الخِصبة.. حتى (سركون الأكدي) من أعظم ملوك العهود القديمة بامبراطوريته العظيمة، يقول المؤرخون أن سلالته الساميّة، ترحلّت من شبه  جزيرة العرب وبادية الشام…. الخ

لا نعرف على وجه الدقّة واليقين بالطبع، لكن ما هو أكيد وراسخ، تلك المشتركات العميقة التي تجمع المدينَتين، البحر والسفن المترّحلة بأشرعتها عبر الأصقاع والمحيطات لتبني (ممالك الرياح الموسميّة)، والنوارس التي أُحبها، على ضفاف المدينتين والتي أوشكت على الانقراض، كما اللغة العربيّة كمكّون مشترك وعميق على رغم (فساد الزمان) وانقلاباته المتعاقبة.

***

يتجمع الصِبية محدقين في موقعة الحمير التي يملأُ لعاب منيّها المتدفق وريقها حُفر الأرض والحشائش، يسألون بعضهم: من أين تُؤتى المرأةُ جنسياً، من الخلف أم من الأمام؟! تختلف الآراء الطفلة وتتصادم التوقعات، في حضور الإستيهام وسطوة التَخيّل في غياب التجربة الواقعيّة بعد، تتهادى أطياف إناث البشر والحيوان وتعانق بعضها حدّ التوحدّ والذوبان متحررة بفعل آلة الخيال الجامحة، التي تنزع إلى تدميّر المحرّمات، وينطلق الأولاد في الكلام من غير ضوابط ولا حدود محلقين في فضاء الأحاسيس الأولى لنزوعات الكائن وخوافيه المطمورة، راوين ما سمعوه خلسة من الكبار لحظة انفجار الرغبة والجموح: «فرجها مثل صفّانة الدجاج» أي صدرها، ذلك الفرج مركز الغواية، الهلال المنبلج بغيومه الخفيفة الملوّنة من بين فخذين بيضاوين أو سمراوين، أطيافه في سماوات الحسّ البدئي… في تلك الفترة سرت اشاعة بأن، ألقى عسكر الوالي المزنرّين بالمحازم والخناجر، القبض على (ود الوروار) بعد أن داهموه متلبساً بالجرم المشهود في مضاجعته عنزة (استغفر الله) كانت منفصلة عن قطيعها.. ويبدو أن ود الوروار، يترصدها بالطعام ليغريها بالانفصال عن السرح.. وهناك في خميلة منعرلة يرتكب فعلته المشينة.. وكان بعض الأولاد يترصدوه ليبلغوا الكبار الذين بدورهم أوصلوا الأخبار إلى الوالي في حصن سمائل الجبلي… وقبل فترة حملت الأنباء التي تداولتها الألسن بين سمائل وسرور، من داخل الحصن أو بالأحرى من ذلك البرج من أبراج مجالس الحصن الكثيرة بالاضافة إلى الزنزانات والمطامر. البرج الذي يدرس فيه تلاميذ العلم، بأن المدرّس حاول في خضّم ليل الحصن الحصين أن ينتهك حرمة سجينة في مرقد سجنها، هو العارف بتفاصيل الحصن وخباياه المظلمة حتى في النهار، وحالكة الظلمة ليلا، لكن صراخ السجينة من هول المفاجأة ترك الحصن بجميع قاطنيه يستيقظ وصار مثالاً للتندّر والاحتقار «لكن كيف يستسلم الحيوان من نوع الكلاب والحمير والأبقار؟» سأل أحد الصِبية وهو يسبح بخياله في مياه الخرافة المزبدة.. فكان الجواب، بان الفاعل يبدأ بملاطفة الحيوان وتدريبه حتى الترويض الكامل والاعتياد على ما هو خارج الطبيعة والفطرة والدين.. فكم من حمارة أو بقرة رفست مغتصبها وهشّمت أعضاءه وكم من كلبة أليفة أو بريّة عضّت ونبحت نباحاً عالياً..

واذا كانت تلك المرأة التي صرخت بهستيريا، حين اكتشفت خيانة زوجها، بان الرجل كلب، فكيف يُوصف مثل هذا السلوك الذي لايسلم منه مجتمع فطري بدائي أو حضاري بلغ أعلى درجات التقدم والمعرفة؟!!

***

مدرس المبادئ الدينية واللغوية في الحصن سيكون مدار حديث بلدات (المسحاب) على مدار أيام وشهور حتى يأتي حدث يحمل صدمة أكبر مثل نكاح الحيوانات وانتهاكها..

تذهب الاشاعة أيضا إلى انه في احدى المرات وُجدت (صخلة) فتيّة منزوعة الأحشاء من الفرج.. من غير معرفة الجاني، لكن بعد القبض على ود الوروار أُلصقت كل التهم المجهول فاعلها به وشكلّ نموذجاً للتطرف والانحراف الجنسي الاجرامي..

لم تسلم الحمير والأبقار من الانتهاكات الجنسيّة على صعوبتها، لكنها تظل محض إشاعة إذ لم يقبض على أحد متلبساً بعد وشاية، بل ثمة شكوك تراود البعض، مثل ذلك الرجل العاشق لحمارته يلبسها الحليّ والزينة التي يبخل بها على امرأته، ويحرسها دائما من اقتحامات ذكور الحمير الهائجة في قيلولة البلدة..

في احدى خلوات جلساتهم ناقش الأولاد الأشقياء مسألة نكاح الحيوانات، وسردوا نوادر سمعوها، في هذا المجال الجرمي. جاءت من خارج البلاد، من الكويت منها ذلك الذي وُجد ملتصقاً على ظهر كلبة وهو داخلها لا يستطيع الخروج حيث رصّت بمشافر فرجها على عضوه حتى افتضح أمره، وصار مسخرة البلاد..

***

كان الصبية يتجمعون في الوادي وسط بساتين النخيل الذي تتخلله أشجار الموز والفيفاي والكروم الكثيفة المتدليّة الثمار والعناقيد.. أو في (الرّم) منطقة الحدّادين صانعي أدوات الانتاج ومصلحي عطبها واعوجاجها، أدوات الحراثة من مساحي وفؤوس وهِيّبة، وأخرى مثل القدوم والخصين والمجازّ… كلها تُستعمل لانجاز الزراعة والعناية بالنخيل والأشجار الأخرى، منذ طورها الأول كفسائل مغروسة للتو، حتى تثمر وتعطي وتهب من كرمها الفائض في مسيرة عمرها المديد، عمر أجيال من البشر. تجري العناية بها والرعاية كما الأطفال بنفس العاطفة والقلق صحة ونمواً..

يسهرون عليها الأيام والليالي مثل أطفالهم بالتمام والكمال، وكذلك الحيوانات التي يربونها كالأبقار والأغنام والخراف والدجاج.. وحيوان العمل والترحل مثل الحمير غالبا، في هذه المناطق الجبليّة من عُمان والخيول في بلاد أخرى والجمال بمناطق الصحراء غالبا، محققيّن نوعاً من الاكتفاء الذاتي، بالاضافة إلى السمك الذي يُؤتى به من البلاد المتاخمة للبحر والمحيط، مُملّحاً (المالح) أو مجففاً (العوال والقاشع)، كل ذلك لا يجعلهم بشكل أساسي يعتمدون على الخارج والبلاد الأخرى..

كل هذا الكون البشري الحيواني يصحو كل صباح، يتنفس هواء الحقول والسفوح المعشبة، النقي الصافي كعيون الديكة والظباء، يصحو رجال العائلة للسقي والعمل، يصحو الأطفال لمدرسة الكتاب وللرعي، تصحو الأم قبلهم جميعاً مع بزوغ الخيط الأول لفجر الأمومة. تصحو الحيوانات مطالبة برزقها الصباحي من الغذاء والماء، تنجز الأم واجبها البشري والحيواني لا تترك صغيرة ولا كبيرة من شؤون البيت، ثم تتجه إلى الحقل تتفقد ما زُرع ونما، وما زرعته يدها المباركة مثل شجر (النانيا) الطماطم، ما مصدر هذه التسمية ربما غير عربي؟ مثل المطيشة عند المغاربة والأوطة لدى المصريين والبنّدورة في بلاد الشام…

تتفقد شجرة الطماطم التي زرعتْها حمراء قانيةً برهافتها وبهائها المشع مع ندى الصباح. تتمايل شجيرات القمح في الريح الخفيفة. وذلك النبات المعرّش فوق روافع الأعواد بأوراقها النديّة، كرمة العنب بخضرتها المائلة إلى الزرقة على الأرضيّة الرطبة المكسوة بالحشيش (الثيّل) والرشيديّة طعام الدواب التي تساعد في الحرث أو تلك التي تقيهم المجاعة والمسغبة..

بروحها وجميع حواسها تتفقّد الأم وترعى الجميع، من الطفل إلى الرجل الراشد والمرأة الراشدة، من رضيع الجِداء إلى تلك النعجة أو البقرة التي أضحت مسنّة في كنف الحنان الأمومي.. يتناغم الكون المحيط بحيواته المختلفة، بجنادبه المحلقة في زرقة الفضاء والحقول، هسيس مجراته في السموات البعيدة، حيث يمكن للرائي في قلب ذلك الليل الحالك، أن يرى النجوم عناقيد النجوم واضحة بسطوع ضوءها وخفوته، أن يرى الشُهب والنيازك تلعب النردَ في مرابع السماء أو تغازل بعضها بخفَر العابرين، هناك حيث يحلم الأطفال والعشّاق في نزُهاتهم بين النجوم يقطفون الزَهر الفائح بعطره ويقسمون على الوفاء الأبدي، محدّقين في الثريّا وبنات نعش والميزانين بعيداً عن عيون الرقباء والحاسدين، بعيداً عن الضغائن القبليّة التي راكمتها السنين حتى تطاولت على الأبراج المنحوتة على ذُرى الصخور الجيريّة حيث يتبادل الفرقاء الرصاص والموت..

يصحو أهل البلدة في فجر الديكة، وما تبقى من عواء ذئاب بقيت في مخابئها الجبليّة، تصحو الأم حاملة سرَّ الأمانة التي روّع حملها الجبال، تحملها بجدارة حبّ الأمومة والحنان، تطمئن على الكائنات جميعها، يستيقظ الأبُ بحمحمته والعصا تقوده إلى المسجد ببصيرة الايمان الذي توارثوه أجيالاً وأحقاباً وحملوا أمانة حقيقته المطلقة لا يحيدون عنها قيد أنملة. في المسجد الصغير لكن المليء بنور الحقيقة يؤدي الشعائر والطقوس برفقة الجماعة، ثم ينفصلون كل إلى حقله ومشاغله الأخرى ليبدأوا يومهم ضمن سلسلة أيامهم الرتيبة المكرورة والتي لا يرونها كذلك بل مليئة بإثارة الأخبار من داخل القرية وأحداثها مهما تناهت بساطتها وحجمها، حتى ميلاد بقرة لتوأم أو ضياع نعجة عن القطيع السارح على ظهور الجبال والشِعاب، تكون بداية حديث أو حكاية تستدعي تلك المواشي التي أضاعوها في حياتهم أو في حيوات سابقة مثل النزاعات والحروب الصغيرة، التي ستكوّن أحاديثَ وهواجس ملحميّة لا يقطعها إلا هجوم الليل والتعب والنوم..

كم من الدوّاب افترستها الذئاب والسباع المنتشرة على غير وجه في القفار الممتدة أو التي نفقت جوعاً وعطشاً.. وما يخترق أيامهم ويطوح بها إلى الحيرة والأسئلة تلك الأخبار الواردة من خارج حدود البلاد عبر القادمين والمسافرين على قلتهم إذ أن البلاد تشبه معسكراً مغلق النوافذ والأبواب، تكون أكثر إثارة وتشويقاً.. لكن قلة أخبار البلدان الأجنبيّة، تجعلهم مستغرقين أكثر في سرد واقعي ومتخيّل، لأخبار النزاعات القبليّة والحروب بين أبناء البلد الواحد، التي لا تكاد تخمد في مكان إلا وتنشب في أماكن أخرى من أرجاء البلاد، لأسباب مختلفة يسردها المؤرخون أو من غير أسباب مقنعة في نشوب النزاعات والاقتتال. سوء فهمٍ بسيط حول كلمة أو موقف بدرَ من أحد أفراد هذه القبيلة أو الفخيذة أو تلك ليدوّي الرصاص وتُستل الخناجر والسيوف في ذلك الفضاء الموحش اللامع بفراغه وأشباحه… يكفي أن يقول مثلاً أحدهم لآخر (أنت تكذب) أو (قطع حسّك) لينفجر الحقد والنزاع ويتطوّر إلى معركة تدوم أياماً، يستقطب كل طرف مناصريه ومحالفيه حسب التواريخ والانتماءات التي كدسها الزمان في هذه الأصقاع التي بالكاد يعرف الآخرون عن حياتها وصراعاتها…. وفي فترات الدولة المركزيّة القويّة التي تسخّر تلك النوازع والانتماءات والطاقات الجماعيّة المتناحرة لمشروع يلم هذا الشتات ويصل صداه ونفوذه إلى خارج الأرض العمانيّة إلى مناطق وجغرافيات بعيدة.. حينها يُعرف شيئا عن هذه البلاد ويكتب المؤرخون ليس من القطر العُماني فحسب والذي يعاني شحاً بيّناً في كتابة التاريخ مقارنة بالمفاصل والأحداث العاصفة التي مرت بها البلاد، وإنما من خارجه عرباً وغيرهم. هؤلاء (الغيرهم) أي الأجانب من بلاد الفرنجة المستعمرين غالبا هم الذين يؤرخون ويكتبون بسعةٍ ورويّة مع الاختلاف والإتفاق فيما يكتبون، ويمضون في تجارب شاقة حدّ الخرافة في تلك الصحارى المستحيلة كالربع الخالي مثلاً، والتي يمور الجحيم (وليس النفط قبل اكتشافه والقابل للنضوب) تحت غلافها الرمليّ البرّاق، كمراجل أسطوريّة يحرّك حطبَ مواقدها أبالسةٌ مدّربون.. اشتغل ذلك النفر من الأوروبيين في تلك الشروط القاسية لاشباع جوعهم الذي لا ينتهي عند حد إلى التجربة والمعرفة، للتأسيس والتهيئة لطلائع القوّة والعنف الكاسح لنفوذهم الحضاري في السيطرة والاستغلال، أو حبا في المعرفة وتقديساً لها..

وحدَه القاضي الطنجاوي ابن بطوطة وقلة غيره، خاض المغامرة من غير طموحات وأحلام مثل أولئك المدعومين بطموحات حضارة لا تفتأ في التوسع العلمي والسيطرة حتى خارج الكوكب الأرضي.. وحده القاضي المغربي المزواج برحلته الاسطوريّة الفريدة، ترك شيئا يُقرأ ويَدل، عن تلك الفترة الممتدة في بعض ذلك الزمن والأحداث.

***

تحاصره القائلة، يحاصره الفراغ الهائج،ذلك الصبيّ الذي خرج من منزل العائلة مزنراً ببندقيّة والده (الصمع) والمحزم الفائض على جسده الذي يقف على مشارف البلوغ..

شقّ طريقه وسط العيون المحدّقة لذلك الجمع المتوّزع للعب (الحواليس) ورهانات سباق الحمير التي ابتدعها (الزط) الموسميون، على حواف الوادي وسط خيامهم التي تعوي في عتمها الخفيفة النساء الغجريات من فرط اللهاث وحمّى الشَبق.. شقّ طريقه نحو الجبل الذي يقع على ذروته برج من أبراج حماية القرية حين تقترب طبول الحرب منها والذي يطل على المسيل الذي تُقام في ظلاله الواسعة، العزواتُ والأعياد… صعَد الجبل بهدوء من غير ان يلتفت يميناً أو شمالاً كأنما نحو هدف مرسوم سلفاً بدقّة ورويّة..

وها هو مأخوذاً باغراء الهدف وسيطرته على حواسه وعقله، حتى استقر وسط ذلك البرج المتهدم، مُشهراً بندقيّته نحو القرية وأهلها. رأى أرنباً برياً يقفز من مخبئه في قعر الجبل باتجاه شجرة مخضرة فأطلق طلقة أردته على الفور، تردد صداها بين شعاب الجبال المجاورة وفي أسماع القرية برّمتها. وتذكر كيف كان في عزوة العيد الفائت يصوّب نحو (الشبح) حبة كبريت أو أي جسيْم بهذا الحجم وأصغر، وتذكر أمه واخوته وهو في غيبوبة الظهيرة والفراغ الهائج.

ما لبث أن انتشر الخبر في القرية، وأن الولد أصابه مسُّ من جنون أو سحر، فقد كان كثير الاختلاط بالغجر والمجانين. ربما عملوا له (عمل) أخذه إلى فقدان العقل والعنف والجنون. تجمع بعض الأهالي في صحن الوادي مقابل البرج…. صعد بعض أفراد عائلته وأقاربهم، لم يكن الوالد الغائب بينهم، صعدوا هددّهم، ملوحاً بالبندقية في الهواء، لكنهم واصلوا الصعود حتى المسافة التي يستطيعون فيها إسماعه العِظة والكلام. بعد تمتمة لا معنى لها ولا هدف طلب حضور أمه. مرّت فترة صمت والوجوه تلفحها شمس الصيف محدّقة في الأرنب القتيل. حضرت الأم، شقت طريقها مباشرة باندفاع كامل من غير تروٍ ولا نظر إلى الأمام حتى وصلت قريباًَ من باب البرج المتصدّع.. ركض نحوها قاذفاً جسده في حضنها المعروق.. ظل ينتحب فترة غير محدودة من الزمن.

***

ظل فترة من الزمن معْزواً بأحلام غزيرة مفزعة، منها ذلك المشهد المتكرر لحشد من المسلحين، يجرون وزبّد الغضب يتدفق من أفواههم ووجوههم، وراء مجموعة من الغجر والمجانين والحمير، بالبنادق والخناجر والعصيّ.. يركضون وراءهم وهم في تخبّط وحيرة من أن يلحق بهم هؤلاء القتلة يتخبطون في متاهة أزقة ضيقة ودروب مظلمة شبه مغلقة، أولئك المسلحين يشكلون مزيجاً من أهل البندر والقرية لا يكاد يتبيّن ملامح وجوههم الهائجة، هدفهم المشترك على ما يتبّدى في أحلام الصبيّ هو القضاء على هذه الكائنات التي يكن لها عاطفة غامضة صادقة ومتدفقة.. ومن بين ضباب المشهد الحلمي يرى حماره الصغير الذي كان يندفع نحوه بذلك السلوك المتناقض في الرأفة والحميميّة أو العنف البالغ حين يذهب في غيبوبة الفراغ والظهيرة. وهو ينقض عليه بالضرب الدامي حتى يطلق على مضض رفستَه الاحتجاجيّة في الهواء أحياناً لكنه حين يشتد به إلحاح الحالة العدائيّة في الضرب، يأخذ نصيبه، رفسةً في الجبين أو مثل تلك الرفسة التي كادت أن تطيح بصف أسنانه الأسفل أمام ساقية الفلج قريباً من بيت الخال أحمد، التي لم يكن بمقدور الحمار اجتيازها. وبعد انتهاء هذه المعركة العابرة اللامفهومة من قِبله يملؤه شعور بعدم الرضا والندَم.

يتكرر ذلك المشهد الحلمي المتناقض والمختلط، وذلك الحشد الغاضب بقسماته التي ترشح حقداً وعدواناً، والذي كان بمثابة تأسيس بدئي لأحلامه الكابوسيّة اللاحقة، يتكرر ويكبر الحشد المطارد مختلطا هذه المرة بجوارح طير وحيوان، ويهوي بين أشداق هاويات جبليّة مسننّة لا سقف لها ولا قرار في أرض اللعنة والسقوط الأبدي..

***

إثر شغب الصِبية في البلدة الذي أدى إلى معركة دامية بينهم كادت أن تفضي إلى شجار بين الكبار أنفسهم، ربما كاتب هذه الأسطر حسبما ذكرت الوالدة أم المرحوم مبارك، زوجة أخي الأكبر محمد، كان من مشعلي هذه المعركة الصِبيانيّة أو مشعلها الرئيس، اضطر الوالد إلى إنزال أشد العقاب به حيث قيّده بسلسلة أو حبل (صوع) قوي على جذع نخلة (الزبَد) في ضاحية النخيل المشرفة على الوادي، وإمعانا في العقاب، كان الزمن آنذاك، زمن (حِلق الأعياد) التي ينتظر احتفالياتها البشريّة، والحيوانية البهيجة، كل عام بفارغ الصبر.. جاءت حلقة سرور والصبيّ يحترق لهفة وحنيناً لحضور ذلك الحدث السعيد في أزمنة القرية الرتيبة المتشابهة.. وحين لاحظت الوالدة ما حلّ به من اصفرار في الوجه وهذيان وتلعثم في الكلام، ذهبت إلى الوالد، خارجة على الوداعة والطاعة التي تتسم بهما تجاه الوالد خاصة، وطلبت منه اطلاق سراحه، وحين رفض متعللاً بأن جنونه وانفلاته العدواني، يسبب كارثة للعائلة وربما للبلدة بأكملها، غضبتْ الوالدة رافضة كل الأعذار والتبريرات، وبعصبية حملت سكينا وفأساً لقطع القيد المربوط إلى جذع النخلة العتيّ، والتي ما زالت موجودة وقد أصابها الهَرم، المحل وتقادم السنين، أطلقت سراح الصبي، ومن فرط اللهفة والشوق المحتدم، انطلق مشياً على الأقدام إلى البلدة الكبيرة (سمائل) عاصمة (المسحاب) حيث أن حلقة العيد، تكون متأخرة عن حلقة أو هبطة سرور، يوماً أو يومين. والواقع أن سمائل فيها حلقتان، واحدة في السفالة، وأخرى في (العلاية) التي يذهب إليها لوجود أقارب أمه وأخواله هناك. وكانت (الحلقة) مسرحاً آخر لممارسة العنف الصبياني المنفلت، حيث لم يكن يتردد في المسرى تحت جنح الظلام، لفك وثاق الثيران المجلوبة من أكثر من مكان لبيعها في حلقة العيد، لتهْجم على الأبقار المربوطة، وتنطلق بهياج في ليل القرية الساجي، خالقة الذعر والفوضى، حيث يقطع الرجال نومهم العميق، للركض وراء الثيران المسمنّة للبيع والذبح، محطمة كل شيء يقف أمام انطلاقها العنيف، من مزارع (وقفان القّتْ) والبيوت السعفيّة، حتى ينقضي الليل أو معظمة، حين يتم لملمة الحيوانات الهائجة ومحاصرتها ومن ثم اعادتها إلى الحضائر والحبال، بعد أن يشرف بعض رجال القرية الأقوياء على الانهيار من التعب والإرهاق.

ذلك المشهد الأثير على قلب الأولاد، مثل العراك والضرابة، حين يرون هذه الفوضى العارمة أمامهم وقد حطمت رتابة أيام القرية وبؤسها، وأخذت الخيالَ الطفوليّ إلى آفاق رحبة من الاثارة والتشويق.. كانت الطبيعة بكل تجليّاتها وتمظهراتها، هي مصدر هذا اللعب وهذا التشويق، الذي انتقل إلى التلفزيون والشاشات الالكترونية في الزمن الراهن.

***

في الليالي الموحشة في زمن البلاد البطيء، ليالي الآلام المبرحة التي لا يُعرف للكثير منها مصدراً أو اسماً، فتحضر اجتهادات الخبرة المتراكمة في ذاكرة الجماعة والفرد الذي يحاول التطبيب بأعشابه وحدسه، وما قرأه إن كان من أهل القراءة، في كتب الأقدمين المخطوطة التي تنهشها الرمّة في الرفوف, لا مستوصف أو عيادة أو مركز صحي، إلا ما طرأ لاحقا في معسكر الجيش بين (بدبد) وفنجاء.  أو (الكم) كما يدعوه الأهالي، هناك في مطرح مستشفى أو عيادة الدكتور طومس الإرسالية، التي يقصدها المرضى وضحايا الطرقات، حتى لو لم يكن هناك إلا عدد محدود من اللوريّات التي تحمل البضائع والبشر، تجوب الأرض العُمانية الشاسعة. تجد الأشلاء والعظام الدامية وكذلك الرؤوس التي حطّمها عنف الارتطام حتى بانتْ أدمغتها أو كادت، تنتظر الصباح حتى يأتي الدكتور ومساعدوه لاسعافها وعلاجها إذ ثمة أمل ينبض في الجسد المهشم للكائنات المقذوفة من قطار التاريخ.. ومثل مستشفى الدكتور طومس الشهير، مثيله في مسقط.. تبقى معظم الحالات والعلل، تحت نفوذ الطب الشعبي واجتهاد الآباء والعائلة.. في ليالي الآلام والأوجاع المبرحة التي لا ترحم الجسد البشري، الأطفال خاصة، في هذا الخلاء، الأعمى يتعالى الأنين والصراخ في البيت أو لدى الجيران والأقرباء حتى أولئك البعيدين مكانياً حين تكون أزمة المرض في غضون الليل الساجي بأحياءه وأمواته يجرف الصراخ الهستيري المسافة لتسمعه معظم القرية الغارقة في نومها الثقيل..

كم مرة تحتدم فيها حالة الوالدة رحمها الله، وتدخل فيما يشبه الغيبوبة وسط الصراخ والحزن وقلة الحيلة، يُؤتى بأشربة الأعشاب والعسل البري الذي ترفض تناوله لعدم استطاعتها، واختطاف حدّة الألم لحواسّ الجسد وحضوره المشرق الحنون في أيام الصحة والشفاء. وحين تدخل الوالدة في مثل هذه الحالات الصعبة وما يعقبها من فقدان حيويّة ونشاط، تكون المحنة على العائلة بكاملها، فهي الساهرة التي لا تغمض لها عين حين يمرض أحد، تظلّ على قلق وتوتر في تحضير الأدوية والغذاء الشافي وحميميّة القرب والملاطفة حتى تطمئن وتهدأ، لتنقل اهتمامها وقلقها إلى أمور أخرى. كانت في هذا المنحى على شبه عضوي ووجداني بالجدة (شريفة) والخالة (عزا) في السياب بسمائل والخالة (نصرا).. نساء خلقهن الله للتفاني والعطاء اللامحدود الذي يشمل الجميع وليس العائلة والأقارب فحسب «تلك البسمة التي فيها من العطف والحنان ما يستهوي الملائكة بالبكاء».. أرواح أثيرية بأجنحة الشفقة والرحمة مثل نبع لا ينضب ماؤه المتدفق في المواسم كلها، كما لا تنضب ذكرى تلك النسْوة ونداؤهن المُلِح من وراء الأجداث..

لا أحد يعرف عن مرض السكري والضغط، وتلك النوبات المرعبة مثل مرض تكسر الخلايا المنجليّة المتوارث حسب المعرفة العلميّة التي جادت بها رحمة الطب الحديث، لا أحد يعرف أسماءها ولا اسم السرطان وأمراض العيون المُعمية…. الخ بعد محاولات الإشفاء العشبي والاجتهادات، وفق التقاليد المتوارثة تسلّم الجماعة أمرها إلى المشيئة الالهية وتستريح في أحضان الايمان المطلق..

أما حين تصعق الجماعة، تلك الأمراض الجماعيّة المعدية مثل طاعون الكوليرا من غير مضادّات ولا لقاح، تحل ما يشبه الابادة، فيمكن لعائلات أن تقضي بجميع أفرادها، ولقرى بكاملها لا يبقى منها إلا القليل. وفي ضوء هذه الأمراض الكارثية يتقلص السكان أكثر من أولئك الذين قضت عليهم الحروب والثارات..

ذات ليلة محتدمة بالهوام ونداء الضفادع في الحقول، صحوتُ، لأرى جارنا الوحيد الذي رحلتْ عنه زوجته إلى بارئها عما قريب، وهو يحنو في ضوء الصراج الذابل، على طفله الذي يعذبه ألم غامض، حنواً يمزق قلب الصخر في الجبال المحيطة. الطفل يتقلّب بين الأنين والصراخ، بهدوء وعنف من فرط الوجع، والأب الذي لا حيلة له وسندْ، يحمله على صدره وخده جالساً وواقفاً أو مضطجعاً على جنبه ولو وُهب القدرة لحلّق به إلى ملائكة الرحمة، صارخاً بجنون ارحموني يا الله، ارحموا هذا الطفل الذي لا ذنب له، ارحموه، حققوا هذه المعجزة البسيطة والصغيرة بالنسبة إلى القدرة الكليّة..

أو ذلك الرجل الوحيد المجرد من العائلة والعشيرة، وقد عاد من سفرة عمل في البحرين، تلك الأسفار القسْريّة التي يذهب فيها العُمانيون من أجل أعمال مدّمرة للبدن والأعصاب، عاد إلى خيمته بجوار مقبرة (الجيلي) وهي المقبرة الوحيدة التي احتضنت زوارها وسط البلدة والنخيل والأشجار. وقد اكتمل عدد الساكنة الذين استنفدوا المساحة الممنوحة للمقبرة المحظوظة بامتياز الظلال الوارفة والتي تفيئ على أغصانها العصافير وتسرح الصفاردُ بأصواتها الجرسيّة الفاتنة، على عكس مقابر القرية الأخرى المقفرة والجرداء  وسط الهجوم الشمسي الساحق..

عاد الرجل الوحيد بعد أن أُصيب بمرض غامض إلى تلك الخيمة التي خلفها وراءه سعياً وراء الرزق وأحلام العيش الكريم وربما الثراء (هل يصل خيال العُمانيين في تلك المرحلة إلى الحلم بالثراء؟)

يعيش أيامه الأخيرة تحت سطوة الوحدة والمرض، وذلك التفجع الهستيري، حين تستبد به نوبة الألم من غير أدوية مناسبة ولا مهدئات، عدا ما يجود به أصحاب المروءة، حتى قضى نحبه في مكان ولادته الذي لا يُعرف أيّ سرّ، أيّ يقين يختزنه هذا المكان السحري، مركز الحنين على الدوام يحتل الكائن مهما كان شظفه وشقاؤه. أي سرّ في هذا المكان جاذب الحنين والموت؟

***

كباراً وصغاراً، حيواناً ونباتاً، الجميع مسكون بالريبة والذعر وبالخوف الأزلي. لا يعرف أحد من أين أتاهم واحتلّهم بهذا الشكل الكاسر أكثر من غيرهم حتى في محيطهم الجغرافي والديني..

مُفتَرسين بذلك الخوف الغامض، ليس الخوف الطبيعي من الموت أو من ضيق المعيش وقلة الرزق والحروب ولا خوف السلطة الجاثم عبر العصور بمختلف تمظهراته. بجانب ذلك هناك خوف لا يمكن تحديد مصدره، هول ثقيل ومفزع يقضّ مضاجعهم حيث لا يعرفون راحة وسلاماً، أياماً وليالي بأكملها تجرفهم الكوابيس كما تجرف الوديان الجارفة كالقيامة المائيّة الخيامَ والمنازل التي بنوها في الواقع والأحلام، تتلاشى في غمضة عين. لا شيء يميز قراهم وسلاسل جبالهم إلا الرؤى المفزعة التي تحلّق مع الطيور الجارحة تحوم قطعاناً وأسراباً حتى تتخذ قرار الإنقضاض والافتراس..

إحساسهم بأنهم مجردون من أي حماية أو رحمة تجود بها المشيئة الواسعة، يجعلهم فريسة مشرّعة لهواجس هذا الخوف الأزلي.

***

 بعيونهم الصغيرة التي جرّحتها التراخوما، يتلصصون على أسرار النساء العاريات، لحظة الهياج حين تحاصرهم الظهيرة والفراغ، قاطعين البلدة من أعلاها إلى أسفلها، كأنما يفرون من معسكرات أسْر، حين تحتدم الهواجس البدئية والرغبات. لا يترددون في رفْس حمار أو ثور مربوطين على حوافّ الدروب في مرعى (الثيّل) الأخضر، مواصلين السير إلى المزارع المسبوكة قريباً من سفوح الجبال، وعلى حوّاف الوادي ووقب الافلاج، لا يترددون في مطاردة ديك مع سرب دجاجاته لخنقه أو قطع عرفه وفركشة الريش.. وفي دوامة الهياج واحتدامه الغامض لا يترددون في ذبح جدي وطبخه بين شعاب الجبال البعيدة التي تصفر فيها الريح وعواء ذئب تائه عن العائلة والقطيع.. بينما الكبار في المجالس يتبادلون الأحاديث الجادة الطريفة على ايقاع دلال القهوة والتمر الذي تجود به النخيل وهم يسترخون تحت سلطة ظلالها، غارقين في هموم القرية اليوميّة، في أحاديث النساء والنكاح أو الزواج والطلاق الثيّب والبكر.. وعن حملة الوالي على أولئك (الزط) الذين وُجدوا متلبسين بالتدخين مع احتساء زجاجات من (الكندروات) بصحبة بعض أبناء القرية..

تمضي الأيام وتتراكم الدهور وهم في غمرة الأحاديث والهدوء المهيمن الذي تمزقه العواصف بين الحين والآخر في هذا الركن القصيّ من الكون . لا ينفكون مسترسلين، الا حين يقطع سيل الكلام الاعتيادي المكرور، أحد القادمين من نواحي نزوى أو ازكي، وأخذ يروي شيئاً عن حرب الجبل الأخضر. أو من اولئك الذين يستمعون إلى الراديو بغرائبه وانقلاباته العسكرية في البلاد العربية..

***

كان يمضي على حماره أو مشياً على الاقدام الحافية قاطعاً الوادي وأشجار الحلْفاء التي تتوزع أكماتٍ مفعَمة بالمياه المسترسلة حتى بلدة (بدبد) متموجة كقطعة بحر خضراء بفعل نسيم يعبر الضفاف. في تلك الأيام الرمضانية الورعِة والساهرة على ضوء الصرجان وتراتيل القراءات الخاشعة لآيات الذكر الحكيم، حتى الفجر..

كان يمضي بعد الظهر غالباً، بينما نسور «الرخمة» تحلق فرق فرائسها المحتملة أو تلك المقذوفة على صخور الوادي ومسيله الكبير، يحمل في خِرجه أو جيب دشداشته، قرن موز من الطوال، يشبعه كوجبة أو تصبيرة يسرق بها رمضان المفروض صيامه حتى على أولئك الصغار الذين لم يحن أوان صيامهم وفروضهم الدينيّة كواجب اجباري بعد. على حافة الوادي من الضفة الأخرى، أو بعيد قليلاً باتجاه منطقة (الشعاشع) المضيئة بعزلتها والمزدانة دائما كلؤلوة بين السفوح، وفي مُنحْدر الشغاف التي تصب مباشرة في ضفتها، يتغاور تحت شجرة كثيفة ليلتهم موزته مع رغيف خبز. خاصة في نهارات الصيف الطويلة الحارقة، برياحها الغربيّة التي لا تجعل الصيام نزهة روحيّة سهلة، ثم ينعطف على ثلمة في فلج الشعاشع الصغير ليروي عطشه الملّح.

يذهب وحيداً دائماً كي لا ينكشف سرّه الخطير لوالده خاصة، الذي لايقبل لومة لائم في فروض الدين والعقيدة وسننهما. يخاف والده وليس أمه وخاله الذين يمكن أن يتساهلا مع ولد في مثل عمره.. في تلك الأثناء انتشرت شائعة بين الأهالي والأولاد بان من يسرق رمضان، ستنبت له غرة في الجبين مع نهايته أيام العيد والعزوات. ويكون فضيحة للأهل والعشيرة، وربما يصل صداها إلى قرى وقبائل أخرى فتكتمل حلقات الطامة الكبرى فتكون غرة جبينه السوداء، مثار سخرية بين الصغار  والكبار. بعد هذه الشائعة صار يتردد في فعلته اليوميّة تلك من غير أن يقطعها على نحو نهائي.

***

في احدى المرات، وهو ذاهب على حماره إلى المكان الأثير لسرقة رمضان متناسياً غرة الخرافة التي لا تشبه غرة الخيل وزهوها بل غرة القبح ولطخة العار التي تنتظر أولئك الذين يحاولون كسر قواعد الايمان الراسخة، والسلوك القويم… وهو يمضي في أعماق المسيل الذي تتقاذف حصاه الأبيض الصافي حوافرُ حماره الفتيّ، رأى فيما يرى النائم حيث غبَش الرؤية بسبب سحابة تعبر الجبال، رأى ناحية (مسجد الفج) في تلك (الشرجة) المسترسلة حتى وادي سمائل.. دخانا يتصاعد مع ريح الغربي، اقترب منه رويدا رويداً حتى وصل إلى مرتفع أرض المسجد الذي يُقام في مصلاه صلاة الأعياد المتقادمة، حيث بدأ المشهد الغريب في هذا الشهر بالذات يتكّشف عن مجموعة رجال بدشاديشهم ولحاهم، يتحلقون حول مرجل تفوح منه روائح البهارات واللحوم والعيوش بما يشبه وليمة من ولائم الأفراح والأتراح… ظلّ فترة يحدّق في مشهد القِدر الكبير وخلفه الجماعة التي لم يستطع التعرف على أي منهم، حتى نضج الطعام وتحلقوا ملتهمين بنَهم لا مثيل له وصيحات الفرح والمرح تتصاعد مع المضي أكثر في التهام الفريسة الرمضانيّة.. انسحب على أطراف أصابعه نحو الحمار الذي ربطه بعيداً عن المكان الذي اتخذه كمرصد لمراقبة مشهد الوليمة، عائدا إلى البيت، تنهب رأسه الأسئلة والهواجس الكثيرة. فهو يعي أن رمضان  يمكن ان تُنتهك حرمته بموزة كبيرة أو بعض تمر ولبن، أما أن تُقام وليمة في عزّ النهار من قبل كبار، فذلك ما لا يستطيع استيعابه. عاد إلى المنزل، وفي غفلة من الأهل، أعاد الموزة إلى إنائها ليأكلها مع والده واخوته في فطور المسجد الجماعي. بانتظار غروب قرص الشمس وقدوم ليل القراءات والأكل والصلوات حتى مطلع الفجر.

***

كان الخال أحمد يقيم ولائمه التي لا يستثني فيها أحدا من الجوار في منزله ذاك الواقع على المرتفع ذي التهوية الطبيعية المريحة كمعظم منازل عُمان في تلك الفترة، حتى في أشهر الصيف الحارق.. ولائم مُتخمة بالعيش (الرز) القبولي واللحم الذي غالباً ما تجود به المزرعة. كان كريما حدّ العِدِاء لادخار المال الذي ينفقه ذات اليمين وذات الشمال..

في ذلك المنزل كانت الولائم في أوقات الراحة الماديّة، يتحدث عن سخائها أهل البلدة والقرى المجاورة فيما يشبه العيد للكبار والصغار. وأحياناً في المناسبات الحزينة كالعزاء تكون في المسجد الملاصق للأشجار المأهولة بالخفافيش والطيور الأخرى. وقريبا من بيت المعلم سعود الرمضاني بمدرسة الكتاب التي يعلم فيها بمفرده وكانت أول مدرسة في حياتنا. كان بيت المعلم الوحيد يقع في رفعة صَبخة تحتها رابية مليئة ببرك المياه تؤمها الطيور المائية والعصافير.

كان المعلم سعود علامة من علامات البلدة لا تمنعه بساطته وطيبة قلبه من ضرب الأطفال بعصاه الطويلة حين يوغلون في الفوضى والحركة، يُفقدونه صوابه ويدخل في سعال حاد وهو يصرخ ويخبط بالعصا في كل الاتجاهات من غير أن ينظر إلى من يقع عليه الضرب والعقاب. تلك المدرسة الواقعة وسط البلدة قريباً من ضاحية (المظفورة) التي تملكها عائلة تنتمي إلى قبيلة (الندابييّن) تلك المقصورة من النخيل والأشجار التي تشكل خصوبتها وثراء تنوّع أشجارها بجانب مركزيّة النخل، نوعاً من غابة مسوّرة بسور طيني عالٍ يتوسطها بيت يتبدى على نحو من جمال بنيان ورفاه وفق النمط التقليدي المتداول لهندسة العمران في البلاد العُمانية الشاسعة. وكان في داخل المقصورة عربة بعجلتين يدعونها (جاري) تستخدم للحراثة وحمل الأثقال في أنحاء المكان. كنا ونحن قادمين من المدرسة، إذا لم يكن هناك موعد معركة بين الصِبية، نتوقف بنوع من التعجب ننظر إلى العربة الوحيدة على حد علمنا في القرية. فقد كانت أدوات الزرع والحراثة لا تتجاوز البشر والحيوانات من ثيران وحمير، وأدوات معدنيّة بالغة البساطة كالمسحاة والهيب والمجز التي يصنعها الشايب (عديْم) ببنيته القويّة، وعائلته.. ووجود مثل ذلك الجاردي، يتسم بنوع من الحيرة يسترعي الانتباه، نقف أمامها محدّقين بينما ريح الغربي النائحة تطيّر المصارّ الصغيرة من على الرؤوس، المصار الثقيلة على مثل ذلك العمر السابح في ملكوت الطبيعة الأولى، لكن التقليد، تقليد الخلف للسلف في كل الصُعُد والتفاصيل..

غالباً ما تقع مواعيدُ (الضرابة) والاشتباك بين الأطفال انطلاقاً من تلك المقصورة كمعْلم بارز، حين تغمر المعلّم سعود غفوة من غفواته الكثيرة، ويمكن القول أن معظم الوقت يقضيه في النوم والنعاس، حيث يتدلى رأسه الخالي من الهموم والمليء بحسن النيّة والوضوح، إلى صدره، ولحيته الطويلة تستريح على الأرض… وأحياناً يصعب التأجيل وتقع الواقعة في صحن المدرسة المفعَم بالحصى اللامع المجلوب من أعماق الوادي كأنه مسيل. ويذهب بعض أفراد عصْبة تلك الطفولة الجبليّة الخشنة إلى زرع شوك النخيل المدْمي والموجع في مجلس المعلم وتحت دشداشته كرد فعل على الضرب الذي يلجأ اليه في الضرورات الملحّة. مرةً حين كنا عائدين من المدرسة، رأينا جمعاً من الرجال والأطفال أمام فلج الأوسط.. كان الجمع في حالة هرْج ومرج، في حالة اضطراب، وأمامه ناقة مكبلة ينتظرون نَحرها.. وهو مشهد نادر في القرية فليس من تقاليدها نحر الجمال مثلما هو عليه في بلاد الشرقية ومناطق أخرى متاخمة للصحراء حيث الجمال جزء من نسيج الحياة واستمرارها… تَقدم رجل من بين الحشْد يدّعي الخبرة في نحر الجمال، لكنه بعد عدة طعنات من غير جدوى، اتضح انه أخطأ الموضع المعهود الطبيعي للطعنة «النجلاء» التي ينفجر الدم على اثرها كنافورة وينتهي الأمر.. على اثر هذا الخطأ المربك كانت الناقة ترغي من فرط ألم الجراح وتنتحب بتوّسل أمام آلة التعذيب، تحاول تحطيم القيود والفرار لكن الضغط كان أكبر من طاقتها.. أمام هذه الحيرة الدامية تقدم رجل من بين الجمع، استلّ الخنجر من غمده وبقفزة نمر أنجز المهمة وأراح الناقة من التنكيل حيث سقطت في بركة دمها التي سالت مع مياه الفلج إلى آخر محطاته في منحدر القرية.. تبيّن أن ذلك الرجل هو سيف بن سالم «والد محمد سيف الرحبي» (الكاتب).

لم تعرف القرية وأهلها عادة نحر الجمال، كان مصدر غذائها اليومي والموسمي كالأعياد والمناسبات من الخراف والغنم، والبقر والثيران التي غالباً ما يربيها الأهالي في مزارعهم التي تُسقى بمياه الأفلاج المتحدرة من أعماق العيون الجبليّة ومنابعها. في الكثير من المنازل هناك بضعة خراف أو غنمات، عجول وأبقار مربوطة في درسها أو حظيرتها التي يتوسط سورها أو بالأحرى (حضارها) باب للدخول والخروج.  الأغنام والخراف تتجمع كل صباح باكر في طرف الوادي ليسرح بها الرعاةُ على السفوح المخضّرة والجبال بوديانها وشغافها وقممها المتناسلة حتى نخالها لا نهائية وموصولة بعالم الغيب والمتاه. ويمكنك، وهي ترعى في نُزهاتها الجبليّة المفعمة بالرهافة والجمال أن تسمع أناشيد الرعاة بألحانها العذْبة، من ضفاف القرية.. وحين يبدأ الليل في النزول، ينزل معه الرعاةُ بأغانيهم وأغنامهم، عائدين بحنين إلى منازل الطمأنينة والنوم..

***

يصحو الفجرُ مع هسيس أصواتهم التي جرّحها شقاء النهارات المتقادمة، يتجهون صوب المسجد والحقول، يتنفسون رائحة النباتات وعطر الآفاق الذي تحمله أنسام الصباح .. قبل طلعة الشمس الملتهبَة. تغمرهم أصوات الحيوانات وهي تستيقظ.. صياح الديكة الذي يؤشر إلى يقظة الزمن، الغجر والكائنات . نباح كلاب من أطراف القرية والدساكر المحيطة. نهيق حمار يكاد يقطع خيّته وهو يرنو إلى أنثاه في المقصورة المجاورة.. تغمرهم نفحات من ألفة وطمأنينة تشمل الحيوان والنبات في طور تفتحه، تلك التي تعود إلى نشأة الكون قبل أن ينفجر إلى شظايا وطبقات.. لا تفصلهم الجبال عن أحلامهم اليوميّة البسيطة ولا القبور المكشوفة العظام والجماجم، لا تبعث فيهم إلا دعوات اللطف لخاتمة سعيدة.. ينشدون أنساب السلالات والأشعار كما يتفقدون أشجار الحقول ونخيل البساتين، التي يؤرخون ولاداتها بقدوم نسل جديد هنا أو نشوب حرب هناك، بعبور نيزك ومذنب أشعل حريقاً في الهضاب المجاورة. ينزفون العرق في (رضْم) الأرض وزرعها كما في مفارش النكاح الذي لا يكلوّن منه مثنى وثلاث ورباع، لنرى النسل أجيالا تتعايش في المنزل والحارة. سعيهم عبر خيوط الماء والضوء إلى منابع الأفلاج البعيدة التي حفرها أسلافهم لتروي الأرض اليباب، سعيهم الشاق وليس عفاريت الملك سليمان سحرة الاسطورة. سعيهم وكدحهم الذي يتعب الجسد والروح في هذه الأرض الباهضة المعيش والاقامة حدّ المعجزة. لقد ابدعوا ذاكرتهم ونحتوها فوق هذه الصخور والأطواد التي لم يحلم بمثلها قراصنة في لياليهم العاصفة.. عاشوا بكرامة السعي النبيل ورحلوا في عزلاتهم من غير مؤرخين ينشرون حكاياتهم وبطولاتهم على العالم في مناهج المدارس والجامعات، عدا ما تجود به ذاكرة الأجيال المتعاقبة وما تبقى منها وهو النزر القليل وفي طريقه للزوال… حلموا بالجزُر الخضراء لما وراء المحيطات المزبدة، ورحلوا إلى حيث يرحل الأولون.

***

رغم انتشار الكتاتيب في ربوع عُمان وانتشار من يكتبون ويقرأون بجانب الفقهاء والنحاة والعارفين، ظلت الرواية الشفويّة بعناصر سردها وثقافتها بمكانتها الواسعة. وحين تتراجع عن هذه المكانة لا تختفي وانما تختلط بمرجعيّة كتب الأدب والانساب، وليس علوم الدين وأصوله إذ الالتزام الصارم بمقروء نصوص القرآن الكريم والسنة النبويّة الصحيحة ولا مجال للاجتهاد الذي يحمل الالتباس. وهذا بالطبع بحاجة إلى علماء من العمق والسعة المعرفيّة بحيث يشكلون مراجع للعامة والخاصة..

كانت حلقة الوادي في ليالي الصيف بمنطقة (التبينيّات) هي الأكثر تألقاً في الذاكرة، اذ يجتمع نفر لرواية الشعر وقراءته كيفما اتفق، شعر دين  وسلوك، غزل وهجاء ورثاء، شعر فخر وانتصار، على نمط معلقة عمرو ابن كلثوم التي تذهب شأواً غير مسبوق في سماوات الفخر والتعالي بالنسب والبطولة، على الخلق أجمعين.

في ليالي الصيف هذه تلتئم حلقة الأدب والانشاد الشعري غالبا، إذ أن الشتاء في تلك الفترة من الزمن يأتي على نحو من البرودة، ويصل إلى برودة شبه قاسية على السكان (الصردا) لبعض الفصل، وسط جريان الوادي المحاط بالنباتات المائية والظلال… الأساسي في انعقاد هذه الحلقة على هذا النحو الذي ما زال يضيء الذاكرة بمنحاها الأدبي وجود الراوية الموسوعي محمد بن سعيد المخلدي. وبني مخلد أو المخالدة قبيلة ليست ذات عدد كبير في سرور، لكن لها مكانتها الخاصة، وهي تقطن منطقة مرتفعة تُدعى (الحبيك). الاستاذ الراوية والشاعر محمد بن سعيد المخلدي كان يعمل في المكتبة العامة بدولة قطر، ويقضي وقته الشتوي في قراءة الكتب بمختلف اتجاهاتها ومشاربها، خاصة كتب الأدب والشعر والتاريخ..

ويذهب الاعتقاد على ضوء معطيات المرحلة، ان هناك ندرة لمرتادي المكتبات في منطقة الخليج العربي عامة، مما يعطي المخلدي سعة الوقت وحريّته، وبين ضفاف الكتب وأفقها الشاسع ينسى غربته العائليّة والوطنيّة.. يقرأ من غير كلل ويختزن المتون والخلاصات في ذاكرته الارشيفيّة, حيث تظهر نتائج ذلك الاعتكاف القرائي، في حلقة الوادي وغيرها من المجالس التي يؤمها المخلدي وقت اجازته الصيفية السنويّة..

أتذكر كان يأتي في سياق روايته التاريخية الملحمية، الشعرية بحدث يشكل الواقعة والاطار الذي قِيلتْ فيه هذه القصيدة أو ذلك النص النثري الذي يتألق بلألأ الشعر، متمحوراً حول وقائع وأحداث عابرة.. حرب البسوس، داحس والغبراء… الخ. عبوراً إلى صدر الاسلام والعهود اللاحقة حتى يصل إلى القرن العشرين، فضاء شاسع من الرواية الموثقة بالشعر والنثر.. وحين يروي الواقعة بنوع من الايقاع الذي ينتظم بنبرة سياق السرد، من ثم يصل إلى الأبيات أو القصيدة كاملة. لينقل الواقعة الملحميّة إلى مستوى ايقاعي وفني آخر يأخذ كامل النبرة التي تنبثق من أعماق القلب، قلب الراوية والشاعر. فيكون المتلقي الذي يحمل بذرة الاستعداد الأدبي سابحاً في تموّج أحداث التاريخ المرّصعة بالشعر ونضارة السرد المثير للأحاسيس والمخيّلة..

ويمكن لصاحب الاستعداد ذاك، أن يشطح به مركبُ الخيال في تمّثل تلك الأحداث واستلالهما من عتمة الزمان، ليعيش وقائعها وشعريّتها الساردة بكل كيانه مشاعر وجسداً، منفصلاً أيما انفصال عن راهنه: فتراه بعد انتهاء حلقة الوادي أو في الصباح الباكر وهو يتنزه بين البيادر والأفلاج، يتمتم مع نفسه أبياتاً من الموقعة، أو يقفز لا شعورياً مقلداً فارساً من فرسانها الأسطوريين، على ساقية الفلج، ويحدث أحيانا أن يقع وقعة ارتطاميّة عنيفة، وهو مخطوف بنشوة الاستعادة والعيش في الماضي السحيق الذي يتوحد به عبر الرواية المخلديّة، فتنكسر يده أو يُصاب برضوض.

كانت حلقة الوادي الأدبية التي يلعب فيها المخلدي دور البطولة في الرواية والقريظ، أكثر تأثيراً وسطوة على الذاكرة والخيال الطازج، من مدرسة المعلم سعود بوجهه الناضج بالطيبة والنعاس، والتي تقتصر على تلقين وتهجئة الحروف الأبجديّة، فيما يشبه كتابة الحرف الأول في الصفحة البيضاء المفعَمة ببياضها اللامحدود التي توازي ذاكرة الطفل في اطلالته الأولى على اللغة والمعرفة والعالم.. وقد كانت الكتابة آنذاك على (السليت) الذي يعادل السبورة الصغيرة، أو على أكتاف  الإبل المجففة في ضوء الشمس الكثيف حتى باتت صقيلة تشبه الصفحة البيضاء.. إنها العتبة الأولى للانتقال إلى الصفحة والدفتر والكتاب. والتي ستكون أوضح بالانتقال إلى مطرح أو مسقط، لتعلم المبادئ الأولى للحساب (جدول الضرب) وكلمات أوليّة من الانجليزية في مدرسة الأستاذ حسن والد محمد علي الذي أبدى نبوغاً مبكراً في مجال «العلوم العصريّة»، في سور اللواتيا وأستاذ قاسم وود السودي الذي كانت مدرسته قريباً من مقر الوالي (الرصاصي) في مطرح، وود السودي، شخصية تتسم ببعض فرادة الشخصيات الروائيّة، كما حدثني سالم علي عيسى أحد تلاميذ تلك المرحلة الأصدقاء، بأن ود السودي جاء في الأصل من زنجبار ودرّس فترة من الزمن في دولة الكويت، قبل أن يستقر به المقام في بلده الأم عُمان مدرساً للعلوم «العصريّة» وسالم الذي كان مسؤولاً في وزارة التربية والتعليم، أخبر أيضاً بأن ود السودي انتقل في مطلع السبعينيات مع عهد السلطنة الجديد، للعمل في الوزارة، وحين وافته المنيّة لم يجدوا له أي عائلة، أي فرد، أي إنتماء.. لم يمشِ أحد في جنازته، وحيداً عاش ووحيداً قضى نحبَه، حيث ان مستحقاته الماليّة بعد الخدمة الطويلة لم يستلمها أحد. كان غريباً حتى في وطنه وحياته وموته، «مقطوع من شجرة»، كما عبر أبوطفول…

ومن ثم انتقلنا للدراسة في مسقط بمسجد الخور بشكل أساسي حيث كان يسكن طلابُه في (مغب) تحت قلعة كوت الجلالي، ذلك السجن الرهيب الذي كُتب على بوابته الحديديّة وكأنها احدى بوابات الجحيم في الأساطير الاغريقيّة أو غيرها. (الخارج مولود والداخل مفقود).. على حافة البحر مباشرة كنا حين يأخذنا النوم  إلى سهوبه البعيدة، يبقى البحر، الحارس والساهر، وسط ذلك الظلام الموحش الذي تقطعه أضواء السفن العابرة إلى المحيط الهندي والعالم، غير بعيد عن قرية (حرامل) البحريّة، حيث أخبرنا أحد الصيادين الذين كانوا يأتون بالسمك الطري كهدية لطلاب العلم البعيدين عن عائلاتهم، عن المرأة الأجنبية الشقراء التي كانت تسبح عارية، حين أوغلت في سباحتها تحت إغراء تلك المياه الوحشيّة الزرقاء، حتى أخذها التيار إلى الأعماق الشفيفة المظلمة.. وقد وُجدتْ لاحقا والقرش قد افترسها وحوّلها أشلاء عائمة على سطح المياه وقد لفظتها إلى منطقة قريبة من الشاطئ.. صار الخيال الطفلي يعيد تخييل الحادثة قبل افتراس الجسد الأشقر الفاتن حيث مياه البحر تغمره بالدهشة والأحلام الشبقيّة، وبعد الافتراس، في دورة مناخ صِبياني لا ينتهي مخرج أفلام المراهقة من انهائها عند حد.

كنا ننام على فراش البحر بين أمواجه وحورياته، أسماكِه ومخلوقاته السابحة في الشفافية والرهافة وسط جزائرها المرجانيّة، التي كانت تقطعها سفن الأسلاف محمولة على حلم السعادة ورَغد العيش في الشرق الافريقي..كنا في الصباح نقف على الشاطئ الذي يشكل خليجاً بين الكوت والنتوء الجبلي المقابل، وقد قذف البحر من أحشائه حيوات مختلفة، منها ذلك الطرح الأبيض (القّرنباح) وهي (تغيورة) بني رمضان الذين ينتمي إليهم الخال وبقيّة الأقارب.. يقذف البحر من أعماقه البعيدة حيوات وأشياء مختلفة بشريّة وحيوانية، وما خلفّته السفن الكبيرة من علب وأطعمة وفواكه وغيرها طافية على الشاطئ، نقف محدّقين في هذا الحطام البهيج، كما في طابور كوت الجلالي، في المحكومين بالأعمال الشاقة، حيث يحملون الخيش والصناديق المليئة بالذخائر والأسلحة، المليئة بالأطعمة والأغراض الأخرى. يحملونها من  قعر الأرض الرمليّة متسلقين الدرج الأكثر مشقة من العقاب الجبليّة الضيقة حتى يبلغون بها بوابة القلعة على ذروة ذلك الجبل البحريّ الذي يشبه جزيرة صخريّة وسط تلاطم تلك القسوة للأمواج المدلهمّة بليالي ذلك العذاب البشري الذي يفوق الوصف… فضحيّة ذلك العقاب القاسي، مهما كانت موهبة البلاغة لصاحبها والدقة وجموح الخيال، تعجز عن تسلق الدور الأول في طبقات المبنى الأسطوري للشقاء والألم.

وحدثني أبو محمد محمود بن زاهر الهنائي، الذي قضى في مدفن الأحياء ذاك، قرابة ستة عشر عاماً من عمره المديد،،حين يحاول ملامسة سرد بعض حكايات وأحداث ذلك السجن، وهو قليل الكلام عن تجربته الفريدة في مأساويتها مع أقرانه الكثر، يأخذ الحديث دفّة الفكاهة والطرافة كي يخفف من فداحة أثقال الذاكرة وما تختزنه من جراح لا تلتئم على مدار الأعوام والأيام.. نفر غير قليل من عايش تلك المرحلة المفصليّة المضطربة، في التاريخ العُماني، قضى في تلك القلعة التي كانت في الماضي أحد الحصون الأكثر منعة لدفاعات الاحتلال البرتغالي لعُمان، مدنها الساحليّة على الخصوص، حتى بزغت فترة أئمة (اليعاربة) كما هو معروف في سياق هذا التاريخ، حيث تم طرد البرتغاليين بقوة العزيمة والسلاح تحت قيادة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، ليس من عُمان فحسب وإنما من سائر مناطق الجزيرة العربية التي احتلها المستعمرون..

كانت مآثر العُمانيين ومعاركهم التي خلّدها الشعراء ملحمةً وأرجوزة تسميّ وتوثق أبطال وأماكن تلك المراحل المضيئة منذ الجلندى بن مسعود والأئمة الأوائل، احدى المدوّنات المتداولة في حلقات الأدب الشفويّة والمقروءة، تختلط وتتداخل مع انجازات الأدب العربي عامة وشعراءه في مختلف العصور.

محمد بن سعيد المخلدي كان على موعده الصيفي المشتعل الذاكرة والخيال مع الأدب ورموزه وأخباره بصورته الأعم، وليس العُمانية فحسب. ربما بحكم قراءاته المتراكمة في مكتبة قطر العامة. وفي هذا المنحى يكون على خلاف نسبي مع الخطاط والأديب عبدالله بن أحمد الحسيني الذي كان يقطن فناء البلدة (سرور) من جهة بيت الخال أحمد ومقبرة السلالة وكان منزله شبه منعزل ومقطوع عن سياق حيّ أو حارة، مثلما هي عليه حلة الشويرة أو حارة بني حسين جماعته في شريعة البلدة. فقد كان الحسيني محباً للعزلة والقراءة بعيداً عن عادات التجمع اليومي، اهتمامه بالشعر العُماني الذي يُعنى بنظمه أيضا أكثر من غيره من عيون الأدب العربي..

وحدثني محمد بن حسن الرمضاني الذي يمكن القول انه وريث الشيخ الحسيني على صعيد الابداع في جمالية الخط العربي وفرادته، عن مواقف كثيرة تُقدم الحسيني على أنه لا يساوم حول قناعاته في البحث المستمر عن الحقيقة كما يراها نظراً وسلوكاً..

 وعلى النمط نفسه الحلقات الأكثر ثراء وسِعة في سمائل التي يحضرها كوكبة من شعراء البلدة الكبيرة وفي مقدمتهم الشيخ عبدالله الخليلي الذي كان انجازه الشعري يرقى إلى مقام الكبار في عموم الشعر العربي..

محمد المخلدي كان في ستينيات القرن الماضي ضمن هجرة عُمانية جماعيّة إلى بلدان الخليج العربي التي بدأت فيها معالم الاكتشافات النفطيّة وفرص العمل وتحصيل الرزق الذي عزّ في البلد الأصلي، فطوّح بأبناءه في هروب قسْري مضنٍ إلى تلك البلدان ليشكل العُمانيون جزءا من العمالة الوافدة التي تتشكل من الهنود والباكستانيين بالاضافة إلى بلدان آسيوية أخرى. كان العُمانيون وهم جزء عضوي من نسيج الجزيرة العربية والخليج، يُنعتون في تلك المرحلة ببروليتاريا الخليج لفرط ما انخرطوا في مهن بالغة القسوة والتنكيل، وهم من تربى جيلاً بعد آخر على درس التاريخ الوطني وإلحاحه على مكانتهم المميّزة في هذا التاريخ… المخلدي كان في سياق هذه (التغريبة) القسْرية، وهي تغريبة ليست بالمعنى الجغرافي والثقافي وإنما بالمعنى الأكثر فداحة على الذات والعائلة. كان المخلدي ضمنها لكن الصدفة كانت ألطف معه إذ أخذته إلى المكتبة، وساعده على ذلك، اهتمامه المبكر بالأدب والشعر ليصنعَ ذاته وسط ذلك الخراب العميم…

***

أتذكر حين كان في حلقة الوادي على الأغلب، يجدّد كل يوم قصيدة في اطار الرواية حولها، فيأتي على ديوان الشعر العربي في عهوده المختلفة بذائقته الانتقائية الرفيعة من غير ادعاء ولا غاية منفعيّة عدا غاية المعرفة وجمال الشعر في حدّ ذاتهما… في خضمّ تلك النشوة الروحيّة وأنغامها السابحة في فضاء الوادي والأفق المحيط أصغي للحظة إلى إنشاده بقصيدة عمر بن أبي ربيعة التي تتوسل السردَ عبر الصورة الشعريّة والعبارة المكثّفة:

«أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكرُ

           غداة غدٍ أما رائح فمهجّرُ

الى:

رأتْ رجلا إما إذا الشمس غادرتْ

            فيمضي وإما بالعشي فيهجرُ

أخا سفرٍ جواب أرض تقاذفتْ

           به فلوات فهو أشعث أغبرُ

قليل على ظهر المطيّة ظلهُ

           سوى ما نفي منه الرداءُ المحبّرُ

واعجبها من عيشها ظّل غرفةٍ

            وريّان ملتفّ الحدائق أخضرُ»

بعد شرحه الساحر والأخاذ لمغامرة ابن أبي ربيعة الشعريّة والحياتيّة، أردف بأن احدى الروايات تقول أن هذا الشاعر صاحب الخيال التصويري المدهش والفذ، انه كان يلقي القصيدة إياها على ابن العبّاس، حين أتى مجلسه عبدالله ابن الأزرق واستمر ابن أبي ربيعة في الإلقاء والنشيد، وحين أطال استشاط ابن الأزرق غضباً صارخاً في وجه ابن العباس «جئنا إليك نغذّ أكباد الإبل وأنت مشغول عنا بالسماع إلى شاعر فاجر؟»… الخ.

على هذا النحو ساهم المخلدي في تربية ذائقتنا الأدبية المبكرة، هو الذي لا يتوسل جزاءً ولا شكوراً من أحد أو جهة ما . ظل هكذا قارئا حرا لم يطلب أن يكون مدرساً أو تكوين جماعة مريدة له رغم امتلاكه أدوات الخطاب رائداً ورمزاً أكثر من كثيرين أصابوا شهرة.. وحتى حلقة الوادي ظلت بالنسبة له نزهة صيفيّة في روابي الفكر والأدب والرواية، نزهة جماليّة خالصة، وقد أخذتنا الصدفة بمعيته ليتشكل بعض من شتات الذاكرة، إشارة إلى ردّ بعض الدين لشخصه شبه المجهول.

***

وجوه كثيرة تشرق ويطويها الغياب الحتمي، أبرز تلك الوجوه الحيمية أيضا، كان وجه الشيخ ناصر بن راشد المحروقي الذي كان يأتي من بلدة (سناو) إلى سرور، وأحياناً يواصل سفره إلى العاصمة، أو الحج، أو الشرق الافريقي… أتذكر فرادة المحروقي من بين رجال المعرفة الدينيّة واللغويّة، في سلوكه الواضح والساخر تجاه  شخوص وأوضاع يرى فيها كذبا وافتعالاً، وفي طقوسه وشعائره الروحيّة حين يصلي فرداً او جماعة اذ يدخل في حضرة علوٍ وانخطاف روحييّن.

مرة حين كنتُ تلميذاً في مسقط والتلمذة ضمن سلوكي المتقلب لم تتجاوز العام أو الأسابيع أو الأيام على الأغلب، اصطحبني الوالد ناصر المحروقي إلى منزل الشيخ سلطان بن سليمان بن حمير النبهاني، وكان قد خرج للتو من سجن كوت الجلالي مع مجموعة من أقرانه ممن كانوا على الأرجح من مناصري الإمام والإمامة في خمسينيّات وستينيات القرن الماضي.. سلمنا كالعادة وجلسنا في منزل النبهاني سليل ملوك النباهنة الذين حكموا عُمان لقرون خلت، وعلى جاري السلوك النمطي للعُمانيين، (سؤال العلوم والأخبار).. بماذا يخبّر القادم من ظلمة ذلك الحوت الخرافيّ الذي يُدعى كوت الجلالي. بماذا يتحدث المولود أو العائد إلى ضوء الحياة، وكيف يسرد حكاياته الشاقة المستحيلة؟! وكان في الجلسة أحد الأعيان والذي كان يتحدث بوتيرة لا تنقطع حول كل شيء، من فائدة أكل البرتقال البارد في الصيف الحارق، والذي كان يمتصّه بطريقة مقززة، إلى آخر نشرة أخبار سمعها عن الحرب التي لا يعرف اسم البلد التي تدور فيها الأحداث.. حين خرجنا ونحن في الطريق إلى (مغبّ) حيث السكن الطلابي أسفل كوت الجلالي، قال الوالد ناصر انه يتفادى الزيارات كي لا يقذفه سوء الطالع إلى لقاء مثل هذا الرجل الذي وصفه بالثرثرة والكذب والافتعال… وبمناسبة زيارة النبهاني هذه، لم تكن فترة طويلة حتى ذهبنا إلى القاهرة بدعم من الشيخ سعود بن علي الخليلي، وكان أول وزير للتربية والتعليم في تاريخ السلطنة، حيث أخذنا البعض لزيارة الشيخ سليمان بن حمير في منزله بمنطقة (العجوزة) استقبلنا الشيخ المنفيّ، استقبالاً أبوياً وأمر بالعشاء فوراً، وبعد العشاء جاءنا بالتلفون وقال، يا أولاد أنتم ما زلتم صغاراً مغتربين عن الأهل والوطن، اتصلوا كيفما شئتم واطمئنوا على أحوالهم!! وبجانب سلوك المنفيّ الذي تهاجمه ديار شَرخ الصِبا وعهوده مع أي نسمة زائر تهبُ عليه، تعجبنا من ذلك التواضع الذي يخالف أسطورة الأمير النبهاني حول تكبرّه وتعاليه على الآخرين!

ومن المفارقات انني في تلك الفترة التي تقرر فيها سفرنا إلى القاهرة، حين ذهبتُ مع أحدهم لأخذ جواز السفر جاء الجواب بأن سنوات عمري لا تؤهلني للجواز والسفر… ارتأى البعض من أجل حل هذه المشكلة أن نزيد أربع سنين على العمر الحقيقي، بما انهم لا يطلبون على الأغلب أوراقا ثبوتية بالمعنى المؤسسي والقانوني الصارم، حيث أن أغلب العُمانيين لم يكن يملكونها في غياب تلك المؤسسات المعنية. وذهبنا من جديد إلى مكان الجوازات في مسقط وهو ليس ببعيد عن (الفرضة) ومسجد (الخور)، في المكان الذي يشمله الآن ديوان البلاط السلطاني، حين أطل علينا المسؤول من كوةٍ في الجدار وكان اسمه ناظم وهو من أهالي مسقط. وقال في هذه الحال يحق له جواز مرور لعام واحد وهو عبارة عن ورقة واحدة كبيرة فيها جميع البيانات الرسمية المطلوبة..

وهكذا أخذت الجواز الحقيقي الذي يؤهلني للسفر إلى كافة أنحاء العالم من السفارة العُمانية في القاهرة.. وكان الشيخ سعود الخليلي قد انتقل من الوزارة ليكون سفيراً في القاهرة، بشارع (أبوالفدا) بالزمالك، على ضفاف النيل الأزلية والمزهرة دائما حتى في النكبات..

***

مقابل كوت الجلالي هناك قلعة الميراني، في الضفة الأخرى من ذلك الشقّ البحري ذي الزرقة النيليّة، الذي يعلو ذروته الأخيرة (منارة) تبرق وتنطفئ في ليلها القاتم، علامة ودليلاً تضيء ظلمة السفن وترشدها إلى الميناء الصغير، ومنه إلى العالم.. تلوح قلعة الميراني التي تعود أيضا إلى العهد البرتغالي.. بعض المؤرخين يقولون ان القلاع يعود بناؤها إلى عهود أسبق من الاستعمار البرتغالي، وقد بناها العُمانيون، لكن الاستعمار البرتغالي، أهّلها بإضافات وتحصينات أكثر، وهو أقرب إلى الصواب.. تلوح قلعة الميراني للقادم إلى مسقط من جهة البحر، أقل غموضاً ورعباً، بكثير من قلعة الجلالي، بل تتبدى في ضوءها الراشح بالخوف والمغيب الدامي، أليفة ومأهولة بشكل طبيعي حيث يقطنها  غالبا فرقة من الحراس، أو من الشرطة لاحقاً. ولا أعرف ان كانت تستخدم كمعتقل أو سجن في بعض الأحيان حين تضيق قلعة كوت الجلالي بأفواج السجناء في فترات الإضطرابات والحروب؟ لكن ما أراه واضحاً أن منّصة الاعدام وهي عبارة عن نتوء في الجانب الغربي من الجبل الذي تتمركز فيه القلعة وتطل مباشرة على مسجد الخور الذي درسنا فيه فترة من الزمن، وعلى بيت (الجزيرة) الأنيق أحد مقرات الحكومة آنذاك… تبزغ من الذاكرة اللحظة، ذكرى الشيخ ربيع ابن المر المدرّس في المسجد، بجانب الركن الرئيس الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي السلطنة حالياً، حين صحا الشيخ الكفيف ذات ليلة مؤرقة ظناً منه بدنو الفجر، حين أخذ طريقه الاعتيادي إلى المسجد ليؤم الحضور في صلاة الجماعة . أثناء سيره اعترضه رجال الدرك وألقوا عليه القبض، حيث قضى ما تبقى من ليله في السجن الأرضي المخصصّ للحوادث الجنائيّة.. في تلك الفترة (1969) على ما أظن وما قبلها، كانت الحركة ممنوعة لأي كائن يدبّ على الأرض، بعد اطلاق مدفع (النوبة) طلقاته الساعة السابعة أو السادسة ربما إلا إذا كان حاملا لسراج، وحتى مطلع ظهور الصباح الجديد، وكان الأستاذ الربيع الذي يتحرك بدقة وفق المواعيد الزمنيّة من غير منبه، ضحيّة هذا الإلتباس..

في ذلك العام وضع (نيل ارمسترونج) رجله على سطح القمر، والذي لم يصدقه العُمانيون والكثير من العرب والمسلمين واعتبروه خدعة برعية واعلامية أمريكية..

منارة تضيء ليلَ السفن  المبحرة نحو المحيطات والمدُن الضاجّة بالحياة والحركة تحمل البضائع الثقيلة وتحمل أحلام السجناء.. منارات تبرق خلف القلاع التي تطوّق البلاد كالمشانق المجدولة من أشواقهم المحتدمة إلى الحياة والحريّة..

***

في بعض الأوقات في الصباح الباكر أو المساء غالبا، نرى سمك السردين، على شكل غيوم كثيفة كتل غيوم تحتل مساحات في تلك الزرقة النيليّة المائجة، تتقافز بنشوةٍ ومرح جماعي فريد… يا لطهر البراءة لهذه المخلوقات الصغيرة التي تحقّق أعلى مراتب الانسجام في محيطها البيئي، فهي لا تعرف شيئا عن مصنع التعذيب البشري بجوارها في الأعلى. لكن الرعب لا يلبث أن يخترق ذلك الانسجام وتلك النشوة الخاطفة، حين تهجم أسماك القرش والمفترسات البحريّة، حيث تتحول الجماعات والكتل الغيميّة المتفرقة للسردين، إلى كتلة صخريّة واحدة، من الصلابة، بحيث من المستحيل على المفترسات أن تخترق هذا الدرع الواقي من التضامن للمصير الجماعي، وتظل القروش تحوم برويّة حول طريدتها متحيّنة لحظة انفصام وحدتها وتفرقها، حتى يتم الانقضاض والإبادة.

ربما سجناء كوت الجلالي وسجون العالم في التاريخ الذين ظلّوا أحياء أو بعضهم وسط تلك الظروف الجحيميّة (أين منها جحيم دانتي؟) هو روح تضامنهم الانساني والأخلاقي، وحده الألم المشترك، يقف في مواجهة الزمن والجلاّد على أمل، الخروج من تلك الأضرحة الأرضيّة والجبليّة المحروسة جيداً.

وبما أن الكتب وكل أنواع المعرفة، محظورة حظراً صارماً لا هوادة فيه، إذ انكشفت دالة في هذا السياق، يُعذّب السجين بوحشيّة قل نظيرها ليكون عبرة للآخرين من السجناء..

وحدثني أبو محمد محمود بن زاهر، بان هناك صُدف نادرة تحصل لتظلّ مضيئة في ذاكرة السجين، خاصة ذلك المسكون بشغف المعرفة، بان تكون هناك قصاصات جرائد ومجلات، يلفّون بها الأغذية التي تُبقي السجين على رمق العيش والاستمرار، من أجل أن يأخذ العقاب مجراه الزمني، والموت في هذه الحالة خلاص… يحصل أن تكون تلك المِزق والقصاصات حاملة ضوء معرفة أدبيّة أو دينيّة لم ينتبه إليها الرقباء..

وهكذا قرأ محدثي في تلك الفترة المظلمة، لشعراء مثل زهير ابن ابي سُلمى، وشيء من شعر المقاومة الفلسطينية التي بدأ صوتها في تلك المرحلة، وغيره… وكأنما ضوء المعرفة والروح، من صفاته تلك القدرة السحريّة في اختراق أعتى الأماكن حصاراً ومنعاً، ليس في الجلالي فحسب، وإنما في معظم السجون العربيّة، كما حدثني عبداللطيف اللعبي وقاسم حداد وعبدالقادر الشاوي وكتب كثيرة، لطارق عبدالحكيم والأكثر حداثة وفضاعة لياسين الحاج صالح ومصطفى خليفة ومفيد نجم وفرج البيرقدار و….الخ.

ضوء المعرفة والروح الذي ينعش أملاً غامضاً (لا شفاء منه).

ربما أن تلك الفترة لا توجد في البلاد صحافة أو ما يشبهها، قلت لمحدثي، أجاب انه على الأرجح يأتي بها مسؤولون وعساكر ويرمونها بعد الاطلاع، لتصل اليهم على هذا النحو العجيب.

ومن نزلاء السجن في فترة الستينيات وما قبلها بجانب الكثيرين كان الشيخ محمد بن سالم الرقيشي الذي وُجد ميتاً وهو مكبلٌ بالقيود والأصفاد. وأيضا سعيد بن سيف (ود الدرعية) الذي قضى ما يناهز العشرين عاماً وخرج سليماً بحيث تزوج مرتين وأنجب وعاش حتى اللحظة الراهنة..

***

في ليالي المرض وسهاده الممضّ، يلجأ العُمانيون كبقية الشعوب في غياب الأدوية الكيماويّة الحديثة، أي أدوية الخبرة المباشرة التي راكمتها التجارب والسنين. وهي ناجعة في الكثير منها وتفلح في صدّ هجوم الجراثيم والميكروبات التي تغزو أجساد البشر، الأطفال خاصة بمقاومتهم الضعيفة بداهةً.. أتذكر تلك «العصابة» المفْعمَة بالدواء العشبي التي تقطّرها الوالدة في عيوننا بليل الرمَد والسهر والصراخ، لتهدأ بعدها العيون والأجساد ويأخذ النومُ طريقه إلى الصغار ومن ثم الكبار الذين يجافيهم الرقاد على إثر البكاء والصياح…

ويتذكر الكبار بعد جحافل من السنين، وهم يعالجون العيون بعمليات الليزر والجراحة من النزول الأسود وغيره من الأمراض الفتاكة، كيف كانت (التراخوما) في غزوها الجماعي الواسع، حتى أن أحد الأطباء قال مازحاً، لكنه المزاح في ضوء وقائع واحصائيات بأن ذلك المرض وأمراضاً غيرها تشكل جزءاً من الهويّة العُمانية وخصائصها. ويبدو أن أهل عُمان الداخل الحجري أكثر عرضة للاصابة بأمراض العيون وشرورها، أكثر من الباطنة وصور وبلاد الظاهرة والشرقيّة.. ربما مياه البحر والفضاءات المفتوحة على المدارات، تساعد على شفاء أمراض كثيرة منها العيون، «سراج الروح» وضوئها..

ذات يوم لسعتْ عقرب طفلا من أبناء الجيران، جلبوا له أوراقاً من شجرة (الشريش) دعكوا بها مكان اللدغة، ولا بأس أن يأخذ المصاب بالسُم، قليلا من أوراق الشجر كمضادٍ يفضي إلى الشفاء.. و(الشريش) شجرة عُرفت في الهند بفوائدها الشافية.. وعلى ما أظن أن العُمانيين أخذوا هذه الخبرة من هناك مثل أشياء كثيرة متبادلة.. وهي (الشجرة) بجانب فوائدها الطبيّة، تبسط ظلالها  التي تفيء الساكنة، من لهيب الصيف، على مسافة وارفة.. وتكثر في أودية عُمان وسهوبها، وشعابها الأشجار والأعشاب التي اشتهرت بفوائدها الشفائية، بعضها يحتوي على شيء من السُم المضاد كلقاح مثل (الحرمل) و(الحنظل) الشديدة المرارة، والشخر، تستخدم لأمراض مختلفة.. ترى الأهالي يذهبون مع الرعيان في الصباح الباكر يتسلقون الأودية والجبال، كما تتسلق أغاني الرعاة وأصوات الماعز المرِحة، ذُرى الحنين المتناسلة فوق السفوح ومرابض الغزلان والثعالب المتوارية عن سطوة الذئاب والجوارح والصيادين، في الصباح الباكر يذهبون بعد صلاة الفجر، كل إلى مقصده ومبتغاه، يستنشقون هواءً صافياً حالمين بالعودة المسائية إلى المنزل والعائلة.

وبالنسبة للأطفال حين لا تفلحُ التهدئةُ بالملاطفة والكلام يلجأ الأهل إلى مهدئ آخر يسمى (الجيهو) ذلك المشتق من نبتة الخشخاش بطعمه اللذيذ الذي يشبه مسحوق البُن في شكله، لكنه بطعم السكر مما يجعل الرضعّ يأكلونه بشهية مفتوحة ويسري مفعوله المخدر في أوصال الجسد الصغير، حتى يقضي على الألم والأرق الممض، ويدلف الجميع مملكة النوم الفارهة. بين حنين الأودية وواحات النخيل التي تتهادى بخيلاء في نومهم كما في الهبوب الحاني.. نبتة الخشخاش تلك أو (الجيهو) التي يأنس اليها الأطفال ويرتاح بسببها الكبار من الصياح والأنين، لا تُزرع في عُمان بل يؤتى بها من افغانستان او باكستان، حيث تزرع هناك بكثرة ولها تقاليدها في التداول كمخدر يطوح بالكبار إلى مناخات حلمية بعيداً عن شقاء الواقع والحروب. لذلك فهي تُعطى للأطفال بكميات قليلة (على الريحة) بغية الهدوء المؤقت والخلاص..

***

بجانب الرعاة الذين يعانقون الفجر النديّ ذاهبين إلى السفوح المخضرّة، والشديدة الخضرة إذا كان عهدها بالمطر لم يمْض عليه فترة من الزمن., نجد الرعاة شبه المحترفين مثل (البيادير) في رعاية النخيل، اذ يتقاضون أجوراً زهيدة إزاء خدماتهم في الرعي والعناية بالمواشي والأغنام. وهناك الرعي بالمقايضة مثل تبادل البضائع والمنافع، قبل سيادة العملة، إذ يذهب بعض أفراد العائلة، ولا بأس أن يكون بينهم أطفال، في هذا اليوم، على أن يكون في اليوم التالي أفراد من عائلة أخرى، مرددّين ذات الايقاع الغنائي المفعَم بالشجن والوَجد، إلى أبناء رحلوا أو أحبة غائبين، وتُسمى تلك الأغاني التلقائية (تعاويب).

الرعيُ ليس مهنة مرذولة أو تدل على مرتبة أدنى في السلّم الاجتماعي، فهذا التصوّر من بقايا قيم العهود «الجاهليّة»… حين صرخ عمر بن هشام (أبوجهل) في وجه قاتله وهو مضرج بدمائه غير مصدّق واقعة موته على يد هذا الرجل الوضيع بالنسبة إليه «حتى أنت يا رويعي الغنم؟!» تحقيراً وتفاخراً حتى وهو في لحظة الاحتضار الراعبة.. كيف ذلك والرواية المتوارثة، أن عدداُ من أهل النبوة بدأوا حياتهم بالرعي، وهو من علاماتها في العصور الغابرة قبل أن يختمها الرسول الكريم محمد بن عبدالله (عليه الصلاة والسلام) بمفصل حاسم للنهاية التي لا لبس فيها ولا تأويل أو اجتهاد، لكن ظلال تلك الذكرى النبوية، العطرة، ظلت في وعي الأمة، تعطي الراعي نوعاً من احترام حتى كمهنةٍ مقابل أجر..

بجانب فجر الرعاة، هناك فجر أولئك الذين يمارسون القنص والصيد كهواية تقترب أحيانا كثيرة من المهنة «هنا سمات القنص والالتقاط، تختلط بمرحلة النمط الزراعي»، حين تكون غلال الطرائد وفيرة.

يذهبون باكراًُ أفراداً وجماعات يتوزّعون على السهول والجبال، يصطادون الطيور الموسميّة كالعقاعق و(المفشيش) ويصطادون (القطا) و(الصّبا) طيور الحجل، وأنواع أخرى من الطيور والحيوانات البريّة، الوعول والغزلان والأرانب البريّة، والحيوانات والطيور السارحة في الجبال والمضايق والجحور، السارحة في تلك الفضاءات المنسيّة التي تنتحب فيها الرياح كأرملة تعصف بها الذكرى والفَقد.. بجانب معرفتهم الدقيقة للأماكن التي تتواجد فيها الطرائد من مضائق وأشجار، شعاب وخلجان خلفتها السيول بين النتوءات الصخريّة، هناك معرفة وخبرة بأصوات الطيور والطرائد الأخرى، حيث ترى القنّاص يقف تحت مُرتفع صخْري يردِّد صوت الطريدة التي يحدّس أنها مختبئة كيْ يستدرجها إلى حيّز العلن والوضوح ظنا منها أن ما سمعته نداءً من أحد أبناء جنسها ذكراً أو أنثى، خاصة اذا كان موسم تزواجٍ وسفاد. وهو ما لا تغيب معرفته عن القنّاصين أصحاب الخبرة والمعايشة الطويلة للطبيعة والحيوانات، ربما ورثوا هذه الخبرة من أسلاف لهم كما ورثوا مهنة الزراعة وكذلك القنص وهوايته الأثيرة، على سلوك السلالة وعواطفها، تلك التي تمتد جذورها إلى المجتمعات البدائية الأولى. فضاءات تلد أخرى والصياد في البر أو البحر بانتظار ضحيته في تلك القفار المنسيّة التي تنتحب فيها الرياح وتنوح..

***

دائما هناك وسط البيوت المأهولة وقريباً منها، منزل مهجور، تحوّل بفعل الزمن والغياب إلى خرائب تصفرُ فيها الرياح، وتتجوّل في جنباتها الأشباح والحشرات، جدران متصدعة وأصباخ تملأ المكان الذي يحمل صفة المنزل المثالي (لحيّاننا الصالحين) من الجن والكائنات اللامرئية التي يُؤتى إليها بالأطعمة وما يشبه النذور والقرابين.. ان كانوا صالحين فذلك من حقوقها الأخلاقيّة والعاطفيّة، وان كانوا مصدر أذية وخراب فالتخفيف من الشرور التي يمكن أن تلحقها بأهالي البلدة وأطفالهم.. هكذا كان ذلك المنزل المتهاوي الذي تسكن في شقوقه وأشجاره الخفافيش هذه الثدييات الليلية، أسراباً وجماعات في بيت (النطالة) قريباً من مسجد خالي أحمد بن محمد. وكذلك البيت المتهدم قرب منزل الوالد في (التبينيّات) قريباً من الوادي. بعد كل مناسبة أو وجبة يُجتزأ منها نصيب لتلك الكائنات وأرواحها الهائمة وهي تمارس حياتها في أرجاء المكان.. ترانا وتعرف الكثير عن حياة الكائنات المرئية بشراً وحيواتاً أخر، ونحن لا نراها. ربما نرى تجسدّاتها، وهي القديرة على التناسخ في أشكال وأجساد أخرى. فحين تأتي قطة غريبة إلى البيت تموء وحيدة أو مع أخرى في ضواحي النخيل، تذهب الشكوك على أنها ظهورات شبحيّة لتلك الكائنات الخفيّة التي تتخذ من الخرائب المسكن والمأوى. وربما وراء الخرائب بنتْ بيوتا أخرى فارهة ودُور عبادة ان كانت من أهل الصلاح والتقوى. وكم من (البيادير) تكون نوبته في السقي بأنصاف الليالي المظلمة، يروي حكايته مع أشباح تلك الكائنات التي ترسل له عبر الماء المنساب في ساقية الفلج، طعاما وحلوى، يأكل حتى الشبع، ثم يحمل الماءُ الأواني إلى أصحابها من جديد، حتى ولو كان عكس التيار..

ويذهب البيدار الإنسي، في تخيُلاته الشبقيّة بأن هناك جنيّة عاشقة ترسل له الهدايا والطعام.

حكايات تتناسل في خيال الأهالي في جوف تلك العتمة المحتدْمة، بتلك الأقاصي حيث السحرة من أهل القرية والذين يُعرف بعضهم حق المعرفة، لديهم أيضا القدرة الخارقة على التجسدّ في أشكال حيوانيّة أخرى. وحتى المسحورين والمغيّبين من قبلهم، يأتون بهم لزيارة القرية في أشكال قطط وطيور، ثعالب وذئاب ليفرغوا بعض الحنين إلى مرابع الطفولة والصبا، ثم يعودون إلى مصائرهم الغيبيّة في كهوف الجبال والقفار المجهولة.. وتحتفظ بعض المدونات التاريخيّة والشعريّة العُمانية، بحكايات ومرويّات في هذا السياق، أشهرها قصيدة (المسحورة) التي جرت وقائعها في عهد الامام (سيف بن سلطان الأول المكنى بـ«قيد الأرض») ويكثر الوسطاء مع تلك الكائنات والأرواح الخارقة بإستدراجها وحلولها في الوسيط عبر حفلات (الزار) المنتشرة في أنحاء البلاد. ويُؤتى بالوسيط مقابل المال، حين يُصاب انسان ما بمسَّ من جنون أو نوبات مرض هستيرية، يمضي البحثُ عن أولئك الوسطاء (العرّافين) لتخليص المريض من الروح الشريرة التي تتلبسه، في خلوة طقسية مفعمة بالبخور، ويجري استنطاق الروح من أعماق الضحيّة بالملاطفة وبلغة أو لغات وتمتمات لا يفهمها إلا طرفا ذلك الحضور الشبحيّ الجاثم، وأحيانا بالصفع والرفس لدرجة عنيفة ودمويّة. ويحصل أن تطرح الروح المتلبّسة الشريرة مطالبها، وحين تتحقق، أو يصلان إلى نقطة التفاهم، تخرج كالشرر من العيون ويعود الممسوس المريض إلى حالته الطبيعيّة.

وقد تطورت مهنة الوساطة تلك، في الفترة الراهنة، وخرجت من تلقائتيها وموروثها الشفوي البسيط في البلدان والمدن الكبرى والقرى، لتصبح مؤسسات نصب واحتيال بأموال طائلة وجهاز دعاية واعلان فضائي عابر للأماكن والقارّات.

***

هـذه العناصر والمناخات الخرافية موجودة في كل المجتمعات خاصة العربية الاسلامية والعالم ثالثيّة، ولا تخلو منها أوروبا، رغم التقدم العلمي الأقصى، لكن عُمان حازت بين بلدان كثيرة، المجاورة خاصة، على سمعة وحضوراً أكثر كثافة وعلواً في هذا المجال.. بعضهم يرجع ذلك إلى الطبيعة الجغرافية والمكانيّة التي تتسم بها قسماتها وتضاريسها الجيولوجيّة الراشحة بالغموض الراعب والنأي العصيّ لهذا «الفراغ» البدئي والمحمول على أنواع التهاويل والهوام والاحتمالات.

***

يجرفهم زَبد الأحلام حول نساء مُحتملات في النوم، تجود بهن سماءُ بلاد بعيدة، من بلاد الشام أو البلاد الايرانية المتاخمة بعيون خضراء، أو من افريقيا بسمرتهن الساحرة، خاصة حين تكون تلك الهجنة مع العرق العربي المهاجر، فيما يشبه خلاسيّات البلاد اللاتينية البعيدة عن الواقع والخيال.. يجرفهم زبدُ الاحلام كما يجرفهم زبدٌ الكلام المتدفق من كل حدبٍ وصوب لا تحدّه أسوار الأزل الجبليّة، حين تهب (كوس حدرا) وتأخذ الأجساد المستلقيّة على ظهرها وأرجلها إلى الأعلى بين أجمات النخيل والحشائش المستطيلة الخضراء، في الترّنح ثَملة بالهواء والأحلام المتقلبة. الكلام الذي يأخذ منحى هذيان ما قبل رحلة النوم العميقة الناعمة، حين تكون البلدة قد مّر عليها زمن من غير نزاعات وأموات، تكون البلدة في حالتها المثاليّة المسترخيّة بين ضفاف الكلام الجارف والأحلام المحلّقة في جنان الخلد الموعودة لأولئك المسكونين بهاجس التوّحد مع شآبيب الشهوات المنبلجّة كأقواس قزح من نعيم الآخرة الأبدي.. أحلام البسطاء جراء كلامهم المكرور واستيهاماتهم حول نساء البلاد البعيدة ذات الرفاه والطقس الجميل على مدار العام… تجرف القرية أمواج الزَبد برهة هدوئها واسترخائها يطول ويقصر بفعل حدث مأساوي لتبدأ رحلة الكوابيس والأحزان التي تتطاير في النوم واليقظة كطيور جريحة نجتْ من مجزرة صيّادين مَهرة، أقاموا شباكهم على مضائق الوديان بينما البنادق مشرّعة بيقظة وجاهزية. تظل تلك الطيور فترة تتخبّط وترتطم بالصخور والأجسام الصلبة، وتسقط أحيانا في قنوات الأفلاج صريعة وبرك الماء الآسنة، حتى يبدأ الأهالي في التناسي والنسيان، ويعاودون كرة الأيام المنعشة والأحلام السعيدة..

***

 كانت صِلات الوالد بأهل (سناو) من الشرقيّة أكثر . أما خالي، فكانت صلاته بنواحي (القابل) من الشرقية بحكم علاقته بالشيخ أحمد الحارثي الشديد القرب آنذاك بالسلطان سعيد بن تيمور، الذي كان «مفوضه» تقريباً، بمعيّة السيد أحمد بن ابراهيم بمسقط و(بيت البرزة) يحلاّن المشاكل العالقة لدى الكثير من العُمانيين في الداخل وتمضي عجلة الحياة بوتائر رتيبة، بعد أن أرخت الصراعات والحروب أوزارها، ليس بين القبائل فحسب، وانما بالدرجة الأولى، بين السلطان والإمامة إذ شهدت هذه الأخيرة ما يشبه الغروب النهائي لنظام حكم كان سائداً وقوياً في العهود السالفة من عُمان وامتدادتها الجغرافية والسياسية في خارجها، وأذعنت البلاد لحكم السلطان بكاملها، ولم تعد ثنائيّة السلطان – الإمام قائمة إلا نظريا لدى بعض الفئات التي تعيش على الأغلَب بتلك الفترة خارج البلاد قبل عودتها الكليّة..

أتذكر في احدى الزيارات التي اصطحبني فيها الخال، حيث زار بلدة (المضيرب)… ما علق بخيالي الطفلي في ذلك الفضاء المترامي بالخيل والريح الرمليّة، تلك المكتبة الكبيرة التي استقبلنا فيها أحد أعيان المنطقة والتي تشبه في بعض ملامحها مكتبة الوالد التي بنى لها ملحقا خاصا في منزل الوادي، ثم نقل جزء منها إلى منزل (الشويرة) الذي ننتقل اليه في البرد القارس حين لا نذهب إلى بندر مطرح، أو حين تأتي الأودية بفيضانات جارفة تهدد المنزل والأهل… وأولئك الصِبية الذين يمتطون الخيل كما كنا نمتطي الحمير في سرور…

وهو ما شاهدتُه في (سناو) وجعلان.. كان الوالد بحكم صلاته ببلدة (سناو) وبالوالد ناصر بن راشد المحروقي تحديداً (والد محمد المحروقي الكاتب والأكاديمي) الذي اقترح عليه اسم المعلّم الشاب حمود الصوّافي ليعلم أطفال القرية أو جزءاً منهم، الذين كان يقتصر تعليمهم لدى المعلم سعود على حروف الأبجدية الأولى للغة العربية، وهكذا انتقلنا على يد الشيخ الصوافي إلى (تلقين الصبيان) لنور الدين السالمي، والى (ملحة الإعراب) ومن ثم في مسجد الخور بمسقط، إلى ألفيّة ابن مالك..

جاء الشيخ الكفيف البصر، الحاد البصيرة والواسع الاطلاع والطموح المعرفي الذي سيتحقق لاحقا في أعلى مدارج سلّمه … كان برفقته الاخ مبارك الراشدي.. كان قدوم الشيخ الصوّافي يشكل ما يشبه النقلة من مستوى دراسي (ديني ولغوي) إلى طور آخر.. سكن في منزل وسط سرور. يتراءى لي انه كان وسط كثبان النخيل والأشجار الملتفة تحت مرتفع حارة (الحبيك) التي يقطنها الراوية الشاعر محمد بن سعيد المخلدي . وكان مكان الدراسة (مسجد الفج) في الضفة الأخرى من الوادي قريبا من (الشعاشع) وعلى مدخل الشعاب الجبلية التي تفضي نهاياتها إلى منطقة (لخوبار)، مدخل مدينة (سمائل) الفيحاء.. ربما سمع الشيخ الشاب، وهو يقلب أوجه التأويل والدلالة حول حديث نبوي شريف، أو عبارة لغوية تشع بغموض شفيف، سمع هسيس ثعابين تلعب بالجوار، أو سرب غربان حط فوق التلة المجاورة، لكنه لم يعرها انتباهاً، مستغرقاً في أفق الاحتمالات والإستنبساط.

في ذلك المسجد المنعزل على سفح الجبل المتشظي إلى جبال وذُرى لا نهاية لغيوبها وسرابها . كان المسجد لغرابة موقعه وغموضه، محل نذور وقرابين أهل البلدة، أو للقوافل حين تحط الرحال للراحة، قبل استئناف الرحلة إلى البندر والعاصمة السياسيّة للبلاد، وحين تحول المسجد إلى مركز تعليم، صار يـأتي أصحاب النذور بأضحياتهم من حلوى ومشاكيك وأطعمة مجففة بعد انتهاء الدروس وذهاب المعلم والمتعلمين إلى بيوتهم في الضفة المقابلة من الوادي حيث السكان والمزارع والنخيل، وحيث تجري (الغيول) الغزيرة التي لا تجفّ إلا ما ندر..

في الصباحات حين نأتي قبل الشيخ أحياناً، نأخذ في التهام وليمة النذور من غير شعور بالخشية والخوف كوننا نأكل قرابين الأرواح الخفيّة..

مرة وكانت من النوادر أتت امرأة عابرة من الشرقية مع أولادها وذهبتْ إلى المحراب حيث تبعثرت على جنباته النذور، وأخذت تنثر قطعاً من الحلوى العُمانية في مغلفات صغيرة صُنعت من خوص النخيل (بالدارجة تُدعى تغليفه وتغاليف)، ثم أشارت إلى أبنائها قائلة (أعطو القضورا)… حين سألنا الشيخ حمود عن معنى القضورا، أجاب انها تعني في تلك البلاد (الصغار).

***

رفّ صقور يعبر مضيق جبلين في وادي (العق) حيث كان (الندابيّون) يشكمون ضفتيه بسلاسل صلبة لصدّ الأعداء.. رفُ صقور ينشر ظلاله على الصخور الدكناء بينما غيوم تعبر مضائق الوادي لتفرغ حمولتها في واحات (سرور).. في الوادي حِذَاء مسجد الفج، كنا نرقب طلائعها تتمدد من خلف الذُرى، ناشرةً أريج المطر القادم وقعْتَ الأودية… لحظات، ويصيح صائح الأودية من شريعة الوادي الذي تغمره الديمةُ السكوب حتى الصباح التالي، حين يفيق الأهل الذين سهروا معظم ليلهم مغمورين بأعياد المطر القزحيّة، متفقدين الحقول والغلال التي لم يجرفها اندفاع السيول، والأطفال يحلقون بأجنحة الصقور والعصافير، في ذلك الفضاء المتلاطم بأمواج البهجة والسرور.

***

من ذلك المنظار الأفقي لصرح مسجد الفج، الذي هو اسم على مسمى بوقوعه على ذلك الفج العميق الموصل إلى عاصمة الولاية، اذا نويتَ سلوك الطريق الجبلي، ولم تفضل على جاري العادة سلوك طريق الوادي عبر (هصّاص) المزهرة.. من صرح المسجد المطل من فوق الهضبة الجبليّة، من منظاره السحيق يمكنك أن ترى كواكب الجبال السابحة في فضاءاتها المليئة بالنجوم الغامضة والحيوات.. وعلى بعد أمتار تقع شجرة الغاف التي تنتصف في مركزها المتموّج، البلدةُ، ومن ضفتها ترى الشجرة العملاقة حزينة ومنعزلة عن الكون المحيط بها مثل جارتها هضبة النخيل (الشعاشع). على سفحها الجبلي الرابض على ما تبقى من المقبرة العتيقة.. الثلاثة على خط العزلة الصافي والعميق.

المسجد، الشجرة وهضبة النخيل المسترسلة في هذيان الطبيعة المعبئة بالغياب .. شجرة الغاف التي توحي للناظر إليها بالعزلة القصوى رغم انها لا تكاد تخلو من طائر على أغصانها إن لم تكن طيور وأسراب طيور عابرة وتلك التي اختارت السكنى بين الغدور والأغصان.

وعلى رغم مرور الرعاة والصيادين حولها بكثرة رابطين رواحلهم على جذعها أو حولها في نتوءات الصخور المسننة.. والثعالب التي حين يبدأ الليل في النزول تحاصرها بالنظرات المركّزة والمضيئة لاستدراج الطيور النائمة على فراش الأغصان الوثير. كل ذلك لا يبدّد النظرة المرسلة اليها من ضفة القرية أو صرح المسجد الجار الحنون. أو يخفف طوق العزلة عن الشجرة المثقلة بتقدم العمر والذكريات، بل إنَّ العواء الليلي المحيط، زحفُ ذلك العواء الجريح الذي يلجم الأفق والمكان، يصّب في جراح عزلتها أكثر ويفاقمها.. جيران العزلة الثلاثة يسبحون في مياه نهر واحد، دائما على أهبة الرحيل.

***

في تلك الفترة المبكرّة من العمر، كانت أبجديات أسئلة الوجود الأولى والحياة، هجسْها الجنينيّ الأول، من قِبل الأطفال، وتلك الجرأة أمام الغموض البدئي الذي تحيطهم به ظواهر الحياة بدء درجات سلمها الأولى… وهي الهواجس الجنينية التي تتحوّل إلى أسئلة تكبر مع الكائن البشري وتطوح به إلى متاهة المعرفة والتجريد… ومن مادتها الخام، صنع مفكرون، أدباء ورجال علم ودين، فضاءاتهم المعرفيّة اللاحقة، نظريات ومنظومات معرفيّة، خواطر وشذرات..

في مثل تلك الفترة المبكرّة تكون هواجس، أسئلة أولى، مشرعة، من قبيل:

* من جاء بنا إلى هذه الحياة؟

– والداك الأب والأم.

* ومنْ جاء بهما؟

– الله الخالق عز وجل.

* ومن جاء به إلى العالم والوجود؟

– الله هو الخالق المطلق جلّت قدرته لا شيء قبله ولا شيء بعده …. الخ.

مثل هذه الأسئلة وغيرها التي تتناسل في خيال الأطفال ووجدانهم الطازج في طورهم الأول، وهي نفسها عبر أجيال وأحقابٍ متعاقبة، غالباً ما يقطعها الأهل لتعقيدها ومتاهتها عند حدّ معيّن. ويتركون الطفل معلقاً في حبال هواجسه وغموضها.. وكذلك يفعل فقهاء أحياناً وأصحاب عُهدة دينية في بيئات وأديان مختلفة.

لكن في حالة الشيخ حمود الصوافي، أتذكر انه لا يحاول قطع هواجس الأطفال وخواطرهم المسترسلة بتلقائية وحريّة طفولة ما قبل الوعي والمعرفة قبل أن تحدّهم التعاليم والحدود، يحاول أن يأخذ بيدهم بأبوّة ولطف وبساطة ومرح يضيء خواطر اسئلتهم التي هي جزء من لعب الطفولة قبل أن يتجه نحو المأساة مع الزمن والعمر.. يحاول الشيخ بثّ قناعات تعاليمه ومبادئه بلطف وبشكل تدريجي بدل ذلك النمط القسري الذي لا يزرع نواة صلبة في متلقيه ومريديه.. لطف بساطة مٌقنعة لا ينقصها العمق، تلك المفردات التي تشكل جزء من نسيج الشيخ وتعاطيه مع الطفل، التلميذ والمريد والجمهور..

وهو ما لاحظته حين زرتٌه بعد سنين ضوئية، وفق احساسي بالزمن، في (سناو) وقد تغيرت البلدة بالطبع، من تلك البساطة والتلقائية كما تغير غيرها في السلطنة والجزيرة والعالم، في هذا السياق من التطور العمراني والبشري. كان الشيخ حمود رغم تعاقب الزمان والأجيال، ظّل على رابط روحيّ وثيق مع تقدم المعرفة والعمر، بتلك المبادئ الأولى التي أتذكرها في ذلك العمر المبكر..

ما زال الأطفال يتجمعّون حوله، أسرابَ طيور بريئة، وهو يمازحهم ويضحك معهم، مع حبّات الفستق التي يخرجها من جيبه الممتلئ بها، كي لا يخرج طفل من غير هديّة ولو رمزية بسيطة، أكثر عمقاً من الهدايا ذات الأسعار  المرتفعة التي يتبارى في تقديمها المتبهرجون والمتبارون.. وكذلك حين يأتيه الكبار للفتوى والسؤال الديني، يجيب ببساطة العارف من غير فذلكة فوقيّة وكلمات اختصاصية صعبة، يؤكد فيها مكانته. فهو ليس بحاجة إلى مثل هذا التـأكيد.. علاقته بذاته من الغنى والثراء الروحييّن، تسبق علاقته بالآخرين.. يمكن القول أيضا انه «متصوف» أو سلوكي مرح، لا يترك للكآبة مجالا ان تسيطر وتحبط، نتيجة لفجائع الوجود المحيطة بالعالم، راءٍ مشرقٍ وسعيد برؤاه..

والثروة التي يمكن أن تتكدسّ معه وحوله نتيجة لمكانته الدينية والاجتماعية وصدقيته وسط غابة الزيف، ليست إلا مشروع صرف على المحتاجين والبؤساء والتلاميذ.. أما الذاكرة التي تضعف مع الزمن والعمر، فقد وجدتُ لديه ذاكرة مدهشة، في تألقها واستعادتها لأبسط التفاصيل التي تمتد إلى تلك الفترة التي تعاقبت عليها الأحداث والأزمان، يتحدث عنها وكأنها بالأمس، أو منذ اسبوع أو شهر على أبعد تقدير.. قدرته على ضغط أكداس الزمن وتحويلها إلى لحظة راهنة تدعو إلى العجب والغرابة.. بعد الأحداث التي روى بعضها على مسمع الجميع في سبلة منزله وهو كعادته بين الجد والمرح، كنتُ قد نسيتها، وكنت أتفاعل مع الرواية التي تتعلق بي في ذلك الطور من العمر، كنت أتفاعل بنوع من خجل النسيان في بعضها، والعاطفة والحنين.

***

كان القمر رفيقا حنونا ودليلاً موثوقاً، كان الشجر المتمايل في ليل الفضاء والظلال، حارساً على مخلوقات يلفها الليل بردائه الضارب في القِدم والعمق، في تلك الليلة التي (سَرينا) فيها مع الشيخ حمود من بلده (المضيبي) إلى (سناو) نقطع الأوديّة والممرات الصخريّة، تحفنا أرواح كائنات عبرت العصور لترافقنا ظلالها وحفيفها، في هذه الرحلة الليلية وكأنما باتجاه الأبديّة، نصغي إلى نحيب الذئاب يتطاير مع الريح الحدْرية العذبة، نسيم الجنان التي تحولت إلى قفار وبقيتْ الرائحة والذكرى في هذا الحفيف العطري الهامس يضوّع الأمداء بأرجوان زهره، وفي ذلك النشيد الغامض الشفيف لأرواح الكائنات الغابرة والأشجار المختلفة الأشكال والأغصان والأحجام تترحّل معنا بأعشاشها وأحلام طيورها باتجاه (سناو). لا أتذكر طول المسافة وزمنها، وهو زمن تمليه نشوة الروح المحلّقة في تلك الأمداء اللامحدودة… وحين وصلنا إلى مشارفها عانقتنا أضواء الصرجان المشعّة في الخيم والمضارب المنصوبة حول البلدة، حيث (آل وهيبة) احدى قبائل الربع الخالي المترحلة على الدوام والتي لا تستقر إلا في بريّة المدى المكشوف والفضاء الطلْق، تحيط بمضاربها البلدة كدائرة على التخوم والأفناء حتى يتصرّم الصيف ويترحّلون إلى داخل الكوكب الرملي العاصف وعلى مشارفه، بلدة السديرة وغيرها. شاهدنا البدويات يحلبن النوق والرجال على الرمل يديرون كؤوس الكلام والقهوة والحليب المجلوب تواً من ضروع النياق بينما الكلاب تنبح القادمين على الأرجل الذين لا بد أن يجتازوا طوق البدو، بجمالهم وأناشيدهم الهازجة في أعماق ذلك الليل السادر على تخوم الصحراء والبحر السرمديّ كي يدخلوا إلى البلدة بضواحي نخلها التي تتخللها اسطبلات ومرابط الخيل تحت الحواري الموزعّة لأكثر من عشيرة ومكان.

ذلك اللليل الهائج في أحلام البدو والصحراء والبحر القريب: أيُّ أبديّة تتثاءب وتسترخي في الفضاء المفتوح على سرّ الكينونة وغموضه الموحش؟!

***

أثناء تلك الزيارة السريعة مؤخرا إلى الشيخ الصوافي في (سناو) بمعيّة أخي الكبير محمد وشقيقي سليمان وآخرين، لم أحس بثقل السنين التي توارت خلف أكمات العمر المتشظي، بل البساطة، بساطة الوجدان العميق في التعاطي مع الراهن والحضور الروحي الذي يغمر المكان والحيوات، أحسستُ كأنني أواصل حديثا انقطع لفترة بحكم نوائب وأحداث اعترضت مساره، وها نحن نستأنف البدءَ من جديد.. تذكر الشيخ حكايات وتفاصيل حصلت في تلك الفترة المبكرّة، بعضها ما زال ماثلاً في الوعي والذاكرة بالنسبة لي والبعض غلبه النسيان والزمن خلف غبار كثيف لا يلبث أن يتلاشى تدريجيا مع تذكره وسَرده من قبل الآخر.. سألني عن المعلّقات والأحاديث النبويّة التي كنت أحفظها غيباً, وكنت أستكمل ما يبدأ هو بمطالعه حين تسعفني الذاكرة، إذ أن الكثير أو معظم تلك المحفوظات الدينية الشعرية والأدبية قد توارت من الذاكرة وإن لم تغب، بل ظلت مترسبة ولو كخلاصة معنى ونبْرة تخصّب الذاكرة والمخيلة، متحدرّة من المنابع الغسقيّة للأعماق.. وتذكر القصيدة الشهيرة لأعمى المعرّة وبصيرها والتي مطلعها:

«ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلٌ

           عفاف وإقدام وحزم ونائلُ»

حتى يصل إلى تلك الحكمة القلقة الحزينة:

«ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً

            تجاهلتُ حتى ظُنّ أني جاهلُ

فوا عجباً كم يدعي الفضلَ ناقصٌ

           ووا أسفاً كم يظهر النقصَ فاضلُ

(…)

وياموتُ زرْ إن الحياة ذميمة

           ويا نفس جدّي إن دهرك هازلُ»

وكنت أكمل مطالع الأبيات، وأيضا تلك الأبيات الشعريّة ذات المنحى الصوفي الفريد للشيخين سعيد بن خلفان الخليلي وابراهيم بن سعيد العبري.. الاثنان بجانب مرجعيتهما الدينية واللغوية لعبا دورا مؤثرا في مسار الأحداث السياسية في البلاد المضطربة في مرحلتهما..

وأتذكر من شعر العلامة العبري ذلك البيت البديع بتخلصه من البلاغة التقليدية وأدواتها الجاهزة كالكثير من شعر العبري وقد رواه لي الصديق عبدالرحمن (ولد المرحوم) ولم تشمله الأعمال الكاملة أو العلمية التي صدرت أخيراً في عٌمان.

«اذا هب شرقيٌ تباشر بالحيا

      وإن هبّ غربيٌ بكت عينُ زاجرِ»

كان أبو عبدالرحمن صديقاً للوالد الذي كان يصحبني في زيارته بمنزله الواقع في مسقط خلف المدرسة السعيدية وكانت الزيارة لدى الوالد احدى مناسبات الفرح والحبور وكذلك حين يزورنا العبري في منزلنا في مطرح ولا أتذكر انه زار الوالد في بلدة (سرور)..

شذرات من فنون مختلفة يفتح الشيخ نوافذها المشرعّة على الغياب والنسيان في زحمة هذا العصر الصاعقة، وهي التي ساهمت باستدعاء ذلك المكوّن الجمالي البدئي، في تخفيف تلك الأعباء الصعبة التي ينتجها بالضرورة تعاقب الأيام والسنوات..

يصل الشيخ إلى حكاية طريفة كنتُ قد نسيتُها، رغم اني عنصر أساسي من عناصر تكوين الحكاية، حين جاء أحدهم قائلاً انه شاهد محمد بن سعيد المخلدي (الشاعر الراوية) لابساً (هاف) وهو يسقي الزرع والنخيل. وهذا اللبس يُعتبر في العرف الاجتماعي مثلبة للابسِه أو المروّج له، وهو من لباس الأجانب من خارج تعاليم ديننا الحنيف في ألطف الأحوال أو من الكفار في أغلظها.. لكن الصبيَّ الذي كنتهُ، حسب الشيخ، المحب للمخلدي الذي نتفيّأ كل صيف شجرة معرفته الوارفة بشتى متون الشعر والأدب والتاريخ، انبرى في الدفاع قائلاً لصاحب الوشاية: اذا كان ذلك صحيحاً فهناك في البلاد ما هو أكثر سوءا من لبس «الهاف»..

الشيخ الصوافي كما يتجلى في سلوكه وخطابه، رغم صرامته في شؤون الدنيا والدين، لم يندفع إلى التخليّ عن الآخر والطريف، الذي يحدث في غمار الحياة اليومية للبشر ومفارقاتها. كما أن زهده لم يدفعه إلى اعتزال الناس بل ظل فاعلاً في أوساطهم بمختلف المراتب والمقامات.. من تلك الطرائف أيضا ما رواه لي أخي سليمان الذي ظلت صلته بالشيخ على عمقها ومتانتها، كما أتذكر من تلاميذ تلك الفترة راشد الحسيني وأخي يعقوب وسليمان الحسيني ووجوه لا تحضرني اللحظة، من تلك الطرائف، انه كان ذات يوم في مجلسه، حين عبّر أحد تلامذته والذي يتوّلى دور الدليل لأستاذه الكفيف، بانه يتمنى أن يكون برفقته ودليله حتى في الآخرة، حين رد عليه الشيخ ضاحكاً: «حتى في الجنة تريدني أن أكون أعمى أيضا»..

***

في ذلك الزمن السحيق، حين كنا نأتي إلى (سناو) كانت كسائر البلاد العُمانية، مشعّة في بساطتها وكرمها، وكان في فناء البلدة (مركاض)، أو مضمار لسباق الخيل التي يمتطيها فرسان مجرّبون يتسابقون مسمّرين على ظهورها وهي تسبح بهم في الريح، أو واقفين متشابكي الأيدي والسواعد كتحلٍٍ لقوة الفرسان وبراعتهم التي توارثوها أباً عن جد.

في ذلك اليوم، يوم السباق، تحيط البلدةُ مضمار السباق بطوق من الأهالي كباراً وصغاراً للفرجة والمشاهدة والتشجيع.

يوم يشبه أيام الأعياد.. ويحدث أحياناً أن يترك الصغار من أهل البلدة الذين يتربوا كما في سائر بلاد الشرقية وجعلان وبلاد أخرى من عُمان، على ممارسة ركوب الخيل منذ الطفولة، يُتركون في حيز معيّن من المضمار للتعلم والتعوّد على امتطاء الخيل كجزء من الممارسة الاجتماعية التليدة..

أتذكر كنزوع مبكر إلى المغامرة ربما، طلبتُ أن أشارك في ذلك السباق مع من في مثل عمري. وكنتُ لأول مرة أمتطي ظهر الخيل، فقد اعتدنا على الحمير بأشكالها، غالبا، ولا نعرف الخيل إلا نادراً، أخذوني إلى حيث الخيّالة واقفين وسط زوابع الغبار والصهيل، وبمساعدة امتطيت ظهر الفرس وأمسكتُ باللجام وفق تعليمات سريعة.. حمحمتْ وتحركت بخفّة كأن لم يكن أحد على ظهرها كما اعتادت، ذلك الاحساس المرهَف بطبيعة ممتطيها صغيراً، أم كبيراً، هذه المرة لا تحس إلا بما يستحقّ الاستهتار والالغاء، وربما بتلقينه درساً لا ينساه.. هنيهة، وبحيويّة وجموح انطلقت شظيةُ العاصفة التي قَدِمت من سلالة الأفراس العريقة، تسبح في الفضاء اللانهائي، لكن بدل أن تمضي في خط السباق المرسوم في المضمار، انعطفتْ بخفة البرق مخترقة الصفوف، متجهة بعزيمة إلى داخل البلدة، والفرسان المدربون انعطفوا وراءها متفقديّن الطريق ليسعفوا الضحيّة التي حدسوا بوقوعها على جانب من جوانب الطريق الترابي الممتد إلى داخل البلدة.. لكن المشيئة أرادت للراكب الصغير، الذي يخوض من غير تهيئة مغامرة جنونه الأولى مع الخيل، البقاء سليماً من غير حتى خدْش بسيط، حيث توقفت شظيّة العاصفة السابحة في الفضاء الحر، على مهل وعلى دفعات، أمام فرس مربوط على خيّةٍ قرب الفلج وسط بساتين النخيل.

أعود إلى لحظة انطلاق الفرس التي لا أستطيع ملامسة وصف دقيق لها، فضلاً عن تشخيصها، لحظة هياجها وغضبها الذي تبدّى على شكل استخفاف براكب لا علاقة له بالخيل، وبهذا أحستْ بالاهانة، لحظة احتدام الفزع الذي لم يلبث أن يتلاشى بعد تجاوزها طور الخَبب، إلى الانطلاق الصاعق، لكن السلِس وكأنما ينام على جناح إعصار رحيم، حيث يتحوّل الراكبُ إلى حالة استرخاء هلاميّة في الفضاء أو بالأحرى على سفح يتمدد عليه نائم تضغطه المسافات هاذياً على ظهر عاصفة أو إعصار يشقّ طريقه في مسافة الفضاء اللامرئيّة.

***

في تلك الزيارة السريعة لكن المعبأة بالمعاني والدلالات، أخذنا الأستاذ الصوّافي، وكنت دائما إلى جانبه حيث قال لتلاميذه ومريديه أن أي أسئلة حول الشعر والأدب، توجه هذا اليوم إلى سيف، حظْوة، وتكريماً، أخذنا إلى قرية مجاورة لصلاة الجماعة والعشاء، تسمى (العيون) قريباً من بلدة (برزمان) وسكانهما من قبيلة العوامر، اشتهروا ببراعتهم المتوارثة في حفر الأفلاج وهندستها، حتى أن الشيخ زايد بن سلطان، في أبوظبي والعين القريبة من بلادهم، يجلّهم ويستفيد من خبراتهم في هذا المجال.. هذه البلاد المشرعة نوافذها على تلك الصحراء اللانهائيّة. ما علق بوجداني، أن تلك الصلاة صلاة العشاء انها لم تكن صلاة عاديّة، فرضاً من فروض الطاعة التي تُنجز خمس مرات في اليوم والتي يؤديها الملايين من البشر يومياً في أنحاء العالم المختلفة، تشعرك من خلال القراءات والأدعية البالغة التأثير والعمق الروحييّن، بأنك في حضرةٍ سلوكيّة صوفيّة مفعمة بالأسرار الربانيّة ورفعة الروح البشري وسموّها.. تأخذك بمهابة طقسها وشعائرها إلى الحضرة العلويّة.. حتى بعد نهاية الصلاة والجلوس للقهوة والحديث، بقيتُ مأسوراً ومشدوداً إلى ذلك الخفاء المتدّفق والذي لا نستطيع تعيينه أو القبض عليه بالمنطق والعادات الشعائريّة، إلى ذلك الحدث الروحي المدهش، لدرجة أن أحد تلاميذ الشيخ البارزين، (أبوالعرب العوفي) يتحدّث اليّ وأجيبه من غير تركيز .. لقد كنتُ مخطوفاً بتلك الجاذبيّة الروحيّة التي تخلبُ العاطفة والفؤاد.. لقد كانت قراءة الشيخ تصدر من شِغاف الأعماق، نبع نور الايمان الذي لابدّ يلامس الذوات المرهفة التي أضناها واقع العالم وانحدار القيم إلى الشأن المادي والمنفعي المحض، الذي لا يقيم وزناً للأبعاد الروحيّة الماورائيّة والجماليّة، وان أقام فعبر طقوس شكليّة استعراضية لكن مدقعة الفقر في حاجتها إلى صدق الايمان والسلوك، بل هي أقرب إلى النفاق والسطحيّة منها إلى الحقيقة الجوانيّة للكائن الفاني، والى الايمان الحق.

***

في مساء من مساءات القرية الساجية، في هذا المنحنى من سلاسل جبال وشعاب ممتدة حتى يخالها الناظر تضربُ بامتدادها إلى أقاصي الكون والمحيطات.. وفي امتداد القيم وثباتها الذي لا تشوبه شائبة تعكر صفوه المتوارث عبر الأحقاب عدا ما يتناثر من أفواه القادمين من (العالي)، والذين غالبا ما يكونون من دول الجوار أو الشرق الافريقي أو الهند في حالة بندر مطرح، وأولئك الذين بدأوا بالاستماع إلى (الراديو) الذي يبث أخباراً ومعلومات تشبه الصدمات الأولى التي أخذتْ في خدش وعي فطري مستتب وقار، حيث بدأت تلك الأخبار المبعثرة اللامفهومة في الكثير منها، تحرك مياه (البرك الراكدة)، أيما ركود، وتطوّح بها إلى تساؤلات وهواجس بدت لهم أنها قادمة من عالم الغيب والخرافة.

ولا يقل خرافة حديث الأولاد في ذلك المساء الذي اجتمعوا فيه بمنطقة (الرم) حيث الحدّادين يطرقون المعدن الملتهب، وحيث معسكرات الغجر الموسميّة، بحميرهم المميّزة وأحاديثهم الشيقة، وتلك النسوة المتبرّجات بالحليّ، الحلَق والشنابر، يطلقن الزغاريد والضحكات التي تحلق كالطيور المرِحة في فضاء القرية الساجي… كان ذلك المكان المفضّل لدى الأولاد في التجمع وأخذ مواعيد (الضرابة) أو العراك أحياناً.. كانت لازمة الكلام تدور في ذلك المساء حول (الجذّاع) (طوير) الذي كان حين يركض في دروب البلدة، من فرط قوته الخرافيّة، لا يستطيع الوقوف حين يريد إلا اذا تشبّث عدة مرات بجذع نخلة أو شجرة، ويظل في دُوار هائج، حتى يستقّر بعد فترة على حال طبيعي.. قال أحدهم «كيف اذا غضب طوير أو هجم عليه أحد؟» جاء الجواب الحاسم بأنه «سيحطم أضلاعه ونشهد جنازة في نفس اليوم» لذلك فهو لا يغضب بسهولة، والآخرون أيضا لا يسعون إلى إثارته، بعد أن رأوه، كيف يهّشم عشرات الجذوع بضربات فأسه الذي لا يستطيع حمله أحد.. وعن مبارك بن ناصر بن حسين الذي ينتمي إلى قرية (هندروت) من وادي الطائيين، عن قوته الاستثنائية التي تتجسدّ في قدرته على حمل سيارة، حين (تغّرز) على خط الوادي أو رمال (السطوة) التي نرى منها (جبل الفحل) تلك الجزيرة الصخريّة العائمة في غموض البحر والضباب… يحملها عدّة كيلومترات، إلى حيث تستطيع السير في الطريق الترابيّ السويّ..

وقادهم الكلام المبعثر كرمية من غير رامٍ، لكنه لا يتجاوز مناخ القرية ومفرداته إلى (مهلوه) تلك المرأة المتوحدّة مع ضاحية النخيل التي تتميز بمعلْم شجرة (اللمبا) الكبيرة التي تغطي نصف بستان النخيل بعناقيد ثمارها تتمايل مع الريح قوةً وضعفاً، والتي كانت هدف الصِبية في قطفها بالتسلّق عبر غدورها المتعددة، أو رميها بالحجارة لتسقط متناثرة تغطي أرجاء المكان من كثرتها، وتصل إلى ساقية فلج (الأوسط) حيث يتزاحمون لأخذها قبل أن تجرفها المياه المسترسلة إلى منحدر القرية الأقصى، الا ان ملتقطي الثمار سيجدونها سابحة في المياه وهي على الطريق.. تجرف مياه الأفلاج الغزيرة الثمار والرطبَ، كما يجرفهم الكلام إلى النساء الغجريّات المثيرات لهواجس الفتنة الأولى في خيالهم المحمول على موج البراري والسهوب حيث قطيع حمير وحشيّة ظل طريقه أو سرب كباشٍ في موسم التزاوج واللقاح.. قال أحدهم الذي يسكن قريبا من المكان، بأنه سمع في إحدى خِيمهم امرأة تصرخ وأحياناًُ تعوي من فرط اللذة وعنفها، وأنهن لسن مثل نساء القرية الطاعنات في الخجل والحشْمة، بل يعبرن بتلقائية مثل الحيوانات في الزرائب والبراري..

بدأ الليل في النزول حيث العودة إلى البيت، وكان لعاب الحيوانات في موسم السفاد، يسيل من أفواه الصبية، ومن تحت (الوزار) والدشاديش..

***

يحدث أحياناً أن نرى ثلّة حمير بريّة ضالة تائهة تحدّرت من السهوب والسيوح، إلى مجرى الوادي الكبير، تتقدم عبر الحصى والمسيل، تقطعه بين البطيء بحيرة وما يشبه التأمل حيث آذانها منتصبةً إلى الامام تروز المكان والاحتمالات .. وأحياناً تندفع راكضة مثيرةً زوابع من غبار، وهي تتقاذف الحصى والنباتات الصغيرة بحوافرها القويّة، حوافر الحمير الجبليّة الحرّة التي تغذْت جيداً من العشب الغزير للأرض الخصبة.. وحين تقترب من ضفة الوادي المأهولة بالنخيل والأشجار والساكنة تلمح حماراً أو أكثر مربوطاً على خيّته حيث يندفع بأقصى طاقته كي يكسرها وينطلق في الأرض الرحبة، بعد أن أصابه الذعر والارتجاف من الظهور المباغت للحمير الغريبة المستنفرة التي بزغت من سديم الوادي والغبار.

وها هي تقف قريبا منه تنهق نهيقاً متقطعاً، تشمشم بول الحمير المربوطة وتشنف إلى الأعلى في حالة رغبة وهياج، يهدأ روْع الحمار أو الحمير المربوطة وتسود برهة من التآلف والانسجام الخفيّ بين الحمير البريّة وتلك المستأنسة والمملوكة من الأهالي.. وربما تقضي الليل بمعيّتها قبل أن تختفي فجأة منطلقة إلى عوالمها الوحشيّة الفسيحة.

***

في الرواية الاسطوريّة المتداولة، حيث الحمار هو آخر من ركب الفلك (سفينة النبي نوح) حتى كادت أن ترحل من غيره، وهذا دليل على نقصان وعيه الفادح من بين الخلائق، على الغباء كما هو مرجعُه وأمثولته على مر العصور.. الخلائق ومنها الحيوانات تتسابق وتتدافع من كل زوجين اثنين، إلى سفينة النجاة بعد الطوفان، الا الحمار المتردد البطيء الغبي، إلا الحمار الحمار..

لكن ماذا لو لعبنا على هذا التأويل في سلوك الحمير، وقلبنا دلالة حدث الفلك والنجاة، أي العكس، دليل ذكاء خارق وحدس أريب نبوئي لما ستؤول اليه أحوال الخليقة والذريّة اللاحقة. فلم يكن ذلك التأخر عن الركب، إلا رفضاً للمشروع القادم للخلق والتناسل، للديمومة والاستمرار. حدسه الغامض الذي انبلج كالبرق من لا وعيه البعيد بالمأساة القادمة للاستمرار، حتى ولو كان الموت والفناء يطوي صفحة الخلائق ويقلبها جيلاً بعد آخر..

ربما التحجرّ في سديم العَدم البدئي الكاسر والمهيمن، كان هو الخيار الأفضل بالنسبة له، «ليتني كنت شيئا منسيا» وفق الآية الكريمة، أو على نمط الفيلسوف (سيوران) «لو حدّس بالمأساة القادمة لأحرق الفلك».

ربما الحمار وحده حدْس بتراجيديا الكون اللاحقة، لذلك نراه في لحظات القيلولة القائظة في مساءات القرى محدقاً في البعيد، تائها فيما يشبه الاشراق الأليم، ودموعه تسيل على خديه الطويلين حتى تخضّب الأرض والعشب.

***

يستلقون على بساط (الثيّل) والحشائش النديّة، يحدّقون في حيوانات سماء ينحدر سرْحها نحو الروابي والجبال.

يحدّقون في الجنادب..

وهي تحلّق بأجنحة الحقول

لا شيء يشغل بالهم

عدا قطعان الضباع التي رأوها

تضحك في نوم البارحة..

***

كان الوالد قد بلغ في القرن الماضي أواخره، لقد تَقدم به العمر لكن بصحة جيدة لا يشكو من تلك الأمراض التي عادة ما تطيح بصاحبها في مثل هذا العمر، وتقذفه إلى الضعف المتناهي والعجز.. في خضمّ التسعينيّات من العمر غالباً ما تتوافد الأمراض وتتنامى وتتراكم حتى انهيار الجسد الذي لابد شهد أطواراً قاسية من عمره المديد في هذه البلاد على رغم الهدوء والوداعة التي تظهرهما للزائر على الخصوص، وهي مسترخية بين جبالها وكهوفها الملتحفة بأسرار عصيّة..

لم يبلغ الوالد منطقة الوهن والتداعي التي تجبر المرء في الاعتماد على الغير، الاعتماد الجزئي أو الكليّ. ومن هنا اخترعوا ملاجئ العجزة في البلاد المتقدمة التي تشمل كل أسباب الرعاية والعناية لمن بلغوا عتيّ الشيخوخة والعجز… ظلَّ الوالد معتمداً على نفسه في معظم الأشياء على جاري حياته اليوميّة التي ترسّخت مع تقدمه في الزمن وانقضاء الكثير من أبناء جيله إما برحيلهم الأبدي أو بعزلتهم في منازل الأولاد والأحفاد. ظل الوالد على نمط حياته مع ميل واضح إلى الصمت والمكوث الطويل في المسجد مع اصطحاب بعض أحفاده حين ترهقه الوحدة والذكريات. وحين كان الأولاد موزعين على أكثر من منزل ومنطقة في العاصمة، قرّر أن ينتقل نهائياً إلى القرية (سرور).. وكأنما نداء الحياة وأطيافها الذي يتلاشى وينسحب تدريجياً من مخيلته المكتضة بالسنين والأحداث، يدفعه إلى التوّحد والحلول في تراب قريته الولاديّة. المسجد الصغير الذي بناه بجانب السبلة على حافة فلج (بوجدي)، بنخيله وأشجاره التي زرعها في الأزمان الخوالي، يتوّحد بها ملاذاً لما تبقى من حياة صار يلحّ عليها بكثرة نداءُ الغياب..

في المسار نفسه مضى خالي أحمد فيما بعد، حين كف عن رحلاته الكثيرة التي اقتصرت أخيراً إلى الحج والعمرة وأنهى الحركة خارج المكان الأول، مكان الخطوة الأولى المكثّف في ضاحية (النطالة)، وفي البيت الذي بناه حجراً حجَراً، بامكانية مادية تكاد تكون معدومة لكن باندفاع الحياة وإرادتها..

وعلى اثر الحادث الذي تعرض له في طريق مطرح/ سرور الذي أفنى شبابا وشيباً في حرب حوادثه الغريبة، اعتزل بشكل نهائي..

رحل الوالد والخال، وربما لسان حالهما كان يقول «الموت صنو الحياة وإبحار لا متناهٍ نحو الله»..

هوامش واحالات

* المبيتة:  فترة عودة الطيور لأعشاشها في الشجر وقت المغيب وتتّسم بصخب جميل آسِر.

*شجرة الفرصاد:  هي شجرة التوت، أو نوع من أنواعِه.

* سرجان:  جمع سراج، القنديل أو المصباح.

* صراريخ: جمع صَرّوخ، حشرة صيفية تُعرف باسم (الزيز) تصدر صوتاً يشبه اسمها.. تنبعث حيّة بداية كل صيف وتموت بانقضائه ملتصقة ومتيّبسة على جذع الشجرة.

* النّطالة:  اسم المزرعة المذكورة، يعتقد أن الاسم مأخوذ من مصطلح ( النّطل ) في الدارجة بعمان الداخل وهو إفراغ التراب، وفي المعجم الوسيط: مادة  ( نَتَلَ ) :» نتلَ الوعاء ونحوه:  استخرجَ ما فيه « فقد يكون أصل الكلمة اللغوي مأخوذ منه.

* الخضاري، جمع خضرية:  الطرف الرفيع والطري من السعفة منزوعة الخوص أو الورق.

* الجذاع: هو الشخص الذي يقوم بقطع جذوع النخيل أو سيقانها لتتحول لاحقا الى أدوات مفيدة وهو دائما يتسم بالقوة الجسمانية..

* الهاف: هو البنطال القصير أو «الشورت»..

* الشناجب : جمع شنجوب، سرطان البحر بالدارجة العُمانية.

* المناجير:  جمع منجور، من وسائل الري القديمة، عبارة عن بَكَرَة خشبية كبيرة تصدر صوتا مميزا عند استخراج المياه، وهي كلمة فصيحة.

* البرندة:  الشرفة.

* الروغ:  نوع من سنابل القصب التي تنمو بكثافة على ضفاف الأودية، تتميز بملمسها الزيتي.

* المسحاب: مجموعة بلدات وقرى متتابعة على مساحة معيّنة.

*الزط:  الغجر.

* الحواليس:  لعبة شعبية عبارة عن مجموعة حفر صغيرة (24 حفرة) ومجموعة أحجار تنقّل عبر الحفر، تعتمد على الذكاء الحسابي والصبر.

* حِلَق الأعياد أو ( الهبطات ) : أسواق شعبية شهيرة تقام قبل الأعياد، وتشهتر كل بلدة وقرية بمواعيد محددة لها .

* وقفان القتّ : حقول البرسيم.

* رَضَم الأرض:  أثارَ الأرض وهيأها للحرث والزراعة.

* السليت:  صخر متحول من الصخور الطينية، يستخدم قديما للكتابة.

* ( حِيَّانّا الصالحين ) : وتعني (أهلنا الصالحون) تطلق على الجنّ، ربما جاء هذا الاصطلاح لإبعاد الرعب من قلوب الأطفال ونفيِ صفة الشر المطلق عن هذه المخلوقات.

* كوس حدرا:  من النسائم الموسمية اللطيفة.

* ديكارت: ثنائية النفس والمادة، ورد في كتاب الفيلسوف الألماني (جادامر) ترجمة: سعيد توفيق، المجلس الأعلى، القاهرة..

* حول سركون الأكدي، في كتاب (صلوات انهيدوانا)، الكاهنة السومرية الكبرى، أول شاعرة في العالم، لبيتي ديشونك ميدز. ترجمة: كامل جابر، دار الجمل.

* سيوران (مثالب الولادة) ترجمة: آدم فتحي، لنفس الدار.

***

* شكر خاص:

– للزميل خلف العبري الذي قام بعبء طباعة مادة الكتاب الكترونيا، وللزميلة هدى حمد على قراءتها المخطوط، وأحمد الرمضاني على وضعه إيضاح لبعض الكلمات التي وردت في الكتاب بالدارجة العُمانية..

السيرة الذاتية

(سيف الرحبي)

سيف الرحبي شاعر وكاتب ولد في قرية سرور عُمان، صدر له: «نورسة الجنون، شعر (دمشق، 1981)، الجبل الأخضر، شعر (دمشق، 1981)، أجراس القطيعة، شعر (باريس، 1984) رأس المسافر، شعر (الدار البيضاء، 1986) ، مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور، شعر (عمّان، 1988)، رجل من الربع الخالي، شعر (بيروت، 1994)، ذاكرة الشتات، مقالات، (بيروت- الشارقة 1991) منازل الخطوة الاولى، سيرة المكان والطفولة (القاهرة- مسقط 1993)، جبال، شعر، (بيروت، 1996)، معجم الجحيم، مختارات شعرية (القاهرة، 1996)، يد في آخر العالم، شعر، (دمشق 1998)، حوار الأمكنة والوجوه، مقالات، (مسقط- القاهرة 1999)، الجندي الذي رأى الطائر في نومه، شعر (كولونيا- بيروت 2000)،  قوس قُزح الصحراء، تأملات في الجفاف واللاجدوى (المانيا – بيروت ٢٠٠٢)، مقبرة السلالة (ألمانيا- بيروت 2003)، الصيد في الظلام (ألمانيا- بيروت 2004)، أرق الصحراء (بيروت)، قطارات بولاق الدكرور (ألمانيا- بيروت)، من بحر العرب إلى بحر الصين: سألقي التحيّة على قراصنةٍ ينتظرون الإعصار  (بيروت)..، نشيد الأعمى(بيروت )، حياة على عجل (بيروت)، رسائل في الشوق والفراغ (بيروت)، حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة  ( دبي)، نسور لقمان الحكيم (بيروت)، تُرجمت مختارات من أعماله الأدبية إلى العديد من اللغات.

ويمكن مراجعة الموقع الالكتروني التالي:   (www.alrahbi.info)