الزوغان الدائم في أعماق المتاهة

اذا كانت رواية “الضحك والنسيان” للتشيكي ميلان كونديرا، تفتتح عالمها- بشخوصه وتناقضاته وسياقاته المختلفة- بتأملات سياسية ساخرة حول حدث مفصلي في تاريخ بوهيميا والعالم، وهو انبثاق الشيوعية في التاريخ.. واعتلائها سدة السلطة- كنظام ومؤسسة- من خلال وقوف القائد الشيوعي “كليمان غتوتوالد- عام 1948- على شرفة قصر من العصر الباروكي، يخطب امام مواطنيه المحتشدين في قلب ساحة براغ القديمة.
في ذلك اليوم كان الجو بالغ الإضطراب وكانت الثلوج التي لا تنقطع حين مد “كليمانتيس”- القائد الشيوعي الثاني في التركيبة الجديدة-يده نازعا قبعة رأسه.. يغطي بها غتوتوالد المكشوف الرأس.
لم تلبث هذه اللقطة الثلاثية “بين اليد والقبعة والرأس.. رأس الدولة ؟؟” ان تحولت- عبر اجهزة الاعلام- الى اشهر صورة تغطي “بوهيميا” – تشيكوسلوفاكيا الآن – بأكملها.
بعد أربع سنين أعدم “كليمانتيس” شنقا بتهمة الخيانة، وسارعت نفس تلك الاجهزة الى اخفائه من كتب التاريخ، بالقدر نفسه الذي سحقه من الحياة.. وظهر- بعد ذلك- الرئيس “غتوتوالد” وحيدا في شرفته الباروكية في القصر الذي صعد سلالمه – ذات زمن- الروائي الشهير “فرانز كافكا” ولم يبق من “كليمانتيس” اي أثر سوى تلك القبعة من الفراء.. التي أطلت- من غير يد صاحبها- تغطي رأس رفيقه الاول.
حقا إن صراع الانسان مع السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان، حيث تحاول السلطة تحويل البشر الى قطعان من غير ذاكرة حقيقية.. ومن غير تاريخ، عدا ما تدرجه اجهزة إعلامها وكتبتها في اذهان الناس.
ورواية (ميلان كونديرا) الاخرى “خفة الكائن التي لا تحتمل” تبدأ بتأملات من نوع آخر حول “الخفة والوزن” ويمهد (كونديرا) لذلك بنقاش فكرة “الرجوع الابدي” لنيتشه، تلك الفكرة التي بنى عليها الفيلسوف الالماني تصوراته الصعبة، حول تكرار ما عشناه تكرارا لا نهاية له.. لان الحياة التي تختفي مرة واحدة هي حياة خفيفة الوزن.. وهي ميتة سلفا، مهما كانت نوعيتها.
يقلب (كونديرا) هذه الفكرة.. ويهيم بها في شتى وجوهها كما يفعل في مجمل كتاباته فاتحا كل شيء على التوقع والاحتمال، كي يصل الى ما يريد الوصول اليه الى العمل الروائي كما يراه وينظر له.
هل يمكن الحكم على كل ما هو عابر
يتساءل:
ان سحب الغروب الملونة بلون البرتقال تنير كل شيء بسحر الحنين “حتى المقصلة”.
من هذا المنطلق، داهمه- ذات يوم شعور الحنين.. وهو يتصفح صورا لهتلر لدرجة انه تأثر ببعضها.. وهو الذي قضى بعض أفراد عائلته في معسكرات النازية.
لكن ما أهمية ذلك.. أمام هذه الصورة التي ذكرته بأيام صباه؟.
هذا التصالح مع (هتلر)- في نظر كونديرا- يفضح الانحراف الخلقي لعالم مبني- أساسا- على الزوال النهائي.. وعدم الرجوع.
لكن الاشياء العظيمة ذات ثقل خاص، وهذا ما دفع (نيتشه) الى القول بان فكرة “العود الابدي” هي اثقل عبأ.
ثنائية “الثقل والخفة”- إذن هي أكثر الأشياء غموضا والتباسا..


يدخل كونديرا هذه التأملات الاولى حول العابر واللامتناهي، حول الثقل والخفة في صلب النسيج الروائي لعالمه وشخصياته الشاسعة الاطراف والنوازع والانشغالات. وعلى هدي هذه التأملات رأى لاول مرة “توماس” وهو واقف على نافذة من نوافذ شقته وعيناه محدقتان في جانب الفناء الآخر من المبنى المقابل، ولم يكن يدري ما ينبغي عمله. كان يفكر في “تيريزا” التي تعرف عليها في قرية صغيرة من قرى بوهيميا، وها هي تدخل حياته، هل دخلتها بثقل أم بخفة؟ على كل حال كانت قادمة وفي يدها حقيبة ثقيلة حشرت فيها كل ملابسها وأشيائها، وكان توماس الذي لم يخلق للعيش بجانب امرأة واحدة. يفكر بأن هذه المجهولة التي اخترقت حياته تشبه طفلا وضع في سلة مطلية بالقطران وتركت تنساب مع مجرى الماء، وها هو يتلقفها قرب سريره، وهو الذي كان يبحث عن تسوية بين خشيته من النساء واشتهائه لهن.
كانت تيريزا واقعة تحت سطوة الصدفة التي حطت عليه كالعصافير على كتف قديس، كانت هناك صدفة الكتاب الذي كان بين يديه والتي كانت ترى فيه منذ صباها امارة على أخوة سرية، وكانت صدفة بتهوفن ورقم ? ومقعد الحديقة العامة.. الخ، كان اجتماع تلك الصدف دافعا لقلب حياتها من مشرب حقير في قرية نائية باتجاه توماس.
وكان هروبها من حشد الاجساد المتساوية في عالم الأم التي فقدت شبابها حين كانت جميلة ومرغوبة من قبل ?? خاطبا وحل مكانه صفاقة لامتناهية وألم.
كانت تيريزا تبحث عن الاختلاف امام المرآة حيث كانت روحها تطفو على سطح الجسد شبيهة ببحارة يندفعون من قلب السفينة ويلوحون بأذرعهم ويغنون، إنهم يغنون لتوماس الذي قدم الى قريتها عبر صدفة مهمته كطبيب في احد مستشفيات براغ.
يدفع الروائي التشيكي شخصياته عبر تأمل عميق في أنواتها المتشظية، على اكثر من محور، فتوماس الذي لا نعرف شيئا عن ماضيه عكس تيريزا، كان يشكك في حقيقة حبه لها، لكن حين قررت الرجوع من سويسرا، التي لجأوا إليها بعد الاكتساح السوفييتي الشهير لتشيكوسلوفاكيا (عيد البغض المسكر) والتي كانت تمارس اثناءه، مهنتها عشيقته الرسامة “سابينا” في جنيف ورغم الاحتلال الجاثم على بلاده، فيقرر الرجوع، وبيد أن هناك حياة مختلفة حيث يتم فصلهما من العمل فتعود هي ساقية في حانة ويتحول توماس من طبيب شهير إلى منظف للزجاج يلهث من بيت الى بيت بعد رفضهما الانخراط في أطر السلطة القائمة.


لم يكن تحليل كونديرا للاوضاع السياسية في بلاده والعالم وتأمله فيها، ميلا نحو وضع رواية سياسية وأيديولوجية، بقدر ما كان جزءا صميميا في سياق روايته التجريبية الخارجة على المقال والتصنيف الجاهز فهذا التأمل مثله مثل بقية الاشكاليات الاخرى يندرج ضمن الاستيطان الوجودي الشامل للشخصيات التي تتقدم دوما نحو خصوصياتها منسلخة ومفارقة على النعيم والنمطية، فكل شخصية لها أشكال وجودها الخاص، لها مفاتيح كينونتها التي يسبر كونديرا، أوجهها المختلفة عبر “الاستجواب التأملي” وليس عبر المنولوج الداخلي والتداعيات، تلك التقنيات التي اصبحت تقليدا سائدا في الرواية على مستوى العالم.
في هذا السياق هناك توماس الذي يتم سبره عبر خصوصيته المتمحورة حول الخفة والجاذبية، والاغواء.. الخ. وتيريزا، عبر الجسد، الروح، والدوار، وسابينا الرسامة وفرانز الاكاديمي، عبر كلمات هي مفاتيح جوهرية لوجودهما مثل: المرأة، الخيانة، الظلمة، الموسيقى، المقبرة.. الخ.
كانت سابينا ترى ان الكلمة الوحيدة التي ترن بلطف في اذنها كذكرى حنين الى مسقط رأسها هي كلمة: مقبرة.
اما توماس فلا يخطر على باله وهو ما يعذبه ويدفعه الى تعدد العلاقات ان يكون حب حياتنا الكبير شيئا خفيفا تافه الوزن، بل على طريقة بتهوفن “ينبغي ذلك” والقرار الموزون بصرامة.


يذهب كونديرا، مذاهب شتى في غرز مبضع التحليل والتأمل في أغوار شخوصه وكائناته ومن خلالها وعبرها يفضح الوضع البشري القائم وآليات قمعه ومصادرته لكرامة الانسان واعماقه وحريته، وهو إذ يذهب بعيدا في تعرية البنيان التوليتاري لانظمة الشرق الاوروبي “سابقا” بنفاذ بصيرة ممزوجة بالسخرية انطلاقا من تشيكوسلوفاكيا، فلا تحدوه أدنى قناعة في مثال سياسي وفكري قائم. فهذا الوريث الكافكوي على نحو خلاق- اي ليس هناك رحى الفتك الكافكوي فحسب وإنما أراض شعرية شاسعة- يعري بالمقابل سوء طوية المعارضة وضعف أطروحاتها، ويفضح أكاذيب الاعلام الغربي وأنانيته واستبداده.. ويرى كونديرا ان “الكيتش” وهي كلمة المانية تعني التوافق القاطع مع الكينونة، وبتعبير أوضح النصب والاحتيال، هي المثال الأعلى الجمالي لجميع الحركات السياسية والساسة. إنه يطال كل الانظمة التي تدعي الكمال والعصمة، فشخصياته دوما تهرب باتجاه اللاإكتمال والتحقق الذاتي المنفتح على أشكال الوجود الممكنة.
شخصيات كونديرا ورؤاه، لا يمكن اختزالها على نحو من الانحاء لتعدد مصادرها ومصباتها، ولزوغانها الدائم في أعماق المتاهة، شخصيات مشدودة إلى فخاخ مصائرها التي حبكتها لنفسها وتلك التي صنعها الآخرون نجدها في المطاف الاخير من التعب، تهرب قبل فوات الأوان نحو “العزلة” غاسلة أرواحها من وحل العالم وقذارته، فتوماس وتيريزا، يهربان نحو القرية الصغيرة النائية التي التقيا فيها لأول مرة مع كلبة في طور الاحتضار، وهناك ستكون النهاية الحكيمة، مثلما كانت البداية شبيهة بموت القدر.
وكذلك فعل “لودفيك” في رواية “المزاح” حيث ينعزل على أنغام موسيقى بوهيميا التقليدية، صارخا بفضائل العزلة وعالمها الذي أخذ يضيئه بجمال أخير، تاركا وراءه جيوش وموظفي الثقافة والدعاية والاعلان.. فكانما العزلة هي المعبر التطهري نحو الموت الذي يتربص بالجميع.


مرة أخرى، أيهما الموجب، الوزن ام الخفة؟ يبدو ان الامر مع ابطال كونديرا، ومن طرف خفي، ان الثقل هو الموجب عكس ما ذهب “بارميند” بل حسب ما ذهب بتهوفن ونيتشه، فقد كان توماس، مولعا بهذا الموسيقار وخاصة بالحركة الاخيرة من الرباعية حيث “ينبغي ذلك، والقرار الموزون بصرامة فليس صارما إلا ما هو ضروري وليس من قيمة إلا لما له وزن..
وفي مكان آخر من “خفة الكائن” يقول كونديرا معلقا على مصير أبطاله.
“نيتشه، هذا الذي أحبه كما أحب تيريزا(…) وأراهما كليهما جنبا الى جنب، إنهما يبتعدان معا عن الطريق الذي تتابع البشرية- سيدة الطبيعة ومالكتها- تقدمها”.
وإذا كان كل من “تامينا” في رواية، الضحك والنسيان، و”سابينا” في “خفة الكائن” من ترجمة عفيف دمشقية يلاقيان حتفا متماثلا تحت رعب الخفة وخطرها، فان “توماس” و”تيريزا” يلاقيان حتفا آخر تحت مؤشر الثقل، لكن ضمن القرار الذاتي الموزون بعناية، يبقى الالتباس يكتنف هذه الاشكالية وهو التباس الفن في شكله الارقى.
ميلان كونديرا، في سرده وتأمله لمسيرة الوضع البشري، في الوقت نفسه تأمل في مسيرة الرواية واختبار لاشكالها المفارقة.
بحث في طبقات الزمن واطواره المختلفة.


ميلان كونديرا في حفلة التفاهة

في هذه الرحلة التي لا تختلف عن مثيلاتها في الهواجس والأوهام، في البحث عن الجمالي المختلف، من ضمن ما اصطحبت من الكتب ، روايته الأخيرة (حفلة التفاهة) ولأني قرأت معظم نتاجه الروائي والتنظيري.. وقد صادف مثل كثيرين، هوى في نفسي وميولي القرائية، بحيث أعدت قراءة كتبه أكثر من مرة (حفلة التفاهة) هي الأصغر حجما بين رواياته، ولا أجزم القول انها اكثر كثافة، اذ أن جلّ أعماله كثيفة محتشدة، لا تعْربها الثرثرة والتفاصيل، اذا لم تخدم بما يشبه الدقة الهندسية التي لا تجافي الهلوسة والهذيان، سياق السرد والتأمل والفكرة، تكسير الحبكة والتسلسل يعوضه ذلك التأمل العميق في الوجود والعالم ضمن مناخ في صميم بنيته المتعة الجمالية للقراءة..
حتى في أكثر المشاهد خرابا ونزوعاً انتحارياً قل مثيله في تاريخ الأدب برؤيته القاتمة المدلهمة..
(حفلة التفاهة) التي استغرقت قراءتها رحلة الطائرة التي لا تتجاوز السبع ساعات، لا تقول جديدا ربما، والروائي لم يدَّع يوما ما ذلك، تعاطيه مع العملية الإبداعية أكثر تعقيداً وغموضاً وتواضعاً، الرواية هذه امتداد لأعماله ورؤيته التي تسطع في ثناياها فكرة العَدم واللاجدوى، والحضور الباهظ لهواجس الموت والفناء، التي تخفف من هيمنة ثقلها الحزين، تلك النبرة الساخرة الدعابة السوداء الشفيفة: مثل «ستالين» ومزحة صيد الحجل أمام رفاق القيادة والمكتب السياسي: وإخضاعهم لامتحانات معرفية فلسفية. سؤاله كالنين الأكثر تواضعاً معرفيا بينهم، الذي سُميت مدينة ألمانية باسمه (كالنينجراد) وهي المدينة التي عاش فيها الفيلسوف الشهير (كانت) الذي لا تجود الأزمان بمثله إلا نادراً.. يسأل ستالين، كالنين- ماذا تعرف عن (كانت) طبعا تلعثم وارتبك فهو حتى لم يسمع به، هنا تصدى الزعيم للاجابة… (أيها الرفاق) (كانت) كان يعتقد (بالشيء في ذاته) ويعتقد ان وراء تصوراتنا (شيء موضوعي) لا يمكن معرفته لكنه موجود.. (لا اعرفه لكني أحس به) حسب مقولة أخرى لكانت.. يخّطئ ستالين الفيلسوف الألماني، بأن لا شيء خارج تصوراتنا، في الوقت الذي يُخضع فيه (شوبنهاور) لحضور إرادته الواحدية القاهرة. كونديرا صاحب (المزحة) يعتبر ان من مفردات الاستبداد الأساسية مصادرة المرح في تفاصيل سلوك البشر وحياتهم مثل مصادرة المعرفة التي لا تتفق مع النموذج السلطوي الأحادي.. لكن ستالين المثقف الطاغية لا يخلو من مرح الرؤية العبثيّة للعالم حين يريد… حين كنا تلاميذ في القاهرة، كنا نتداول كتابه (الأدب والصراع الطبقي) كأيقونة، مع تقادم السنين تحطمت جميع الايقونات والقناعات السهلة الجاهزة..
(كونديرا) كعادته يقلب شروط الكائن والكينونة حافراً في التاريخ ورموزه الثقيلة، الى الراهن والمدن الحديثة..
اضمحلال نضارة الروح والعاطفة، زمن الأقنعة والتسطيح، فيما يشبه المرثية، لزمن فقد الأمل، انهيار القيم الانسانية والجمالية..
لكن خطاب الروائي العَدمي فاقد الأمل والرجاء، لا يوصي بشيء ولا يتعزى، حتى محاولة البعض (إضفاء المعنى على حياة لا معنى لها)، أو البطل الذي يمزقه الضياع واللاجدوى ينصب خيمته أخيراً على أرض الأدب والإبداع (سارتر).. لا يبدو أن الروائي ذا الأصل التشيكي له كبير عناية بها. في الضفة المقابلة حتى طُرُق الانتحار الحلمية التي تستحوذ بجمال أدبي، على مخيلة بعض شخوصه، تنتهي بالفشل، ليس في انتصار الأمل بالطبع، لكن ربما على طريقة (شوبنهاور) في انتصار وجه من أوجه الارادة، وتناسل نزوع الرغبة بمعناه المأساوي لدى الفيلسوف الألماني وكذلك لدى الروائي الذي لا يجد معنى للوجود والحياة، إلا أخذها على محمل الهزل والتفاهة (لكن كيف يتعامل بغير جديّة من هم تحت القصف ليل نهار، بالمدافع والقنابل وكل أنواع الأسلحة؟؟) ربما على طريقة بعض كهنة الفراعنة كون العالم خلقته ضحكة..
لكن هذا النوع من الضحك والهزل، لا يأتي إلا كومضة عابرة تجتاز أرخبيلات خرافية من الموتى والمعذبين، المحكومين بأشراك مصائرهم المغلقة..

سيف الرحبي*

*من مقالات متفرقة عن الروائي الراحل ميلان كونديرا كُتبت في أوقات ومناسبات مختلفة