«أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم على هذه الصورة الفاجعة؟»

من رواية «ما تبقّى لكم»

لا أعرف لماذا دوماً هذه العبارة الكثيفة كغابة الحزن العربي، تطفح على سطح الذاكرة وتعرش فيها؟ وهل يأخذ هذا السؤال مشروعيته، رغم بداهته، في هذه المرحلة بالذات ؟ هل كان غسان كنفاني، وهو يستنطق شخصياته الروائية النازفة تحت صيرورة الواقع، الجلاد، ويعرف –وهو التراجيدي الفلسطيني – أن عبارته أو غابة أسئلته ونبوءته سوف تستطيل وتتسع على هذا النحو الفاجع؟

زمن الأسئلة، زمن النفي الكامل لكل الأجوبة الجاهزة، التي تتناسل عبر الأجيال في صحراء العري الصارخ لهذا الوطن. وغسان، حين تختزنه ذاكرتنا المغتربة (كالجرح الذي يختزن الصاعق) إضافة إلى سرده المدهش للانسحاق الفلسطيني، الذي هو في الوقت إياه التخليص المكثّف للانسحاق العربي الشامل، خلق خلخلة لمجموع القناعات والقيم، التي تشكل نسيج المألوف والسائد، أي عمل تكسيراً وهدماً لحضارة الأجوبة وتفريعاتها. وهو حين يعمل ذلك لا يصوغ لنا أحلام المستقبل الوردية بمنطق التفاؤل الساذج، وإنما يقذف بنا من غير رحمة في جحيم الواقع الفلسطيني – العربي السائر نحو انهيار أعمق ونحو جحيم أكثر فظاعة. فعبارة «أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم.. إلخ» هي «الإصبع والجرح» وهي «فصل في الجحيم» لكن ليس كفصل رامبو الهارب نحو حدائق الحكمة من تكنولوجيا الغرب وليس كجحيم سارتر حين «الآخرون هم الجحيم» إنها اجتماع الأضداد، إنها الاقتلاع والمنافي والنساء الملفعات بالسواد. وفي الطرف الثاني من المشهد «الكنفاني» هي قرون الانقطاع الحضاري، التي ولدت هذا المزيج الاستلابي بعناصره القامعة لأي طموح. فظلامية الحكم العثماني، التي قادت قبائل الوضع المنهار، هي نفسها مع استبدالها بمكياج حضارة الغرب المهيمن والمقتدر.

وغسان، حين يغوص كالمدية في أعماق زمن تتفتت مراياه في عيوننا وأجسادنا، يخرج وهو مسكون بسواد المرحلة دون أن يتلوّث بها، وتظل عيناه تقدحان كالصقر المحاصر. فرواية «رجالٌ في الشمس»، الصاعقة لأولئك الأربعة، الذين يموتون في الخزان المغلق على صحراء اللهب والنفط في الحدود الكويتية، من دون أن يحاولوا قرع جدار الخزان، فضلاً عن فتحه، لهي الشاهد المضيء والنابض بأكثر من مؤشر على تفسخ المرحلة بمجموع عناصرها السالبة، الموروثة والمعاصرة، والتي تحمل في أحشائها بذور فنائها كما يقول (هيجل) ضمن سياق آخر… وكأنما بغسان، وهو يحطم الزمان والمكان حيث الساعة والصحراء من المفاصل التي تتمحور حولها الرواية، يصرخ في وجه المرحلة : لا بدّ من استئصال جرثومة الدنس والعار، لا بدّ من فصد الشرايين…

من عبور «المطهر» كي يستطيع الفلسطيني أن يقرع جدار الخزان ورتابة الزمن العربي المجسّد في ساعة الحائط في «ما تبقى لكم» وفي هذه الرواية يمضي قدماً في استخدام أدوات السرد، إذ يلعب (تيار الوعي) الدور الرئيسي في استبطان عوامل الشخصيات والكشف عن هويتها وزمنها… وبهذا استطاع غسان أن يكون الشاهد الفاعل والحقيقي على عري عصره وارتجاج موازين القيم فيه، حيث يتحول الجلاّد إلى ضحية، وحيث الاستلاب الداخلي والخارجي والأشياء تفقد طعمها تحت وطأة القمع المتمازج مع الثروة.

وحين يحدق في الجهات الأربع لا يرى إلا الأرض.

ها هو يتطهر من دنس العالم بعذوبة الأرض:

«أرض خصبة مزروعة بالوهم والمجهول، تتكسر كل أنصال الفولاذ في العالم إذا مرت فوق صدرك الأصفر العاري»

يتحدث غسان، أحياناً، مثل كاهن في أسطورة قديمة واضعاً قارئه على عتبة الانهيار والحلم، الانهيار تحت وطأة التتار الغازي والكاسح فكرياً وعسكرياً، والحلم، ذلك القادم من جهة الأرض.


* أُلقيت في مخيم اليرموك بدمشق عام 1980 في ندوة جمعت كاتب هذه السطور بأمين الزاوي وربيعة جلطي بدعوة من هيئة ثقافية تابعة للمخيّم الذي أصبح أثرا من آثار الخراب العميم. ربما التذكر في مثل هذه البرهة العصيبة فلسطينيًا وسوريًا وعربياً، له بعض معنى، خيط معنى رهيف. ونُشرت (الورقة) في كتاب (ذاكرة الشتات).