كتاب حوار الأمكنة والوجوه
نصوص ومقالات نقدية
سيف الرحبي
كتاب (نزوى)
المحتويات
* قوة الحنين وسطوة المكان
* الى تلك المرأة
* القاتل .. الضحية والحلم الوردي
* شــبح الغــائب
* آلة العدوان البشرية
* دش الصحراء.. أو عرب الحداثة
* ذاكرة الفيلة والاستعراض
* الصناعة اللفظية الثقيلة
* حول الخطاب الشعري الراهن
* العصاب الشعري
* ميلان كونديرا.. الزوغان الدائم في أعماق المتاهة
* البداهة ونقيضها وحوار الأمكنة
* جدل الأشكال الشعرية ونزار قباني
* على رعد نقاشات ومفكرين
* على رصيف العام الجديد
* شظــايـا عام جديد
* ملامح لبنانية
* اليوم الأول في القاهرة
* صحــار أو مدينة البحر والتاريخ
* حول المشهد الثقافي العُماني وحزمة الأوهام الجميلة
* إشــــــارات
* مقاربة الوضع الثقافي في عُمان
* من يوميات الصحافة
– قصر الأحلام
– أحاسيس مختلفة لانتحار واحد
– جبرا ابراهيم جبرا
– حول الجمعية الشعرية في المهجر
– حول الرموز الأدبية والربع الخالي
– في حب المرأة
– شباب العاطفة الأولى
– يوم أحــــد
– على مقربة من مدينة
– اللقــــاء الثاني
– الشـيخ عبدا? الخليـــلي
– نحو أدب طفل عُماني
– حول اللحظة الابداعية
– الاستفادة من ألف ليلة وليلة
– بهلوانيو اللغة
– الرقابات العربية
– صحراء الصحاري
* فتح نوافذ باتجاه الغائب
* هل هو زمن الرواية حقا
* الخطاب المتأخر ونقاش البديهيات
* رد على كتاب الشاروني “في الأدب العُماني”
* المحتويات
الإهداء
إلى أمي،،
قوة الحنين وسطوة المكان
يتبدى خطاب الثقافة العربية . في جموع حنينه الى الماضي وكأنه يبحث فى اشلائه وحطامه ومراياه الساحرة ، عن ستقبل غامض او مستقبل الماضي فى جنة مفتقدة ، ليس ذلك فى السجال الفكري والثقافي الكثيف ، خاصة فى الفترة الاخيرة حول ما أضحى شبه متداول عن الكيفيات التي ينبغى ان تتواصل فى ، بؤرتها الازمان ، لتنتج فاعليتها الحضارية وفق وجهات ، رغم تفارقاتها ،وتقاطعاتها، ينتهى بها التحليل الى هذا المطرح او هذا المصب ، وانما بالدرجة الاولى فى الخطاب الابداعى بتفريعاته المختلفة من شعر وسرد وسينما.. الخ وهو ما نستهدفه عبر هذه العجالة .
هذا الخطاب ، او هذا ا لمشهد لتجليات مختلفة يجهد دوما فى مغادرة مواقعه فى ثباتها لغة واشكالا، ليبحث عبرهما وفى اشتباكهما مع الحياة والتاريخ، الشخصي والعام ، عن جديد يتوسل طرقا تعبيرية مختلفة ومفارقة ، ليبحث (اى النص المعنى) في تضاريس حياته الحسية والداخلية ، التي هي حياة صاحبه ومحيطه وعصره وفى قوة المعيش وسطوته على كائن والمخيلة ليقول اضافته الخاصة للمنجز والمتحقق، يتراءى وكأنه يغرف صوره ورؤاه من اراض مليئة بالضباب والتهويم ، لكنها ليست تجريدية فى المطلق وانما هي ارض بشر، بما هي مجبولة عليه من كراهية وحب وقسوة وبما يشبه كوابيس النائم وهو ينزلق عل سفح هاوية .
تمض وجهة هذا الابداع الجديد فى دروب وعرة وملتبسة لكن سماتها الاغلب تستجدى او تباشر. ماضيا رحل وطفولة هربت ، وربما حبا لم تعد ملامحه واضحة اطلاقا عدا سطوع الغياب .
يشكل الماضي، بما يستدعيه من طرائق تعبير . تشبه السير الذاتية ، نسيج هذا النص ويستغرق صوره وتخييله للاشياء والاماكن والاشخاص ومنه يستمد الكلام طراءه الشعري وطاقته المختزنة كمن صنعته صدمة الغياب والعبور والحنين
يقف على ديار الاحبة التي انطفأت نيرانها ويشتم الرماد والدمن ويبكى، وكأنما يتفجر فى اعماقه صوت الشاعر القديم مخترقا كثبان الازمنة .
يقف ولا يستوقف لان الصلة بالآخر فقدت آصرتها الطبيعية . فهو وحيد في ليل محنته وذكراه ، بمعنى آخر يصل ما اعم انه قطعه لكن بأشكال أخرى وفى اماكن وازمنة مختلفة .
هل لحظة الكتابة هي ذلك الخزان الهائل لما سبقها فى اللغة والكتابة والحياة ولا فكاك من ميسمه، فهو يتواصل كتدفق مياه فى المجرى الطبيعي مهما شطت الاحقاب والاختلافات والثقافات ؟
يتبدى مشهد الابداع العربي على هذا النحو وبتحديد اكثر ينطبع بسمات وعناصر غالبة، واذا كان الحنين وعشق الماضي، بمعنى الذى مضى وتاه فى الذاكرة والزمان ، من مواقف ولحظات وتفاصيل ، وليس فقط ، تلك المراحل الحضارية من القوة والازدهار فى تاريخ الامم، وان كان يتقاطع معها ويلبسها، اذ يتداخل الفردى والجماعى بشكل لاشعوري – اذا كان يسم مراحل الابداع الاصيل فى ثقافات وازمان مختلفة وليس حصرا على مرحلة بعينها او ثقافة وحدها وهو ما يستدعى اكثر البراهين وضوحا قديما وحديثا، فليس بمثل هذه الغلبة التى تطبع مشهد الابداع العربي الذى يجترح شعراؤه وروائيوه منطلقات سير شبه ذاتية، اصبحت هى الشكل التعبيري الغالب والاقوى فنيا، وان كان هناك بعض الضعف وهو امر طبيعى عند البعض، قادم من غياب تجربة وقدرة تعبير بالاساس ، وان اتخذ احيانا شكل مطولات ذات نفس ملحمى، تظل مركزية الذات وسيرتها ، ولسنا فى هذا السياق بحاجة الى استدعاء اسماء وبراهين من فرط بداهتها وحضورها .
اذا طرحنا السؤال على نحو أخر اى ان الامم والشعوب حين يكون حاضرها متخلفا ومفرغا من قوى الاندفاع والحياة فلا بد ان ترى، نفسها او يرى مثقفوها انفسهم فى مرايا الماضى بسحره الخاص ؟ فمثل هذا الجواب غير مقبول تماما فى ضوء شواهد اقوام اخري لها من الحضارة والقوة ما يكفيها للجم سطوة الماضى، والمثال الاوروبي اقرب واوضح فى هذا السياق ، ولدى مثقفيه وكتابه وفلاسفته الذين يحن بعضهم للاستفادة من شمس الاندلس الذهبية “نيتشه ” والى حكمة الشرق وعواطفه وطاقته الروحية “رامبو” “جوته ” واغلبهم الى فردوس الاغريق المفقود، الذى لن تتمكن البشرية من استعادته . .. حنين فكري وفلسفي لكنه فى النهاية طرف من اطراف محرق النوستالجيا الكبير.
اذن ما سر هذه الاعاصير الروحية الخلاقة للحنين ؟
يستعبد الحنين صاحته ، لكنه استعباد عذب ، يبلل جوانحه من يباس محقق ويقيه سحق المنافى والمدن ، لنتخيل سيناريو العربى المعاصر وهو يجلس حول مدفأة بمدينة حديثة مثلما كأن سلفه حول مواقد الخيام فى الارباع الخالية التى تسعفوها الرمال من الجهات الاربع .
اى حوار بين السابق واللاحق ، بين الجد الاكبر وبطشه وسطوته الصحراوية وبين هؤلاء الاحفاد اللائذين بمدفأتهم السيزيفية، يتحلقون حولها رجالا ونساء؟ يبدأ الحديث اولا حول النميمة وافقها المبهج ، ولاتفتأ الابخرة تتصاعد والعيون تحدقا بين مسافة السقف والنافدة المضرجة بالثلج ، لتلتقى وتفترق فى حركة عصبية .
ليبدأ الحنين نشيده الازلي ويأخذ الماضى هيمنته المطلقة . . كلمات وأغان وضحك متكسر واصوات كثيرة،غابة تفضى الى بعضها مثل قصص الف ليلة وليلة، وفى الصباح يصحون وكأنهم قد تطهروا من رحلة امتدت قرونا فى الأعماق.
الحنين الى الماضى ليس خاصية عربية او شرقية لكنه فى هذه البلاد له اوجه كثافة اكثر جراحا واحتداما، وما قاله بعض دارسى بدر شاكر السياب فى استقصاء النيرة المأساوية والنواحية، بأنها ليست قادمة من الزمن الكربلائى كموروث وانما يمتد بها التاريخ كخاصية فى حضارة بلاد الرافدين ، ريما ينطبق على اشاراتنا فى سكنى الماضى وحنينه .
فأحفاد الصحراء المترامية التيه والغياب ، ربما ورثوا هذه الخاصية اكثر من غيرهم من شعوب الارض ، والظاهرة الطللية فى الشعر العربي بمأساويتها وتشظيها تعطى هذه الخاصية قوة ومدى وكذلك الصوفية وشطحها الى الحلول فى المطلق واللامتناهى جسدت نصوصا مكتنزة بأسرار الحنين .
فى تلك الصحراء، كان العربي يتأرجح فى شعاع سرابها وقسوة طبيعتها تأرجحه بين الحياة والموت ، فى ترحاله الدائم عبر الاخطار الماحقة، متأملا فناء الاشياء والكائنات فى مرايا اطلاله ورسومه الخوالي ، كأنما الاحبة لم يوجدوا على ارض واقعية قط وانما عبر هذا الغياب القاهر بدوارسه وعلامات جماله الغارب.
عبر هذه الخلفية التاريخية تتقاطر صور الحاضر العربى وما جرته من نكوص حضاري ادى الى كوارث من حروب ومناف واقتلاعات مستمرة زادت هذا الجموح الحنينى احتشادا واراقة ورهافة.
فى هذا المنحى يتجلى الخطاب العربي الحديث فى لاوعيه وكأنه يقتفى اثر اسلافه الغابرين فيما هو يفارقه ويتقاطع معه تعبيرا ورؤية وقلما نجد اعمالا تشير الى النقيض وان طمحت الى ذلك فسنجد احجار الحنين والماضى الدى غرب الى غير رجعة او هو محلوم به فى مرأة مستقبل غامض خبيئة فى جسد العمل الفنى.
هى مسألة فى كل الاحوال يتفاوت ايقاعها من عمل الى أخر، فإن كانت صاخبة وعارية هنا فهى هادئة وخبيئة ومحايدة ظاهريا هناك ، وفق الايقاع النفسى والكتابى.
اذا كان الحنين والماضى على هذا النحو من السطوة والحضور، فمسرح احداثهما ومآسيهما هو المكان ، المكان الذى يشهد انخلاعه وتصدعه باستمرار، مكان لايستقر على حال ، مكان واقعى لكنه لايلبث أن يتحول الى ذاكرة وحنين . يسرد النص أو يومىء ويشير، ذكريات غيابه وأحبتة بمرارة وعذوبة، فى اماكن متفرقة مثلما تشى به معظم النصوص العربية الحديثة، إلا اذا استثنينا بعض الكتاب الكبار وهو استثناء نسبى مثل نجيب محفوظ ومركزيته القاهرية الضخمة وان تعداها فإلى الاسكندرية وحتى هذه المسألة ليست بإطلاق اذ يمكن للمكان الواحد ان يشى بأمكنة وانكسارات ومدائن .
ينبنى النص من شظايا امكنة كانت ذات يوم عامرة بالضوء والحياة وعامرة بظلمة كثيفة وناعمة يمكن لمسها باليد، ويستحضر المرأة والاصدقاء والاعداء بشرفات ومقاه وغرف فى بلدان مختلفة وربما قارات .
حتى حين ينزع الشاعر او الكاتب الى ايجاد ضالته فى مكان ما، يلوذ به من مكر الشتات ورعبه لايلبث ان يفيض به الحال لامكنة اخرى، ويطرح به دوارها وهواجسها، تؤرقه فى يقظته ونومه كأنها قدر حياته الذى لامهرب منه إلا بالاستسلام اليه والحلول فيه .
يبنى الحنين مضاربه على ارض صلبة فى مرآة مكان تتهشم باستمرار، هذه المفارقة اعطت الحنين سلطته الخاصة على المكان الواقعى والمتخيل ، والذى يعاد تشكيله كل لحظة فى ضوء الحاحات الحنين والخيال.
لكن هذه المفارقة تصبح مقلوبة ايضا فمنبع الحنين هو المكان بماضيه وذكرياته ، هو الذى يمد تلك الطاقة الغامضة بدم الفتنة والاستمرار.
والاثنان يمارسان سطوتهما على النص والحياة .
الاثنان توأما غربة سحيقه فى النفس البشرية.
الى تلك المرأة
عزيزتي: صباح الخير
رغم أن الوقت قبل بزوغه ، ولا شي ء يشير حتى الى ملامح فجر كاذب. لا ذئب يعوي. ولا خفقة جناح في الأفق. كل شيء منصهر في جسد الظلمة الباذخ. الظلمة التي كأنما هي تجمع أجيال من الظلمات في عيد ميلاد محتشد على الأرض. أكتب اليك وأنا مستلق على السرير. البارحة سهرت في الصحراء. كان القمر مكتملا وناقصا من فرط اكتماله في تلك الأمداء المترامية في محيط السراب ، حيث يتدفق الزمن والفراغ. ويقف الكائن عاريا وهشا مثل وقفته تماما، أمام مرآة الجبال الضخمة.
الصحراء التي تناسل فيها الأسلاف ، جدا بعد جد، وكانت مصدر الأديان والقيم الخالدة للبشرية ، لم تعد كذلك بالتأكيد. لكن ظل غموضها وعمقها بنسجها رغبة الهرب من زيف المدينة وقرفها. هل قلت “غموضها” الكلمة هنا غير دقيقة ، إلا إذا كان الغموض فيض وضوح مكتمل وكاسر من غير نظرة مانويه ، مثل رؤية المتصوف أوالشاعر حيث يجسد الوصول الى الوضوح أقصى درجات العمق بعد الرحلة الشاقة. وضوح مدوخ ، سرابي
ومدهش.
لو تنظرين الى ذلك السراب الذي يتلألأ تحت سماء خفيضة نكاد نقطفها باليد، ويذكرنا بعبور الكائن ، ومكر وجوده وسط طيش هذه الأجرام والمصائر والحيوات.
المهم يا عزيزتي كيلا أستطرد في هذه الطبيعة الفظة والرائعة ، رغم نزوعي المتجذر الى ذلك ، أحب أن أقول بأني رغم هذا السحر للصحراء والجبال والبحر، لم أعد أستطيع العيش طويلا، بعيدا عن المدينة بكل ما فيها من اتضاع ومصائب وإشاعات كما كنت تصفينها،، إنني كائن مدينة. هكذا نشأت وكبرت. الانسان مقذوف بقدره أمام حياة لم يكن له من خيار في المجيء اليها، لكنه مطالب بتعميق شروط وجوده وكذلك موته ، ولن يبقى من تلك العناصر الأولى لأحلام الحياة البرية إلا ذاكرتها وشعريتها في المخيلة.
كنت بالفعل واقعا بشكل لا فكاك منه تحت سطوة المكان والقمر الذي تزينه هالة مضطربة وأخاذة وعلى مسافة منه الثريا، وبنات نعش ، ونجوم أخرى لم أعد أتذكر أسماءها.. وكنت واقعا تحت سطوتك طوال السهرة ، كجزء من هذا الكون السديمي الذي تزنره الأبدية من كل الجهات.
أتذكرك كآخر تميمة ألوذ بها من الاضمحلال والتلاشي، أمام زحف الرمال المخيف ، والذي سيكون مقدمة قيامة محتملة.
لماذا أتذكرك أنت بالذات ا: ثمة علاقات أخرى لها سحرها، لكنها لم تغز هواجسي في تلك الليلة ولم تفترسها كما فعلت عيونك المتسللة غزلانها من بين الكثبان وأشجار السدر وحيوانات الصحراء النائحة طوال ذلك الليل الكثيف.
إن ذلك يظل مبهما بالنسبة لمشاعري اللامستقرة دوما مثل ترحلي وحياتي التي عشتها بكثافة سادي – مازوشيه.
نحن – البداة الغامضين – لهذا العصر الموغل ن تنظيمه وعقلانيته. نغير المدن والأفكار كما نغير أحذيتنا. بل بالعكس ، تظل الأحذية أطول عمرا وأرأفه.
الأحذية التي كنا نشتريها من “البالة ” ويتحدث عنها شموئيل شمعون كما يتحدث عن أسلافه الآ شوريين ونضالاته العربية. وقد سبقه الى ذلك “هايدجر” بقوله (ليس سهلا الحذاء) أتذكر قصة الحذاء الذي فقدناه – غالبا مع شموئيل – في باريس وظهر في ألمانيا نظيفا معافى كأنه في رحلة نقاهة واستجمام. يبدو أن الأحذية أيضا لها أسفارها الحرة المستقلة عن حاملها، وربما من فرط ضجرها بالحامل وتقلباته تجترع المعجزات.
ومناك “والت ويتمان ” إذ يقول( إذا بحثت عني فستجدني أسفل حذائك ).
ربما كان يهدف الى تواضعه بين الأقوام والطبقات ، لكن مع ذلك يظل للحذاء حضوره البهيج في هذه الجملة الويتمانية.
ذاكرة الحذاء هي ذاكرة الشاعر والمدينة وذاكرة الذات المشطورة بين جهات التمزيق.
***
عزيزتي : أفكر أحيانا في شأن الرحيل واحتدام نوازعه ، كما فكر الاسلاف في “ظعنهم “، لكن بصورة مختلفة ، طبعا ، في الزمان والمكان. وأفكر أن أولئك الأسلاف الهادئين في موتهم وامجادهم الغابرة خلعوا
علينا عبر القرون ، لاشعورهم الجمعي، الذي ظل تميمة الجاذبية لهذا الترحال الغامض… هذا النوع من الكلام لم يعجب صديقا يريد أن يعطيه أبعادا أيديولوجية وفكرية. ولم أكن ضد ذلك بالطبع بقدر ما كنت مع محاولة استقصاء لمتاه الكائن عبر طرق شتي مختلفة.
بالأمس تلقيت بطاقة من الكاتبة غادة السمان التي أحببتها منذ عمر مبكر، تقول في عبارة منها (حين أرحل أندم وحين لا أرحل أندم أيضا) الحيرة وارتطام النقائض ، الرغبات المطمورة والمفصح عنها تجاه الترحال ونوازعه العجيبة.
في هذا السياق يبدو من السذاجة بالنسبة للشاعر والفنان طرح أسئلة من نوع الاستقرار النهائي أو التكيف.. الخ ، لأنه ، أي الشاعر في ترحل مستمر في اللغات والمخيلات والأمكنة. وهو أحيانا في ترحل دائم حتى وهو لم يبرح مكانه. يجوس الأزمنة والأجيال والقارات. وهو في ترحاله هذا، الرمزي والمعيش يختزل رحلة حياته ويوازيها منذ الطفولة حتى الشيخوخة، إن أدركها ، والموت ، وهو في كل ذلك مخترق بالحنين الى الأشياء ونقيضها، المدن والوجوه والى محوها، الى السكني في قلب الحضور والغياب معا: الى أي مدى عمق هذه المكابدة العذبة القي لا يستقيم أود أي ابداع حقيقي إلا عبر صراطها الفاصل بين الجنة والجحيم ؟
عزيزتي : منذ الطفولة يلعب الانسان لعبة “الغميضة ” وهي ربما تمرين لا واع ومبكر على رغبة الاختفاء والغياب والفراق. نكبر وتكبر معنا هذا ،”اللعبة ” لتغمر حياتنا وتحتلها كاملة. وما من شفيع يمكنه أن يحرف أو يخفف الوقع المأساوي لهذا اللعبة ، التي انسلخت من براءتها الأولى وأصبحت لعبة جدية. فاللاعب المختفي في هذا الحالة لن يعود، واذا عاد فلن يكون هو. لقد تصدعت الأرض التي يقف عليها، وتصدعت أعضاؤه وأصبح لاعبا آخر، لاعب قسوة ، وعذاب ، وليس عذوبة.
شروط الوجود القامعة في الكون المعاصر لا تسمح بالكائن اللاعب بالمعنى الجمالي. وما نحاوله في هذا الاتجاه ليس إلا فتح نوافذ صغيرة لفك الحصار.
***
حين عدنا ، يا عزيزتي ، من لعبة “الغميضة ” بما أن العالم لاعب وملعوب حسب “أكسيلوس ” التي استمرت دهورا طويلة ، لم نكن نحن.
هل تغيرنا أم عادت أشباحنا تجوس أماكن الطفولة ومستنقعاتها الزرقاء؟ لقد تغيرت اللهجات والسحنات وتغير الخطاب ، وتغيرت أشياء كثيرة جوهرية، على طريقة الشاعر القديم (عرفت شيئا وغابت عنك أشياء ) وأصبحت المسافة بيننا وبين من نحب ، تقاس ببرازخ الصمت والذهول والغياب المضمر، دائما أثناء الجلسات الخاطفة الحزينة.
لا شك أننا نحبهم ونحبهم كثيرا، لكنه حب مجهض داست عليه قطارات كثيرة في ليل دامس.
وداس عليه جلادون وقتلة ، وفتك به الزمن والمسافة. يتصور المهاجر أنه حين يعود الى صحرائه الأولى ، يهدأ نحيب روحه وقلقه ، أو كما عبر أحد الأصدقاء : حين تعود الى البيت ويفتح لك أخوك أو أختك أو… الخ ذلك حلم لا يعوضه شيء آخر. وهو كذلك فعلا حين يظل في عرين الأحلام والأوهام السعيدة للحالمين ، لكنه يكف على صعيد الواقع.فالصديق نسي الزمن والمسافة ونسي صدوع الغياب.
يلملم اللاعب أشلاءه كي يخلق نوعا من تماسك يمكنه عل الأقل من سلام نسبي مع نفسه ومحيطه ، اذا صح التعبير، لأن عزلته في هذه الحال ليست عزلة المبدع فحسب ، وإنما ستتخذ طابعا قسريا وانطوائيا ذا وجوه منشطرة في مرآة تعددها.
هو الغريب العابر.، لم يعد جزءا من اللعبة ، لقد تغيرت طبيعة اللعب حيث لم يستطع بحكم طبيعة خياره ، أن يبني ويؤثث ، عدا الغياب والمحو والإختلاف. تغيرت طبيعة اللعب… لقد بنى الآخرون مدنهم وأحلامهم وحساباتهم المختلفة ، وهو موغل في نأيه وترحاله.. صار غريبا حقا.
ماذا يعنى هذا الصمت الذي ران بيننا؟
ثمة رغبة سحيقة في الكلام
رغبة في القبلة
هذا الصراط الذي يفصلنا
هذه الهياكل المحطمة
هذه السفن التي تبحر بقراصنتها بيننا
ثمة رغبة سحيقة في الكلام
رغبة في القبلة
*****
عزيزتي: لقد ذهبت بعيدا وان مازلت في منطقة همومنا وهواجسنا المشتركة. هذه النقطة الملتهبة التي أدت الى اللقاء والحوار ونحن في قلب المضيق نكاد نختنق من عفن الأجساد المنفسخة.
كنت أريد أن أكتب لك رسالة خاصة ، أصفك فيها، أتغزل بجسدك ذي الخصر المائل نحو الغابة ،كأن أقول مثلا:
صوتك جدول جريح
هديل يمام بري في الظهيرة
شعرك ينابيع جبلية في عيني مسافر
رضابك عسل الجنة
خطواتك رشيقة وأنت تدوسين على قلبي.
أيامك بيضاء من فرط ما اغتسلت بدموعك.
حدائق غناء في حوضك الولود من غير ولادة.
ينبت العشب من إشراق لمستك الصاعقة.
صباح الخير…
لقد أطل الفجر أخيرا كأنما هو أول فجر يطل على البشرية. ربما لأني كتبت بعضا مما يؤرقني.وما يؤرقني كون بكامل ضحاياه ، كنت أريد أن أحدثك عن رحلتي الصيفية الأخيرة بين الشام وبيروت والقاهرة ، مرحلة الطفولة الثانية ، لكن الوقت قد تأخر.. تأخر الوقت كثيرا وأنا أغالب النعاس والضجر وفيالق الصباح.
القاتل.. الضحية والحلم الوردي
لم يحدث في تاريخ الكائن في عصوره المختلفة، أن يختلط وجه الضحايا بجلادها ويضيع ويلتبس على هذا النحو الذي نرى ونسمع على امتداد هذا الكوكب المأهول ببشره وحروبه، والمأهول بحقول الاختراعات والغرائز التي تنزع غالبا نحو الفتك وتأصيل أسطورة الشر والعنف في مختلف أوجه حياة البشر… حتى ليخال الرائي، أو حتى المستمع لنشرات الأنباء، أن العالم برمته ولد من دوافع انتقامية ذات منشأ ميثلوجي، وليس، فقط من دوافع شروط الصراع وأرزائه وعناصره، أو من حلبة صراع رومانية لم يتطور عبر خط تاريخها الطويل إلا نزعات الطغيان والهيمنة ورغبة إقصاء الآخر وسحقه تحت شتى الأقنعة والتبريرات، التي برعت في ترويجها وتعميمها ثكنات الاعلام وكواسر الفضاء التي وسمت الأفراد والمتون والهوامش بطابعها الخاص.
لم يحدث أن يضيع وجه الضحية ني تضاريس وجه جلادها ويتلاشى، بسبب هذا النوق من التطور التكنولوجي في مجال الأسلحة والاعلام وتسخير جل المعارف التي أبدعها العقل والمخيلة البشريان عبر آلاف السنين لخدمة هذا السياق الأحادي من التطور الذي تصب في بؤرته كل التعدديات والجغرافيات والمصادر المادية والعقلية الممكنة والمستحيلة لتبقى أرومة الحلبات الرومانية بأباطرتها وعبيدها وتوثب غرائزها المتوحشة هي المتربعة في سدة هذه الحضارة على المستوى الكوني.
جيوش من العلماء والمختصين والخبراء في كافة الحقول والمجالات يقذفون عصارة فكرهم الخلأق في تطوير هذه الحضارة وهذا النوع من التقدم، بعد أن أنجز بشراسة فصل العلوم والاختراعات عن سياج أخلاقها وسلوكها بما يعني ذلك من كوأبح انسانية وأخلاقية، ليتوحد الانسان والآلة في كائن مشترك، ليس سوى وسيلة لخدمة أهداف وغايات لن تعود شروط السيطرة عليها ممكنة.
لم يعد شرط العقل النقدي في الغرب بصورة،خاصة وهو المعني، بداهة بمدارات الحضارة والتقدم في أطوارها الكبيرة في هذا العصر، يمارس فاعليته الحقيقية في تصويب المسار وما آلت اليه نتائجه الكارثية. رغم فرص المتعبير والمنابر الواسعة التي تتيحها مكتسبات، الحضارة الغربية، هل هذا العقل في الهامش يمارس دوره على صعيد النخب من غير قدرة النفاذ والتأثير في وعي المجتمعات والتاريخ.
في منحى الانسان ذي النمط الواحد ي المزاج والتفكير والاختيار الذي يرصف كما ترصف “الطماطم ” ذات الحجم الواحد في صناديقها. أو مثل الطيور التي تختزن داخل الأقفاص، كيلا تغرد خارج السرب، وهو تشبيه أكثر أملا وأقل قسوة..
هذا الانسان الواحدي الذي حسمته آلة الحضارة الغربية بتفوق باهر، رغم مظاهر الحريات السطحية، وتمت عملية الدمج للفروقات والاختلافات، وكذلك الأجناس والسلالات والثقافات في مستوى آخر لـ “كتلة ” التاريخ الجديدة.
في هذا المنحى ليس للضحية من مناخ لسرد حكايتها مع التاريخ ولأجيال يفترض قدومها، بعد أن رحل الشهود الحقيقيون وبقي شهود الزور الذين تفبركهم تلك الآلة وأولئك الخبراء البارعون في فقء عين الضحية ومحو ملامحها ووجودها. وان بقي من شهود فهم من الندرة، قد ولجوا تخوم عزلتهم اختيارا واكراها..
لم يعد هناك فرق واضح بين الضحية وجلادها، بين المحيط والمركز، بين الأمي والمتعلم بهذا المعنى، لقد تماهت الضحية والجلاد بسبب تزييف الوقائع ووأدها. وليس فقط، عبر التشوهات الخلقية والروحية التي تأتي كنتائج للسلوك الفاشي وتدميره للضحية مثلما في فيلم “بواب الليل ” للايطالية “ليانا كافياني”.
وأد الحقائق وطمس معالم الفروق الجوهرية عنصر رئيسي من عناصر القوة الممتزجة بشكل كلي بانجازات المعرفة، العنوان الكبير للسيطرة في عصرنا.
القاتل في هذا السياق لا يرفض مقاومة الضحية فحسب ولا حتى توسلاتها، ولا يريد استسلامها الكامل بالمعنى التقليدي. إنه يعطيها قدرا من وهم الحركة والحرية وقدرة المناورة، وهو يتفرج عليها من على، مبتسما بدهاء المنتصر سلفا طالما أن مجمل عناصر وجودها في قبضة مخالبه القاطعة.
هذا التطور في علاقة القاتل بضحيته، هو تطور في صلب المعرفة المعا هوة وأدواتها، تطور لم يبق على نعمة تلك الثنائية إن كان هناك من نعمة، التي تندرج في النظرة إياها، من محيط ومركز. لقد أخذ المركز كل محاسن هذه الثنائية ويتم التمويه واللبس.
لقد اتسعت الفجوات بصورة مريعة كما اتسع الخرق على الواقع، واتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء وبين المتحضرين ونقيضهم، لكن ذلك يظل مضمرا كجزء من لعبة السيطرة الجديدة في محاولة لطمسه، فآلة الاعلام الضخمة قادرة على كل شي د وهي المولدة الوحيدة للمعجزات والخوارق في عصرنا.
هذه الآلة نفسها التي لم تترك للبدائي الأمي في أقصى غابة بافريقيا، أو منعطف صحراوي في الجزيرة العربية، نعمة الأمية كي يبقي على قسط من طفولته وفطرته وصفاء خياله فألحقته بها حتى الامحاء والاضمحلال.
لا يفهم (طبعا) أنني أدافع عن أمية ما! ربما – من وجه مختلف لكنه يفضي الى المفارقة المأساوية نفسها – على طريقة (نيرون) حين جاءوا اليه لتوقيع أول حكم بالقتل، أطلق عبارته المعروفة “ليتني لم أتعلم القراءة والكتابة ” كان نيرون فيما يبدو من سرد حكايته مع القتل ذا ضمير نقي قبل ولوغه في لعبة الدم الأزلية، التي برع فيها الأحفاد لاحقا بشكل يجعل منه ذكرى لطيفة في غابر الأزمان.
الأمي هنا لم يدخل في مجال معرفة أولية ممكنة، تعلم القراءة والكتابة، مثلا، بل انغمر في الشاشات وأطباق الفضاء ليقتلع من حياته ونمط تفكيره وموروثه. هذه المعطيات التي كان لها أن تمضي باتجاه تحديث على قدر ولو بسيط من الاتساق يرمي بها في قعر هاوية لا سقف لها ولا قرار.
إن انفصام هذا الكائن هو أعلى درجات الاختلال التي عرفها تاريخ الوعي البشري وأعلى درجات الاختلال في ضمور وقصور الجهاز الادراكي حتى الامحاء الكامل، عن الشروط والملابسات التي أنتجتها تلك الحياة المستجدة بشخوصها وهرامها ومخترعاتها الاستعمالية وغير الاستعمالية اللأمحدودة.انه الضحية المثالية لقاتل لا يتراءى له الا كحلم وردي.
نظرة سريعة على حياة البشر القائمة، عربيا وفي أماكن أخرى، تعطينا البراهين الكافية الى ما آلت اليه هذه الحياة من تفسخ واختلال ونمو رهيب لقيم الانحطاط المنبثة في تضاعيف هذه الحياة وتفاصيلها. الغناء وهو ضحية أخرى للتقليد الأعمى لموسيقى الغرب في عصر انحطاطها، وليست المسلسلات والسينما بأحسن حالا، حتى أنماط السلوك المختلفة وطبيعة اللغة والثقافة المتداولتين. وخيلاء المال وسطوة استعراضه، والذي لا يندرج بداهة، في أي مشروع حضاري وثقافي، وان كان هناك نوع من تفكير مشترك من هذا القبيل فهو مجهض سلفا، نتيجة للجشع والأنانية المفرطة وضيق الأفق الذي هو جزء من التركيبة العضوية للواقع الذي نعيش، حتى يتراءى لمستمع الضجيج حول “الهوية ” ونقائها بأن الحديث كان عن العهود الأموية والعباسية، لكأنما الذات العربية تستبدل حياة الواقع والزمن والتاريخ بحزمة أوهام بديلة كسياق طبيعي للعجز عن الاقامة في الزمن والتاريخ.
نستدرك في هذا الصدد، أن ماسي الحياة العربية ليست كلها من صنع “الآخر” الغرب الأوروبي الآن بما فيه أمريكا طبعا، وقبلا العهد السوفييتي وتلك العثمانية المظلمة، كما ذهبت أفكار أحزاب وأيديولوجيات اسقاطية، يسارية ويمينية بتعليق كل عناصر التخلف والانهيار الداخلي، فوق قرون هذا الحيوان الأسطوري الذي هو “الخارج “.
ولا تتورع بعض الآراء السيالة بالحماس عن سرد قصص البطولات والانتصارات التي لا تخص إلا العرب بعينهم في مقابلة مع الأعداء الذين لا يرنون وزنا من تاريخ وثقافة وملاحم أمجاد.
ولا ننسى في هذه العجالة، وكيف لنا ذلك ودماء الأبرياء تغطي الساحات والشوارع والمعابد تحت سطوة هواجس الانتقام نفسها التي تتحكم في آلة القتل الكوني وان اختلفت الدوافع المعلنة، حيث حراس قلعة الأصول والتطرف،دعاة الاستئصال لكل ما لا يتفق مع تصوراتهم الكهفية المقذوفة بعصاب العنف خارج امكان الحياة وشروط المعيش في عصر بعينه، مهما كان نوعه ووجهته.
هذه الجماعات التي يقودها شبح القتل والتنكيل لكل رأي مخالف سواء كان من أبناء الجلدة في الدين والتاريخ والقرابة والرحم أو “الآخر”. في الحالة الأولى نرى كيف تفترس الضحية نفسها بعماء لم تعرفه عصور الغلاة والتشدد والظلام – الجزائر نموذجا – إنه المظهر الأكثر سطوعا ودموية لشلل الذات عن الاقامة في الزمن والتاريخ. الذات في تشظيها وانهزامها أمام نفسها وأمام الآخر.
الذات الضحية والجلأد في الوقت نفسه.
أمام زحف البربرية الحديثة، يمضي موكب حضارة العصر، في فجر الأيام الأخيرة لهذا القرن. مخلفا وراءه كل القيم والأفكار التي كان من المفترض أن يمني على نحو من هديها وصراطها قيم: الحق والجمال والحرية والعدالة. قيم النهضة والتنوير، “ديكارت “،”كانت ” (شيئان يضيئان أعماقي بالدهشة: النجوم في السماء والأخلاق على الأرض) “هيجل ” و” نيتشه ” والشعراء والفنانين وقبلهم فلاسفة وعلماء العرب والمسلمين والشرق.. الخ.
لم يبق منهم إلا ذكريات حزينة للدارسين والمختصين والحالمين وسط جلبة هذا المشهد الذي يمني الى حتفه بسرعة سقوط النيازك في صحراء مقفرة وعاتية.
لم يعد من دور يذكر لتلك القيم والأفكار التي استدعت كل تلك التضحيات العظمي في تاريخ البشر، ليرتفعوا بذواتهم وحياتهم من مهاوي البهيمية والغرائز.
صارت البشاعة والقبح والخواء هي الأركان التي تؤثث الأمكنة والحياة..
شبح الغائب
الى علي بن عاشور(1)
يستطيع كاتب ما، أن ينهي عقد حياته بمراثي زمنه وربما أزمنة أخرى سابقة ولاحقة، لكن بؤرة وجدانه الممزق الذي أدى به الى هذه الخاتمة، تتركز على زمنه المعاش بشروطه وأبعاده المختلفة. واذا لم يقم – أي الكاتب – بهذه المهمة – مهمة سفر المراثي – لأنه أنجز ما هو أكثر حسما وصرامة في تاريخ اختياراته الحياتية، وكان بمثابة احتجاج دامغ أمام وجود لا قبل لمواجهته بالأساليب المتبعة، وجود جاثم مثل جبال أسطورية على الصدر والروح -فهناك من يقوم بالنيابة عنه من أقرانه الأحياء، أولئك الذين كانوا أصدقاء له وجزءا من مسيرة حياة وكتابة. او أعداءه الذين كانوا يتربصون به الدوائر فيما مضى، ولم يكن ينام لهم جفن جارحة عن قذف أي حركة أو كتابة يقوم بها ولعنها، حتى ولو كانت بالمقاييس الموضوعية بمنأى عن أي دنس يصطاده المخصوم، حتى لو كانت طاهرة ونقية.
الكل يتساوى في هذا المقام ويتبارى في تدبير المراثي وتبخير الجنازة بأطيب الذكريات والأشعار.. فهدف الهجوم والسباب لذلك الحي المقتدر، تلاشى وصار مشرقا في حتفه وجزءا من منظومة مثال يحتذى.
هذا ينطبق على سيكولوجية جزء من الأعداء والمخصوم فباختفاء الجسد والصمت المطبق للحياة فيه، يختفي شبح الخصومة ويتحول الى نقيضه. لكن الجزء الآخر يبقى مؤرقا بشبح الغائب ومواصلا رغبة السحق والامحاء؛ فلا حرمة لحي أو ميت لديه، وعلى رغبة قتل الآخر والتنكيل بجثته أن تأخذ مداها حتى لو استطاع أن يورثها لأجيال لاحقة.
***
يضر المكان العربي الواسع في ضيقه بأشكال متلاطمة من رغبات القتل والانتقام لهدف أو غير هدف، والاثنان بصمة واحدة لانحطاط شامل.
يمضي هذا المكان وحيواته البشرية المأزومة في التصدي لأعداء وهميين من عتبة البيت والحي الى البلاد وربما العالم بأكمله.. تتطاير السهام والعبارات مشحونة بطيش قدرها، من بوابة الى أخرى ومن جسد الى آخر، زارعة كل أنواع الفرقة والانحدار الى درك الغرائز التي لا يلجمها لاجم وعي وانسانية وجمال.
تحت أقنعة ويافطات شتى يخوض الفرقاء الشبحيون، حروب الثقافة العربية في أمكنة شتى من المعمورة، التي تستحيل بحكم روح الحقد والانهيار الى مكان واحد يأخذ هويته العربية بامتياز لم يأخذها (بالطبع) حقول أخرى.
هكذا تقذف الصحراء أحشاءها تحت شمس لاهبة. في الربع الخالي الذي استحال من بقعة جغرافية محددة الى كون رمزي يشيع القسوة والخواء والتيه حيث لم يجد الأبناء من مستقر عدا اللغة والسلوك المحمولين على حرب الأخوة وعلى تخييل العالم والوجود ضمن سياق خراب نفسي واجتماعي خاص.
***
يريدون أن يروك ميتا، بعيدا عن وجودهم بعيدا عن نومهم ويقظتهم وكوابيسهم، بعيدا عن الحضور البهيج لحياتهم الخاوية التي تقوضت منها قيم الانسان وسمو الروح. اختر طريقة اختفائك من حياتهم. المهم أن تختفي فمثل هذا الحضور يؤرق كامل وجودهم المستكين لآلية البؤس وشروط تكيفاتها المختلفة.
عليك أن تدفع ثمن انفصالك عن نمطهم القطيعي، وذلك ليس أقل من حياتك، غيابك التام والمطلق. عليك أن تزدهر تحت سماء أخرى، فسماؤهم مقفرة من النجوم، شمطاء وبليدة. هم راضون بها هكذا، شرط الا يعكر صفو حياتهم حضور الغائب ولا حتى أشباحه الهائمة في ليل الجبال المديد. عليك أن تقطع الآصرة من جذرها وترميها في هاوية طفولتك المبعثرة بين عُزلات ومدن وبحار.. أن تمني بالعزلة المحلوم بها خارجهم، فلم يعد من جدوى عزلة بين مضاربهم.. على القطار الا يفوتك هذه المرة، قطار الغياب الكلي الذي لا رجعة فيه.
***
أفكر في شؤون العزلة وبداهة تبنيها كأحد الحلول الممكنة لتجنب التفاهة وانحطاط الروح. الخبرة البشرية في هذا الحقل، حقل العُزلات الشامخة والمثمرة ابداعا وحياة، تمني بنا الى
الضفة الأخرى من هاوية المصير. تلك العزلة التي ينجزها الاختيار الحر والنمو الطبيعي للممارسة الاجتماعية.
عزلة وسط بحر من العلائق والاختيارات يمور بإيقاعات الجسد وفحوى حياة متدفقة، ربما هي العزلة المضيئة والمثمرة.
أما العزلة القسرية التي تمل عليك من الخارج وسط يباب لا حصر للمعان سرابه ومخلوقاته المحنطة، فهي عزلة قاحلة مثل الشروط التي انجبتها.
ربما عزلة السجين الذي حسم شرط الاكراه البشري للدكتاتوريات المتعاقبة، أمره، يمكنه أن يصنع منه ملحمة حرية وابداع، أو يميل به نحو التحطيم الكل وهو الأغلب.
إنها مسألة تحد بالغ القسوة للإرادة المثخنة بجراحها أمام زحف التدمير. لكن ضمن مساحة أخرى من التحدي واختبار الذات. النوح الأول من العزلة القسرية ربما ينتهي إلى اهمال التحدي كمسألة مصير والاستسلام الى نوع من مصير مائع لا بريق فيه ولا ابداع.
***
يقول مفكرون إن حقول الشر والانحرافات البشرية، مصدر إبداع لا ينضب له معين.. التحديق دائما في مرايا الشر وشياطين الرأس المنفلتة من عقالها باتجاه الافتراس والفتك والرذيلة… هكذا شهد التاريخ أعظم إبداعاته في استبطان هذه الظاهرة وتناقضاتها الحادة.. في النبش المبهج في حدائق مقابرها ورفاتها ورميمها، تلك العناصر التي تطبع التاريخ بلون العار القاني وتطيح بادعاءاته الانسانوية.
في المستوى العربي، تزدهر حقول الشر عاما بعد عام ولحظة بعد لحظة وتجلجل حوافرها على كافة الأصعدة، لكن ليس من إبداعات عظيمة تواكب هذه المسيرة الجهنمية.
***
القلة يأتون من كل صوب واتجاه. تتسع دوائر القتل وجهاته بأشكال مختلفة، كأنما هو انتقام من كسل حياة خادعة، أو ايغال في أفق قهر وسحق لا نهاية لتخومها.. ميراث ثقيل على كتف الكائن الباحث عن دفئه وحريته وسط هذه الأنقاض.
ليس القتل المباشر والابادات الجماعية التي ما فتئت تتكفل بها وتواصلها الحروب والمؤسسات العارية من أي حجب وأقنعة والتي أصبحت من بداهات التاريخ المعاصر، وانما القتل بأشكاله الروحية والرمزية الذي يقدم على أطباق باذخة من الدعاية واللمعان وتسطير الفكر والمعرفة بحجب جوهرهما وتفريغه والايهام به عبر صور بصرية ولفظية خادعة. وما يستتبع ذلك من اقتلاع لذاكرة الشعوب ومنابت إبداعها الخاص باتجاه محوها من أي فعالية حياة أو موت كريمين. وهذا ما أنجزته التكنولوجيا وأوهام العقل الكوني بضراوة لا مثيل لها في مسار الخلق البشري، بإيقاع زمني بالغ الايجاز والنعومة والسخرية..
يأتي القتلة من كل صوب وبأقنعة مختلفة، حيث السماسرة ومخلوقات الاعلان أصبحوا دعاة فكر وتنوير ولا يرضون بأقل من أدب طليعي مقاتل.
وحيث التجارب العميقة في الأدب والحياة التي اجتاز أصحابها مشقات ومحنا لتكون دليل تميز وحياة، نهبت حتى القطرة الأخيرة كما تنهب الثروات.
أين تقف بقامتك النحيلة حد التلاشي، وسط هذا العماء الفائض على الكون، وسط بلادك المعددة مثل صرخة يتسلقها جلادون في ليل ذئبي المزاج.
طوال حياتك، لم تكن لديك شهادة ميلاد ولا أوراق هوية واقامة ولا دراهم. رحلت ولم تترك سوى أثرك الصاخب في المنافي وطرقات، من بيروت ودمشق حتى باريس وقبر غريب مجهول، أو العودة الى الرحم كما كنت تحلم بها.
أتذكر هذياناتك في المقهى الذي أضحى بعيدا ومعتما، أتذكر وسط الضباب الكثيف لشتاء المدينة التي تفخر بامجادها كثيرا، عباراتك القاطعة، ربما آخرها:
“كم استثقلت الفكر نفسه حين وجدت شيئا منه يتسلل إلى رؤوس الأوغاد”.
لن أطيل عليك، فأنت ضجر أكثر من اللازم. لنا لقاء آخر أكثر حميمية، فقد آثرت في هذه العجالة أن أخبطك (هل خبطتك فعلا ؟) بهذا الذي يسمونه “العام” الذي هو نحن..
أصدقاؤك مازالوا ينتظرونك في المقهى.
***
نتأمل شجرة: نخلة أو عشبة أو شجرة سمر نابتة بين
مقاصل صخور بركانيه تشتبك بشفرة السماء في علوها.
مفاصل جبال هائمة وأليمة
مرابض صماء لوعول الأبدية
جبال اضاع العدم خاتمه
السحري
في مجاهلها وشعابها
نتأمل الشجرة النابتة في هذا الكون السديمي الذي يلد
الأرض ومن عليها من زفرة واحدة.
نتأملها وحيدة:
وسط موج قدرها العاتي
وسط العواصف والسيول وبنات آوى
وحيدة في مرآة نفسها وأحلامها
مثل استغاثة أطلقها حطاب في ازمان سحيقة
ربما حط عصفور عليها أو يمامة تشرب الماء
من يدها
ربما أضاء نيزك أغصانها
ربما حلمت بالرحيل الى أماكن أخرى
أو بفأس تنزل دفعة واحدة ومن غير رحمة
ربما أناخ بدوي في ظلالها، أيامه
ربما..
الهامش
1- كاتب جزائري مات مؤخرا في باريس.
آلة العدوان البشرية
لا يبدو أكثر ارتساما وفعالية وفتكا، في أفقنا المعاصر، من آلة القتل والعدوان بكافة مستوياتها، 1لمادية والروحية والمعنوية وعلى صعيد كوني..
هذه الآلة التي تمضي في طريقها الكاسح وكأنما هي الخلاصة الناضجة والمشعة بمرارة الحقيقة لما وصلت إليه البشرية من معرفة وخبرة عبر أزمانها المختلفة.
كل مشتقات المعرفة وسياقاتها المتشابكة والمعقدة، تبدو في هذه المرآة وكأنها تصب، في نهاية المطاف، في هذه الهاويات من الدم والضغائن والمرارات..
يخوض البشر حروبهم من غير سلاح في اطار قنواتهم ومصالحهم اليومية، والسلاح دائما يكون خبيئا في هذه المعارك المستمرة ومضمرا فيها، من غير انقطاع لحظة واحدة.
والسلاح دائما نزعة النفس ورغبتها في دفع الأمور إلى ذروة الهواجس والتفجير لما تراكم في قاع النفس وحناياها، لتأخذ حلقة العنف العريق مع الآخر فحوى ومدى، تشفي غليل المتحاربين سواء من أبناء العمومة أو من أقوام واعراق مختلفة ومتباعدة.
ليست الحرب في شكل الأسلحة وفتكها وقوة تطوير الآلة منذ قابيل وهابيل، اي منذ آلة القتل الحجرية وحتى القنابل الذرية والنيترونية وعابرات القارات… الخ، ليست الا استمرارا وتطويرا لذلك ا لعدوان والتحارب اليومي الذي يستمر من غير مدية وقنبلة حتى يصلاليهما من غير هوادة..
يولد الكائن ويتربى وتولد معه وتتربى حروبه وعداواته وضغائنه.. الطفولة وحروبها العذبة البريئة التي لن تلبث كذلك حالما يشب الطفل عن طور طفولته ويدخل عالم “الراشدين ” الذين من فرط رشدهم وحكمتهم، يقفون وراء كل المذابح والتصفيات التي تتناسل مقابرها عبر الأجيال بكل انواعها، هم صناعها وضحاياها وشهودها..
رحلة طويلة في الزمن والمغامرة تلك التي مر بها العقل البشري من وعيه العفوي للقتل بالآلة الحجرية، وهى أول معرفة سيكون هذا نوعها، في نزوعها العدواني، يعيها الكائن في مغامرة الوجود الكبرى.
وحين أراد أن يضفي لمسة حنان وانسانية لدفن جثة أخيه المتعفنة، لم يستطع اكتشاف وسيلة لذلك. كان عجزه تاما في خلق ناموس للمحبة مثلما خلقه للقتل، فتعلمه من الغراب، الغراب معلم حكمة الانسان الأولى التي لا تتسم ببشاعة واعلان حرب وانما تواري سوأة هذه الاخيرة وتطمرها في أعماق أرض سحيقة وطاهرة، ستمتلئ لاحقا بالجثث والضحايا والخيانات.
رحلة طويلة تلك التي قطعها الكائن (البشري طبعا) في تطوير آلة القتل والعدوان وسخر لها جل معارفه واكتشافاته الخلاقة، حتى لتبدو هذه الآلة ونوازعها العملاقة، مركز الوجود أو عصب الهدف في مغامرة العقل البشري الكبرى !!!
هذا العقل الذي كلما اوغل في تطوره وتعاظمه اوغل في عدوانه ودناءته، عدا استثناءات لا تكاد تذكر أمام تاريخ هذا العار البشري كما يصفه “نيتشه ” ووصفه قبل ذلك أبو العلاء المعري كخرافة وعدم ماحق أصيل.
كانت الحروب في سالف الزمن تخاض بقدر من التكافؤ ومعايير القيم والأخلاق وبقدر من نبل الفرسان، اما الآن، فكما نرى ونشاهد، وقد بلغت البشرية أطوارا مدنية وحضارية عالية وعرفت مؤسسات وديمقراطيات في شطر كبير منها، صارت الحروب تخاض عارية من كل ذلك عدا الغطاء الاعلامي الضخم الذي خلقه تطور العقل التكنولوجي الهائل والذي لا يقل استباحة وشراسة عن فتك السلاح، بقنابله وعناقيده وحاملاته واساطيله الذرية وأشباحه.
صارت كل دولة او دول مهما بلغ حجم قوتها وجبروتها، يمكنها بدم بارد ان تسحق بلدا آخر ما زال يسعى الى تأمين وسائل معيشته الضرورية ولا يملك من أسباب القوة شيئا عدا غريزة البقاء، ودفاعه عنها والتي تسحق غالبا في ظل توازنات القوى المهيمنة على برهتنا الراهنة.
منذ الحرب العالمية الاولى وهي المرحلة التي أخذ فيها العقل الاوروبي بزوغه الكبير، ازدادت آلة القتل والحروب نهما وشناعة وأودت بمئات الملايين في مهرجان عربد فيه السلاح والجنون الأعمى لسادة العقل البشري الراهن. وحين أرخت حروب الكبار مؤقتا اوزارها، دفع تجار السلاح الآلة العسكرية الى مناطق التهميش الخضاري والاقتصادي وصار التفجير الممتزج بالفقر والحرمان على اشده في حروب ناب فيها “الصغار” هذه المرة ليستمر النهب والسمسرة وتستمر آلة القتل في مسارها الطبيعي.
في هذا الافق المتجدد دائما بأمثلة الموت، صار الوحش يطارد ضحيته بتلذذ وخفة تتضاءل معها جموحات مخيلة البراكين أو مخيلة “الماركيزدي بساد” من غير حساب حتى لتوازنات كانت قائمة ولو بشكل مصلحي..
في العصور العبودية الحديثة، يكفي أن تخرج بكلمة او اشارة على بيت طاعة القوة كي يستأصل وجودك كاملا او تذل وتكره. هذا ينسحب على الدول والجماعات حتى الافراد المتميزين.
آلة القتل الديمقراطية هذه لا تعدم ضحيتها بالسلاح العاري فقط. هذا القصاص يأتي في حده الأعلى، هناك وسائل أكثر لطفا ومراوغة ونجاعة، والنتيجة الحتمية واحدة وموحدة من قمة الهرم حتى قاعدته المبنية بخبرة العصور ودقة الرياضيات والكمبيوتر.
إذا كانت آلة القتل والعدوان في الدول والمجتمعات المتحضرة تمتلك كل هذه السطوة والمدي اللامحدود، فالبلدان أو العوالم الثالثية، كما أطلق عليها اقتصاديون، بمختلف خصوصياتها وقاراتها وأطوارها، مزروعة هي الأخرى في أرضية قتل فريدة، يغذيها تاريخ لم تنقطع عن إرثه الدموي، لحظة واحدة بسبب تطور أو تحضر عدا القشرة والماكياج.
تاريخ من التحارب الطائفي والقبلي والاثني والعائلي، يغذي أرضية الدم ويدفع بها إلى مناطق جديدة وعبث مطلق. وهي لا تقيم وزنا لفرد او فرادة في شيء. فالكل ينضوي تحت لواء القطيع في أشكاله الحزبوية والكتلوية والفئوية، الساحقة للخصوصية والفرادة.
الأفراد في هذه المجتمعات التي طحنتها الحروب الأهلية وما هو اسوأ منها وطحنها التخلف والجوع والمظاهر الكاذبة وطحنتها الاقتلاعات والهجرات والبطش بكل انواعه وتبديد الثروات – هؤلاء الأفراد أصبحوا حربا على بعضهم البعض بطريقة لا نظير لها في تاريخ هذه الآلة البشرية للقتل والتدمير بنوعيه، تدمير النفس والآخر القرين.
في هذا السياق تضيئنا بعض روايات أمريكا اللاتينية عن تفاعل سياقات القمع وسيكلوجية القامع والمقموع في دولة كليانية وشمولية، حيث تنحل صفات البطريارك وتنبث في خلايا المجتمع والافراد.
لا يتجلى أكثر سطوعا وبداهة وفتكا في أفقنا المعاصر والحديث عن وضوح وفعالية هذه الآلة الجهنمية بكافة مستوياتها ورموزها، ونحن نقف على عتبة قرن قادم، يتبدى فيه العرب مثل ضفادع المختبرات العلمية، على استمرار هذا الحال ؛ قرن لا شك مولود من رحم آلة هذا القرن الذي عشنا شطرا بسيطا من أسطورته وازمانه المتراكمة.
لا نتفاءل ولا نتشاءم،فلم يعد من معنى لهذه الثنائية الساذجة، فقط، نحاول أن نشهد ونرى، بعيون تحجر دمعها وقلوب تفيض ألما وضحكا.
نشرات الأخبار بكل أنواعها، تلخص ما يحيق بهذه البيضة الأرضية، من حروب وفيضانات وأهوال وكوارث. في هذا المشهد القيامي تتداخل أشكال الدمار الاجتماعي والطبيعي، الذي هو جزء من مسؤولية البشر وتحاربهم وعدوانهم على الطبيعة والأرض كما عدوانهم على بعضهم البعض.
بؤرة العدوان المسيطرة توزع سموم آلتها في كل اتجاه بشري وطبيعي، نباتي وحيواني.. الاحياء يودعون موتاهم المغدورين في انتظار موتهم والنزعة الانسانوية والأممية للشعوب والأمم ليست الا جزءا من الآلة يوجهها الاقوياء وجهة مصالحهم وأهوائهم.. مشهد قيامي حقا يبدو معه جحيم “دانتي” روضة من رياض الجنة كما يعبر الدكتور عبدالغفار مكاوي في بحثه الحميم “مستقبل الفلسفة في قريتنا الأرضية” المنشور في هذا العدد من مجلة (نزوى). ونحن نتساءل معه.
هل ما تبقى من الفلسفة والفنون والآداب هو ما يخدم آلة القتل والعدوان اي الذي ينضوي تحت لواء “البرجماتية” 1لمعادية لسمو الانسان أما زال هناك ضوء بسيط يخترق النفق ويصلنا من عصور الروح المتدفقة في مدارات كائنها، بجمال طبيعي وكتابة تقول براءتها البسيطة اللاهية من فرط عمقها، وإعادة الاعتبار للمعرفة الحدسية ورفعة الخيال وقيمه التي تذهب عميقا في التراث العربي والمشرقي ؟؟ في مواجهة هذا التصنيع للاشياء بمعناه الفظ والتعليب والتبضيع (من البضاعة) التي تشكل بعض علامات عصرنا.
أم أن هذه الاشارات ضرب من رومانسية مضى عهدها؟!
رغم هذا المشهد المهيمن على سياق التاريخ والبشر، هناك من يبحث عن ملاذ روحي وفسحة فيها بعض من نور الإبداع الحر. تبقى الكتابة الحقيقية الباحثة عن ذاتها وعالمها في عزلة وتيه وصحارى لا تنتهي عند حد، ضد نزعة العدوان التي تنتظرنا وراء كل أكمة ومنعطف زقاق، وفي أعماقنا المذعورة دوما.. تبقى الشاهد والضحية..
دش الصحراء.. أو عرب الحداثة
غُلاة الحداثة وغلاة التقليد، يلتقون في محطة واحدة وصلب وهم واحد، كونهم يلعبون خارج مسرح التاريخ الفعلي للبشر وأفعالهم وللثقافة والحياة. متكئين على تلك الحزمة من الأوهام التي طوح بها الخيال الضعيف إلى مناطق عماء خانق.
تتوسل الحداثة أو التحديث أو العصرنة – لا فرق في حالتنا هذه -أوجها أخرى للتقليد كونها اختزالا واجترارا لحداثات الآخرين ( التقنية ونمط الحياة خاصة ) وسياق ولاداتهم ونموهم في مجالات المعرفة والابتكارات كافة. وليس اللغة والنشاط الثقافي والشعري فحسب. إنها استعادة في مجملها الماضي “الآخر” وانجازاته في ظروف وسياق مختلفين.
ليس المقصود بطبيعة الحال الهضم والمتمثل لانجازات الحضارة البشرية، وهي ذات هوية غربية في الحقبة الواهنة بقدر ما هي كونية الهوى، بفعل آلة التوحيد الرأسمالية الضخمة، وانما ذلك الاقتلاع المخيف للمفاهيم والتقنيات والأدوات وزرعها بشكل عشوائي وقسري في تربة تاريخ ومجتمع مختلفين، بداهة، في شروط تطورهما ووجهتهما زمانا ومكانا ورؤية بصورة كبيرة.
تنحى النزعة الاقتلاعية نحو التبسيط في محاولات رؤيتها للتطوير والتنوير والإنماء، الى اختزال تاريخ البشر وشروط وجودهم الروحية والمادية، الى نوع من كونية زائفة ني تعميم المفاهيم والإنجازات التقنية والحياتية، لتنمو بعيدا عن أرضيتها الطبيعية واطارها النظري، السلوكي والأخلاقي. مما ينتج عن ذلك من تشوهات وانفصامات ترمي بالكائن خارج مدار تاريخه والتاريخ عامة.
* * *
ليست القدرة على جلب الأدوات والتقنيات والاختراعات، والتى استغرقت رحلة تطورها آلاف السنين الى ما وصلت اليه، هي العامل الحاسم في هذا السياق من التطور، وانما القدرة على الاستيعاب والتمثّل الحقيقيين، ضمن الشروط الخاصة للإنتاج والإبداع، هو الحاسم. كما أثبتت التجارب الكبرى لحضارات الشعوب منذ عصور ما قبل الحداثة، بالمعنى الزمني المعاصر. بالمقابل والنقيض. كما أثبتت التجارب العربية المعاصرة، والعالم ثالثية مع وتاثر التفاوت والتقارب.
في هذا القرن، الذي نقف على صخرة أنفاسه الأخيرة الدامية، شهد العقل البشري أعظم اكتشافاته وأخطرها – وان نزعت نحو الهيمنة والعدوان – وفيه أيضا مضى الفكر العربي باحثا عن مواطىء أقدامه وسط جلبة العصر وصراعاته ورؤاه… باحثا في مرآة هذه المباني من الأفكار والتناقضات، عن وجهه الحقيقي الذي يصله بأحداث عصره وتقدمه السريع بعد عهود ظلامية طويلة، كما يصله بتاريخه المتلاشي العظمة وسط أكوام التخلف والتقهقر والانكسار، أو هكذا كان الطموح في سماته الجوهرية.
شهدت محاولات التنوير والتحديث جهودا مضنية وصلت الى مستوى الاستشهاد الفكري والجسدي. لكن المفصل القاتل في هذه المرحلة، أن تلك الجهود والمحاولات لترشيد الحاضر المتخلف وتنويره، لم تؤت أي تغييرات جذرية في بنيات الواقع والتفكير. وبقيت (الجهود) في إطار النخب العربية المثقفة ومجالاتها وأحلامها، ولم تذهب أبعد من سطور هذه النخب، مما أدى – وربما من نتائجه الأساسية – الى هذه الهوة الحضارية التي نعيش ونشاهد.
هذه الهوة التي تفغر فاها، أكثر، يوما بعد يوم، بين قيم التحديث والابتكار والعصرنة بكل أوجهها، وبين الأرضية الاجتماعية المفعمة بقيم التخلف والاتكالية، المفعمة بهيمنة الماضي وروح الأصوات والخرافات في مجتمعات شبه ريعية، غير منتجة في مجملها، خلقت إشكاليات اجتماعية ونفسية في سلوك الأفراد والجماعات، وفي العلاقات بين البشر، وبينهم وبين ما يستهلكون ويستخدمون في طرق حياتهم، وخلقت أمراضا تستعص على تشخيص أعتى علماء النفس والأعصاب. خاصة في المجتمعات التي شهدت تحولات صاعقة في نمط حياتها ومعيشها وتفكيرها من غير تهيئة واستعداد، تحولات مؤلمة في فصامها بين الوقائع والقيم، بين الثوابت والمتغيرات.
لم يعرف التاريخ البشري مثل هذه التحولات المفاجئة، كالتي اقتحمت الحياة والتفكير دفعة واحدة، واحتلت، حتى عند الموغلين في العداء لها، المساحة كاملة بلمعان حداثتها وتقنياتها الخلابة، وسط بشر، لم يبذلوا أي جهد في هذا الاتجاه، بل خضعوا طواعية لصياغة هذا المصير الحتمي من غير فعالية إبداعية، تؤرخ للمشاركة في صياغته وفحواه.
بهذا المعنى ستكون الحداثة هي التي صنعت البشر وليس العكس. إنها ليست خيار حرية وابداع.
خلقت هذه التحولات الساحقة لأنماط الحداثة الأخرى، هزة في الوجدان الجمعي، ولخبطة في جهاز الاستقبال الذهني والعصبي، حيث نرى هذا الجمع معلقا بخيوط لا مرئية في رحلة ضياع يومي تمتد من المأكل والملبس ولغة الكلام حتى نسيج القيم والمعايير التي تنظم عقد سلوك الجماعات والأفراد، التي انسلخت نحو الفظاظة والحقد وبذخ الاستعراض، نحو تفك البنى والعلاقات المتوارثة التي كانت ركن الاجتماع المشترك، لصالح الاغتراب والأنانية المفرطة والوهم.
وضمن ثنائية الصراع بين حداثة الوهم وتقليدية الوهم، أصبح المنحازون لوهم التحديث عازفين ومتبرمين من كل ما يمت الى الجذور والماضي بحجة التخلف عن ركب العصر ومظاهره.
من هنا نشاهد ذلك الجهل الفاضح بتراث الأجداد وانجازاتهم الحقيقية وأنماط معيشهم، حتى عند كتاب ومثقفين بتوقيع الادعاء والاشاعة.
هل ينبغي التذكير وهو مطلوب ني مثل هذه الحالات بإنجازات الأسلاف وابداعاتهم وسط قسوة الطبيعة والعالم، واعتمادهم الذاتي في تسيير شؤون الحياة والفكر؟
هل نتناسى تلك المنابع الثرة، مقحمين عليها وهم الصراعات اللاحقه، شاطبين تخومها المضيئة من حياتنا، إلا ان نفضي الى رحلة التآكل والضياع اليومي.
* * *
لنتخيل سيناريو لفيلم سينمائي: عائلة تفترش الأرض او على حصيرة هي ما تبقى من الأيام الخوالي، تجلس أمام شاشة التليفزيون المسلح بطبق فضائي في صحراء الطوارق أو صحراء الربع الخالي… عشر محطات. عشرون. ثلاثون. تتبدل الصور والمشاهد الباذخة تتبدل البلدان والقارات، السماء والأرض الطبائع والوجوه والعمران.
كل يوم على هذه الحال، الى حد انقطاع الكلام والحوار بينهم وتحولهم بالكامل الى مخلوقات تليفزيونية.
لم يعودوا بحاجة الى سماع أصوات الطبيعة وحيواتها وجمالها من حولهم، فهي تقدم لهم جاهزة مثلما تقدم الوجبات السريعة على الشاشات التليفزيونية.
لنتخيل عنف التحول الذي طرأ على هؤلاء البشر الذين كانوا مستقرين في مسيرة حياتهم، يتناسلون جيلا بعد جيل حتى اكتسحهم آلة التحديث وقذفتهم خارج تاريخهم بأزمنة ضوئية.
إن هذه الصورة تشكل نموذجا مكثفا فى مأساته للحياة بصوره عامه، تلك التي اكتسحتها تلك الآلة
الصماء المثيرة، من غير أن يكون لبشرها ذلك الجهاز الحسي والذهني الملائم لاستقبال تلك المعطيات المدنية الحديثة..
* * *
من جهة أخرى لم تلتفت “الحداثة” في سجالها النظري الى الواقع والمعيش الا بشكل تجردي وجزئي.
ظلت رحاها تدور في أوساط المثقفين والكتاب والشعراء. فكأنما بها في هذا المنحي “وريثة” ما اصطلح على تسميته بعصر “النهضة “ العربية وانوارها. مع أن هذه الأخيرة كانت اكثر حماسة واندماجا في أحلام التغيير والارتباط بمشاريع سياسية وفكرية وكانت الحر طموحا في تثوير الواقع والتاريخ.
ظلت الحداثة العربية في مجالاتها وقفا على التجديدات الشعرية والثقافية، منطوية في كبرياء عزلتها، ناظرة الى الواقع والتاريخ اللذين يزدادان سوءا بعين الترفع والازدراء والقرف، وحتى حين انتمى بعض رموزها الى مشاريع ما، لم يكن ذلك الانتماء إلا تجربة وجود شعرية ستدعم العزلة والانفصال اللاحقين.
الحداثة الشعرية والثقافية في تأثرها بالمناخ العالمي، ليست مثل حداثة الأدوات الاستعمالية والتكنولوجيا في مجتمعات ريعية، والفصل واضح المعالم في الحالة العربية، بل هي هجينة قلق خاص، مع تمثل قل أو كثر لوقائع الابداع والتاريخ. تلك بعض سمات أساسية. أما الطفح الآخر في الثقافة الخليجية والعربية المرتبط بآلية الاستهلاك والوجاهة، فهو توأم الوقائع الفاجعة لحداثة النمط، حياة وأفكارا.
* * *
لم نعد نسبه هذا البحر
ولا هذه الأرض
يبدو أن قرونا مرت بزواحفها
ونحن نيام.
ذاكرة الفِيلة والاستعراض
تحيلنا الثقافة العربية ، من منطق راهنها، وعبر مرآة تاريخها السحيق، إلى شبهة الذاكرة وتشظيها وثقوبها الكثيرة ، خاصة في ظل هجمة إعلامية كاسحة، تزيد هذا التشظي وهذه الثقوب استحالة رتق واتساق معنى وذاكرة.
ليس التشظي بهذا المنحى، منزع تعددية أو طموحها، وهو حالة من حالات نبل الثقافات ونضجها، وليس أيضا، تشظي الكتابة عقب الانكسارات والهزائم بحثا عن وجهة وأفق – وانما، أي التشظي، بعثرة المنتج الثقافي والفني الذي يشكل إرث الذاكرة وقوام وجود الشخصية وتمايزها عبر القرون والأجيال ، لصالح تفريغ واستقطاب وحيدين ، لاشك سيؤدي، بأي أمة إلى خلاء المعنى وضعف الذاكرة وتسطيحها، والى تشويه القيم ، بالوقوع – بالنية أو من دونها- في تبعيات الآخرين وثقافاتهم وأنماطهم .
فالمغلوب ، ما أسهل وقوعه زي الغالب وغلبته وسطوته حسب الرؤية الخلد ونية ورؤية الوقائع الماضية ، والتي مازالت ماثلة تتجدد فصول تبعيتها ونكوصها الحضاري في تملك ذاتها وفرض هذه الذات كأفق سياسة واجتماع وأفق فكر وفنون. مما يرتد كثيرا إلى سطوة السلفية وحكم الموتى وقيادتهم من أجداثهم لعالم الأحياء خانقين أي اجتهاد أو رأي وتعبير.
فرقاء الخطاب العربي، كل يغني على ليلاه وكل يدعي امتلاك حقيقة الوجهة السليمة لسير التاريخ كما يردها ويتبناها … لكن سير الأحداث وسير التاريخ الفعلي ، لا يرياننا شيئا حقيقيا من فحوى ذلك التبشير وتلك الجلبة المستمرة طوال هذا القرن على الأقل .
الذاكرة العربية تغوص في جحورها وشظاياها أكثر فأكثر، ويستحيل أن تكون ذاكرة فيلة .. ومن البداهة أن ازدهار هذه الذاكرة ولمعانها يرتبطان بخط الصعود الحضاري لأي ثقافة ترمي إلى استثمار مقدرتها الخاصة في التجدد الروحي والإبداعي.. أما إذا كانت حالة التاريخ عكس ذلك تماما، وهو ما لا يتنكر له اثنان، فالغبار الكثيف يبني طبقاته العميا، على الذاكرة والنفس … ويعمي الدليل.
انظر حولك، بهدوء أو غضب ، لترى المشهد العربي المبعثر من الصحراء إلى الصحراء، مسرحا للاعبي الإكروبات ومعارض التخلف والفتن الصغيرة وأوهام المعارك الكبرى..
لترى المشهد كله في عيني وعل جريح في صحراء مخترقة .
* * *
في هذا السياق لا ينفع الكلام الكبير حول عظمة هذه الذاكرة وهذه الأمة وعدم قدرة اختراقها. فذلك الاختراق تم منذ زمن طويل . والذاكرة العظيمة ، ربما، هي الأكثر استهدافا … هكذا نرى في الهند، التي اخترقت ذاكرتها الثقافية والوجدانية عن بكرة أبيها.
وكذلك الصين واليابان وان ظلتا عصيتين على الاختراق النهائي، بسبب حصانة حاضر، وليس ماضيا فحسب قوي وعنيد.
الحضارة الغربية – الأمريكية ، ربما هي أول حضارة في تاريخ البشر، استطاعت توحيد العالم وفق نمط تعبير وسلوك ومزاج، وبسبب اندلاع قوة العقل العاتية في كل المجالات ، فليس ثمة في الكرة الأرضية من سلم من مس هذه الحضارة … من غابات الأمازون حتى تيرانا أنور خوجة.
حضارة ربطت إرادة القوة والهيمنة بإرادة المعرفة وتجسدها بشكل لا نظير له، فتحقق لها بأشكال متفاوتة ذلك الاستئصال لذاكرات وشعوب وقوى كانت بالأمس ندا قويا وباطشا – أو ما يقترب منه وينوب عنه، (الاستئصال) فإن إبادة الذاكرة والمتمايز والخصوصية، تقوم مقام الإبادة العضوية وتقي بها وتحتويها.
انظر حولك لترى المشهد العالمي، غارقا حتى الجمجمة في أسواق ومنتجات الاستعراض الكبير، من أغذية وعطور وموسيقى وغناء وكتب ومجوهرات وأنماط عمران و….إلخ ، أي المنتج المادي والروحي بحذافيره ، وتعرف أن هذا الاستعراض الضخم للآلة البشرية الحديثة يملك مشروعية وحدته القسرية الناعمة على كل القارات والأجناس والألوان، وأن الخصوصيات التي تشكلها الذاكرات المختلفة،قد مُحيت أو تحولت إلى زقاق كئيب لصالح هذه الوحدة الكبرى وأشكال قوتها الاستعراضية في هذا البوليفار الضخم .
* * *
في ضوء مجتمعات الاستعراض هذه كما يدعوها جي ديبور، محللا وقائع الاستعراض الغربي عبر مفتتح لفيورباخ ، حيث يفضل عصرنا “الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود… وما هو مقدس بالنسبة له ، ليس سوى الوهم . أما ما هو مدنس، فهو الحقيقة . وبالأحرى فإن ما هو مقدس يكبر في عينيه بقدرها تتناقض الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث أن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدس”.
في خضم هذا البذخ الاستعراضي وعنفه الخبىء، يولد الكائن المشوه والمفصول عن فطرته الأصيلة وذاكرته النيئة ، وتأخذ المسألة مداها المسخي في مجتمعات العالم الثالثية ، بحيث تجتاحها هذه التصورات والأنماط مفهوما يتم تسويقه بشكل خرافي، وطريقة معيش ، وهي في طور المستقبل، بكسر الباء، والمستهلك السلبي في غياب أي قدرة على التمثل والهضم وفي غياب القدرة الشرائية لدى الأغلبية ، فتنحدر إلى أحط درجة في الوهم الاستعراضي والمظاهر الكاذبة.
تغوص هذه المجتمعات في وحل الاستعراض والاستهلاك ، كنسيج يلف كامل وجودها ويفضي بها إلى حتف القيم الإنسانية والشعرية ، والى حتف ما هو مشرق في موروثاتها ومشاعرها فتتحرك كائناتها كالدمى الدائخة في دائرة هذا المظهر الاستعراضي الذي تتفاخر به وتزهو أمام الآخر، متنامية نقاط وجودها المضيئة والحقيقية .
أمام هذا الواقع المؤلم، لا نستغرب تلك الدعوات المتشنجة التي لا تفتأ في غير مناسبة ، تنظر إلى الثقافة الرفيعة والى الفنون وما يمت إلى الإبداعات الروحية ، بارتياب وحذر، يصل حد الازدراء، فهي منسجمة مع سياق معيشها الاستعراضيي المبتور بترا عن الذاكرة والمعرفة .. ويتصدر أعداء الفن والجمال والمتثاقفين ، الحشد، متشدقين بكلام لا معنى له في أحسن حال، حول عصر الصناعات والتقنيات والعقل ، جاهلين بداهة ، أن هذا العصر لم ينبثق من ركام الأوهام وترف الفراغات وانما سبقته عهود التنوير، وانعطافات الفكر والفنون والوقائع الحاسمة.
وهي عهود واكتشافات توزعت خارطة العلوم كما توزعت خرائط الآداب والفنون والأذواق والأمزجة و….إلخ وكانت تشي بها، أي الانقلابات العلمية، وتؤشر اليها.
لكن فكر المجتمعات الاستعراضية ، إذا صح، أن لديها فكرا مهما كان نوعه بمعنى أنه يندرج في سجال ما، وهو أمر مشكوك فيه حتى العظم واللثة، فهو فكر اختزالي ، يختزل الأفكار ويسلخها من سياقها الطبيعي في التاريخ والمكان، واستسهالي، ناعس ومرتاح ومطمئن لبلاهته كونه لا علاقة له بطين الواقع وجبلة التاريخ.
الصناعة اللفظية الثقيلة
لا ينجو الخطاب الثقافي – الفني مما اقترفته السياسة بوجهاتها اللفظية المختلفة، على ما اخذت في الوطن العربي والعالم الثالث، لا ينجو من تلك الصناعة اللفظية ونبرتها الصاخبة، وبما انجزته وتوارثته في هذا المجال مشكلة تقاليد وتراكمات يركن اليها الخلف بعد السلف. حتى ولو كان هذا الخلف طامحا الى اجتراع الاختلاف للسائد وعناصره الآنية والتعبيرية المهيمنة. فهو في نزوعه هذا لا يتجشم عناء التجربة والبحث والسؤال بالمعنى الحقيقي، حتى ولو توسل بهكذا منحى وذهب بعيدا في تبني نبرة التجريب والهدم والافتراق عن أشباح خصومة الذين عفا عليهم الزمن وتجاوزتهم الوقائي والرؤى، فهو واقع في قلب هذا الركام اللفظي، الشعاري الجاهز، الذي يظن أنه يخوض معركته ضده، كعلة وجوب ومبرر بقاء. فالصناعة اللفظية الجاهزة، كما في السياسة، بنبوع تحليلات ورؤى، يذهب ادعاؤها في الأدب حد التأسيس على غير مثال ونموذج، مذاهب شتى من غير أن تكلف نفسها أي دخول في مختبر الوقائع والزمن والتاريخ، تاريخ البشر الذين تدعي تمثيلهم ابداعيا والتعبير عن اشكالاتهم المختلفة المنازع والجهات.
نحن أمام حالات أفرزتها منطلقات تفكير وتهويمات واحدة وان ادعت التحارب والاختلاف لاحقا، مجانبة الوقائع والتاريخ والتحليق في فضاء التجريد اللفظي، هي السمة الجوهرية لها. بمعنى آخر ان الكثير من دعاة التجديد الجذري في اللغة والرؤية وتجاوز السلف الفكري والابداعي الذي مهما كان قريبا في الزمن وطبيعة الانتاج والتوجه، أصبح موصوما بالقِدَم والتقليدية وأصبح موضع مزايدة وتعال حتى ممن ما زالوا يخطون خطواتهم الأولى كتابة وتفكيرا وحياة. هكذا ببساطة القلم اللفظي السيال، يتم سحق السابقين في الزمن والابداع تحت سطوة ذلك الوهم المتراكم الذي أصبح إرثا ومنطلقا للأجيال التي تولد مع كل عقد، في الغاء بعضها والبدء في التأسيس الموغِل في بياضه وفراغه عن السابق والمتحقق على مر الأزمنة البعيدة والقريبة. كل جيل ضحية لاحقه والعجلة تدور في سعارها اللفظي.
***
يضج المشهد العربي بالترجيعات والترديدات التي أصبحت في موضع الشعار وربما المثل السائر من فرط تكرارها وأصبحت محور أسئلة الصحافة المائجة في أكثر من قطر عربي وربما الاقطاع كلها، فهي صاحبة الارث المشترك في اللغة والتاريخ والجغرافيا والحضارة الغاربة التي أفضى بها الزمان إلى ما هي عليه ومن البداهة أن تكون كذلك في تقمصاتها واستيهاماتها الفنية والثقافية.
أصبحت الساحة تموج بتلك المياه الضحلة لنثار المفاهيم والمصطلحات، التي أخذت تحل محل الحقيقة الابداعية، والتي ابتسرت من تاريخها وسياقاتها حيث تلقفها اللفظيون مرغمينها على أوضاع ثقافة تفارقها في أكثر من جهة ومناخ وتكوين.
بداهة لا يعني هذا عدم سفر المفهوم والمعرفة من مكان إلى آخر ومن تربة الى غيرها بل يعنيه في السميم ويعني الترجيع والتطبيق العشوائيين، خاصة حين تأتي المسألة كردة فعل لغضب مشروع لكنه غير موفق على صعد المعرفة والابداع ويكون أول ضحاياه أولئك الذين لا يمتلكون أبسط حصانة وتجربة حياة وثقافة، فينساقون وراء البريق السرابي لتلك المفاهيم والمصطلحات في استلهام ما ينضح به سطحها وبعض الشروحات المتعالمة “الغامضة” التي تندرج في سياق الصناعة اللفظية التي تخترق وتسود أوجه الحياة العربية بعد أن أصبحت راهنا تستغل انجازات الصورة بمختلف سبلها لحشودها اللفظية في ترويج بضائعها وتزويق الكارثة.
***
ضحايا بريئون أحيانا، أولئك الذين يدفع بهم خواء الحياة والعطالة إلى استيهام سلوك وقيم ليست في أقل تقدير، على أبسط علاقة بسياق حياتهم المادي والروحي مثل ذلك القاص الذي فاجأنا ذات مرة في الشام قادما من أحدى بلدان الخليج، يمكن أن يصدف من بلد آخر، وقد ارتدى ملابس رثة متقمصا سلوكا بوهيميا متصعلكا، رغم الظروف المختلفة على الأقل من هذه الناحية، نجده في تفاصيل تصرفاته وحركاته أشبه بممثل رديء في فيلم من أفلام الترسو. وفي المنحى نفسه من السهل أن نجد في أي بلد عربي من لم يكتب البدايات وربما ما زال يحلم بها، لا يرضى بأقل من أحداث جسام مثل موت التاريخ والأسماء الكبيرة وانهيار الايديولوجيات وانقلاب المفاهيم، طبيعة كاملة من الكلام المنتفخ والسعار اللفظي.
ليست التجربة هنا محل خلاف أو حتى شك لكن افتعالها على هذا النحو المضحك المؤذي، كصدى تجارب ومفاهيم، من غير وعي أصيل بمكرها وانقلاب تأثيرها المعاكس، لا تبطل أهميتها فحسب وانما تصبح مضحكة وقاتلة.
هنا مكمن رعبها المفارق الذي يربض بصور مختلفة، على الحياة العربية، التي تتوزع بين ذاكرة الموتى التي تحاول إدارة دفة التاريخ والواقع الحي عنوة وقسرا بما يعني ذلك من افرازات تطرف في الفكر والسلوك. او استعادة حداثة “الآخر” ورؤاه بحذافيرها من غير وعي نقدي، بما يعني من تشوهات وحفر عميقة في الفكر والسلوك أيضا. لحظتان متقاسمان الماضي، ماضي “الأخر” وماض الذات الوطنية والقومية لحظتان مهما نشب الصراع والتحارب بينهما، يقفان على المكان المشترك، إلغاء ومجافاة الزمن والوقائع والكائن المندرج حتما في هذا الاطار.
الصناعة اللفظية حين تسود أوجه الحياة، تعبير لا ينقصه الوضوح، عن خواء هذه الحياة والأفكار، فبدل من أن يوجد فكر وأدب حقيقيان يوجد محترفون أذكياء في صناعة الأبنية اللفظية الخالية من النحوى والدلالة وترويجها وتعميمها.. في النقد وانه دب يمارس هؤلاء المحترفون اللعبة بمقوماتها وعناصرها موهمين مريديهم بذلك الطقس الأسطوري الصعب الذي يحوم حوله المريد من غير قدرة النفاذ إلى أعماقه ودلالاته المترسبة في القاع أو. في الأعالي الميتافيزيقية التي لا يصلها إلا شيوخ اللعبة، فيقع المريد في الترديد اللفظي والترجيع الفارغ الذي هو في واقع الحال دين أساتذته الذين لا عمق لهم إلا الصناعة اللفظية التي تبدأ من اللغة الخالية من الروح والوجود وتنتهي بها.
هكذا سوقت مفاهيم تحت يافطات مضللة “كالبنيوية” التي تحولت عربيا إلى ملاعب تتقارع فيها الألفاظ والكليشهات والمصطلحات من غير وصول يذكر الى أستشفاف روح النص وأعماقه وهكذا “ما بعد الحداثة” التي تدور رحاها عند المريدين الآن مفصلين نصوصا وكتابات على ما وصلهم من فتات تلك المفاهيم التي أفرزتها صيرورة الحضارة الغربية ومساراتها وشروطها.. وهكذا تتدمر مواهب وملاح إبداع محتمل في جلبة هذا الغبار اللفظي المغري.
ربما من جهة أخرى كانت ردود الفعل التي يواجه بها النازعون نحو التجديد كسياق طبيعي في أي كتابة من قبل “الرافضة” وهم في أحيان كثيرة من أولي الحداثة والتجديد في مرحلة، يغري بردود الفعل العنيفة التي تصل حد الفلتان. فأولئك الذين يتوهمون حجب الشرعية والاعتراف، بلغة المؤسسات الدولية، يكابرون في زمن مختلف وفي مناطق تنهار وتنبني باستمرار في أرض الكتابة. وكان الأحرى بهم أن يتبينوا الحقيقي من الزائف والأصيل من المدعي، الذي أخذت تجرفه رمال السجالات اللفظية.. وهو ما تفعله بعض الوجوه الابداعية والنقدية من أعمار ومناطق مختلفة.
تمني الحياة العربية مثقلة بإرثها اللفظي وتركته الثقيلة، الذي أخذ يحتل المشهد أكثر فأكثر مدعوما باكتشافات الحضارات الأخرى وأخذت مساحة الصدق والعفوية والطفولة، تضيق وتتقلص، في نمط الحياة والكتابة، وأصبح الإنسان الحقيقي لا محالة يعيش اغترابه الساحق أمام المشهد الكاسر للكذب والادعاء.. حشود من الأقنعة تحتل الحلبة.. والتشابه المحض في عناصر المشهد البشري والفكري هو الهدف. لا مجال لشبهة التمايز والاختلاف. وليكن ذلك في إطار الحتمية الصارمة لقوانين المشهد ذاته. والصناعة اللفظية والاعلامية وتعميم قيمها وأنماطها أفتك وسيلة لتحقيق هذا التماهي وهذا الالتباس اللاإبداعي. والأدب الذي نشير اليه في هذه العجالة واقع بوعي أو بدونه في هذه الفخاخ المنتشرة على المستوى الكوني.
في حومة هذا السعار اللفظي وترجيعاته والتبني السيىء والقاصر للأفكار والمفاهيم والرؤى، ومحاولة إقصاء التجربة البشرية عبر عصاب النقل والمسخ تكفينا نظرة سريعة لما آلت اليه أفكار وابداعات الكثير من المدارس والاتجاهات والشخصيات الكبيرة في التاريخ البشري، كيف مرغت في وحل ذلك الوعي وبترت عن سياقاتها ومقاصدها بقسوة وجهل: من مفكري سوسيولوجيا الاقتصاد الأوروبي ونتاج بنيانه وعناصره وتشابكاته التي وصلت طورا معقدا في التاريخ (ماركس وانجلز) حيث حولا بقدرة العرافة والسحر، في مناطق بالغة البساطة والعشائرية والتخلف، إلى نبيين يقودان تلك المجتمعات إلى الفراديس الأرضية عبر خطاب طفولي مثل طورا من الصناعة اللفظية الثقيلة، قاد إلى مزاح وصدامات، وكأنما الخطاب القبلي، المذهبي القابع في العقل الباطن لا يكفي بل بحاجة الى النجدة والسند من خطابات مختلفة حتما، بصورة جذرية.
وليست الاتجاهات الأخرى بأحسن حالا. وعلى مستوى الأدب والثقافة يضر المشهد العربي بالتمثل السيىء واننهب أحيانا؛ على هذا النحو أخذت الصوفية بكل مكابداتها الروحية ورؤاها العميقة ولاحقا السوريالية والوجودية وقبلهما الدادائية ولم يسلم المتنبي والمعري ورامبو والقائمة لا حد لها: مهما تنكبت الادعاءات وجهات مختلفة ماضيا وحاضرا، تطل سمة التمثل السيئ عند البعض وعملية النهب والمسخ الذي يتعرض لها الكبار في مرايا صغارهم الأدعياء هي المشترك بينهم وعبر أجيال مختلفة كتابة وسلوكا..
ليس هناك تأثر ولا “قراءة”. هذه المسألة إن كانت أحيانا تمضي على محور المراهقة الفكرية والحياتية وبما يشبه انبهار الاكتشاف الأول وبراءته، فهي بشكل أساسي، عند آخرين بلغوا “سن الرشد” نمط تفكير ومكانة وتسلق شهرة.. وأحيانا استهسال الأمور مهما كانت في العمق، جديتها وصرامتها، ومكابداتها اللامحدودة، عظ الحياة السهلة التي تنزل على أصحابها من غير أبسط معاناة ولا سعي مؤلم مثل الذي عرفته البشرية في معيشها: حياة جاهزة ومعطاة سلفا.
القلة التي ذهبت الى المعنى العميق للقراءة كهاجس وجود ومصير، كون الكتابة هي إعادة قراءة عميقة للنصوص والثقافات المختلفة، كما للحياة والوجود بمختلف تجلياته وأشكاله.
حول الخطابات الشعري الراهن
يكثر الحديث كتابة وشفاهية ، حول الكيفيات المختلفة والمتعددة لكتابة النصوص الشعرية وغير الشعرية ، كل له طريقته ومنحاه في الكتابة والمقاربة والدخول المغامر أو المحسوب في طقوس اللحظة الكتابية بالغة الالتباس والتعقيد والتجلي .
تمثل القصيدة هو تمثل للعالمم والأشياء والموجودات في راهنها وحركتها المرتبطة بتاريخ وذاكرة ، بشكل صريح على نحو ما، أو مضمر في جسد النص وثنا ياه ، كونها لحظة ارتطام بالذات وتشظيها وشتاتها في الوقت نفسه ، الذي هو ارتطام بالمحيط والعالم والأشياء مهما توهم الشعر في اجتراع القطيعة والانفصال ، تظل تلك العلاقة الصراعية والمتوترة مع التاريخ على صعيد التفاعل والتواصل الإبداعيين .
هذه الذات الشاعرة بما تحسه وتلتقطه وتختزنه ، يتم بداهة تحويله الى شكل شعري. هناك مشاهد محفزة على القول الشعري والإبداعي عامة ، ورؤى وانبثاقات حياتية وذكريات ووجوه وغياب ، تلعب المخيلة دورا حاسما في اقتلاعها من كينونتها الأولى الى مصير آخر ومخلوقات أخرى تكتسي ملامح مختلفة ، بفعل المخيلة وسطوتها الباذخة .
لكل طريقته في التقاط وتخييل اللحظة الشعرية واستقبالاته الحسية والشعورية المختلفة .. هناك من يركن الى رؤى ومعارف مسبقة تنشط فيها الذاكرة والوعي على حساب التقائية والطبع و” الغريزة ” ، لحظة ميلاد القصيدة وتفجراتها الأول .وهو أمر له مخاطره ، ومن جهة مقابلة أو متداخلة ، نجد أن الذاكرة والمخيلة في إطار تلقائية الكتابة لا يبدآن من فراغ مطلق ، إذ أنهما لاشعوريا معبآن بأشياء قبلية ، مهما كان النزوع نحو التلقائية والمغامرة واستواء ذلك في نص . يبقى زمن الكتابة مشدودا الى ذاكرة . لكنها ليست فى ذاكرة جاهزة ، إنها قادمة من أنقاض وسديم . كل ما في الأمر ، محاولة لتخفيف ما تفرضه في أحيان كثيرة من عب ء ومنجز ، باتجاه أفق أرحب وأكثر طراء وحسية . ومحاولة إقصاء الرقابة الذهنية لصالح نص أقرب الى نفس إيقاع المعيش ومناطقه وهوامشه المهملة التي تترفع عنها البلاغات التقليدية . بمعنى آخر غزو الذات والعالم ومحاولة قهرهما بسلاح الخيال والإحساس أكثر مما هو بسلاح الثقافة والمعرفة . ومن الطبيعي كما أعتقد تبقى هناك كتابة ثانية يأخذ فيها الوعى نحوا من الرقابة والتشذيب ، وهذا ما لابد منه إلا بتبني كتابة أوتوماتيكية مضى عهدها وبقي بريق مغامرتها الذي لا يمحى.
ربما لا يستطيع أي شاعر الجزم النهائي حول الملامح التي تميز نصوصه وتجاربه عن غيرها من مجايليه خاصة وان ميز بعضا منها. وهي لا شك موجودة . فكل شاعر حقيقي بملامحه وخصوصياته التي تمتد من التكوين والطبع ، الى البيئة والحياة بأقانيمها المختلفة التي تنبني منها مفردات اللغة وآلياتها. مهما تقاطعت طرق التعبير والرؤى في برهة شعرية معينة ، مثل التي نعيش على سبيل المثال ، نتيجة للتجارب والمرجعيات المشتركة ، واقعا وقراءة ، والتي تشكل النوازع المختلفة كأثر مشترك لأسلوب المرحلة .
وفي هذا السياق لا يمكن الادعاء بأن فلانا أو القصيدة الفلانية ، هما البداية المطلقة لأسلوب أو اتجاه أو مرحلة ، والا دخلنا في دائرة لا فكاك من لانهائيتها وعقمها وتكرارها زمانا ومكانا، بحيث سنعرف أن تلك البداية سبقتها بدايات وارهاصات وتجارب مختلفة المنازع والمشارب ، من رامبو حتى بدر شاكر السياب . بديهي أن هذا التصور لا يسلخ صفة التأسيس بالمعنى النسبي، والقوة والأسبقية للبعض دون الآخر وانما بنزع صفة الإطلاق والتي تفضي الى الادعاء المتضخم من غير معنى..
في الزمن العربي الذي نعيش ، والذي بلغ أقصى فظاظة ممكنة في سلخ حياة الكائن يوميا، قادت الحروب والهجرات ومظاهر التخلف الأخرى، ـ في غياب أي مشروح حضاري حقيقي، ــ قادت هذه المرحلة في تجليها الشعري والتعبيري، الى صحراء انعدم فيها حتى بريق السراب ورحلت الأوهام السعيدة الى غير رجعة ، ووجد الشعراء والكتاب العرب ، أنفسهم عزلا أمام الأقفار ومخلوقاتها (ليس بالمعنى النيتشوي طبعا) التي هي بحاجة دائمة الى القربان والفريسة . صار الشعر والأدب ملاذا للذات من فنائها السريع أو تماهيها مع القطيع . وصار الغياب القسري أو في شكله الاختياري المرير، هو ` المحرك الأساسي للمخيلة الشعرية والكتابية : غياب الأوطان الأول غياب العائلة . غياب الأصدقاء ، غياب الحب . غياب الطفولة ، غياب الغياب وانخلاع الوجوه والأماكن وقذفها في عتمات المجهول والبعيد.. أي أن هذه الرؤي الكابوسية التي فرضها تاريخ بعينه على نفس ممزقة بطبيعتها، صارت فضاء الكلمات ، التي تلف سحبه القاتمة النصوص بأكملها في الشعرية العربية الجديدة ، بما تقتضيه من سياق اختلاف في مألوف اللغة وأنماط التعبير، يذهب فيه الشاعر والنص مذاهب ، تمتد من النصر المكين المستند الى نسيج لغة حية ومشعة بطاقتها الدلالية المفعمة بدعاء معيش قاس وتجارب غنية ، ومن استيعاب لآليات عمل اللغة وتاريخها..، الى لغة ونصوص تتسم باستعراضات لفظية ، الى غرائبية مفتعلة ومقحمة ، تفض بالضرورة الى الخواء والمجانية والعوز الروحي المدقع . وهي مسائل لا تخطئها عين القاريء اللماح فيما ينشر ويقرأ على خارطة الشعر العربي برمته .
وليس أقل مجانية وسذاجة من ذلك الشعر الذي يكتبه شباب في البرهة القائمة ،. يحاول استعادة مجد المنابر وصراخها وجمهورها الجاهز سلفا والمرتب على رفوف الكتابة واللغة . الكتابة تحت إلحاح هذا الهاجس إن كان لها من مبرر في السابق ومن سياق يبدو طبيعيا آنذاك ، ففي الراهن تبدو مضحكة وقاتلة للشعر ومستمعة عل السواء. لا نأخذ في هذا السياق استجابة جمهور بعينه أو عدمها، وانما جوهر العملية الشعرية ، التي أفضى بها الزمن وخط الرؤى والأشكال الى وقائع جمالية وتعبيرية ذات طبيعة مختلفة تماما . مهما كان نقصانها وعدم اكتمالها، كونها انحرافا عن المركز واكتماله المتوهم ، بالمعنى المعياري المسبق الذي يقرأ البعض الكتابة في ضوئه الصارم . هذه الكتابة أو هذه النصوص خلقت خلخلة في المفاهيم والممارسات الشعرية المتعالية والمحمولة على ذات وتاريخ شبه كليين ، متناسية أو مقللة من قوة المحاضر وجذر يته في الممارسة الإبداعية الجديدة التي تتناسل أسئلتها وهواجسها من قلب الواقع والزمن والممارسة المتغيرة .. فإذا كانت للخمسينات أسئلتها الخاصة حول الحياة والمعرفة والكتابة ، فسياق هذه الأسئلة أصابه الكثير من التصدع والتدمير، ربما بحجم ما أصاب الحياة العربية وصار خاضعا أكثر للمساءلة والشك والاحتمال ، والشعر العربي في كل مراحله حتى الراهن منه ربما هو المؤشر الأبرز لمثل هذه التغييرات والتحولات .
منذ بدر شاكر السياب ، الذي نحتفل بعيد ميلاده السبعين ، إذا صحت كلمة “عيد” بالنسبة لهذا الشاعر المأساوي الذي لخص بكثافة- في جسده الذي هشمه المرض والإعياء والافتراس ، قطعة قطعة حتى الاضمحلال النهائي، أو في كتابته التي دشنت النقلة النوعية في الشعرية العربية _ لخص بشكل مبكر ما ستؤول اليه أوضاع الحياة العربية والكتابية . فمنذ تلك الفترة التي رمى فيها السيا ب وأقرانه حجر الصدام باستجلاء الأفق الجديد، ما برحت الأسئلة الصعبة بقلقها ألذي لا ينضب معين تجديده وهواجسه وخروجاته .
في “نور سة الجنون “، منذ سبعة عشر عاما بدمشق كتبت المقطع التالي :
فى الشارع المطرز بالبنادق
والحدقات المرية
كانت غيمة تركض في خريطة أعضائي
غيمة المتذكر الشرس
ركان رامبو والسياب
بمزقان خرائط الكون والقانون
ويعلنان العصيان المقدس .
ايتها الأشياء الأليفة
ايتها الأشياء المتوحشة
امنحيني بعض حنانك
لأستطيع النوم هذه الليلة .
ترى الى أي مدى أعلن السياب ، العصيان المقدس على قوانين الشعر وتقعيده المتوارث عبر ذاكرات .وأحقاب ؟
الأكيد أنه العلامة الأبرز في اختراق هذا الحائط الصلب صلابة الأزمنة والقيم المتراكمة في الوعي العربي ومفاهيمه وذائقاته ، فاتحا للأجيال بعده ذلك الفضاء لذي ما فتئت تتسع أمداؤد وأقاصيه .
العصاب الشعري
يتساءل العربي المتلقي للشعر المعاصر والمستقبل له قراءة وسماعا عما آل اليه مصير الشعر، هو (العربي) المسلح بذاكرة إيقاعية ونظمية محتل الشعر في تخومها مركز الثقل والانشاد والمسامرة. مركز الهجاء والمديح والرثاء والنسيب. يتساءل عبر كل مناسبة أو غير مناسبة عن هذا المصير الصعب الذي اليه ربيب ذاكرته وتوأم روحها وأجيالهما المتعاقبة بدوا وحضرا.
يتساءل وهو ينظر الى ذلك التشظي المريع الذي أخذ بالشعر العربي وبعثره الى قصائد فيها الكثير من الانفلات من ربقة ذاكرته المعهودة، الى مقاطع ومشاهد ونصوص واخلاط أشكال أدبية، الى قصائد نثر. وان كانت تحمل صدى الماضي لكنها تقطع أوامره في أكثر من وريد الماضي لكنها تقطع أوامره في أكثر من وريد ووتد وزحاف، وهو في تساؤلا وحيرته هذين زائغ بالدرجة الأولى أمام حركة الأشكال وعنف اندفاعها الى المجهول.
كان على الثقافة العربية التي كان الشعر منها (مستودع هذه الثقافة وتاريخها) أن تأتي الضربة القوية في قلب هذا الشعر واشكاله وروحه التي وصلت كالحياة العربية الى النمط والتكلس والاجترار.
ولم يعد للماضي الشعري العربي المشرق من استمرارية تؤشر الى وجود أو احتمال وجود.. هذا الهرم الذي أصاب مركز الشعرية الكلاسيكية ربما عجل بولادة الأشكال الجديدة واندفاعها بوعي أو غير وعي الى تحطيم صنعية اللغة وثبات الدلالات بالمعنى المتعارف عليه وأقولها، واستمرار بعض الأقلام في تلك الدائرة التقليدية لم يعد لها من صدى يذكر الا في التندر والفكاهة،وعملية الصاقها بالماضي الكبير لا تقود إلا الى عظمة تلك العهود الشعرية الغاربة وتفاهة حاضر اجترارها وتقليدها في عملية اقتلاع بعيدة عن الزمن والتاريخ.
يستمر الشعر الجديد في اجتراع مغامرته مبحرا في المناطق الصعبة للوجود البشري ويستمر في الوقت نفسه صب اللعنات عليه من أكثر من جهة وصوب إلا قلة قليلة.
يستمر الشقاق والانفصال بين أطراف النزاع في الوقت الذي تستمر فيه الحياة العربية نحو مجهولها الخاص مندفعة الى الطرف الأقصى من هاوية مصير لا قاع له ولا قرار. فكأنما هذا الشعر المدان تعبير طبيعي عن شروخ هذه الحياة وتصدعاتها التي لا تحصى. فلماذا لا يكون له الحق في التجريب والاختبار والتجاوز. رغم ما يشرب البعض منه من غثاثة وسوء تعبير وجهل بتاريخ اللغة وطاقات عملها!؟
كل الفعاليات البشرية من أدبية أو علمية، أو هندسية أو طبية.. الخ. تمارس حقها في التجارب والاختبارات ولها نصيب الفشل والنجاح كأي ممارسة بشرية ولا ترتفع أصوات الاستنكار واللعن إلا على الممارسة الابداعية في الشعر.
وهو بلا شك تأكيد آخر على مركز يته في الذاكرة العربية، كون ذلك أيضا لا ينفي مشروعية الدفاع عن المنجز الابداعي الهام فيه والذي لو استقبله نقد موضوعي في اطار حضاري (ليس شلليا أو عشائريا) لفذي الذاكرة العربية المنكوبة بدم جديد ومساءلة جديدة. يبقى هذا الأمر قائما ضمن هذا التصور حتى لو اندفع الشعر الجديد ني مسالك من العدم والفوضى بالمعنى الأصيل الخلاق، تلك الفوضى التي هي قرينة التجريب والتي يصفها ( كلود ليفي شتروس ) بقنطرة البحث عن نظام أفضل للأشياء. وذلك العدم والمنفى والوجد الممزق والعزلات النائمات على شواطىء البحار، تلك الأشياء التي لا يستقيم أؤد أي ثقافة حقيقية إلا باختراقاتها المقدسة.
لم يكن الأدب العربي الكلاسيكي أيضا إلا مخترقا بهواجس هذا الوجود المضطرب روحا وشكلا حسب الفترات والأزمنة والشخوص، ولم يكن أسير الوظيفية الساذجة لمفهوم الأدب والشعر إلا في جوانبه الضعيفة. إذ يطمح الجديد الى الاستفادة من ذلك الميراث الروحي مقرونا باستلهام الحياة والمعيش المعاصر، الحي واليومي، فذلك هو الاستمرار الابداعي في روح الأمة التي أوشك البلاء أن يسود جنبات حياتها.
يختلط المشهد الشعري العربي ويغيم، ويلتبس،0ليس في ذهن متلقيه أو قارئه بالمعنى العادي فحسب وانما يحتدم السجال والصراع ويصل حد الالغاء المتبادل بين أطراف منتجيه ومبدعيه، فلا تتداخل موجاته وتتحاور في سياق ابداعي حقيقي وانما تنبني وجهة وعلي تفتعل القطيعة والتفرد المطلق بأشكال مختلفة، من انبثاق أجيال ومجموعات متوهمة، يصل وهم تفردها واعتدادها بمثالها الابداعي حد العصبية التي لا تلين ولا تتنازل عن حق السحق والتفوق. ينطبق هذا التلميح على أطراف الشعر الحديث أو معظمها، المتقدم والمتأخر منها، فالمتقدم يزعم السبق والأصالة والخبرة وغير ذلك الذي لا يرده اللاحق المنضوي تحت لواء أكثر جدة وهامشية واختراق.
ليست عصبية الشعر الجديد أو القصيدة النثرية وحدها التي تمارس نفي الأخر أو تهميشه فقد سبقت قصيدة التفعيلة، دعك من شعر العمود الخليلي المعروف، الى هذا الالغاء
والتهميش بزمن طويل، فقد مارست حقا شبه مطلق في احتكار الشعرية العربية ومنابرها واعلامها ونقدها. فجاء الرد الصاعق لاحقا بما يتساوى أو يزيد وينقص مع حجم الاجحاف والعشوائية التي مارسها السابقون.وانحشر جدل الشعر بهذا المعنى في زوايا ضيقة واستقطابات عصبية لا ترى شيئا خارج ذاتها ومثالها المسبق. والشاعر قبل أن يستوي ويلامس قدرا من نضج وتأمل واستقلالية تفكير لابد غارق في تلك العصبية واغراء جماعيتها التي توهم بالحماية والأمان الشعري السهل، بما يعنيه من ترويج اسم وكتابة يشبه الربح السريع في عالم التجارة والمقاولات.
الشاعر اللاحق أو الجديد.. الخ. في هذا السياق ينقلب على نفسه وأطروحته التي تحاول اجترار عزلة وهامشية ورفض لجماعة، يرى أنها ذات منحى قطيعي. عكس شاعر المرحلة السابقة الذي يتواءم مع مشروع وهم جماعي لم يلبث أن أصابه العطب والانكسار أمام اختبارات الوقائع والتاريخ.
هل يتمخض في خضم هذا المشهد العصبي شعر حقيقي أو يتجاوز بانفتاح الحوار على الاتجاهات والرؤى والحياة التي لا يمكن تعليبها في قالب ,أو مثال !.
ميلان كونديرا
الزوغان الدائم في أعماق المتاهة
اذا كانت رواية “الضحك والنسيان” للتشيكي ميلان كونديرا، تفتتح عالمها- بشخوصه وتناقضاته وسياقاته المختلفة- بتأملات سياسية ساخرة حول حدث مفصلي في تاريخ بوهيميا والعالم، وهو انبثاق الشيوعية في التاريخ.. واعتلائها سدة السلطة- كنظام ومؤسسة- من خلال وقوف القائد الشيوعي “كليمان غتوتوالد- عام 1948- على شرفة قصر من العصر الباروكي، يخطب امام مواطنيه المحتشدين في قلب ساحة براغ القديمة.
في ذلك اليوم كان الجو بالغ الإضطراب وكانت الثلوج التي لا تنقطع حين مد “كليمانتيس”- القائد الشيوعي الثاني في التركيبة الجديدة-يده نازعا قبعة رأسه.. يغطي بها غتوتوالد المكشوف الرأس.
لم تلبث هذه اللقطة الثلاثية “بين اليد والقبعة والرأس.. رأس الدولة ؟؟” ان تحولت- عبر اجهزة الاعلام- الى اشهر صورة تغطي “بوهيميا” – تشيكوسلوفاكيا الآن – بأكملها.
بعد أربع سنين أعدم “كليمانتيس” شنقا بتهمة الخيانة، وسارعت نفس تلك الاجهزة الى اخفائه من كتب التاريخ، بالقدر نفسه الذي سحقه من الحياة.. وظهر- بعد ذلك- الرئيس “غتوتوالد” وحيدا في شرفته الباروكية في القصر الذي صعد سلالمه – ذات زمن- الروائي الشهير “فرانز كافكا” ولم يبق من “كليمانتيس” اي أثر سوى تلك القبعة من الفراء.. التي أطلت- من غير يد صاحبها- تغطي رأس رفيقه الاول.
حقا إن صراع الانسان مع السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان، حيث تحاول السلطة تحويل البشر الى قطعان من غير ذاكرة حقيقية.. ومن غير تاريخ، عدا ما تدرجه اجهزة إعلامها وكتبتها في اذهان الناس.
ورواية (ميلان كونديرا) الاخرى “خفة الكائن التي لا تحتمل” تبدأ بتأملات من نوع آخر حول “الخفة والوزن” ويمهد (كونديرا) لذلك بنقاش فكرة “الرجوع الابدي” لنيتشه، تلك الفكرة التي بنى عليها الفيلسوف الالماني تصوراته الصعبة، حول تكرار ما عشناه تكرارا لا نهاية له.. لان الحياة التي تختفي مرة واحدة هي حياة خفيفة الوزن.. وهي ميتة سلفا، مهما كانت نوعيتها.
يقلب (كونديرا) هذه الفكرة.. ويهيم بها في شتى وجوهها كما يفعل في مجمل كتاباته فاتحا كل شيء على التوقع والاحتمال، كي يصل الى ما يريد الوصول اليه الى العمل الروائي كما يراه وينظر له.
هل يمكن الحكم على كل ما هو عابر
يتساءل:
ان سحب الغروب الملونة بلون البرتقال تنير كل شيء بسحر الحنين “حتى المقصلة”.
من هذا المنطلق، داهمه- ذات يوم شعور الحنين.. وهو يتصفح صورا لهتلر لدرجة انه تأثر ببعضها.. وهو الذي قضى بعض أفراد عائلته في معسكرات النازية.
لكن ما أهمية ذلك.. أمام هذه الصورة التي ذكرته بأيام صباه؟.
هذا التصالح مع (هتلر)- في نظر كونديرا- يفضح الانحراف الخلقي لعالم مبني- أساسا- على الزوال النهائي.. وعدم الرجوع.
لكن الاشياء العظيمة ذات ثقل خاص، وهذا ما دفع (نيتشه) الى القول بان فكرة “العود الابدي” هي اثقل عبأ.
ثنائية “الثقل والخفة”- إذن هي أكثر الأشياء غموضا والتباسا..
* * *
يدخل كونديرا هذه التأملات الاولى حول العابر واللامتناهي، حول الثقل والخفة في صلب النسيج الروائي لعالمه وشخصياته الشاسعة الاطراف والنوازع والانشغالات. وعلى هدي هذه التأملات رأى لاول مرة “توماس” وهو واقف على نافذة من نوافذ شقته وعيناه محدقتان في جانب الفناء الآخر من المبنى المقابل، ولم يكن يدري ما ينبغي عمله. كان يفكر في “تيريزا” التي تعرف عليها في قرية صغيرة من قرى بوهيميا، وها هي تدخل حياته، هل دخلتها بثقل أم بخفة؟ على كل حال كانت قادمة وفي يدها حقيبة ثقيلة حشرت فيها كل ملابسها وأشيائها، وكان توماس الذي لم يخلق للعيش بجانب امرأة واحدة. يفكر بأن هذه المجهولة التي اخترقت حياته تشبه طفلا وضع في سلة مطلية بالقطران وتركت تنساب مع مجرى الماء، وها هو يتلقفها قرب سريره، وهو الذي كان يبحث عن تسوية بين خشيته من النساء واشتهائه لهن.
كانت تيريزا واقعة تحت سطوة الصدفة التي حطت عليه كالعصافير على كتف قديس، كانت هناك صدفة الكتاب الذي كان بين يديه والتي كانت ترى فيه منذ صباها امارة على أخوة سرية، وكانت صدفة بتهوفن ورقم ? ومقعد الحديقة العامة.. الخ، كان اجتماع تلك الصدف دافعا لقلب حياتها من مشرب حقير في قرية نائية باتجاه توماس.
وكان هروبها من حشد الاجساد المتساوية في عالم الأم التي فقدت شبابها حين كانت جميلة ومرغوبة من قبل ?? خاطبا وحل مكانه صفاقة لامتناهية وألم.
كانت تيريزا تبحث عن الاختلاف امام المرآة حيث كانت روحها تطفو على سطح الجسد شبيهة ببحارة يندفعون من قلب السفينة ويلوحون بأذرعهم ويغنون، إنهم يغنون لتوماس الذي قدم الى قريتها عبر صدفة مهمته كطبيب في احد مستشفيات براغ.
يدفع الروائي التشيكي شخصياته عبر تأمل عميق في أنواتها المتشظية، على اكثر من محور، فتوماس الذي لا نعرف شيئا عن ماضيه عكس تيريزا، كان يشكك في حقيقة حبه لها، لكن حين قررت الرجوع من سويسرا، التي لجأوا إليها بعد الاكتساح السوفييتي الشهير لتشيكوسلوفاكيا (عيد البغض المسكر) والتي كانت تمارس اثناءه، مهنتها عشيقته الرسامة “سابينا” في جنيف ورغم الاحتلال الجاثم على بلاده، فيقرر الرجوع، وبيد أن هناك حياة مختلفة حيث يتم فصلهما من العمل فتعود هي ساقية في حانة ويتحول توماس من طبيب شهير إلى منظف للزجاج يلهث من بيت الى بيت بعد رفضهما الانخراط في أطر السلطة القائمة.
* * *
لم يكن تحليل كونديرا للاوضاع السياسية في بلاده والعالم وتأمله فيها، ميلا نحو وضع رواية سياسية وأيديولوجية، بقدر ما كان جزءا صميميا في سياق روايته التجريبية الخارجة على المقال والتصنيف الجاهز فهذا التأمل مثله مثل بقية الاشكاليات الاخرى يندرج ضمن الاستيطان الوجودي الشامل للشخصيات التي تتقدم دوما نحو خصوصياتها منسلخة ومفارقة على النعيم والنمطية، فكل شخصية لها أشكال وجودها الخاص، لها مفاتيح كينونتها التي يسبر كونديرا، أوجهها المختلفة عبر “الاستجواب التأملي” وليس عبر المنولوج الداخلي والتداعيات، تلك التقنيات التي اصبحت تقليدا سائدا في الرواية على مستوى العالم.
في هذا السياق هناك توماس الذي يتم سبره عبر خصوصيته المتمحورة حول الخفة والجاذبية، والاغواء.. الخ. وتيريزا، عبر الجسد، الروح، والدوار، وسابينا الرسامة وفرانز الاكاديمي، عبر كلمات هي مفاتيح جوهرية لوجودهما مثل: المرأة، الخيانة، الظلمة، الموسيقى، المقبرة.. الخ.
كانت سابينا ترى ان الكلمة الوحيدة التي ترن بلطف في اذنها كذكرى حنين الى مسقط رأسها هي كلمة: مقبرة.
اما توماس فلا يخطر على باله وهو ما يعذبه ويدفعه الى تعدد العلاقات ان يكون حب حياتنا الكبير شيئا خفيفا تافه الوزن، بل على طريقة بتهوفن “ينبغي ذلك” والقرار الموزون بصرامة.
* * *
يذهب كونديرا، مذاهب شتى في غرز مبضع التحليل والتأمل في أغوار شخوصه وكائناته ومن خلالها وعبرها يفضح الوضع البشري القائم وآليات قمعه ومصادرته لكرامة الانسان واعماقه وحريته، وهو إذ يذهب بعيدا في تعرية البنيان التوليتاري لانظمة الشرق الاوروبي “سابقا” بنفاذ بصيرة ممزوجة بالسخرية انطلاقا من تشيكوسلوفاكيا، فلا تحدوه أدنى قناعة في مثال سياسي وفكري قائم. فهذا الوريث الكافكوي على نحو خلاق- اي ليس هناك رحى الفتك الكافكوي فحسب وإنما أراض شعرية شاسعة- يعري بالمقابل سوء طوية المعارضة وضعف أطروحاتها، ويفضح أكاذيب الاعلام الغربي وأنانيته واستبداده.. ويرى كونديرا ان “الكيتش” وهي كلمة المانية تعني التوافق القاطع مع الكينونة، وبتعبير أوضح النصب والاحتيال، هي المثال الأعلى الجمالي لجميع الحركات السياسية والساسة. إنه يطال كل الانظمة التي تدعي الكمال والعصمة، فشخصياته دوما تهرب باتجاه اللاإكتمال والتحقق الذاتي المنفتح على أشكال الوجود الممكنة.
شخصيات كونديرا ورؤاه، لا يمكن اختزالها على نحو من الانحاء لتعدد مصادرها ومصباتها، ولزوغانها الدائم في أعماق المتاهة، شخصيات مشدودة إلى فخاخ مصائرها التي حبكتها لنفسها وتلك التي صنعها الآخرون نجدها في المطاف الاخير من التعب، تهرب قبل فوات الأوان نحو “العزلة” غاسلة أرواحها من وحل العالم وقذارته، فتوماس وتيريزا، يهربان نحو القرية الصغيرة النائية التي التقيا فيها لأول مرة مع كلبة في طور الاحتضار، وهناك ستكون النهاية الحكيمة، مثلما كانت البداية شبيهة بموت القدر.
وكذلك فعل “لودفيك” في رواية “المزاح” حيث ينعزل على أنغام موسيقى بوهيميا التقليدية، صارخا بفضائل العزلة وعالمها الذي أخذ يضيئه بجمال أخير، تاركا وراءه جيوش وموظفي الثقافة والدعاية والاعلان.. فكانما العزلة هي المعبر التطهري نحو الموت الذي يتربص بالجميع.
* * *
مرة أخرى، أيهما الموجب، الوزن ام الخفة؟ يبدو ان الامر مع ابطال كونديرا، ومن طرف خفي، ان الثقل هو الموجب عكس ما ذهب “بارميند” بل حسب ما ذهب بتهوفن ونيتشه، فقد كان توماس، مولعا بهذا الموسيقار وخاصة بالحركة الاخيرة من الرباعية حيث “ينبغي ذلك، والقرار الموزون بصرامة فليس صارما إلا ما هو ضروري وليس من قيمة إلا لما له وزن..
وفي مكان آخر من “خفة الكائن” يقول كونديرا معلقا على مصير أبطاله.
“نيتشه، هذا الذي أحبه كما أحب تيريزا(…) وأراهما كليهما جنبا الى جنب، إنهما يبتعدان معا عن الطريق الذي تتابع البشرية- سيدة الطبيعة ومالكتها- تقدمها”.
وإذا كان كل من “تامينا” في رواية، الضحك والنسيان، و”سابينا” في “خفة الكائن” من ترجمة عفيف دمشقية يلاقيان حتفا متماثلا تحت رعب الخفة وخطرها، فان “توماس” و”تيريزا” يلاقيان حتفا آخر تحت مؤشر الثقل، لكن ضمن القرار الذاتي الموزون بعناية، يبقى الالتباس يكتنف هذه الاشكالية وهو التباس الفن في شكله الارقى.
ميلان كونديرا، في سرده وتأمله لمسيرة الوضع البشري، في الوقت نفسه تأمل في مسيرة الرواية واختبار لاشكالها المفارقة.
بحث في طبقات الزمن واطواره المختلفة.
البداهة ونقيضها وحوار الأمكنة
في هذا السياق ، أي سياق إشكالية ، أو إشكاليات الحوار والتواصل في الوطن العربي في صعيده الثقافي.
هذا العنوان البديهي والمعقد في الوقت إياه ، بديهي،لأن البداهة بمكان أن يكون هناك سياق ولادة طبيعية ورحمية لهذا الحوار وهذا التواصل. ولسنا بحاجة إلى التذكير بجامع اللحمة وقوامها بين بلدان الوطن العربي، بحواضره وبواديه ، محيطه وخليجه..
وهي لحمة لا تأتي الأحداث وتقلبات التاريخ وفواجعه ونكباته إلا لتزيدها تأكيدا وبداهة وقوة آصرة ، مهما شطلت الأطروحة الكسيحة في تصوير عكس ذلك.. ومهما تبدت الصورة غائمة وملتبسة وبكماء، من فرط ما انهال عليها من غبار الايديولوجيا والخلافات بنوازعها واستقطاباتها المختلفة.
لكن هذه الآ صرة الرحمية التي تمتد بداهتها في الولادة والمصير وفي عمق اللفة والوجدان لا تلبث أن تخترقها سهام الاشكاليات المختلفة وتطوح بها في مهب السؤال المقلق والعاصف.
فنظرة ولو سريعة الى المشهد الثقافي الراهن ـ دعك من السياسي – بعناصره واتجاهاته وأجناسه لأدبية والفكرية لابد أن تغرق في هذه الاشكاليات لمتراكمة والمدوخة..
الثاني إلى عنصرين أساسيين ، أحدهما تقني، إداري، ، الثاني فكري، إبداعي، سجالي.. والعنصر الثاني بشتى فضاءاته ومناحيه. يذهب بنا الى توليد أسئلة لا حصر لها، تبدأ من نقاش المواقف والآراء أمام الكثير من لقضايا التي تندرج في سيرورة التاريخ الاجتماعي.الفكري في الوطن العربي وخاصة الأحداث المفصلية لجسيمة التي طرحت بقيم الأمة وثوابتها التي تشكل لمصير المشترك للمجتمعات والأفراد..
ولا تنتهي – أي الأسئلة – في السجال حول لاتجاهات الابداعية وأنماطها وأماكنها ورؤاها..
وإذا كان بين هاتين الاشكاليتين تداخل واضح لا مناص منه ، فإن هذا التداخل لا يصل حد التلابس التماهي إلا في حقل الأفكار والفنون وآفاقها ورؤاها..
إذا كان المشال الساطع للاشكالية الأولى هو سير لتاريخ العربي منذ بداية القرن عل الأقل ، مرورا بما اصطلح على تسميته بـ “عصر النهضة ” هذا المشروع لذي لم يلامس أثره بحسم التحولات الفعلية للتاريخ.الواقع وظل ، غالبا، في إطار النخب المثقفة والمستنيرة ،
حتى الأربعينات والستينات وصولا إلى برهتنا الواهنة..
هذا المسار المترجرج والملي ء بالولادات القيصرية والتشوهات والمليء بالطنين الفارغ للخطابات اللاتاريخية واللاعقلانية أنتج هذه التجليات الفاجعة ، التي تصل حد التراجيديا وفق دلالات التسمية الاغريقية ، التي تسم أشد أنواع الماسي فتكا وتدنيسا وصراعا قدريا عاتيا قذفت بالمثقفين العرب إلى هاوية خلافات لا حصر لها..
لا شك أن الخلافات تكون ، معين إثراء لأطراف السجال وصراع الأفكار وهو ما نحن بأشد الحاجة اليه ، لكنها تكف عن أن تكون كذلك حين تتحول وجهة الخطاب الى خصومات وحروب تفلي وتحجب تحت مواقدها الأخطار الحقيقية وتستفحل..
يتساءل العربي الأن ، بعد أن أوشك قرن انكساره الحديث على الانفراط:
بأي إنجاز حضاري معاصر سيدخل القرن الحادي والعشرين الذي نقف على عتبته وجها لوجه ؟
وليس من جواب ولا تلويحة شبحية لجواب وسط مناخات تشكل لوحة باهظة لحروب الطوائف واقتتالاتها المجانية ؟ وسط هذا اللهاث الكوني في سياق السيطرة على ما تبقى من مقدرة العالم الذي يشكل العرب العصب المركزي من ثرواته وحياته..
ويتساءل المثقف العربي أحيانا أمام هذا الوضع ، إن كنا ما نزال منشدين كما ينشد القط لخانقه ، نحو الفكرة الخلد ونية (نسبة الى ابن خلدون ) في انهيار العصبيات والممالك وصعودها، وفق هذا القانون الموضوعي الصارم الذي وضعه الفيلسوف العربي منذ ستة قرون ؟
لا نستطرد في مفازة الوضع العربي التي لا حد لها.. أشير إلى الجدل الثقافي العربي في أفق الصراع والحوار في حقل الاتجاهات الأدبية والفنية التي تتوزع في الأمكنة العربية المتعددة..
هذا المنحى يشكل ملامحه الخاصة رغم أنه يفض ويتداخل بالضرورة مع الأفق الآخر الذي أشرت ، فالاتجاهات الأدبية وأنماط التعبير التي بدأت تسود الساحة الثقافية العربية منذ العقد الثالث لهذا القرن ، كانت دائما مخترقة بالصراعات الأيديولوجية والاجتماعية ، نشاهد ذلك في الساحة المصرية بشكل مبكر واللبنانية في فترة لاحقة كمثال الصراع الذي كان قائما بين منبرين شكلا محور سجال هاما على صعيد الشعرية العربية ، أقصد مجلتي “شعر” و “الآداب ” وعلى المنوال نفسه في بقية حواضر الثقافة العربية ، يعطي فكرة حيوية دالة على ذلك..
جدل الاشكال وتطورها، دائما يخضعه الفرقاء الى منطلقات تنظيرية ، تاريخية وفكرية ، تتعلق بهوية اللغة وقيمها الثابتة المقدسة ، وتلك المتحركة المتطورة باستمرار، مما يطرح بالضرورة قيم الأمة وتراثها في إلحاح الجدل ومتطلباته.
يستمر السجال ويتخذ أشكالا متفاوتة من علو النبرة وخفرتها ويذدفع أحيانا إلى نوع من أنواع حدة الخطاب وعنفه ، وهو في كل الأحوال دليل حياة الثقافة ، أي ثقافة ، شرط الا يسقط في فخاخ المؤامرات ورغبة تحطيم الآخر والغائه.. وهي مظاهر نشاهدها بكثرة في أوساط الثقافة العربية الواهنة ، وكأنما الذات المثقفة والمهزومة أمام تاريخ بالغ القسوة لا تجد متنفسا وتعويضا إلا في تدمير نفسها وشبيهها..
إذ كانت أشكال التعبير واتجاهاته وإيقاعاته المختلفة تثري بعضها عبر الرغبة الصادقة في الحوار والكشف عن منابع الحقيقة الابداعية ، وكذلك الأمكنة العربية التي ينتج فيها هذا الابداع وهذه الثقافة التي تشكل معمارا متعدد القسمات والخصوصيات ، ومن هذه الرؤية لا معنى للتعالي الزائف الذي يبديه البعض تجاه الآخر تحت مبررات لا تخدم إلا أغراض التعصب والرؤية الضيقة ، فالثقافة العربية بهذا المعنى نهر ذو روافد مختلفة.
وبطبيعة الحال يظل هناك الأقوى والأسبق في هذه الروافد بسبب عوامل كثيرة. لكن وحدة الابداع المشترك هي دليلنا المني، في هذا الليل المعربي المحتدم بالأشباح والهرام واكلة لحوم المبشر..
ويصعب عل شخص مثلي ، لم يرتبط بوحدة الثقافة العربية وخصائصها ومناخاتها المتعددة عبر الاجترار الشعاري والمدعائي وإنما عبر تجربة حية وعلاقة معيش ، يصعب أن أسمع كلاما حول التقليل أو التعظيم من كتابة أو كتاب ليس لأسباب تتعلق بمقاييس المتقييم والنقد وإنما لانتمائهم لهذا البلد أو ذاك ، وهي نغمة تخترق موقفا ثقافيا يقي بوضوح ضيق الأفق والنزعات المرضية المختلفة المصادر والمشارب..
أشير أيضا الى مستوى الحوار والجدل حول الوضع الثقافي العماني، هذا البلد الذي يشكل تراثه الضارب وتاريخه جزءا أساسيا من كتابتنا الجديدة والواهنة ، وبعد الخصوصية العمانية في تقاطعها وامتدادها مع الثقافة العربية الشاملة.
في هذا السياق ، كانت المساهمة المشتركة من قبل كتاب ، هاجسهم الأساسي الابداع والعطاء الصادق ني خلق نوع من تقاليد الحوار والاختلاف على أرضية تتأسس باستمرار – وليس المظهرية وحشد الأقنعة -والطموح نحو الرؤية التعددية المنفتحة على الذات و”ألآخر” فكان هناك الجدل المشترك لأكثر من نمط تعبير ورؤية في الطريق إلى التبلور والوضوح ، ورغم أرتفاع وتيرة الحوار والخلاف أحيانا بين كتاب عمانيين أو مع اخوة من بلدان عربية أخرى،ظل توخي الاحترام المتبادل وإثراء الحقل الثقافي وإخصابه هو بيت القصيد بالنسبة لنا.
وفي رأيي أن الكتابة العمانية الحديثة اذا لم تفرز نقادها ومؤرخيها الحقيقيين والفاعلين ،وهو ما نشهد بداياته الجدية ، من قلب المشهد الثقافي والأكاديمي، ستنفل ليست ناقصة النقد والتوثيق فحسب ، وإنما نهب لكل جاهل ومتطفل من كل حدب وصوب.. وتطل مختبرا لنقاش سطحي تمليه المناسبة العابرة وعشوائية التصورات الثقافية وفقرها المدقع من قبل أناس ينطبق عليهم المثل السائر (فاقد الشيء لا يعطيه ).
هذه الفئة التي لا تملك أبسط الأدوات المعرفية ولا تملك أبسط مكانة ولغة حوار، نواها منذ سنوات ، في بلدان الخليج العربي تصول وتجول في المحافل والمنابر لتقييم أعمال غير مؤهلة لتقييمها سلبا أو ايجابا، والأمثلة كثيرة عل ذلك ، حين تتطلب الضرورة الدخول ني التفاصيل والحيثيات..
سيكون إصرارنا على قطع الصلات مع هذه الفئة وممارسة السمو والترفع على فراغها اللفظي والمعرفي ، لا يقابله إلا إصرارنا على مد هذه الصلات واحترامها والاستفادة منها في تجربتنا العمانية ، مع كتاب وأسماء، عمانيا وعربيا، تتوخى الحقيقة والجدل المثمر عبر آفاقهم المعروفة بالجدية وتجاربهم التي تميم أرض إنتاجهم وإبداعهم سواء في الاختلاف أو الاتفاق في الايجاب والسلب.
بقي، أنني لم أشر الى عنصر آخر ذكرته بداية هذه العجالة ، أي العنصر الإداري، التقني وهو ما يتعلق في جانب منه بالمطبوعات العربية وتوزيعها وما يحيط بذلك من مشاكل مختلفة تمتد من بيروقراطية الرقابة حتى ضعف جهات التوزيع في غياب أي مشروع عربي شامل لذلك. وهي مسألة وإن كانت ملموسة من الجميع ، فدقة الحديث عنها تناط بخبراء هذا المجال وشؤونه وشجونه..
جدل الأشكال الشعرية ونزار قباني
في وجه ملتبس هن أوجه السؤال الشعري في برهته الواهنة، لا يمكن الذهاب الى نهاية “الريادة” بالمعنى الإبداعي المستمر في الزمن وليس بالمعنى البراني اللفظي، ولا الى أن الشعر العربي وصل مرحلة “الصفر”.
الريادة إذ أشرفت على الانطفاء الجسدي، بداهة، لا يعني نهايتها الابداعية في جوانب قوتها الشعرية والنظرية المستمرة.. والنظر في المشهد الشعري العربي الراهن لا علاقة له بذلك الانتهاء أو الاستمرار، يمكن النظر اليه كمرحلة إبداعية واستمرار تطوري على نحو من الانحاء، له جوانب قوته وضعفه، للأزمنة الشعرية السابقة عليه والمتجهة صوب المستقبل، إن كان هناك من مستقبل لشكل تعبيري بعينه! استمرار تخترقه القطيعة وهواجس “القتل “ والضدية، مثلما يخترقه بالضرورة التواصل والمحبة وانحلال طبائع الأسلاف اللامرئية في خلايا السلالة وحيواتها الباطنة.
من المجانية والشطط، الذهاب الى أن الشعر العربي، راهنا وصل مرحلة (الصفر) هذه الكلمة التي استخدمت في غير سياقها المقصود وبشكل خبيث وجاهل أحيانا عما كان يرمي اليه الشاعر سعدي يوسف. هناك شعراء “الصفر” يقينا وهم موجودون في كل الأزمنة البشرية، لكن ليس الشعر في جموحه المتجدد والمؤشر دوما، بشكل غير مباشر، غالبا، كقوة خفية الى الوضع والتاريخ العربيين في انهيارهما اللامحدود.
طوال تاريخ الابداع هناك صراع أشكال ورؤى، ليس فقط صراع “أجيال” بالمعنى المانوي المستخدم بحدة، ومن منبت بديهي. كون الابداع لا زمن له بمثل هذه الرؤية المحدودة للزمن. الشعرية العربية الحديثة منذ بداياتها الريادية الأولى وحتى راهنها، هناك تداخل أشكال ورؤى ومبان شعرية مع غض النظر عن فوارق العمر والزمن. هذه المسألة تنطبق على الكثير من الأسماء والتجارب بمختلف فصول الشعرية العربية الحديثة.
كلمة “رواد” هي الأخرى كلمة مطاطة. فهناك الريادة الحقيقية في سياق التجديد الشعري والثقافي، بما فيها قصيدة النثر التي أصبحت تشكل المتن الشعري على نحو ما برغم ما تدعيه من امتياز نبذ وهامشية أصبحا من نصيب الشعر العمودي المتوارث: إنه نوع من سخرية القدر حيث مارس التاريخ مكره بحدة حسب التعبير الهيجلي إن صح في هذا السياق.
وهناك الريادة الصدفوية البرانية التي تنطبق عل بعض الشعراء في تلك المرحلة التي اتسمت بالتأسيس، ليس لأنهم شعراء رادوا الحداثة والابداع الحقيقيين بل لأنهم كتبوا في تلك المرحلة.
هذه الاشارات السريعة لا تنفي أن لكل مرحلة خصائصها وتصوراتها التعبيرية الأهم، كون الأدب والفن والشعر جزءا من حركة الزمن والحياة والمعيش وليس مفاهيم محلقة في فضاء التجريد المطلق. وراهن حياتنا ومعيشنا غير ذلك الذي نشأت فيه الحداثة: إبان ريادتها.. هناك نوع من انقلاب تعبيري أملته شروط حياة مختلفة.. اتجهت القصيدة الجديدة نحو مناطق أكثر خطورة في عريها وانغراسها في حياة لا غطاء لها من أي نوع كان، تاريخي، أيديولوجي، فكري، أصبحت أقرب الى ذاتها وحياتها المرارة باليأس والانكسار والاشراق.
سؤال الابداع الشعري الراهن، سؤال اشكاليات متشعبة ومدوخة، تتناسل باستمرار والا أصبح عادة روتينية فارغة، نوع من بيروقراطية كتبة حصيفين ومواظبين لكن من غير لوثة أو إطلالة حمقاء على الهاوية.
انكسرت أشياء كثيرة، تصدعت عن أماكنها المعتادة، وقيما تصدع تلك السطوة المتوارثة لشر المنابر ومواصفاتها المحفوظة غيبا والتي لا تعني جوهر العملية الابداعية في شيء: لنتخيل الشاعر الجديد المختلف، مذعورا متطيرا من تلك الحدبات التي فرخت أسوأ الشعر العربي، معمدا ببركات الكنيسة الايديولوجية الصاعدة في تلك الفترة. من منا لا يتذكر حين كان سوء الطالع يقذف به الى سماح ذلك الرجل المنبري وكأنما يمارس أقصى حالات المازوشيه. هناك طبعا شعراء كبار تشرفت بهم المنابر، لكنها لم تصنعهم، لقد صنعهم ثراء الموهبة والتجارب المريرة.. أصبح الشاعر الجديد لا يميل الى الانشاد المنبري ويجتاحه نوع من احساس المقصلة وبأن المشهد بكامله عبثي ومضحك وأتخيله أحيانا يتوسل أفكارا إبادية لانهاء هذه الورطة التي لم يعد لها من مبرر.
لاشك أنها القصيدة المفتوحة على برزخ الولادة والموت. قصيدة التيه والوجد الممزق.
اكتشاف نزار قباني(*)
أتذكر وسط هذا الضباب الكثيف للذاكرة، اللحظة الأولى التي قرأت فيها نزار قباني في القاهرة وبحي العجوزة تحديدا، حيث كنت أسكن مع طلبة آخرين.
كانت الشقة التي نعيش فيها تطل على مخفر كبير للشرطة ومستشفى. كنت أراقب دوما صخب الخروج والدخول اليهما وتلك الفوضى البشرية العارمة.
كان عام 1970 في أواخره حيث بلغت من العمر ثلاثة عشر عاما، بداية التماس مع الراهن بمعطياته الفكرية والثقافية والسياسية، أنا القادم من الضلع الأقصى لشبه الجزيرة العربية، حيث كانت بلادي العريقة قبل هذا التاريخ ترزح تحت عبء ما هو أسوأ من القرون الوسطى. كانت على صعيد المعرفة والتحديث بأشكالهما المختلفة، أشبه بكهف مقذوف في أقصى كوكب مجهول، كهف مليء بالخرافات والسحرة والجذام.
وكانت القاهرة آنذاك خارجة من جنازتها الكبرى بموت جمال عبد الناصر الذي مازالت صوره تضيء سماء المدينة الضخمة بآمال أوشكت على الغروب، وملامح عهد جدد يرتسم في هذا الأفق الخماسيني المترب.
في ذلك الزمن عرفت نزار قباني عن طريق بسطة كتب أسفل العمارة التي نقطنها.
كانت لحظة اكتشاف صاعقة على الصعيد الشعري.
فلم أكن قرأت قبل ذلك شعرا متحررا من المفهوم التقليدي للشعر بمعناه النظمي الشديد النمطية والتسطير الذي كانت تزخر به عمان، حيث كان العمود الكلاسيكي المتين يشهد انكساره الأخير، وذاهبا (الشعر) نحو أفق آخر وحياة أخرى، مثل شعر نزار قباني. كانت لحظة أشبه بانتفاضة للحواس والدم، والوعي في تشابكها واختلاطها بالمحيط السياسي والفكري الذي بدأت ألج تخومه الجديدة تماما بالنسبة لي.
من البوابة القبانية دخلت أو حاولت الخطوة الأولى نحو أفق الشعرية العربية الحديثة، “أو الحداثة” بتجليات وعيها المختلفة. هذه الكلمة التي تجسد مصطلحا بالغ التعقيد والصعوبة في. المستوى العربي والذي لم يعد نزار قباني يحبذه ويتحفظ عليه على المستوى الشعري تحديدا، كان هو من بناته الأوائل والفاعلين في أرضية الأجيال اللاحقة، أو وفق أنسي الحاج كلنا نشأنا في ظلاله.
كانت البوابة القبانية عبر القاهرة هي دليل الخطوة الأولى ومكابدتها نحو أفق آخر مختلف في تصوراته ومفاهيمه ورؤاه، ومنه دخلت الى تجليات أخرى لهذا الفضاء الجديد من السياب وأدونيس، ويوسف الخال، وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وعبد المعطي حجازي وحتى محمود درويش.
لم يكن نزار قباني منضويا تحت لواء جماعة أدبية أو ثقافية بمنابرها المختلفة التي كانت تسود المرحلة وتسمها بطابعها وتكوينها وممارستها الابداعية والتنظيرية.
فضل أن يكون منبرا بذاته، متحصنا بإنجازاته و”جماهير” هذه الأخيرة التي وجدت في بساطته الماكرة، غالبا، وشفافيته الغنائية، الفضائحية، التعبير الأوفى عن نزوعاتها وهواجسها السياسية والجنسية المطمورة في ظل اخطبوط المؤسسات القامعة، وهي التي (الجماهير) أعطته صفة “النجم” وسط رمال شعرية متحركة وممارسات تذهب مذاهب شتى من التجريب والهدم واللبس الفني في خارطة الشعرية العربية التي راحت تنأى عن شعر “الجماهير” في معظم الممارسات والتنظيرات الشعرية الحقيقية، بينما هي تحاول الايغال على صعيد الانجاز الفني والابداعي في التعبير عن تشظيات الذات الفردية وخرابها في ضوء خراب الجموع والهزائم والنكبات.. وجاءت هزيمة حزيران لتعمق هذه الرؤى وتدفع بها الى الطرف الأقصى من غسق الهاوية، مثلما نرى ونقرأ المشهد الشعري، الحياتي الراهن.
في هذه العتمة التي ترشح نورا قليلا، قاتما، ظل نزار قباني مواصلا خط سيره وطرائق تعبيره ورؤيته التي لا لبس فيها ولا غموض يعكر صفو العلاقة بين شعره وجمهوره، حاملا طموحه عبر سلاح الشعر، في تحرير الأمة من كوابحها وتابواتها وهمومها في الجسد والفكر والسياسة.
لا يختلف قباني كثيرا عن فرقاء الحداثة الآخرين في حمل الشعر على فواجع الأمة وقضاياها الكبرى، لكن الحمل هنا لا ينعكس لبسا وخوافي على جسد التعبير الشعري. فالطريق واضحة وشمس الشعر مازالت ساطعة.
يتسع جمهور القصيدة القبانية لفئات المجتمع وطبقاته رغم انحياز شعره الى المحرومين المهمشين والمقموعين بصراحة تصل حد الشعار والبوح والمثل السائر -رجالا ونساء فيقرأه ويتداوله الجميع القامع والمقموع، ابنة الحي البرجوازي أو ابن أحياء الصفيح وأحزمة البؤس في المدن العربية. الكل يجد في مراياه جزاء من نفسه وتهويماته، في جوانب إيقاع الرغبة الجسدية المكبوتة والطامحة الى التحرر من هيمنة الكوابح المتوارثة من أزمنة الانحطاط، والتي ينزلها قباني منزلة شبه ايروتيكية ذات طبيعة يختلط فيها الهجاء والثورة على المحرمات بالاستسلام الكامل وغير المشروط لملاك الحب وجبروته.
شاعر الغنائية العربية الحديثة بامتياز، أو كما عبر جبرا ابراهيم جبرا، إنه أحد أكبر الشعراء الغنائيين في هذا العصر، تلك الغنائية التي تتموج على غير حقل بأعماق شاعريته المحملة بهواها الدمشقي.
هل أضيف شيئا بالافصاح عن كونه ثورة في الشعر العربي وأحد المفاصل التجديدية في تاريخ هذا الشعر؟
في ترحالاتي الكثيرة عبر مدن عربية وأوروبية كجزء من جيل وجد نفسه في خضم شتات فكري ومكاني نسج حياته ونتاجه وسلوكه في غموض هذا التيه وتشظيه في غياب أي لحمة جماعية تشد أوامره المبعثرة بفكرة ولو كانت ذات مفزع طوباوي أو “مشروع” ما.. كان الواقع بارز العظام والعفن يسد النوافذ من كل الجهات.
لم يكن هناك مشروع على نحو ما كان عليه الزمن القباني وأقرانه، فذهبت بنا الحياة في طرق مختلفة، أكثر أرقا ووحشة وكذلك التعبير الشعري والفني بصورة عامة الذي فضع بدوره لتحولات هذه الحياة المقذوفة في الربع الخالي وهذياناتها المتكسرة. وجدنا أنفسنا مشدودين بشكل حنيني الى ذلك الزمن ورعيله الكبير، من غير افتعال قطيعة ولا اتساق.
.. فقط، الأمكنة المتصدعة، العزلات والتقلبات الفكرية والاجتماعية العاصفة، التي لم تبق على مفهوم قائم أو بداهة فكرية وقومية وتاريخية. كل المثل السابقة والتصورات جرفها الفيضان، فهي بحاجة الى خلق صياغات جديدة أو إعادة النظر فيها.
بقي الزمن القباني زمن التأسيس المستمر، في أراض وعرة ومحصنة بأسلحة القمع الممتزج بالثروة والجهل.
وفي خضم هذا الرحيل أيضا لم ألتق بنزار قباني إلا في مناسبات عابرة في أكثر من مدينة، أي لم أقترب منه بشكل شخصي وحميم إلا أثناء زيارته لعمان عام 1993كنت راجعا بعد غياب طويل أفكر على نحو غامض وساخر بمشروع يسوغ هذا الرجوع.. هكذا أخذنا سياق الأحاديث الحميمة لمناقشة فكرة تأسيس مجلة ثقافية – فكرية، وكان شديد الحماس لأي مشروع داخل الوطن رغم المرارة والمكابدة التي سيواجهها أي مشروع ينزع نحو التنوير والاختلاف في مناخ أقرب الى العداء لأي ثقافة جدية. وبعد فترة ظهرت مجلة (نزوى) التي ستكمل عامها الرابع.
وفي هذه الزيارة الأولى حصل مشهد نادر وطريف، في مدينة مسقط العاصمة العمانية الجميلة التي يسودها الهدوء والغياب التام لازدحام الشوارع والطرقات، ما إن اقترب موعد الأمسية القبانية حتى اكتظت الشوارع وازدحمت وتسبب نزار قباني في أول أزمة مرور في تاريخ البلاد.
***
ليذهبوا حيث شاءوا
للمقاهي والكنائس والساحات
للجبال والسهول والوديان.
سيتكلمون لغتنا لا محالة
تلك اللغة التي اكتسبناها
بخبرة الألم والعذاب.
حفريات لا تخوم لها في هذا الجسد
ورغبات لا تحدها الجدران والأقبية.
من أين أجيء بأيام، يسيجها البداة والأقمار
في قلب الصحراء
لا أسمع فيها غير ثغاء الماعز
وعواء الذئاب
أيام ارتشف فيها مياه الاسلاف
مثلما أرتشف قهوة الصباح.
كل شيء مضى في حال سبيله
وبقينا هكذا
مسمرين فوق أراض تنهار باستمرار.
***
كل شيء مؤجل الى الغد
وكل غد الى الآخرة.
لا بأس أن تجز السكين الوريد
وأن تسمع الذئب في هجعة الليل
يدعو ضحاياه الى وليمة.
لا بأس أن يعدو القطيع الى حتفه
وأن تهيىء الأم العروس
في أكليل الورد
متذكرة صباها.
لا بأس أن يقتحم الفجر غرفتي
ناضحا بفصوله الدموية أبواب العالم.
لا بأس أن تطيل أظافرك وأسنانك
وتغمدها في جسد
ولا بأس أيضا
أن أجد جثتي ذات صباح
مؤجلا دفنها الى الغد.
ـــــــــــ
* من مساهمة في احتفالية التي ستظهر في كتاب بإشراف الجامعة الامريكية في بيروت.
على رعد نقاشات ومفكرين
اعتقد أننا إذا استطعنا ان نصمت
قليلا فإن شيئا ما يمكن فهمه
فدريكو فلليني (صوت القمر)
يسمع العربي بكل مستويات هذه التسمية وفئاتها، لغط القرون ورطانة الخطابات وضجيجها الذي يصم الآذان ويعشي الأبصار من فرط ترديده وترجيعه عبر دروب الفضاء والصحافة والخطابة التي لا تفتأ ترعد بالآتي والقادم، اقتصادا واجتماعا وثقافة وفنا وحداثة وعولمته وما بعد حداثة وفوقها وتحتها…
يسمع العربي وهو قابع في ركن بيته بين أفراد عائلته الفاغرين آذانهم لهذا الرعد الخُلب القادم من جهات لا يعرف عنها شيئا، أو وهو جالس في ندوة إذا كان من أهل العلم والثقافة، أو معرض من معارض الكلام المنتفخ بعضلاته الوهمية.
يسمع ويدمن السماع والاصغاء في جو طقوسي حتى تحل الصفة محل الموصوف الغائب وغير الملموس بيد الحياة والأرض بالضرورة، يتحول الى كائن تتقاذفه أمواج الخطابات من كل فج ومنعطف حتى تتلاشي كينونته المادية في لهبها وزعيقها ويستحيل الى مجاز وتجريد، بمعنى المحو والسحق ولا شيء غيره.
ما تبقى من هذا الكائن وهو الجزء الذي نفد بجلده من فظائع الحروب والمجازر المجانية التي اعتاد طغاة العرب وأدعياء البطولة على ممارستها، لابد واقع في الطرف الآخر من اشراك هذه المجزرة الشاملة.
يطلق محترفو الكلام عياراتهم الثقيلة دائما في كل المستويات والمواقع: لاعبو سيرك وسحرة مناسبات، لا يألون جهدا في ضم الكلام الى صُرر (من صُرة) وعُقد ثم ينفثونه في الوجوه الفاغرة بحثا عن هواجس بطولة منقرضة أو إثارة، في غياب الحياة الحقيقية، حتى يخال للناظر أحيانا، أن كل أجزاء، الكائن الذي نحن بصدد الحديث عنه، تضمر وتذبل عدا الحواس المتعلقة بقذف الكلام وتلقيه في مسرح البلاهة البشرية هذا.
في سيرك الكلام يختلط كل شيء بكل شيء، يصير التماهي والتشابه ومحو الفروق بين الأشكال والشخوص والأزمنة هو شفرة الكلام ومبتغاه. الموجودات جميعها عائمة في فلك اللغة الاستيهامية على نحو من الاتساق والخفة التي تضمر ثقلا قاتلا، وتكون الصفة الجامعة المانعة للمفكر والشاعر والروائي والفنان والدكتور. وعناوين كبيرة ومدوخة مثل أدب القرن العشرين وفكره والدخول المنتظر الى مطار القرن الحادي والعشرين بشكل حاسم ونهائي حيث مستقبل العرب يملأ صالات الانتظار. وأدباء الستينات والمسبعينات والثمانينات والتسعينات وووو الخ الخ الخ…
تصير هذه العناصر إحدى مواقع قوة هذا الخطاب في طبخه المتناقضات والفروقات في قدر واحد. ليس للكلام طبيعة محددة أو مجال يحد انطلاقته وجموحه البائس في احتلال شغاف المستمع أو المشاهد والقاريء لكنه يتمتع بكل الوظائف التي تجتمع في واحد أو كثرة مختلفة المجالات لكن كأنما تصدر عن واحد وفق الطبيعة والنبرة والتوجه. وغني عن القول إن إفلاس الفكر علامة مركزية لهذا النوع من القطيعية في القراءة والسلوك، حيث تحل الشعارات والعناوين الضخمة محل التحديد والصوت الخاص والتفاصيل والتاريخ.
كلام كلام، ينسكب وينفجر من غير حرارة من أفواه قرب بشرية ليحل محل دورة الحياة وعناصرها وإشكالاتها. ماكينة متخصصة في انتاج التكرار والنمطية والجهل الموهم بالمعرفة عبر ولعه بالمصطلحات والمقولات والتصنيفات القطعية من غير سياقات ولا أسئلة. عدا الأسئلة التمويهية التي تدعم هذا السيلان اللغوي حاجبة فجواته وثغراته وكذبه، إذ أن المعركة ليست معركة أفكار ومفاهيم في حيز الزمان والمكان وفي إطار من الوقائع، وانما معركة كلام في حد ذاته، إنها لا تشير ولا تلمح. ولا تدل على الأشياء والتاريخ، تنزل هكذا جعجعة أبطال وهميين على أرض وهمية.
***
في مرايا الكلام والخطابة، كل شيء جائز، في كل حقول المعرفة البشرية، الطبيعة نفسها والآلية نفسها التي تحكم الاقتصادي والاجتماعي وناقد الفن والأديب ومنشيء الاعلانات والموضات. في غياب أو تغييب الخبرة الحية والرؤية النقدية الخلاقة والروح بكل مناحيها تنزل اللغة الى مستوى التناسل اللفظي العقيم وتستحيل الى سلطة تمارس قهرا أكثر فتكا من السلاح، تحديدا في عصر التكنولوجيا الذي نعيش حيث فأرة الكمبيوتر تحكم العالم. ويتحلل الكائن في هَذَر الكلام وسطوته بكافة الأجهزة التقنية والبشرية حيث يمكن لأي معوق في حياته ووعيه وخياله أن يحتل المسرح كاملا ويتحول الى رمز جمالي وسلوكي وعلمي!! وفي غياب “المُثل” التي تستقطب الكائن وتشده في رحلة التيه تصبح “الميديا” ومثلها الجديدة هي البديل الكوني الذي يطبق على الأرض ومخلوقاتها اليتيمة.
***
في المستوى العربي هناك ما يشبه الانسداد لآفاق التجربة الحية التي يعيشها البشر على الأرض، رغم وفرتها ومآسيها وتشعباتها الكثيرة. في الندوات الفضائية والأرضية التي غالبا ما تتحول الى فضائية لا تكاد تسمع إلا دوي الألفاظ وطواحينها، واذا ما تم الاقتراب من وقائع بعينها ومن تجارب وفجائع يعيشها بشر المنطقة، فثمة حجب تلجم الكلام عن موضوعه حتى تبتلع اللغة كل ثوى في براثنها الأيديولوجية بمخلف اتجاهاتها التمويهية الطامسة لأي ضوء يرشح به نفق الحقيقة. وعبر حذاقة التقنية الفراغية التي تخلط الحابل بالنابل بخبث لفظي، تتبدى طلائعه جلية في مستويات الابداع الأدبي والنقدي.
في هذا المستوى تسود رطانة نقدية تتساوى فيها ضروب الابداع ومستوياته المتفاوتة بشكل كلي حيث يسكبها المحترف في صفيحة واحدة. ليس هناك فرق بين المبتديء والذي أفنى عمرا كاملا، بين الموهوب وغيره بين هذا وذاك، فاللغة المنجزة سلفا بكامل عدتها وأدواتها النقدية مع تغيير في بعض التفاصيل هي التي تترحل من موقع الى آخر تاركة غبارها يتكفل بحجب كل حقيقة ابداعية.
في المستوى الابداعي ينظر المنظرون لأنماط ومنازع تعبيرية بصرامة لا يشوب يقينها أي لبس، فبدل الثراء الذي تخترنه تعددية أنماط التعبير والمنازع الابداعية حيث الشكل نسبي وحيث “الفن هو الرغبة في التشكل لأنه الرغبة في البقاء.. وحين يبلى شكل ما ويصبح مجرد صيغة، يكون على الشاعر أن يبتكر شكلا جديدا أو يبحث عن قديم يعيد تشكيله أي ابتكاره، وهو الزمن مكثفا ومتحولا” حسب أوكتافيوباث، بدل هذا ينجح المنظرون في تسييد نمط بعينه واقصاء الآخر من ساحة الابداع التي لا تتسع إلا لقوالبهم الضيقة – ربما يشبه على نحو ما النزعة الأحادية التي تخترق الحياة العربية من أقصاها الى اقصاها – إذا لم تكتب بهذه الطريقة ووفق هذا المسار فلا تستحق الالتفات، دعك من اللعنات التي تصب على الابداعات السابقة و “الأجيال” وادعاء القطيعة والبتر كي يخرج المبدع من البياض المطلق لفراغ الخلق من غير امتدادات ولا أواصر ولا جذور.
بهذا المعنى تختزل الكتابة الى ما هو أسوأ من الموضات سلقا وموسمية وتجبر الكتابة على أن تبني الشكل المسبق للحظة ولادتها، أي يتم الرجوع الى ما تجاوزه السجال والزمن الابداعيين في فصل الشكل عن مضمونه وتحويل الأول الى وعاء تصب فيه المعاني والدلالات.
يمكن في هذا السياق ملاحظة ذلك الانقضاض الجماعي على نمط تعبير بعينه، ليس قصيدة النثر فحسب وإنما نوع كتابي في إطارها لنأخذ ما دعي بقصيدة “التفاصيل” مثلا وقبلها توسل الصوفية واستلهامها وقبلها الواقعية لاشتراكية، ونقرأ ذلك التشابه الذي لا تمليه تقاطعات التجربة والمرجعيات القرائية والواقعية، وإنما إملاء الشكل المسبق وخلط المفاهيم والتصورات التي تملي على الكتابة لفظيتها وتشويهاتها ورتابتها المضجرة.
تفاصيل الحياة موجودة في تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية وليس اختراعا جديدا وصاعقا الى هذا الحد، ربما طريقة الاستعمال والتناول والحضور الأكثر كثافة هو الجديد في الشعرية العربية. وفي كل الأحوال ليس ثمة شكل تعبيري يرتفع الى مستوى المقدس والمطلق على مر الأزمان.
***
على المستوى الفكري باستثناء القلة التي تعمل وتنتج في حقل الأفكار والنظريات والوقائع بشكل حقيقي، نرى العجب العجاب من قبل أولئك الذين كرستهم آليات الصحافة “مفكرين”. يمكن أن نورد واحدة من طرائف هؤلاء المفكرين في معرض القاهرة الأخير حيث تكلم شاعر وكاتب هو الأجدر بتسمية مفكر، عن أشياء منها “الأذواق” التي تسحقها الرداءة في العالم العربي. فما كان من “المفكر” إلا أن انبرى في الرد مندفعا وكأنما يرمي بحجر الفلاسفة، وربما لمح طيف صوفية وأدب في كلام الشاعر: يا أستاذ يا أستاذ لن نتقدم بتنمية الأذواق والخيالات وانما بالعلم (كذا!!) هذه الواقعة ليست مجتزأة من سياق قصد الاساءة وانما فحوى نتاج هذا “المفكر” الذي يبحث في “الاجتماع” وأقرانه الذين ليسوا أبعد من ذلك في عصر تكريس الانحطاط القيمي والمعرفي.
ومن المنصة نفسها التي يتم فيها إطلاق الصفات والألقاب الأدبية والأكاديمية من غير أدنى خجل أو “ذوق” نصل الى ما هو أفدح في إطلاق صفة المفكر التي أصبحت تطلق ليس على الكاتب والجامعي الذي لم يجترع أي إضافة على الفكر المنجز على مدار التاريخ، وانما أصبحت تسام على كل لقيط معلومات عامة مثل مفكر الفروق الصارم بين العلم والأذواق وأصبح لدى العرب آلاف المفكرين والفلاسفة، تضج بهم الساحات والأكاديميات والأكروبولات على أرض بهذا المستوى من التداعي والهزال.
***
يحمل بعض أصحاب هذه المنابر والمعارف والأفكار وجهتهم ورؤاهم محمل المرجع الموسوعي والمتخصص على صعيد المعرفة ومحمل المعارضة والاحتجاج على صعيد الموقف – رغم ما يضمره الخطاب والموقف من خلفيات شخصية ومنفعية وتصفية حسابات صغيرة- كي تكتمل حلقة الخطاب المدوي في “صوتيته” حسب المرحوم القصيمي في إحالته هذا النوع البشري الى ظواهر صوتية. وهو النوع الذي لم يكن القصيمي مخطئا بحقه في هذا الوصف، فكل ما يسم هذا الخطاب بكل تفرعاته واشتقاقاته ليس إلا صخب “ألصوت” وزبده. نستدرك أن الصوت هنا هو صوت قطعان المعرفة، صوت الرعد اللفظي. إذ جردنا الرعد من جمالياته الروحية والشعرية، ذلك القادم من الما وراء الأعماق الغامضة للطبيعة – وليس صوت الذات الخفيض الذي يشبه الصمت، صوت الحيرة في بحثها الجحيمي عما يسد الظمأ ويسند الوجود العميق والهش للكائن. يحمل أصحاب الخطاب إياه على البناء والنقد والمعارضة لكنك لا تستطيع تبين الشيء من نقيضه بل تغرق في دوائر الكلام والاستيهام من غير أدنى قدرة على الفرز والتحديد. كلام يتقاطر في صحراء تفيض بالجذام. هكذا في الفكر والأدب تمحي وتضيع الملامح والقسمات في زبد الكلام الجارف، كأنما العربي في حومة هذه الوغى لا يسند وجوده إلا الكلام والوهم في أدنى مراتبه.
هل في غياب المنافق الطليقة للمخيلة البشرية وغياب الممارسة الحرة للفكر يصبح اللامعقول والعبث والجنون الأكثر استقامة ومنطقية في مسودة هذا الأفق الذي يمليه عقل كاذب كما يعبر “الهامش” الذي بدأ عربيا في مساءلة “المتن” وربما إزعاج هيمنته المطلقة وما زلنا في سياق “المفكرين” وتلاميذهم لكن ربما الأبعد قليلا من المفكر الطريف، لم يؤشر الخطاب الفكري العربي الى معالجة ورؤية تحسب لصالحه أيا من الوقائع والنصوص الأدبية والجمالية المنتجة في هذا المجال الروحي الذي يشكل أرضا ثرة للخطابات الفكرية والفلسفية وتحليلها وانشغالاتها في غير صعيد ومضمار منذ هوميروس وحتى عصرنا الراهن الذي تكثفت فيه هذه الدراسات وصار استنطاقها او اشتغالها على مجالات الأدب والفن ضالة تحليلها لوقائع العصر وبشره وجماله وقبحه وتناقضاته المريعة. عكس ذلك لدى هذا النوع من المفكرين العرب، إذ ينظرون بنوع من التعالي المسطح الى مناطق الابداع الأدبي والمفني سيما الشعري، بصفتها نشاطات غير “نافعة” ومآسي الأمة وقضاياها الكبرى تقتضي تلك الوقفة “العلمية” الجادة حد التجهم التي أشرنا الى بعض عوارض رعدها الخاوي.
***
يجلس العربي ويستمع ويشاهد، هاربا من حصار أيامه وشروطها، ليصطدم من جديد بهذه الجدران من الكلام والهذر المحبوك بأشكال مختلفة تمتد من البرامج الشعبية وحتى تلك التي تستضيف مفكرين ومتخصصين، وفي الندوات التي تتوسل الثقافة والصفوة حاملة مشاعل الهداية والتنوير!!
كلام لا يطرق بابه الصمت ولا مكان لديه لعبرة أو تأمل. وليس هناك من التفات لخطورته ورعبه، ولا متعة سرد وحديث.
كلام ينزل كالرصاص على مستمعيه ومشاهديه الذين بلغوا حالة مستعصية من العذاب والافتراس المتبادلين التي تلف أطراف هذا الهدير الساحق ونسيجه ومرماه.
الكلام بهذا المعنى مهنة وطريقة عيش وارتزاق مهما تقنع بالدور، في البحث عن الحقيقة والرسالة وانتشال الأمة من حفرتها السحيقة. الذي يفصح عنه أصحابه وفرقاؤه بمناسبة وغيرها، من كل نسل ومذهب واتجاه.
على رصيف العام الجديد
منذ أن تمطى جثتي
نعيق السنوات
وحلق الناثر الشتوي
في عنقي
انبرت أحداث سنتي الأولى
سنة ميلادي
نحو زرقة الأبد
مثل شاحنة غرقت باحتمالاتها
في لجة.
***
المدينة، وبما هي المدينة
الأشياء تتحرك ضمن وضع غير اعتيادي، وضع مليء بفوضى الولادات والصخب كأنما تستعد لقفزة في المجهول. هدايا وقهقهات مرحة يبللها مطر خفيف. الجموع تركض نحو أماكن التجمع الاحتفالية.
كلب فقد صاحبه وأخذ يعوي. لصوص القطارات ينشطون بدورهم.
البهجة ! أين هي البهجة ؟ سأل الشاعر الذي أخذ يركض معهم ولم يجد له مكانا فرجع إلى بيته.. في البيت سألته المرأة عما يريد أن يفعل هذه الليلة.
قال : لا شيء
– لكن لابد من الاحتفال بنهاية العام قال لها إنني أحس بالحمى وأريد أن أنام، أو أصعد الى قمة جبل جليدي ويجرفني الطوفان نحو أماكن قصية من نفسي. قالت : إنني لا أفهم.
قال لها : انظري الى راحة يدي. فرأت عروقا تبث أخبارا غامضة عن سكان الى جزر التي تسكن جمجمته. وحين فتحت جمجمته لم تر جزرا. وأت تابوتا ينام فيه رجل مع قصائده التي لم تكتب.
فتح عينيه قال لها : حدقي فيهما؟ فرأت سفنا تشتعل فيها النيران وأخرى تغرق بركابها، بينما آخرون يتفرجون على مسرحية كوميدية يقوم بتمثيلها بهلوانات بشعون..
ورأت في العين الأخرى روحه تجلس وحيدة على الرصيف.
مشى الرجل الغريب على أرصفة تتناسل من غير سقف ولا قرار،يتقدمه غبار الأجيال المنقرضة، وتساءل إن كانوا يحتفلون بمثل هذه الليلة وقبل أن يعثر على الاجابة انفتحت له أبواب مدينة أخرى.كانت رائحة البحر تتدفق من نوافذها. ورأى مواكب نسوة قادمات من بغداد. استوقف احداهن ليسألها إن كان صديقه مازال حيا. قالت إنها لا تعرف شيئا، وأن الرحلة الى هذه المدينة استغرقت مليون سنة ضوئية على الأقل.
فكر بالرجوع سريعا طالما أن المسافة بهذا المقدار الزمني الرهيب.لكنه وجد أبواب المدينة مغلقة. خلع حذاءه وأخذ يخبط الأبواب، مرتجفا، يقفز من باب إلى نافذة ومن باب الى باب. فمه مليء بصراخ متجمد. ورجلاه اجتاحهما شلل مفاجيء وباندفاعة مذبوح واصل رفس الأبواب وخبطها حتى انفصلت يده عن حسده وتسللت من ثقب الباب..
ذهب الشاعر إلى مقهى وبينما هو جالس في زاوية نصف مضاءة، في الزاوية الأخرى أبصر “انتونين آرتو” يحفر على الطاولة التي أمامه،كأنما يثأر من جسد عالم يزدريه. فقد كان هذا الشاعر المفرط الحساسية، مصابا بمرض في المخ، وحين يزأر وحش الألم يداويه بالكتابة أو الحفر العصبي على طاولة أو حائط أو باب..
وأبصر أبا العلاء المعري يلقي بنبوءاته الشعرية على كائنات لا تفهمه ويردد:
في كل بحيل أكاذيب يدين بها
فما تفرد يوما بالهدى جيل
فجأة لفحته ريح الثغور الشرقية فوجد نفسه بمعية الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي على شط من شطوط البصرة المزهرة، محدقا ببصره في البعيد حيث مواطن سلالته العتيدة، متبرما من أهل زمانه ومنشدا:
اني بليت بمعشر نوكي أخفهم ثقيل.
قوم إذا عاشرتهم نقضت بقربهم العقول
وهم كثير بي وأعرف أنني بهم قليل
شرب الرجل الغريب وحين ثمل وجد يده المنفصلة عنه على كرسي في طاولته تشاركه الشرب..
أخذ يعاتبها على موقفها منه.قالت : إنها سئمت الحياة معه وأنه رجل مزعج.
– كيف تتسنى لي الحياة من دونك.. كيف تتسنى لي الكتابة؟
– ستنبت لك يد أخرى.
يئس الشاعر من الحوار مع يده، ومشى عبر دروب لا يعرفها، تسبقه منشفة النادل المبقة بالدم. وفي نهاية الزقاق، الذي يشبه كهفا تفوح منه روائح جثث متفسخة منذ القدم، أبصر سريرا تتوزع على مساحته جماعات من النسور العمياء ذات الالوان المختلفة، بينما كلاب الجيران التي عرفها في طفولته تفضح حركاتها عن إشارات شبقية داخل الكهف. وأبصر على مقربة من فوهة الكهف سفينة نوح تقترب مطلقة حمائمها باتجاهه بغية الاكتشاف. فجأة يظهر مخلوق بشري يقدم وجبة العشاء لهذه الكائنات المخمورة، ثم يطير فوق تلال من نحاس.
ركض الشاعر وراءه ليسأله عن سر هذه المأدبة وعن حمائم سفينة نوح، والكلاب التي عرفها طفلا..
لكن لا فائدة فالنقطة التي أخذ حجمها يتضاءل في تخوم الأفق، اختفت نهائيا. رجع إلى الكلاب التي ربما لامست حقلا مضيئا في برية أعماقا، حقلا كاد غبار الأزمنة أن يطفئه باكرا.. لكن الكلاب تلاشت في تلويحة عين، تاركة حشرجة صوت. استطاع الشاعر أن يفكك رموز شفرته.. لا تسل عن شيء ليس هناك من شي ء يسأل عنه أو يعاد قوله :
لقد كبر الأطفال وتفرقوا بعضهم أكلته الحروب والفيضانات أو مات بالسرطان. بعضهم امتصته الأرصفة والأوهام، بعضهم…الخ.
حين استيقظ الشاعر من نومه، سألته المرأة ماذا تريد أن تفعل هذه الليلة ؟
قال : لا شيء.
(كلمات)
(1)
نلتقي بالأصدقاء بعد غياب طويل. نلتقي بهم قادمين من شوارع ومدن وانكسارات.. تمضي أيام معهم يتجل في جانب منها روعة الشعر والذكرى. هذيان المحبة وقسوتها.
نلتقي على ما يشبه مفترق خيالات الموتى في سرعة عبورهم من الصحو إلى نقيضه من الحزن إلى الغياب من الحزن الى الفرح والجنون بصخبه ومجونه.
لقاءات كأنما هي مزروعة بلغم الغياب الذي تنفجر شظاياه أثناء الكلام مثل جمل اعتراض قسرية، وأثناء الجلسات والشكوى التي هي ( نوع من غناء) وعزاء للمغتربين في ليل الصحراء الكئيب.
لقاءات رائعة رغم الالتباسات الكثيرة وعصاب الجماعة وخيبتها
(2)
ماذا تجني من المستقبل
عدا تراكم الذكريات وجموحها الذي يزداد عنادا
وتأججا أمام محاولات الترويض والنسيان.
(3)
تفاهمات كبرى على إيقاع خسارة أكبر.
(4)
يسقط الخصم على أرض العوان الأبدية، ملفعا،بدمائه.
يرفع المنتصر شارة النصر بين نجومه ومحبيه..
وماذا بعد ذلك ؟
(5)
نتذكر أولئك الذين يسيل من أشداقهم لعاب الكرامة الشرف وحب الآخرين ونكران الذات :
ترى أي قرون ضوئية من الشساعة، في بعدهم عن هذه القيم التي ولدوا ليكونوا على النقيض منها على طول لأزمنة ومع ذلك هم أكثر المتحدثين باسمها.
(6)
تمور الرغبة في شفتيك وأطراف أصابعك، وتحشد، كمن يرمي أعشابا وصاحبات في بحيرة مسحورة.
شظايا عام جديد
يحار المرء أمام انعطافة كل عام في سلالة الزمن وانصرامه في الذاكرة التقويمية, أي شيء يتذكر أو يترك, ويحتفي ويجانب, يحب ويكره, أي شيء وأي عبرة ونقيضها في هذا الخضم الجارف للسنوات والأزمان التي لا تفتا تؤرق الكائن طالما فيه بعض من نبضاة ؟ يحار المرء أمام انقضاء كل عام ويعاود الحيرة ويكثفها بهواجسه, وكأنما هذه الحيرة هي النماء الوحيد لوجوده أمام انسداد وضوح الخيارات أو التباسها.. ويحار القلم أي الدروب يسلك في اقتناص فكرة أو هاجس مهما كانت -أي الفكرة – مرمية في الطريق حسب الجاحظ.
أليست الحياة العربية متلبسة بفاجعة مصيرها منذ زمن بعيد، ماضية في هذا النفق من غير شعور بذنب تقترفه الذات في ذاتها أو شبيهها؟ وكأنما سياقات التدمير والعاهات المختلفة هي مرتع الحياة الطبيعي في هذه القسمة ومشتقاتها وروافدها، هذه الحياة التي فقدت أي معيار حقيقي لوجودها، أو استنكفت عن استلهام معيار من هذا القبيل واستنكفت رحلة البحث عنه رغم ما يحيق بها من اخطار ومحن وانحدار سريع نحو أعماق الجحيم والانقراض.. لا يشفع التاريخ لأي أمة مهما كان ماضيها عظيما كأمة العرب أمام اختناق صوت الضمير الحي ووأده, لا يشفع لها مواصلة هذا الانحدار الذي لا يستدعي بصيرة خاصة في التقاطه وأنما أصبح حديث الرهط العادي من فرط هوله وضخامته وانعكاسه على الناس أجمعين وعلى كافة المستويات. يتشدق الماضويون الذين ترتفع فكرة “الأمة ” لديهم وهوام عظمتها التي لا تفنى, الى مستوى المقدس كفكرة مجردة عن الوقائع والشروط والمعيش. أي مجردة من التاريخ والاجتماع, بالمستقبل وما بين الماضي والمستقبل هو هذا الأرخبيل المهمل الذي تشتعل فيه النيران والأوبئة وضروب الانحطاط.
كذلك أناسيو العولمة الجدد الذين يرون في “التقدم ” نبتة التاريخ المهربة من أقفاص العمالقة ويجب اصطيادها وزرعها، كي تزهر بضربة الساحر أو الخيميائي ذلك التقدم المنشود. هذا الانفصام الحاد عن الواقع وآلياته وشروطه المعقدة والذي ولده تاريخ طويل من الاكراه والمصادرة ينجب بشكل طبيعي نمطا من الكتابات, تستدعي “نظرية” الهروب الى الامام والفوق, مثل تلك الكتابات على سبيل المثال, التي ترفع رايات الاحتجاج العنيف والراديكالية ضد قوانين في خارج ديارها، بالطبع قوانين الغرب الاجتماعية, التي يرون فيها اجحافا في حق تلك البلدان وشعوبها وفي مقدمتها أمريكا، وليس قوانين الهجرة والاغتراب التي يكونون طرفا في مساقاتها وهمومها فحسب. تخصصت هذه الكتابات في مساجلة تلك القوانين وسحقها دون المساس بالأوضاع الحقوقية لبلدانهم وتشريعاتها إن وجدت.
رعب هذه المفارقة الشيزوفرينية بداهة ليس في الهم الانساني المشترك وإنما في هذا الهروب المتقن من الاشكالات الحقيقية الضاغطة وليس في نقد الغرب المهيمن كجزء من طبيعة القوة وبطشها وفحواها مثل كل الحضارات البشرية التي هيمنت وتفردت وإن بدرجات متفاوتة, وإنما نقد التشريعات التي تشكل نحوا من مكاسب انسانية, أكاد أقول نحوا من عدالة نسبية لشعوبها والانتقاص منها في ضوء مقاييس تلك الأمم المترفة قياسا بالشعوب البائسة وأنماط حياتها. المفارقة تكمن في هذا البطر الفكري الذي لا يمت اليه ذلك النفر من العرب والعالم الثالث بأي نسب كان.
هذا النوع من الشطط المجاني وجه من أوجه كثيرة في العصاب العربي، الذي يقتحم حياة الآخرين بشراسة وجرأة وعمق تحليل “عدالي ” متجاوزا ومتجاهلا ومستكينا أمام أوضاعه الخاصة التي تفتقر الى أبسط المقومات الانسانية في الحياة.
يتساوق هذا البعد العصابي لتفريغ الطاقة واحتقانها مع ذلك الوجه ذي العين التي لا تنظر حتى لماما، في مرآة ذاتها التي تمور بشتى أنواع البؤس والانحلالات وانما تهرب باستمرار الى الأمام ني تحطيم ذات “الآخر” وكشف عيوبه ومساوئه, متقمصة شبح المرشد والمحلل البصير في استنطاق ذوات الآخرين. مستعينة بما تيسر لها من مراجع عدتها المعرفية إذا كانت من اهل المعرفة والثقافة. وغالبا منا تقذف بك الصدف السيئة وهي كثيرة في البيئات العربية, الى أشخاص فاشلين ( بالمعنى ألسييء للكلمة إذ أرى فيها وجها نبيلا لكن ليس في هذا المقام) ابدأعيا وحياتيا، لا هم لهم الا قذف “الآخر” وتبوء مكانة مثالية على أنقاضه, والذي غالبا ما يكون من أسماء معروفة ولها تحققها الابداعي، باستثناء من له شبهة تحقق ممن أتى في غفلة من الزمن وصعد على أكتاف “أكياس الفقراء” عبر الأيديولوجيات والكذب, وهو نفر لا يعول عليه, ويبقى نوعا من زينة فلكلورية شتائمية للطرافة والتسلية. وفي السياق إياه لا يرى أولئك الأشخاص النكرات, غضاضة في خلق خصوم وهميين من تلك الأسماء، متحدثين عن وقائع ومواقف حياة وفكر وسياسة جرى الخصام بشأنها والتي ليس لها وجود في حياة هؤلاء على الاطلاق.
انها التفاهة في مرآة بؤسها وأوهام تطفلها.
فالخصام في هذه الحالة يختاره ويخطط له أناس لا تنطبق عليهم صفة “الثقافة ” بأي معنى أو مقاربة لهذه الكلمة التي سامها كل سائم مثل بقية القيم النبيلة التي يجترحها الكائن في كل الأزمان بعد مكابدات وارتطامات لا حدود لها.
والخصام في هذه الحالة أيضا يأتي كتعويض عن تحقق كياني وابداعي مفتقد بالضرورة, ويمكن لآلية الصحافة بقنواتها المختلفة, التي أصبحت من الانتشار والضخامة أن تماهي بين كتابات مستنقعية وبين الكتابة الحقيقية التي تشكل قدر الكائن ومأساويته وتميزه أو على الأقل توهم بهذا الالتباس اللاإبداعي.
من السهل على الخطاب العربي أن يكيل التهم بتوجيه سهامه ال تلك القوى الخارجية التي تمارس تدميرا منظما ضد “الأمة ” ومقدراتها وعناصر وجودها. لكن ما ليس سهلا أن يستبطن هذا الخطاب فحوى أوضاعه الداخلية وسياقات تاريخها التي أدت إلى أن تكون ضحية مثالية لبطش التاريخ وقواه المسيطرة. القوى الخارجية ومؤامراتها التي هي واقع لا يمارى فيه, تحولت عبر هذا الخطاب الى ميتافيزيقيا تحجب حقيقة الوضع الذاتي للضحية وآليات هذا الوضع التي قادت الى ما هي عليه.. وكأنما النظر للذات, فردية أو جماعية, يسبب دوار الهاوية.
كل بشاعة وانعدام ضمير في مرمى الخصم يقابله – وهذا طبيعي في الثنائيات المتداولة -أن كل فضيلة وشرف وغير ذلك من الصفات ولو كانت مفقودة يتم التعبير عنها بالحنين ال اللحمة المتشظية, تكون في مرمى الذات المبعثرة والتي تلتئم عبر خطاب يتطوح وهما وليس حيرة ؛ الحيرة حالة صحية. الوهم قرين اليقين والحيرة قرينة القلق والسؤال والبحث في تضاريس الوقائع القائمة.
يحار المرء فعلا في الاحتفاظ بشيء من قدرته العقلية والنفسية وعلى صيانة المخيلة التي توشك على الانفجار وسط قسوة هذا الانحدار الأليم, الذي تنقلب فيه الأدوار والقيم ويحتفظ فيه الجلاد بصفات الضحية وامتيازاتها الانسانية بعد فقأ عينها والتمثيل بها شر تمثيل عرفه تاريخ هذه (الهيدرا) الذي لا ينضب له معين.
الاحتكار قائم على أشده في المال واهو اد وموارد الحياة, كما في القيم المتعلقة بالروح والمثل. هنا يتم تفريغ المضحية من كل أسلحتها بفعل القوة المقرونة بالمعرفة الجبارة, المتمادية في طقوس اكتشافها، ويصل الوضع الراعب الى أقصده في اصطفاف هذه الضحية الى سالخها وقضم ما تبقى من كينونتها المادية والروحية. وهي لا تكف عن تدبير الخطابات التي تؤرخ للحنكة والبصيرة التي لا يعرفها إلا الضالعون في قراءة الأحداث ودلالاتها البعيدة !!
هنا لا يدخل خطاب الضحية إهاب قاتلها وإنما تتوحد به توحد الصوف بالمطلق المتعالي مع بعض التلاوين المحلية التي تقتضيها خرافة الاقناع الزائف.
ترى أي ألم لم تعرفه ذاكرة البشر في هذا الاحتضار الطويل ؟
إننا وسط مسرح أسطوري للقسوة. ذلك الذي لم يتصوره “أنتونان آرتو” ولا ذهبت الى أقاصيه مخيلة الهنود الحمر في المكسيك وغيرها. مسرح لم يعد ممثلوه مجهولين كم يعبر “هيجل “عن غموض الحياة وخوافيها, وإنما عناصر اللعب وخيوطه واضحة وضوح خشبة العالم الذي تجري على أديمها هذه الاحتفالات الدموية الباذخة. رقعة شطرنج تصطرع عليها الزلازل والحروب والقبضايات التكنولوجية وتجفل فيها بنات آوى والضباع الحزينة التي فادرها السحرة القداس مع بزوغ سحر العالم الجديد. يعج ظاهر المشهد بجلبة وفوضى عارمتين لكن خيوط اللعبة محكمة الامساك بيد الساحر الكبير.
هل يمكننا أن نتذكر إلا ويصيبنا الدوار والاغماء… بعد عام, بعد عام فقط ستودع البشرية الألفية الثانية, القرن العشرين بعيون فاغرة ومفتوحة الى آخرها:
كم كانت عنيفة وشاسعة تلك المجزرة.
تودع القرن العشرين بأياد صفر وأقدام تجرجر أثقالها في الصحراء. عام أخر وصرير الساعة يرمي بها الى مجهول آخر لا يتبدى من شعاعه الأول إلا نذر كارثة أخرى.
عام آخر وتتسلق قمة سيزيف أخرى أكثر فظاعة واراقة للضمير. مضى القرن مثقلا بصدوق روحه الكبيرة كأنما لم يخض مغامراته العقلية الكبرى الا على جثة الضحية الأكبر : الروح التي مسخت أيما مسوخ وسط دخان المذابح والنهب والاقتلاعات التي تحار آلهة الأولمب في إحصائها وجدولتها.
كان الانسان يتشبث بنوع من الأمل المتاح في تقدمها ورقيها, أي الخروج من بربرية عهودها القديمة, وإذا بهذا الأمل لا يتبدد فحسب وانما تدخل طورا أكشر بربرية في سحق مكتسباتها الأخلاقية والروحية. بحيث تبدو كل الأزمنة المتراكمة في ضوئها شمعة شاحبة أمام طبقات النار الموقدة لبربرية القرن العشرين.
هل أذكر بمقولة (سيوران )، أبي علاء العصر الحديث, أن هتلر وستالين ليسا في ضوء القرن القادم إلا طفلين في جوقة موسيقية ؟
أمام ما يشبه هذه القدرة الصارمة العمياء، ماذا تبقى في هذه الصحراء العاتية, إلا زئيرها وانتحابها, إلا هواجسها اليتيمة ؛ هواجس شجرة السدر على حافة الغروب يأوي اليها اليمام من كل صوب كأنما اليتم يحضن ريشه الذي توشك العاصفة أن تذروه في الأرجاء؟
ماذا تبقى غير أحلام بسيطة تجددها
الصباحات
متذكرين الشجرة
على حافة الغروب,على حافة الكون وبعدك يأجوج
ومأجوج وخلفك القيامة.
قطـــار
عين تنظر من نافذة قطار الى الحقول الشاسعة,
عين تتحرك في محجرها بعصبية وارتباك رغم
الخضرة الغزيرة المأهولة بفلاحين وأبقار
وسناجب تتقافز على حواف الأنهار.
عين عصبية تدور في محجرها كأنما ستفترس
الأفق والأيام.
تلك العين هي نفسها التي كانت تسقط نظراتها
على الجبال الدكناء مخلفة وراءها جثثا من حروب
الثأر القبلية ماضية الى حيث لا يمكنها المض
هروبا من خية أيامها الخانقة.
عين الثعبآن التى تدور بشقوق الجدران
في حرارة الصيف.
عين النمر متعثرة بفلول الأعداء
عين الوديان الجافة
غـراب
كل هذا الظلام في الروح
كل هذه الأقدام المتعثرة أمام العتبة.
كل هذه الأجداث والفيضانات.
حشرجة كلاب وسط ظلام غزير
وانتحاب ديكة أمام فجر
ضارب في الخيام.
لا أثر للقادمين من جهة الشرق
لا أثر للسنابك تحفر و أعماق الصخر
لقد مروا من هنأ
تاركين أطفالا يتامى
تاركين نخيلا
يبيض في ذؤابتها الغراب.
ملامح لبنانية
يبدو أن هذه الجغرافيا الروحية واللغوية والفكرية الممتدة من جبال الاطلسي وحتى ما شاء الله…، ستظل هكذا لأفق غير منظور، هكذا لعبة لحروب أهلية ووهمية ومجانية الى ما لا نهاية . هذه البقعة التي تمتلك كل شيء ولا تملك شيئا، المسماة الوطن العربي او العالم العربي حسب الترجمة.
منذ بداية هذا القرن ومحاولة الدخول العصيبة الى تخوم العصور الحديثة، وهي لعبة بين أقدام الاستراتيجيات الكبرى، التي تقذف بمصائر الاوطان والبلدان الى الهلاك والمجاعات والاوبئة، أي إلى خارج التاريخ، من غير رحمة وبمنطق المراوغة والقوة المطلقة.
لا تكاد البلدان العربية تلتقط أنفاسها من حرب دمرت مقدرة الحياة وقوام المدنية والانسان، الا ويزج بها في لهب حرب أخرى وبمنطق عبثي مجاني خال من أي دلالة حضارية وتطورية، كأنما هذه البلدان ضفدعة في مختبر كوني للتجارب والعبث والاستثمار.
* * *
في هذا الفجر الندي أطل من الشرفة على بيروت، التي تحاول النهوض من رماد سبعة عشر عاما مما هو أسوأ من حرب أهلية، سبعة عشر عاما من السحق والتدمير والذبح على الهوية ومن غير هوية، سبعة عشر عاما من التخريب والسادية وقتل النفس، وسبعة عشر من انطلاق الوحش الدموي من عقاله في اعماق الانسان ليسرح في ارجاء البلاد والقيم والاخلاق زارعا الفساد والفتك ومحو ملامح الانسان عبر تاريخه الطويل.
لا يتحدث اللبنانيون، المثقفون خاصة الآن عن مسببات الحرب ولا يذكرونها الا لماما، كأنما يلزمهم مسافة زمنية لتذكر ذلك الهول الذي مر بالبلاد ولا تسمع تنظيرات كالسابق وتبريرات، فالصدمة فوق كل شيء، فوق أقوال الفرقاء وانحيازاتهم، أو قادة الحرب ومروجيها بنية وبسوء نية غالبا.
يستمر اللبنانيون في محاولة حزينة ونشطة لصلاح ما دمرته الحرب، ولاستعادة وضع بلادهم لمكانها الفريد والمتميز في الاسرة العربية، ان صح هذا التعبير المتفائل حد السذاجة.
لا يذكرون الحرب الا قليلا وفي سياق مزاح او نكتة، فمن يستطيع ان يحاسب آخر على مسرحية كانما أبطالها مجهولون رغم وضوح الكثيرين منهم.
تستمر الآلة الثقافية اللبنانية المعهودة في مسارها، محاولة تعويض ما أجبرت على التخلف فيه، مشاريع كثيرة ومتنوعة جدية، وأقل من ذلك، واستهلاكية.. دور نشر جديدة هنا وهناك وصحافة زادت كثيرا على أسماء الصحف المعروفة.. محطات تليفزيون تربو على الاربعين قناة في انحاء لبنان.. حرب أخرى لهذا البناء تصل حد الهيستيريا في سرعتها ومحاولة تمركزها.
الجو الثقافي بلبنان بدأ يدخل هذه الدوامة وهذا النشاط المتعدد الاوجه. ليس هناك سجال حول ما جرى بل سجال على هامشه وليس هناك أدب بالمعنى الواسع افرزته الكارثة وانما أدب على هامشها، لكنه، أي الأدب، يؤرخ لمرحلة جديدة في التعبير واللغة والرؤية.
الجيل الذي تربى ونشأ بين هدير المدافع وضجيج الطائرات والميليشيات يحاول معاكسة الجيل السابق عليه ، ويطرح تميزا ما وان لم تتضح ملامحه بعد ويعتبر نفسه وريثا أكبر لمعاناة الحرب وذيولها، والجيل الذي قبله يحاول طرح نضجه عبر التجربة والسنين والممارسة بشكل يليق بمستواه الزمني والابداعي..
تتجاور الاشكال والاعمار والانماط في نبرة هادئة حينا وعالية حينا آخر،عبر المقاهي والخصومات الثقافية والشخصية وعبر الجرائد وقنوات الاعلام الاخرى.
مازال الجدل اللبناني أكثر نبرة من بقية الوطن العربي رغم حوادث المنع والرقابة، وكأنما الموروث اللبناني من الانفتاح وحرية التعبير الثقافي والسياسي لا يمكن تجاهله او إسكاته بسرعة.
تحاول بيروت ان تستعيد حياتها، لكن الاشكالات المحدقة بها تجعلها تلهث متعبة ومجهدة، من نقص في الخدمات، هاتف، ماء، كهرباء، انهيار الليرة اللبنانية التي يستلم بها المواطنون اللبنانيون… الخ هذا النقص هاجس يخترق الجميع حياة وتفكير مصير، لكن آمالهم مطروحة لتجاوز ذلك بعد فترة ليست قريبة.
حيوية المشهد البيروتي ونضارته وجماله، لا تخطئه العين، لكنك حين تحدق بأبعد من القشرة الخارجية لهذا المشهد، تلمح ذلك الجرح الخفي في النفس الذي يطل من الاعماق والوجوه والمصائر، طارقا أسئلته وحيرته وغموضه.. قسوة السنوات الفائتة لا يمكن ان تمحى بهذه السرعة كما هي الخطابات التبشيرية والسياسية.
الحرب ما زالت موجودة في حركة اليد وارتجاف الشفتين وفي النظرة وتلويحة الغياب.. ما زالت موجودة في الكائن وروحه ووجدانه وكنزه الثمين الذي تأبى الحروب الاجرامية الا ان تنال منه ان لم تسحقه بالكامل.
اليوم الأول في القاهرة
قـذا بعينــــك ام بالعــين عــوار
أم أقفـرت اذ خـلت من اهـلها الدار
الخنســاء
هذا اول يوم لك في القاهرة، تلك المدينة التي قدمت اليها تلميذا ازهريا بداية عام 1971 لتغادرها عام 1978.
كانت محطة التكوين الحياتي والمعرفي الثانية بعد مكانك الولادي الاول.. وبلغة الارحام، الفرويدية، هي الرحم الثاني.
تستيقظ مبكرا قبل انفجار الضوء والحركة وتلفع وجه المدينة بذلك الديكور البشري الضخم، تمشي وفي رأسك طنين صباحات فاتنة، وسط الشوارع والازقة والمباني التي سفحت فيها شطرا من عمرك، وثمة ضباب يبروز المدينة بأكملها ضباب لأول مرة تشاهده بهذه الكثافة كأنما هو رسائل عيد ميلاد السنة ربما من مدينة “هليوبوليس” الفرعونية كما سماها الاغريق، اقدم مدينة على وجه الارض.
“المهندسين” “الدقي” وصولا الى الجزيرة على حافة النيل مرورا بـ”العجوزة” التي ما زالت تبحث عن شبابها تنظر الى شرفات المنازل والشقق التي كنت تسكنها متيقنا ان لا احد يطل من النوافذ والشرفات المغلقة مثلما كان في الماضي، لقد ذهب الجميع كل في طريق حسب، أم كلثوم، لكن رغم هذا اليقين ما زالت تستجدي الصدفة ليطل وجه امرأة او رجل عرفته في ذلك الماضي الذي أصبح مفصولا عنك بجسد من السنوات والمجازر.
تمشي غارقا في ذهول هذا المشهد الملبد بطحالب الزمن، تحاول الا تتذكر الا تستعيد، ان تكون حياديا تجاه المكان، الا تكون مازوشيا اكثر من اللازم، لكن الضباب، الضباب، الذي ينتشر في رأسك كما في المكان، هذا الضباب الاكثر فتكا من ضباب، يوجين اونيل البحري.
ها أنت في المقهى نفسه بميدان الدقي.
نكهة القهوة أياها ربما تغيرت قليلا، الاحاديث والنكت المبعثرة في كل اتجاه، الحمير التي تجر عربات شبه محطمة، رجل يسعل بشدة كأنه يحتضر، ورغم ذلك يعاود شفط النارجيلة.
تتذكر انك هنا في هذا المقهى كنت تحاول الكتابة وتحلم ان تصير كاتبا، خربشات على الورق، رسائل الى امرأة مجهولة، لقاءات تنعقد في المخيلة بين فتوات نجيب محفوظ ومخلوقاته مع اناس يتوافدون من كل اصقاع العالم ليشكلوا سرد رجل مأسور بالارتطام والترحال.
ينتهي فنجان القهوة تتحرك بضع خطوات تشاهد امامك كافتيريا معلم، رضوان تدخل.
* معلم رضوان فين؟
– البقية في حياتك.
معلم رضوان كان الوحيد في الحتة الذي يسمح ببيعنا وتدفع له حين تريد.
يستقلك اوتوبيس وتذهب الى الاهرامات ومن البعيد، من الشارع المؤدي اليها. الشارع المطرز على الجانبين بالملاهي والعلب الليلية وقبل ان تصل “الميناهاوس” ترتفع امامك بشموخ حزين تلك القرى الحجرية المعلقة في الفضاء والمسكونة باساطير الخلود وبطش الكهنة ومعرفتهم العميقة.
كانت الشمس تغرق في مياه حمراء تتجول في تلك الباحة المكتظة باشباح الماضي وحركة الناس والحيوانات تحس بتلك المهابة الروحية التي تضفيها روح الابداع والموت على الاشياء.
انه يوم جمعة، الزحمة فيه اكثر من المعتاد، اناس من اكثر من بلد، يمتطون الخيول والجمال والحمير في جلبة لا تهدأ وعلى الضوء الشاحب للمغيب واختلاط اطراف هذا المشهد الاعتيادي بصورة غائمة تتذكر “تغريبة بني هلال” لكنك تعرف ان لابني هلال ولا يحزنون، مجرد مشهد سياحي مضجر.
وعبر الاماكن التي خلفتها وراءك كل هذه السنوات تحدق في حجم التغيير الذي طرأ على كيانك ونظرتك للاشياء والبشر فالمكان ربما لا يتغير كثيرا وعمارة هنا وسوق هناك لا يغير كثيرا في صياغة مدينة عملاقة كالقاهرة.
وتعود الى البيت لتستقبل صباح يوم آخر.
صحار أو مدينة البحر والتاريخ
لم نكن ونحن صغار، أبناء المناطق الداخلية من عُمان وأبناء أوديتها وشعابها وجبالها المتناسلة عبر ذلك الفضاء الغامض بحيواته وبشره، تناسلا لا متناهيا ولا محدودا بسقوف وتخوم، وكأنما مجرات الجبال والصخور التي تعوي في كهوفها الرياح مختلطة بعواء الذئاب وتفجعات بنات آوى في عرين متواصل من أزمان وأحقاب مختلفة.
لم نكن نحن الصغار في مناطق الداخل الحجري من عمان ننظر الى منطقة الباطنة، ذلك الشريط الساحلي الممتد بضيق واتساع أحيانا، عبر البحر من مسقط العاصمة الحالية وحتى حدود الساحل الشمالي لعمان، إلا بحيرة قادمة من ذلك الغموض الذي تتسم به تلك المناطق البحرية البعيدة بالنسبة لنا آنذاك وما يتسم به البحر من غرابة واعجاز لمثلنا. ففي تلك الفترة كان السفر على الحمير والجمال لا يتجشمه الا الكبار نحو الحج أو الهروب من وضع أصبح لا يطاق أو المبادلات التجارية البسيطة.
من هنا كان لذلك النسيج الساحلي المتلأليء بالبحر من قرى ومدن او أشباه مدن، ما يوازيه في مخيلتنا من أقاصيص وخرافات اجداد واحفاد وأسواق سحرة وحروب قادمة من وراء البحار.
كانت منطقة الباطنة مثار خيالنا الطفلي، نحن أبناء الجبال، وسدرة منتهاه.
وكانت مدينة صحار أكبر مدن الساحل ومركز اقتصاده وسياسته دوما في مقدمة خيال هذا النشيد الساحلي من عمان.
ورغم قرب صحار من مناطق السهول والجبال من الجهة الاخرى الا انها فعلا معجونة بزبد البحر ولغته، وأحداثه، انها في حد ذاتها حدث بحري كبير.
هذه المدينة الواقعة على خليج عمان كملتقى طرق ملاحية كبيرة تشكل مركزا تجاريا وميناء شهدت اطوارا مختلفة من الاهمية المركزية على أصعدة شتى، وشهدت عهود ازدهار فذ في أحقاب مختلفة يعود بعضها الى ما قبل الاسلام كما تشير بعض الوثائق والحفريات الى صلات مع السومريين الذين أطلقوا على عمان اسم (مجان). وحسب المؤرخ الاسطخري في عهد لاحق في كتابه (المسالك والممالك) كانت صحار عهد ذاك العاصمة ويقيم بها كثير من البحارة والملاحين الذين يتاجرون في السفن مع البلاد الاخرى وهي اكثر المدن العمانية سكانا وأكثرها ثراء، ولا يوجد على ساحل الخليج او اي بلاد اسلامية اخرى ميناء يفوق صحار من حيث الثراء والمباني الجميلة ووفرة البضائع الأجنبية.
ورأى هذا المؤرخ الذي استند في توثيقه الى تلك الفترة من الازدهار الذي لم يأت بالنسبة لصحار كمردود وحيد لثروة طبيعية ثابتة ومستمرة على هذا النحو، رغم ان عمان في تلك الفترة كانت تنتج سلعا كثيرة ذات اهمية في التجارة الآسيوية التقليدية كالنحاس والتمر وبيع الخيول والعنبر. لكن هذا لا يؤدي لخلق مدن أو مدينة بهذه الفخامة وإنما على نحو أكثر حسما كان من التجارة في السلع الكمالية والتوابل والمنسوجات والعطور والعقاقير بين الشرق الاقصى والهند من جهة وبينها والشرق الادنى واوروبا من جهة ثانية.
ففي القرن السادس الميلادي وقبله بقليل كانت السفن التجارية تجوب الخليج وتمر بمدينة صحار كميناء في طريقها الى الهند والصين والشرق الاوسط، كانت تستغرق عودتها اكثر من عامين وهو أطول طريق عرفته القرون الوسطى من الخليج الى كانتون والصين. ورغم عظمة الدولتين كالهند والصين صناعيا وثقافيا في تلك الفترة الا انهما ليستا من الدول الملاحية في تلك العصور بل ظلت هيمنة الملاحة والتجارة في يد المسلمين، العرب والفرس، فكانت الموانىء الاربعة، صحار، بوشهر والبصرة وسيراف عالمية الشهرة والاهمية.
وحسب بعض المؤرخين مثل العوتبي وياقوت الحموي في (معجم البلدان) في ان القبائل والاسر العربية الكبيرة التي أحكمت سيطرتها على مداخل الخليج بشقيه العربي والفارسي، ذات الاصل العماني، وصراعاتها ومصالحها في التجارة والملاحة في هذه المنطقة كالصفاريين الذين ينحدرون مع بني عمارة من اسرة الجلندى بن كركر من قبيلة بني سليمة؟ والذي نزح افرادها من عمان وأقاموا في ساحل كرمان في مرحلة ما قبل الاسلام.
فقد اخذوا في توطيد هذه السيطرة وتحصينها في جباية الضرائب والرسوم من السفن، ونتيجة للقرارات التي اتخذوها وفق مصالح مشتركة ادت الى القضاء على سيراف الفارسية وتوجيه النشاط التجاري نحو صحار مركز القدرة العمانية آنذاك.
فابتداء من القرن الثالث الهجري تحول ميزان التجارة نهائيا لصالح صحار حتى غدت اهم مركز بين الاقطار الاسلامية والمناطق التي تخضع فيها الملاحة للرياح الموسمية في الخليج وخارجه.
فاذا كانت الاحداث لعبت دورا في نمو صحار في تلك الفترة كمركز للحاضرة العمانية، فان عوامل متراكمة واساسية اخرى كالاسطول العماني الضارب في تلك الفترة والذي ساعد القائد العربي عثمان بن ابي العاص الثقفي ضد بني فارس.
والدليل الاكثر سطوعا بعمق هذه القوى البحرية، الحملات التي قام بها الامام الجلندى بن مسعود بقمع التمرد والقرصنة والنيل من هيبة الدولة العمانية وكانت كل حملة من حملاته لا تقل عن مائة سفينة حربية.
وانتقل هذا الاسطول الى مرحلة اكثر قوة وفاعلية في عهد الامام غسان بن عبدالله في القضاء على القراصنة الهنود ومحو قواعدهم التي بنوها على مداخل الخليج.
كانت مدينة صحار التي تشير الاسطر السالفة الى اهميتها كعاصمة ومركز في فترة معينة من التاريخ العماني الذي تتعاقب اكثر من مدينة على مركزة قيادته كعاصمة روحية ومادية حسب الظروف والشروط المختلفة.
والتي تتناول (أي الاسطر) صحار بفترات ازدهارها غير تلك التي تعتبر مجرد ولاية من الولايات العمانية، انها صحار العاصمة الاستثنائية في هذا السياق، مثل ما وصفها الاسطخري السالف الذكر، كذلك يصفها الجغرافي الفارسي ابن حوقل مؤلف كتاب (حدود العالم) واعتبرها مستودع العالم في ان جميع منتجات الشرق والغرب والجنوب والشمال تصب في هذه المدينة ومنها الى جميع المراكز التجارية في العالم.
أما المقدسي فيصفها بانها بوابة الصين ودعامة اليمن. وقد كان هؤلاء المؤرخون كثيري التجوال في منتصف القرن الرابع الهجري بمنطقة الخليج مما تنم كتاباتهم عن مشاهدة ميدانية موثوقة لما كانت عليه اوضاع المنطقة ابان ذاك.
وما كانت عليه ايضا حروب الجانبين من سجال وفترات سلام وهدوء تثمر تعاونا خلاقا وسكينة، أعني الجانب الفارسي والعربي العماني.
وقد كانت عمان تواجه مد الامبراطورية العربية الاسلامية الصاعدة على المستوى الكوني كي تحتفظ بحيز من الاستقلال المذهبي والسياسي وتحتفظ بهوية المكان خوفا من الذوبان في الخضم الجارف لهذه الامبراطورية العظيمة.
وكانت في مواجهة شبه مستمرة منذ عهود ما قبل الاسلام مع الجار الفارسي، ومثلما أشرنا كانت القبائل العمانية والدولة العمانية تستولي وتستوطن الاجزاء الفارسية المتاخمة في الضفة الاخرى لسنين طويلة مثل سيراف وعبدان وبندر عباس حتى ان عبدان كانت تحت القبضة العمانية منذ مائة سنة خلت.
وقد كانت فارس بدورها تحتل الشريط الساحلي من عمان غالبا وعلى رأسه صحار في فترات مختلفة، وفق موازين القوى التي تسود البلدين، وقد وقعت تحت الاحتلال الفارسي أكثر من مرة عبر التاريخ وكانت هي البوابة التي يتدفق منها الفرس نحو عمان وربما كانت آخر الغزوات الشهيرة والكاسحة، في هذا السياق وكانت صحار في أوج مجدها حين أغارت قوات نادر شاه التي قدمت من فارس عام ????? ????هـ كما سقطت في تلك الفترة كل من مسقط ومطرح ولم يصمد في هذا الغزو عدا قلعة صحار بقيادة الامام احمد بن سعيد الذي صارت عمان في عهده ذات شأن محلي ودولي شامخ، وهو جد الاسرة البوسعيدية التي تحكم البلاد حتى اليوم.
وبعد حصار طويل من قبل الغزاة أرغموا على الاندحار والانسحاب من كل عمان.
في الجانب المعرفي والثقافي، ما فتئت تتوهج في الذاكرة العمانية أسماء العلماء الذين أنجبتهم هذه المدينة كالعالم اللغوي الشهير الخليل بن احمد الفراهيدي الازدي المولود عام ??? هجري بصحار مبتكر علم العروض والايقاع في الشعر العربي برمته وصاحب كتاب العين. وكذلك ابن دريد اللغوي والشاعر صاحب كتاب جمهرة اللغة وعدد من الكتب والدواوين الشعرية.
وهذان العالمان توجها منذ وقت مبكر نحو البصرة حيث كانت محج علم ومعرفة ومنعقد صلات متعددة النوازع والطبائع بالنسبة للعمانيين آنذاك.
وأيضا المؤرخ النسابة العوتبي سلمة بن مسلم ابوالمنذر، الذي لم يغادر صحار في القرن الخامس الهجري، واهم كتبه (الابانة في اللغة، والانساب، والضياء).
وربما أفضل خاتمة لهذه الوقفات والاشارات التاريخية المقتطفة من سياقات تاريخ بالغ الثراء والتشابك والتعقيد لواحدة من أهم المدن العمانية، ما قاله الشاعر جرير عنها، وعن طور حياتها الباذخ.
يقــول جــرير:
تنـم بما فيهـــا كأن طروســـــها
لطـــائم أهـــدتها اليك صحــار
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(?) اللطائم: هي أوعية المسك.
حول المشهد الثقافي العماني وحزمة الأوهام الجميلة
يتضح المشهد الثقافي العماني، شعرا وبحثا وسردا في بعض نتاجاته عن تلك الروح الباحثة وسط المنجز المتحقق عربيا وعالميا، عن ملامح هوية ابداعية خاصة. واذا كان القديم حقق هذا البحث عبر تراكم الأزمنة والنتاجات في مجالات مختلفة، فالجديد يتوسل طرائقه في الوصول الى صوته وهويته الابداعية، ليس على خطي الماضي وعلى ضوء معيارها الصارم، لكن عبرها وفق ما يقتضيه شرط المعيش والراهن. رغم الأخطاء والعثرات الكثيرة التي تصاحب عادة كل ابحار جديد في الكتابة كما في الحياة.
التغيرات والتصدعات التي أصابت بنية المفاهيم والتصورات في الكتابة والحياة عالميا وعربيا، أصابت بالضرورة البنية العمانية في الصميم، كونها جزءا من هذا العصر وتقلباته وعواصفه.
تبدو الرحلة شاقة ومليئة بالهرام، اذا عرفنا أن العماني جاء الى العصر و”حداثاته ” وانشطاراته متأخرا نسبيا حتى عن أقرانه وأبناء جلدته.. هناك بحث دائب ولاهث عن هوية إبداعه وصوته وسط هذه الجلبة الكونية التي تضيع في تضاعيفها وأنفاقها هويات الشعوب والوجوه والا بداعات تحت يافطات أوهام كالكونية والعالمية و… كما يرؤج الكثير هذه المفاهيم التي لم تستوعب في منطقتنا، وأخذت على نحو سطحي، كما أخذ مفهوم “الهوية ” والخصوصية في سياق النظرة الضيقة الى الخصائص والهويات التي هي ليست ماهيات ثابتة. والنظر اليها في ضوء هذا التغير الذي يعصف بالعالم، في الاصطدام “بالأخر” والتفاعل معه، هذا “الآخر ” الذي يواصل حتمية الهيمنة المطلقة على المصائر الى زمن يطول أو يقصر.
عبر البحث في المناطق الوعرة للمعرفة واللغة والحياة الذي توارثه العماني عن أسلافه وقدمائه، أولئك الأسلاف الذين أبدعوا رحيق فكر فريد وسط شروط حياة قاسية _ شجرة الانساب الروحية للبحث هذا، يمكن اكتشاف الصوت الخاص القادم من فجاج القرون كما هو قادم من أعماق الراهن والمعيش.
عبر هذه المناطق وليس عبر الاستسهال والتطفل الثقافي أو افتعال المواقف والهذر الكلامي، باسم “الحداثة “، الذي يمس مقدسات الناس، ويعتدى على مناطق شعورهم العقائدي والقيمي.
عبر هذا البحث يمكن للابداعات العمانية أن تحظي باحترام الآخر واعترافه الذي تفرضه قوة الابداع والمكابدة والتميز. وفي المسار نفسه لابد من ارتباط الأدب بمكانه واطاره الروحي الجغرافي والتراثي، وتأصيله إبداعيا بهذه العناصر، كي ينقذ نفسه من الانسحاق تحت سطوة النموذج وسحره كما نرى في كتابات كثيرة. التراث العماني في مختلف تجلياته وعصوره، إذ فهمناه عبر وعي نقدي، معين لا ينضب لمدنا بضياء الجذور وعمقها وطرائها. نستلهم رموزه التاريخية والأسطورية ونستلهم طقوسه وتضاريس مكانه ومتخيله الجمعي. هذا المتخيل وهذه الطبيعة المكانية والزمانية التي تصل حدَّ الغرابة والادهاش لـ “ميتافيزيقيا المكان ” تشكل مادة خاما، غنية للكاتب والفنان وكذلك الجيولوجي والرحالة. يملؤها بشواغله وهواجسه، وتتحول الى محور لانشغالات الابداع وأسئلة الوجود. وهي طبيعة بكر، صافية. طاغية في حضورها حد القسوة والتدمير. لكن في ثنايا هذه القسوة، ثمة شجر، ثمة عشب ندي ورقيق ينتزع حياته من براثن بحر صخري هادر. أو صحراء تاه الأدلة في تخومها وكثبانها. ومحيطات وبحار يجثم موجها في ليل المخيلة : لنتأمل شجرة الأثل في الاودية الجافة إلا من بقايا مسيل قديم. حفنة النخل في نحر الجبل المأهول بالجوارح والوحشة. ربما أكثر إثارة للخيال وأكثر تمثيلا لروح إنسان العصر، رغم الفوارق التي تبدو أسطورية في اتساعها، هذه الروح المشروحة في العمق والمستوحشة رغم انغراسها وسط حشود التكنولوجيا وأدواتها والصخب الجماعي الكبير. ألم يتحدث “نيتشه ” عن الكتابة، تلك المسكونة بفحيح الصحراء وجذور العزلة. ربما هي أكثر إثارة وتمثيلا من غابات المدن الكبيرة المفعمة بمظاهر الجمال والراحة. إن هذه الأخيرة كرسها الوعي الأوروبي السائد كنموذج وحيد للجمال يحتذى ويقلد وما عداه قبيح وفظ. عين الفنان الحقيقي تعرف كيف نغرف الجمال من تلك الفظاظة وتلك الوحشة وذلك السديم البعيد.
هناك أيضا على صعيد المعيش الطبيعة الاجتماعية ذات السمات الانتقالية والتحولية عبر مراحل التاريخ، تغري بالبحث والكتابة والرصد.
هناك البحث المعرفي الذي يمضي قدما في اضاءة التراث العماني ودرسه في ضوء المناهج الحديثة للعلوم الانسانية فهذه المعرفة التراثية إذا درست وقدمت بشكل مقنع بعيد عن العشوائية التي طبعت الكثير من التحقيقات الخاطئة التي أساءت الى الكتابة الأصلية أيما اساءة. إذا ما تحقق ذلك يشكل اضافة حيوية للثقافة العربية. والقيام بهذا الحفر في ثقافة التراث المنتشرة ليس في عمان فحسب وانما في امتداداتها التاريخية من افريقيا وشرقها خاصة. وما قدمه في الفترة الأخيرة كل من عبدالله الحراصي ومحسن الكندي وعبد الملك الهنائي ومحمد المحروقي ومحمد البلوشي وعبدالرحمن السالمي وشريفة اليحيائي وهلال الحجري وآخرون- مثالأ لا حصرا -نموذج لهذا الاستقصاء والحفر والتوثيق.
بهذا المعنى ليس التراث استعادة فلكلورية وانما إعادة خلق وتجديد وابتكار، وهذا ما نشاهد ملامحه الأولى في الجيل العماني الجديد عبر جامعة السلطان قابوس وأفراد ومؤسسات أخرى، نتمنى تفعيلها وتكاتفها للقيام بهذا العب ء الحضاري الصعب. وليس تركها هكذا واجهات تصفر فيها الريح ويرتادها اللاعبون للتسلية والندوات الموسمية.
ليس هناك تحديث أو تجديد في الأدب وغيره الا عبر هذا التواصل الخلاق مع الجذور والينابيع. وما أحوجنا في أفق هذا العصر المدلهم الى خلق منابر حقيقية لحماية وتنمية الابداع ووقائع الروح من الافتراس الزاحف بتقنياته المختلفة في تسويق وتسويغ كل ما هو رخيص ومدمر لروح الانسان
ونبضه وامكاناته رغم ظهوره بعكس حقيقته وفحواه.
نقطة أخرى تتعلق بالحوار المعرفي واشاعته في وسطنا الثقافي. إذا كان هذا الحوار منجزا بين أزمنة المعرفة العمانية وطبقاتها فلابد منه حتما بين أطراف الثقافة الواحدة الراهنة. فمهما اختلفت الوجهات والأراء والأمزجة. فعبر هذا الحوار الجدي يمكن التوصل الى ما هو مشترك وانساني وعميق. أما التقوقع والانغلاق عل الرأي الواحد والفكرة الواحدة التي لا يطالها الشك في شيء،فلابد يفضي الى جحيم التطرف والانحياز الأعمى الذي نشهد تجسيداته البربرية على امتداد الساحة العربية والعالم من كل الطوائف والأديان والاتجاهات.
حين يأتي طالب علم ويمتنع عن قراءة مجلة وجدت لتخاطبه وتتبنى حوارا مع عقله وخياله مثل مجلة “نزوى” بحجة أنها صنيعة “العصريين ” و”العلمانيين ” أو أي شيء أخر، أي عبر إشاعة تبناها كفكرة مسبقة بنى عليها موقفا حاسما، فهذا أحد أمثلة سلوك الانغلاق المخيف. وما أسهل أن تشكل الاشاعات وعي الناس في غياب حوار ثقافي حر وصريح. عبر هذا الحوار نستكشف أن شقة الخلاف ليست بهذا الاتساع الذي لا يلتئم، وأن العلامة العماني الخليل بن أحمد جدنا جميعا. وهو لم يأت لسجننا في قوالب وأقفاص يسري مفعولها عبر الأجيال وانما أتى لتنويرنا بنور العقل والموسيقى والمعرفة.
وأن انتماءنا وحنيننا اليه والى رموز الثقافة العمانية الكلاسيكية هو حنين الى الأصول والمنابت الثقافية الأصلية. وعبر انتماء قوي مهما شطّت المسافة وتبدلت الأحوال. لكن هذا الحنين وهذا الانتماء بدل تحنيطه وتحويله الى “تابو” نفتحه على أسئلة المعرفة والعصر واشكالاته وأساليبه وبهذا نكون أكثر وفاء لطفولتنا ومرابعنا الأصلية.
الدارس للثقافة العمانية عبر تاريخها العريق سيكتشف حركية هذه الثقافة في طبيعتها الحوارية والجدلية مع الخصم والصديق وصاحب الرأي، كونها ثقافة تنبني وتتأسس على خلفية مرنة ومتحررة من حيز الانغلاق المسبق الحاجب لأي أفق اجتهاد وحوار وتجديد.
النص الكتابي الذي أضحى تراثا هو ملك مشترك للقراء والباحثين والمشتغلين في حقول المعرفة المختلفة وليس حكرا على فئة دون غيرها وهو (النص ) مشحون لا محالة بطاقة من الدلالات تصل أحيانا حد التناقض بين مقاربة وأخرى ومشحون بفضاء التأويل والاختلاف.
من هذا المنطلق لا تعطى النصوص التراثية أو غيرها الحق بامتلاكها المطلق لأي تأويل كان من باب الوصاية واحتكار الحقيقة التي هي في جوهرها حمالة أوجه.
في هذا السياق تحاول مجلة “نزوى” أن تكون منبرا ثقافيا ومعرفيا متعددا يجمع الاختلاف والاتفاق من منطلق فضائه العماني ليضرب في جغرافيات روحية ومكانية مختلفة، تتحرك ني احشائه الاتجاهات والمياه التي تمور بها أنساق المعرفة.
الحروب التي تصل حد التهريج بين الحديث والقديم وبين أشكال التعبير المختلفة من موقع احتكار الحقيقة والمثال هي حروب مجانية. وتظل “الحداثة ” هي ذلك المشروع الناقص طالما لم يغز الذات في خضمها وتناقضاتها ورعبها، وبقيت تهويمات لفظية. وطالما لم ينل إلا من بنيات وتصورات اللغة والأدب، ولم يمتد الى البنيات الاجتماعية والتكنولوبية، وهو مفهومه العربي الماثل للممارسة والتطبيق، وتظل ناقصة، كما أشرت إذا لم تنطلق من شروط وأقعها وارثها الروحي وتجاوزت تقليد “الآخر” الى هضمه واستيعابه في سياقاتها وأفقها. وتظل ناقصة حتى وهي تتوسل كل ذلك، طالما أن الابداع هو ذلك النزوع الساعي دوما الى الاكتمال وسمته الابداعية تكمن في هذا السعي وليس في وهم الاكتمال.
في الفترة الأخيرة بدأت الاصدارات العمانية تأخذ طريقها متوزعة بين فروع شتى للأدب والفن والمعرفة. ورغم تركيزنا على النوع والصفة والموهبة الخاصة، فنحن مازلنا بحاجة الى تراكم كمي في الأنواع المختلفة حتى يتسنسى فرز ذلك النوعي المحلوم به والذي يمثل الروح الحقيقية للأدب العماني (أما الزبد فيذهب جفاء ). بهذا المعنى لابد من انتظار “الزمن ” كي يعمل عمله في الانضاج والاستواء بجانب السعي وتهيئة المناخ. فلا نتوهم ضربة العبقرية الصاعقة التي ستطيح بالمشهد رأسا على عقب. إن ذلك وهم يضاف الى حزمة أوهامنا الجميلة وفي مسار الأوهام التي تغرد ماضية في سربها _ وكل منا له أوهامه _ هناك نوع من الترويج لليأس الجاهز، اليأس المعلب الذي يتلبس حالة من السلب والرفض المسبق قبل الدخول في مختبر الوقائع والأشياء، وليس اليأس الخلاق الذي هو قوام الأدب في استبطان مأساة الوضع البشري، ذلك “اليأس الذي يأتي من جهته الحياة ” حسب السينمائي السويدي (برجمان). إنما اليأس الشبيه
بالقنوط البراني الذي لم يشتبك بالحياة بالمعنى الحقيقي. نوع من استدعاء فشل نظري، شعاراتي، مهمته المحافظة على لمعانه الخارجي كميزة وتفرد. لذلك فهو يخترق الذات بوهمه وايحائه البعيد ولا يخترقها بطاقة الابداع التي تتجسد أعمالا ونتاجات.
هذا اليأس المستعار،،مثل الكثير من القيم المستعارة في حياتنا عامة لا يقل خطورة وتبشيرية مبطنة عن توأمه المتفائل في حياته المتوجة بخاتمة المسلسلات السعيدة، العربية والمكسيكية. ولا يقل خطورة عن مجموعة القيم النظرية والسلوكية المستعارة من ترسانة الجاهز في الفكر والسلوك. انها مجموعة الاقنعة البائسة التي تحاول ستر خواء الذات و”تهميشها” لصالح الافتعال والانتحال بأكثر المعاني فجاجة للكلمة. وكلها افرازات الثقافة الاستهلاكية الريعية، اختراق لاواعٍ أحيانا لسطوتها ونفوذها وهذا ما نشاهده في بلدان خليجية وعربية وبمستويات مختلفة.
في تصوري، وهو تصور يشاركني فيه كثيرون، أن الكاتب العماني بجانب عبء الكتابة وانجازها الابداعي، لابد أن يلعب دورا في المساعدة والتكاتف على تأسيس أو تفعيل أطر هذه الكتابة وأوعيتها. ففي حالتنا لم نرث من أسلاف لنا أطرا وتكوينات وتقاليد وانما علينا القيام بهذا الدور مهما كان شاقا تحت سقف القوانين والامكانيات المتاحة. فالمؤسسة لا تخلق كتابا ولا مبدعين وليس ذلك دورها، الذي هو في جوهره إداري إشرافي، لكن عليها تقديم الدعم وتيسير السبل التي يستطيع الكتاب والفنانون عبر مبادراتهم وجهدهم من خلالها الاستمرار والقيام بدورهم في التاريغ. ولو في حدود الحيز الذي يتيحه هامش العصر في إيقاظ الروح والضمير من الاندثار. وهذه الأطر تشكل جزءا من منظومة القيم التي تتجه الدولة الى انجاز حلقاتها في المرحلة المقبلة.
لقد تحدثت عن بعض النقاط في الثقافة العمانية _ وربما تحدثت عن بداهات لكن هذه البداهات هي الضاغطة وبحاجة الى نقاش واعادة نظر باستمرار. وهناك إشكالات كثيرة تخترق هذه الثقافة لا تسعها هذه العجالة، لكن عبر الحوار؟ حوار الاختلاف قبل الاتفاق، تتضح جوانب كثيرة تلفها الظلال والمعتمات.
اشارات
لا تستطيع مجلة ، أي مجلة وربما في أي مكان ، ان ترسم ملامحها وتحدد وجهتها منذ العدد الأول أو الثاني، لكنها تحاول أن تقدم المؤشرات الأولى لطموحها ووجهتها عبر الدرب الثقافي الطويل والصعب .
وليس من التهويل في شىء إذا قلنا أن اصدار مجلة ثقافية بطموح يتوسل الجدية والابداع، والتنوير هو دخول في مغامرة على نحو من الانحاء، مغامرة البحث والا سكة والسفر خارج المألوف والمنمط والمستهلك وهو ما تعكسه ردود الافعال المتباينة تجاه المجلة منذ عددها الأول. ردود أفعال من قبل كتاب ومؤسسات وصحافة ومن فئات مختلفة تتراوح بين الاحتفاء وهو الغالب وبين النقد الحقيقي المسؤول الذي نصغي اليه ونستفيد منه وبين الهجوم الواعي لأهدافه. والهجوم الجاهل والعدائي، حيث أن هناك دائما رأيا مسبقا ونمذجة عمياه لا سبيل الى نقضها، مع غض النظر عن المجلة وأهميتها ومستواها. ومثل هذا الدور التنويري والتحديثي، في مناخ شتى، رغم كونه أصبح بداهة ، تظل بداهة متجددة السجال والمراجع والمعطيات، ضمن شروط واقع خاص ، ونظل بحاجة للرجوع اليها والنقاش حولها ربما في الوطن العربي قاطبة، ما أحوجنا للرجوع إلى الكثير من البدهيات وتفحصها من قبل مثقفينا ومفكرينا بتبيان السياقات المتعددة لمنشئها وتاريخها ومسارها، في زمن شهد انفجار كل المفاهيم والرؤى التي سادت برهة وأفضت الوقائع والتاريخ بها ويغيرها الى العطب والهلاك .
ما احوجنا إلى ممارسة التنوير والابداع ضمن شروط واقع موسوم دائما من قبل الآخرين وحتى من قبل ابناء جلدتنا وقيمنا وهمومنا، ظلما، بانه واقع نفط وبذخ وليس واقع ابداع وابتكار.
وعلى هذا النحو ترتفع سحب النفط ومعان سرابها عند بعض الكتبة لتغطي حقائق الواقع الفعلي وتغطي قامة التاريخ والخيال وابداعات الانسان بتحويله الى واقع الاسطورة والاستيهام ولتجعل منا رهائن مكفنة ومنمطة لهذه الشرنقة من الآراء المريضة والخرافية ، مع أن النفط أصبح كنمط سلوك وقيم بعينها، ظاهرة عربية وليس أسير منطقة أو مناطق وحدها..
ومن سخرية القدر أن بعض الذين يشتمون زمن النفط في بلاد عربية وغير عربية ، ضمن مطبوعاتهم وخارجها ويجعلون منه موضوع نقد وهجاء، هم أفضل المستفيدين منه على الاطلاق : انه الفصام العربي في أقصى تجلياته وانحطاطه ..
والرد الوحيد كما اشرت ليس في النقاشات الفراغية وانما فى الممارسة الثقافية والابداعية واطلاق طاقة التفكير والخيال والتجديد..
فى كل الحالات تعكس هذه الصورة وضعا طبيعيا لردود فعل الاخرين تجاه أي مشروع أو رؤية ، خاصة فى حقل الثقافة والفنون والمعرفة..
لا ننطلق من فراغ في صنع مجلة وتأسيسها فمثل هذا الفراغ محض ادعاء، فأمامنا إرث الثقافة العربية بمجلاتها وصحافتها ومنابرها، لكنا لا نستطيع ولا يخطر على بالنا نسخ ذلك الارث بمعطياته الخاصة زمنا وتاريخا ومكانا، مما يذوب طموحنا في خضم العموميات وفقدان الملامح والوجهة الخاصة للمكان العماني وثقافته وعناصره المختلفة ..
فرحلتنا في هذا المكان وتضاريسه وإنسانه وتاريخه ، تراثا ومعاصرة ، هو هاجس جوهري نطل من خلاله على التفاعل الخلاق بين مختلف روافد الثقافة العربية وجفرافيتها المتعددة المتنوعة ..
وفي سياق طموحنا إلى التعدد العربي والتماس مع ثقافة العصر الموارة بالتيارات والاتجاهات، ضمن هاجس الخصوصية وإبداعها وملامحها، نطمح إلى أن تكون مجلة “نزوى” مجلة متنوعة وشاملة من حيث الآراء والتعبيرات الفنية والثقافية أو من حيث تنويع المواد وعدم حصرها في اتجاه واحد، أي أن تكون مرآة شمول ثقافي وفني وفكري بما يعني ذلك من محاولة تركيب عناصر مجلة تلم شتات موضوعات تمتد من التحقيقات الصحفية الحية والتاريخية حتى الإبداعات والكتابات الشعرية والمسرحية والسينمائية والموسيقية وصولا إلى التنظير الفكري والأدبي، ضمن وحده شاملة تتوسل المجلة تطويرها وتوسيعها، عددا بعد اخر..
كل مشروع ، وكل وضع يتوسل الآتي والافضل في المسار الثقافي والحياتي، لابد ان يستند الى الطموح والحلم والامل بالمعنى العميق لهذه الكلمات التي استهلكت في خضم استعمال عربي لا ينتج دلالة حقيقية بل ربما ينتج عكس ذلك . فحين ننظر في وضعنا الثقافي فلابد ان تتعدد زوايا النظر، لهذه الوضعية فلا ننظر الى سلبها ومرابعها المقفرة والخالية ، وأن كان ذلك أحد خيارات مصير الكائن ، لكنا ننظر فيما هو قابل للنهوض والحيوية والانبعاث ، تراثا ومعاصرة وننظر الى ما يستحق أن ندفع له تعب يومنا ومعاناة وجودنا وهو ماثل وموجود وينطوي على قيمته كخيار وجود وكتابة وأن في إرهاصاته وبداياته، نتوسل الانبل والأبقى خارج صخب السطع وبريقه السريع ..
فالثقافة في جانب كبير اصابها ما اصاب انماط الحياة والسلوك من طاعون المظاهر والاستسهال الذي يغرف من نتاج أقلام ومجلات وصور بصرية مهيمنة تحاول تكريس كل ما هو مبتذل ومتوحش في النفس البشرية . وأصبح الحيز الثقافي الذي يستهدف الحياة في صورتها الانبل والارقى ويستهدف الارث الروحي للمجتمع والاسلاف كهاجس تجديد واستمرار لا محي من الأخذ بأسبابه المتجددة، أصبح الاقبال عليه أمرا صعبا وبحاجة إلى جهود مضنية لجزء من هذا القبول ، مما يلقي العبء الاكبر والاكثر شفافية لالتقاط الجوانب المشرقة من التراث ونفض غبار الازمنة عنها بتجديدها وتقديمها الى الاجيال في اطار يلائم معطيات الحياة والعصر وبشكل أقرب الى بهجة المعرفة وآلاف .
فأحد محاور الصراع في تاريخ البشرية ، كان صراع الذاكرة بين من يريدون محوها وتدميرها لصالح معرفة ، أو بالاحرى، لصالح وهم معرفي لا نسب له ولا جذور ولا تراب .. وعلى هذا الاساس تمت ابادة شعوب وقيم ومجتمعات حيث قذف بها خارج ذاكرتها وتاريخها وخارج زمانها. فالحفاظ على الذاكرة وارومتها ونسبها المتناسل عبر الأجيال ، هو حفاظ على قوام الفرد والمجتمع وحفاظ على السيرورة الطبيعية لتاريخ الإنسان . وما التراث والتحديث سوى مظهرين ينضويان بالضرورة في هذا السياق وخارج أي جدل عقيم، لصالح الحفاظ والاحتماء بالذاكرة في صراعها الابدي..
ليس هناك من اتجاه بعينه يملي شروطه ومناخه على مسار المجلة وانما نحاول في حدودا لممكن أن تكون منبرا مفتوحا على أكثر من مدار واتجاه وعلى أكثر من رؤية ووجهة أدب وثقافة في حدود معايير القيم المعرفية المتعددة ، وربما المتصارعة في الاطار نفسه ، من غير أن تسقط في التسطيح باسم هذه التعددية ..
ليس هناك من اتجاه بعينه يفرض صرامته على المجلة كما تروج لذلك ثقافة الاشاعة في البلاد قبل صدور المجلة املا في الا تصدر وبعد بدء صدورها، وكما يروج اولئك الذين يضيقون ذرعا بأي شىء جديد وخارج سياق العادة المتراكمة عبر أزمنة الجمود والتخلف وكما يروج أيضا اولئك الباحثون عن دور عجزوا عن ايجاده على أرض الابداع والكتابة والحياة فتحولوا الى نسيج شبحي لابداعات متوهمة وعلى طريقة (لا ذا وعاه ولا ذا حصل) لم يبق أمامهم إلا سقف الثرثرة ومضغ خرق الكلام البالية …
ليست المجلة من ذلك في شيء وإلا لما كلفنا أنفسنا عناء مسؤولية كهذه في وقت لم نعد قادرين على تبديده بترك الحبل على الغارب ، في وقت نحن بحاجة إلى كل ذرة منه إلا أن مسؤولية إصدار مجلة كهذه ضمن عناصر مناخ عماني خاص ومحاولة إثراء وضعنا الثقافي بما يقع في حدود مقدرتنا، ليس ضياعا للوقت وإنما مسؤولية جوهرية وإضافة لإرث ثقافة وتاريخ ومحاولة إمساك بالزمن من ناصية الحقيقة ..
إن المجلة ضمن هذا المعنى ملك لكتابها وملك للآراء والإبداعات المستنيرة والصادقة من كافة الاتجاهات والأعمار والجهات ..
مقاربة الوضع الثقافي في عُمان
منذ فترة ، والجدل بمستويات عدة يدور حول المتطلبات الثقافية والابداعية التي أفرزها سياق تطور المجتمع العماني بإرثه الكتابي والمعرفي العريق ،الذي تدل عليه الاف المخطوطات فى شتى الحقول المعرفية . .
هذا الجدل يبحث عن بلورة تلم شتاته وتستجلي ملامحه بعمقها وسطحها وجديتها وثرثرتها،اذ لايستقيم الجدل والسجال حول أى وضعية معرفية وتاريخية، الا عبر سياقات محتلفة، هذه السياقات التي تتجه صوب وجهة أو وجهات ، باحثة عن منابرها وأماكنها الطبيعية التى يمكن أن تنتج فيها..
في هذا المنحى، ربما تاتي مجلة (نزوى) كمتطلب ثقاقي ضروري قي مسار الثقافة العمانية ومحاولة بلورة خصوصيتها وأصواتها، وروافدها المتعددة . .
ورغم مكانة عمان في التاريخ العربي والعالمي لكنها ظلت تعاني من جهل “الآخر” بها على الصعيد المعرفي. فقلما نجد صدى لمختلف النتاجات العمانية النثرية فى محيط الثقافة العريية، وهي نتاجات تتسمم بالغزارة والتنوع والعمق في أقانيم شتى، ارتادها الاسلاف بذهن خلاق رغم شراسة الجغرافيا وناي الامكنة.
لم تكن هذه الجغرافيا وعناصرها كما يتصور البعض ، عامل انغلاق وعقدة تقهقرا في الفكر العماني ، بل استطاع المبدع العماني ان يتجاوز هذا العامل بعطاء خلاق كفا تدل على ذلك النتاجات الكلاسيكية للثقافة العمانية التي تتوزع بين شتى العلوم والمعاوف والابداعات ،في الفلك وعلوم البحاروالطب والتاريخ وعلم الكلام واللغة وأصول الفقه وكذلك الشعر والنثر الفني الرفيع .
هذه الحقول المعرفية تكشف لقارئها المعاصر عن صلات بالغة الثراء بتاريخ الفكر البشري ، كما تكشف عن ملامح الشخصية العمانية وأنماط حياتها وتفكيرها المرتبطة بمصير مشترك وشامل بمحيط عروبتها واسلامها.
كأن لهذا الانتاج وهذه الثقافة، لو درست وتواصلت وسلط ضوء البحث على تخومها، أن تمد الثقافة العربية برافد حيوي ومتميز يصب في نهرها الكبير وهو ما يلزم القيام به ليس عبر مجلة فحسب ، وانما عبر حركة شاملة للثقافة العمانية قديما وحديثا.
نحن الآن إمام مواجهة عارمة مع قيم وأنماط ينتجها “إلأخرون ” وأصبح تسويقها كاسحا على المستوى الكوني يساعد على ذلك انتشار مفاهيم الاستهلاك والاسفاف والسطحية عبر الوسائل السمعية والبصرية التي أصبحت تحتل الحيز الأكبر من العقل البشري المعاصر، وهذا لأ يتاتى الا عبر اظهار الروح الأبداعية وارثها وخصوصيتها المتجددة في الزمان والمكان .
لسنا بصدد نقاش غالبا ما ينتج العقم بين ثنائية متضادة حول قديم وجديد، أصالة ومعاصرة.. و. . . . الخ ،
فمثل هذا النقاش أو السجال الذي سفح حول جثته حبر كثيرلم يبعث اي نبض في هذه الجثة من فرط منظوره الضيق ” شاملا الابداعات البشرية عبر أزمنتها المتعددة. فليس هناك تناقض بهذه القطيعة إلا في ذهن فرسان هذه الثنائية المفتعلة، الذين يعلو صراخهم وكأننا في حلبة مصارعة بين الحديث والقديم ، بما تتطلبه هذه الحلبة من تعبئة وأحقاد مريبة يصبها هذا الطرف على الآخر حيث تتغذى هذه النزعة من أرضية اجتماعية وفكرية مرضية لا صلة لها بما تتذرع بمناقشته والذود عن حياضه من أدب وابداع وقيم . . ويتذكر المعنيون بالثقافة ما حصل ويحصل على صعيد وضعنا الثقافي بعمان في هذا السياق .
مثل هذه النزعة في السجال الثقافي بجانب عقمها ونفيها للتعدد وإلغاء الآخر وربما بسببه ، آخذة في جلب أفدح الاضرار وخاصة على حركة ثقافية اخذة فى النشوء والتبلور وتخلق صراعات ليست في مكانها كما انها بجانب نزعات مرضية أخرى مثل تسلق الشهرة السريعة وتوهم الإبداع من غير خلفية فعلية لذلك ، وأخذ الأدب مأخذالوجاهة الموازي للثروة، تخلق صراعات ليست في مكانها وتنقل صراعات الى أرضيية الأدب ليست من صليه وطبيعته ومساره .
واذا كان النقاش واختلاف التوجهات يثريان حقل الأفكأر والأخيلة بشكل لا غنى عنه في أي تطور ثقافي ، فا نزلاقه الى هذه البؤرة العدوانية يؤدي إلى عكس ذلك تماما.
بداهة، وهذا ما نسعى اليه في مجلة (نزوى) فكرا ونصا، ان هذا التراث الإبداعي الذي يستنكف عنه البعض بسبب الجهل به ويغيره ،هو جانب جوهري في لحظتنا المعاصرة وذاكرتنا الكتابية الحديثة، مثلها الجانب الآخر هر الراهن والمعيش . فلحظة الكتابة هي لحظة تشظ واحتضان لأمكنة وأزمنة يحاول تجسيدها النص في متاهاته المختلفة وبمنطقه وقيمه ..واذا كانت هناك أشكال تعبيرية آلت مع الزمن الى النمطية والشيخوخة مفسحه المجال الأشكال أخرى، كما هو تاريخ الإبداع الإنساني ، فهذا لا يعني بطلان التراث وانما تجدده في اللغة والرؤية ، ويعني استمراه باشكال وأنساق أخرى ..
التراث يسري ويتدفق عبر مراة الوعي و اللاوعي – في مائنا وعروقنا دكتابتنا كما يسري في الحياة بشتى أوجهها واندفاعتها. .
اننا نسبح في بحر من هواجس الأجداد كما يعبر”يونج”.
نزعة الأصول ألصارمة والقسرية بحرفيتها و نفيها لأي اجتهاد يخالف قولبتها للتراث و”التكابة والحياة، تجسد القطب الآخر والأكثر خطورة لحجب الجوانب المشرقة والخلاقة في هذا التراث فإما يتم الأنصياع لهذا المفهوم الذي يجمد التراث فى الزمان الذى أنتج فيه واما يتهم صاحب الرأي الآخر “الحديث وبما ” ، بالمروق والخروج عن جادة الصواب وفق التعيير المتبع ،محاكمات ومفاهيم جاهزة سلفا يقذفها أصحابها بخفة على كل من يختلف في تناوله لمفهوم التراث وأشكال التعبير المختلفة وكآنما هم الأوصياء المنزلون على البشر وقيمهم وتراثهم ،
وليس (أي التراث) ملك المجتمع بفئاته وأفراده ومثغفيه مع غض النظر عن الآراء والأجتهادت المطروحة لسجال الخطأ والصواب ..
هذه المفاهيم الجاهزة التي لا تقبل لشك في شيء ولا تقبل الحوار المعرفي أو لا تسعى إليه مكتفية بذاتها وبلاغها القيني الناجز عن قيم ألأمة وبيان ماضيها ومستقبلهآ الأكيد، هي التي تؤدي إلى ظلامية مفرطة في الثقافة والحياة.
كل نزعة من التي أشرت لابد ألم ظ تقفي إلى تغييب عروة اكصلات الطبيعية التي تتعقد حولى كل ،اجتماع وكل ثقافة حقيقية تسعى إلى تطورما وثرائها عبر الحوار والخلاف والتعدد البناء وليس عبر الانكفاء باضفاء القداسة كهل ما نقوله من رأي أو خطاب.
هذه الاشارات تطمح مجلة “نزوى” إلى توضيحها وبلورتها عبر محاولة نشرها “للقديم ” المضيء فى تراثنا العماني والعربي و”الحديث” الجدي الباحث عن صورته وملامحه وسط تراكمات الوعي والملابسات والتعبيرات المختلفة التي يمور جمها عالمتا المعاصر.
واذا كانت مجلة “نزوى” فى نزوعها إلى أن تكون مجلة “عربية” بشمولية هذ” الكلمة المأساوية واتساعها، فذلك لا يأتي إلا عبر تقديم هذه الخصوصية العمانية بالدرجة الأولى وعبرها بالمعنى الابداعي للكلمة، تكون مدى مساهمتنا قي ثقافتنا إلعربية الشاملة.
النص العماني قديمه خاصة والى حد كبير حديثة ، لم يعرون بشكل مرض لدى القارئ العربي ، وغياب المنبر الثقافي المتداول على المستوى العربي هو وأحد من أسبابى غياب هذ، المعرفة ، كما ان ضمور ألبحث المعرفي المعاصر من قبلى الكتاب العمانيين وغيرهم حول التراث الكلاسيكي للثقافة العمانية ومقاربته تقديمه برؤية معاصرة ناخذ في اعتبارها، الإنجازات المعرفية في خطابات البحث المعاصر ومناهجه وتجلياته ، أدى ذلك كله الى عدم تمكن القارئ العربي من الاطلاع على ركن ثري من أركان ثقافته ومعرفته .
بمعنى آخر ان مجلة “نزوى” ستتبنى الجدل والبحث في هذا المجال المعرفي كمسألة أساسية لوجودها استمرارها وهذه المسألة اعتقد ألنها على نحو من الجسامة قي وضع اخذ في إالأسيس وبحاجة إلى جهد وممسؤولية صادقة، فالمجلة وأي منبر ثقافى آخر لا تقوم بمساتها إلا كجزء من وضع ثقافي متحرك ومنتج ، وهو ما لم يتحقق لدينا يعد، ولا يمكن لمجلة ان تدعى بسهولة المنحى التبشيري وسيولته ، انها تقوم بذلك كله ، خاصة وهي مجلة فصلية، لكنها نافذ ة ضمن نوافذ أخرى لابد ان تتوافر في مقاربة وبلورة خطاب ثقافي ما. وهي ايضا نافذة للثقافة العربية بتجلياتها المختلفة، فالتقاط الخصوصية والتاكنيد عليها لا يمكن آن ينجز الا قي ضوء ثقافة “لأمة وهويتها الشاملة.
وفي سياق محاولات سد فراغ وثغرات الوضع الثقافي في البلاد عبر تحريك الأطر والمنابر وايجادها باتجاه القيام لهذا الدور، تطمح مجلة نزوى! أن تشكل حالة ثقافية خارج المنشور والمطبوع بش دفتيها، أي أن تكون نواة لفعالية ثقافية وابداعية، تستقطب القدرات والى أهب إالواعدة والمتحققة على مستوى السلطنة وعبر مد الجسور الثقافية على المستويين العربي والعالمي.
منبر كتابة وأجتماع ثقافي لمتطلب وطني في سياق التطورات الإنمائية والحضارية السريعة التهى شهدتها وتشهدها السلطنة تحت قيادة صاب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم . سنحاول ايضا في حدود امكاننا وفى الأعداد القادمة الا تكون الأسماء اللامعة هي دليلنا ؟الوحيد، بقدر ما هو معيار القيمة وما يحمله النص من انجاز واضافة، و انه ليس هناك “صراع اجيال ” بقدر ما هو صراع قيم واشكال تعبير ورؤى، من غير تلك التحديدات الزمنية المصارمة المتوارثة من فترة لأخرى وعمر لآخر، التي تفيد اكثر في دراسة تاريخ الأدب أكثر من فقده وسبر أعماقة وماهيته..
وسنحاول تقديم ملفات ومحاور في كل عدد بدءا من عمان والجزيرة العربية حتى المغرب الكبير محاولات ستتبين طريقها ووضوحها في مسار إلممارسة الثقافية ، اذ يبقى التنظير والوعد الذي هو غير متواز ومتداخل مع هذه الممارسة الثقافية، محض هذيان وأحلام يقظة، ربما تفيد النص لحظة كتابته أكثر مما تفيد المشروع الذي يتطلب قدر؟ من الواقعية والعمل . وما نخطئة اليوم نتوخى صوابه غد! وفي الاعداد المقبلة- العدد الأول على سبيل المثال محطة اختيار نستشف من خلال طريق المجلة ومسارها المقبل . بقيت بداهة التذكير، ان ما تبقى لنا وللشعوب قاطبة هو ما ننتجه من معرفة وفنون واداب كما تدل على ذلك الشواهد التي لا تحصى، ذلك الكنز الذي لا يفنى ولا ينضب له معين أمام الزمن الساحق الذي سد كل شيء في طريقه ، عدا ما يحمل صفة البقاء من ثمار الروح ونزوعها نحو ألأرش والأنبل ، وهو المحجب في خضم الحياة اليومية ولهاثها الفظ فى تحقيق وسائل العيش وتبعاتها وشؤونها، لتكون هذه الحياة على قدر من الاحتمال والقبول والانسانية في شكل بعيد عن بريق المظاهر وزيفها الذي أخذ يلتهم كل تاريخ واجتماع وفن بالمعنى العميق واصبح المقياس االكاسح للاشياء والقيم.
وربما هذا ايضا سبب في صدور مجلة ثقافية ضمن زمن غير ثقافي ومحيط أقرب إلى الانصراف عن الأدبى والثقافة ان لم أقل الارتياب .
من يوميات الصحافة
قصـــر الأحلام
هذا عنوان رواية من روايات الكاتب الالباني الشهير “اسماعيل كاداريه” الذي عرفه العالم، وعرف انجازه الابداعي الهائل والاصيل- بأوسع مما عرف البانيا المعاصرة.. ذات الطراز المنفرد في حكمها الشمولي، وموقعها وعزلتها حتى مع الأنظمة التي كانت تجمع واياها قرابة فكر ورؤية الت أخيرا الى التفكك والانهيار.
“اسماعيل كاداريه” في الوجهة الرئيسية لابداعه الروائي يتوسل وينطلق دوما . من مواضيع التاريخ الالباني، على محاور هذا التاريخ ووقائع الشخصية الألبانية وحساسيتها وروحها الخاصة. ترتكز مادته الروائية متعددة المستويات والتناولات في بحثها الدائم في اعماق هذا التاريخ المتقاطع في حروبه مع الغزاة، وسلمه وتناحراته وثاراته القبلية والعشائرية.. التي تصبغ سماء بلاده بالدم والمأساة.
هكذا نرى في رواية “نيسان مقصوف” من ترجمة وديع سعادة حيث آلة الثأر التي تطحن المجتمع الالباني منذ قرون يدور رعبها على الجميع.. القاتل والمقتول والعشيرة والمجتمع بأكمله.. في لوحات فاتنة تجسد الطبيعة الألبانية في العمق خلفيتها المشهدية الشرسة، وكذلك روايات ذات منحى آخر مثل “الحصن” و”جنرال البحر الميت” وعشرات الكتب التي تأخذ من التاريخ مادته.. لتقول الحاضر مشاغله واشكالاته.
في هذه الرواية التي قرأتها اخيرا “قصر الأحلام” و”التببرسراي” بلغة الأتراك.. ينفي “اسماعيل كاداريه” او “قدري” اذا بالغنا في تعريبه.. مادته ابان الأمبراطورية العثمانية وسيطرتها على أجزاء واسعة من العالم. من ضمنها البانيا، في تلك الفترة كان “قصر الأحلام” الذي خلقته الأمبراطورية لمعرفة أحلام الناس من مختلف انحاء الأمبراطورية المترامية وصولا الى القبض عبر تفسير الأحلام وشرحها على معارضي الامبراطورية، ومعرفة مواليها واتباعها.
هذا القصر الغامض.. الذي يتراوح وجوده بين الواقعي والاسطوري، المكتنز بأحلام مجتمعات امبراطورية كاملة.. يعمل فيه بطل الرواية “مارك عالم” الذي يمت بصلة نسب من جهة أمه الى عائلة “آل كوبريلي” وهي اعرق العائلات في البانيا.. والتي اعطت الأمبراطورية العثمانية القادة العسكريين والوزراء والوجهاء، يتدرج مارك عالم في وظيفته بقصر الأحلام.. من شعبة الانتقاء.. انتقاء الأحلام وما يصلح منها في رفعه الى شعبة التأويل التي بدورها تؤول الأحلام وتشرح دلالاتها ومراميها.. وصولا الى الاختيار الدقيق والمعقد للحلم الاقصى، الذي يرفع في جور اسطوري من الغموض والصخب الى العاهل العثماني الذي يقرر العقاب والاعدام وخلافه.
ذات يوم يمر على “مارك عالم” حلم حلمه بائع خضار جوال: جسر وآلة موسيقى وثور هائج فوق ارض غامضة، واذا بهذا الحلم يتحول الى كارثة على عائلة “كوبريلي” من غير ان يعي ذلك “مارك عالم” فقد مر بين يديه الا حين انقضت شرطة الامبراطور العثماني على قصر عائلته، واعتقلت خاله وحكم عليه بالاعدام.
وهكذا تحول “مارك عالم” الى ضحية هو وعائلته ذات النفوذ الكبير بسبب حلم ذلك البائع الجوال ويسقط في الندم والخيبة والانهيار.
إنها لعبة التاريخ وصراع القوى الخفية الذي يحكم اسماعيل كاداريه نسيجه الدرامي ويجعل منه مادة مقروءة في كل زمان ومكان رغم خصوصيتها الألبانية الشديدة.
أحاسيس مختلفة لانتحار واحد
“لقد انتهى الأمر، ذلك ما أجده في نفسي هذه الأيام”
هذه العبارة من الصفحة الأولى في كراس الفنان العراقي الراحل ابراهيم زائر، ربما تشكل مفتاح دخول الصفحات اللاحقة ومرآة وجوهها وصراخها وكوابيسها التي تحتشد في عبارة النص المكثفة ومناحيه وحالاته، رحى ألم ويأس يفرش عشبه وينبت في كل الأسطر والكلمات.
ابراهيم زائر من جيل الستينات في عراق ذلك الزمان الموار والمتماوج بالايديولوجيات والافكار وشتى الاتجاهات الأدبية والفنية التي تتوازى وتتقاطع، تختلط وتتصادم بالخطابات السياسية ذات الصوت العالي والمرتطم بكل ما يحاول المروق عليه. والعراق في هذا المنحى ليس بحال آخر عن نظيراته العربيات الا في الدرجة ومستوى التصادم وكثافته.
هذا الجيل الستيني من الأدباء والفنانين الذين نشأوا في قلب هذه المرحلة وتوتراتها وقيمها الآخذة في التبلور، كان يحفر بأظافره ودمه أرض الاساليب والتعبيرات الأدبية والفنية عبر مخيلة تركت من أعمق وأصفى ما أنتج في حقل الثقافة العربية شعرا وتشكيلا، رغم الآلة السياسية المتعددة الاطراف والنوازع ورغم المنافي التي غيبت الكثيرين في لججها البعيدة الغور.
ابراهيم زائر جزء من علامات هذا التيه، الذي لا يستقيم أود ثقافة حقيقية، إلا به، وإن كان ابراهيم ذهب إلى الاقصى في وضع حد لحياته.
كتاباته هذه “احاسيس لأزمان مختلفة” الذي جمع شتاتها عبدالقادر الجنابي عن منشورات الجمل، نقرأ نصوص رسائل وشذرات تشكل في مجملها نشيدا قاتما لرجل في أفق احتضاره، يتذكر اشياءه الحميمة او التي كانت ذات يوم كذلك، يختنق بصوته، يتعثر وسط صخور مسننة لاذعة، العالم، أشباح الاصدقاء، الحب الاشياء والفصول يحاورها بحرقة وغضب وحنان، “انتهى كل شيء” فما على الراحل أو لم يتبق أمامه إلا تذكر بعض لحظات متقطعة عاشها في الماضي تشكل في غالبها إرثا ثقيلا عليه التخلص من بعضه بالاعتراف والبوح في هذه الفسحة القصيرة قبل النهاية الحتمية:
* لم أعد نافعا.. رغم أنني بذلك ألبس ثوبا كبيرا وانني اعرف ما الذي تحضرينه لي من كلمات ولكن الحقيقة أشد قسوة مما اڑصرح به.. كم هي مؤلمة هذه اللحظة.. مستحيل عليك ان تتذكر كل شيء”
مستحيل، لكن ذلك لا يمنعه من التجوال قليلا عبر عبارة دقيقة، ومحكمة، تضع البساطة موضع امتحان و”مغروفة من القلب” او منتزعة من الاحشاء، كما يعبر ميشونيك، من التجوال في خزائن ذاكرته ومسرات ماضيه، ان كان ثمة مسرات يضمرها ابراهيم زائر في هذه المدن التي تتكوم كالأرملة في انتظار الطائر الاسطوري كما يعبر.
وهو في جولته الاخيرة هذه بتلك السراديب والأقبية التي تتقافز منها مخلوقات الماضي والحنين المغلف بالقسوة، يبزع أولئك الذين انتظر وجوههم الرائعة، الرائدة التي يتطلع إليها.. كانوا أخوة وآباء، لكن هؤلاء الآباء ذوو الملامح اللطيفة يسحبون منه كل شيء وهبوه ولم يتحققوا من عدالة الامل ومن غايات العذاب.
“آه انتظرتكم طويلا وها أنتم في زاوية الحديقة تراثا من الاعاجيب لم يألفه احد وصوتا وقورا يسحب المحبة، آه أيتها العصافير، ان غناءك لمزعج”.
وليس “الخوف والانتحار” دافع كتابة زائر الى خلق نسيج رؤى، لحمته القتل وعلاماته واشاراته . وأدواته الاشياء والمخلوقات التي يرى فيها البشر “السويون” وجه سعادة ممكنة كالبحر والضوء والعصافير والمهرجان ويراها انتظار خسارة، وردة ضحايا ويرى “نسغ الحياة الجامد في العروق” فلا جدوى اذن من ذلك الصوت الذي يدعوها الى الافاقة والتنزه في الحدائق والبساتين، وهو الذي عرف “ان ملل الضحايا طفا على الثورة والبنسلين”.
نشيد زائر بحالاته وتأملاته ونوافذه المشرعة على الغياب والالم حين يتحول الى “بديل كامل للنظام الموروث”، نشيد موت وسقطة حياة.. لكن ذلك يأتي عبر نافذة البداية. “قهرت الزمن اذ حولت الجدار الغامض الى لوحة رسم”.
لكن هذه اللوحة الحلمية التي يتم إبداعها على اكمل وجه واجمله في شبه اشراقة لدرجة ان الفنان يعطي العالم تبريره النهائي ويبكي، لا تلبث صفعتها تلطم خده “الأحلام لا تطابق الواقع” لاشك انه الواقع الذي هو بصدد الحديث عنه، لكنه يعود نفسه على الحلم الذي أعطاه حياة كاملة رغم فظاظة هذا الواقع المتدفق بالغياب الذي يحتل الضفاف والهواء والمفاعل ويؤطر سماء الغرفة.. لكن ما قصة اولئك الاعراب الثلاثة الذين ظلوا ملصقين بالحائط يفكرون في مصير العالم ولم يتوصلوا الى المشاركة؟”.
“احاسيس في أزمان مختلفة” كتابة الرغبة في انطفائها وانكفائها على الحنين الى منال مستعص وبعيد، كتابة عن الكائن في استشراف النهايات..
وابراهيم زائر الفنان التشكيلي والكاتب الذي ولد في بغداد ???? ومات عام ???? منتحرا في بيروت. ربما لم يشأ للخدعة ان تستمر بكامل بهائها فأقدم على الخطوة التي اقدم عليها بعده بسنوات خليل حاوي، مسبوقين وملحوقين، بأحلام المئات من أنحاء الوطن العربي قاطبة مع وقف التنفيذ.
في هذا السياق نود الاشارة بأن ليس رغبة في استدعاء رؤى الانتحار بالمعنى الأدبي ومداعبتها وعلى نحوها كتابات الكارثة، لكن حين تقتلع كرامة الاحياء وتهدر من غير حساب ولم يستطع هؤلاء انتزاع حياتهم من براثن القسر العربي السائد الذي ينحر الايام والليالي كما تنحر الخراف، فانتزاع حرية الموت الاختياري الطلق “أمام الذين لا يعترفون بكرامة الدم قبل أن يكون وصية”.
أين هم “العقلاء” الذين يضعون بعض الحد لبشاعة المشهد القائم؟ مازلنا على بعض من السذاجة.
جــبرا ابراهـيم جــبرا
بين 1920 و1994 يمتد ارخبيل هائل من السنين والتقلبات ومن المجازر التي لا حصر لها ومن ابداعات الانسان واكتشافاته وتوقه الدائم الى المجهول… بين هذين الزمنين تمتد حياة الاستاذ “جبرا ابراهيم جبرا” كواحد من كبار مبدعينا عبر هذا القرن الباحث عن وجهه الحقيقي وسط الانقاض والجثث والنيران.
من مكانه الولادي ببيت لحم حتى هجرته الدراسية والمعرفية الأولى باتجاه الغرب الأوروبي وعودته الى العراق الذي اختاره موطن اقامة وابداع 1948، ابان السقوط التراجيدي لموطنه الأول لتبدأ معه رحلة التأسيس والبحث في أعماق الثقافة العربية وتطلعات التجديد والتحديث الآخذة في الانجاز والتبلور والأسئلة.
كان جبرا كما يعترف بذلك محبوه والذين ليسوا كذلك، من أهم المساهمين في صياغة الثقافـة العربية الحديثـة وملامحهـا القلقة والمندفعـة لفك أســرها صـوب أفق يتوسـل الرحـابة والحرية والابداع.
كانت حياته المتوترة دوما بالابداع والكتابة في شتى حقول المعرفة والفنون والترجمة، حياة غزيرة بالانتاج والحيوية، بمثابة معين ومرجع سواء لمجايليه أو من أتى بعده، حياة المعرفة عبر مراياها المتعددة والمسكونة بثقافة موسوعية فريدة.
كان حارث أرض الثقافة ورائدها بجانب أقرانه في صمت واخلاص وتواضع نادرا ما نجده في دنيا العرب المعاصرة.
* * *
آخر لقاء كان لي بالاستاذ جبرا في مهرجان جرش بعمّـان، لم يتغير كثيرا رغم سنوات القسوة والحصار وموت الأحبة، أقربهم موت زوجته ورحيل آخرين عبر أصقاع الأرض الموحشة، أما هو فلم يختر الرحيل رغم الشروط المغرية لمكانة شخص مثله “اختار السفر في الروح المدماة بالهجرة الأولى” كما كتب ضياء العزاوي … وغرق في الكتابة والتأمل والذكريات ليراوغ ألما وفجيعة فوق طاقة أي احتمال.
كانت الكتابة ملاذه الأخير، هو الذي اختارها خيار وجود وفعل حياة وموت منذ بداية حياته ولم يجد غيرها في آخر الرحلة أشد اخلاصا وديمومة في البقاء والدفاع عما تبقى لهذا الكائن من انسانية ونقاء أمام زحف الاستئصال لكل ما يمت لهذه الوجهة المحاصرة من صلة.
كانت جلساته بعمّـان لا تذكرنا بأي موت قادم في الأفق، رغم أننا رهائنه في كل هنيهة ولحظة، ربما بسبب حيوية جبرا واحساسنا بأبوته الصادقة الحنان والمضمرة دوما من غير تصريح أو تعال أو ما يشير الى ذلك. أبوة لا تستدعي القتل وفظاظته وانما تستدعي المحبة.
لكن “كان ما سوف يكون” كما يعبر الشاعر الكبير … ففي صباح ذلك اليوم وكنت لم أقرأ أخبار الصباح بعد جاءني الصديق عبدا? الحراصي ليخبرني ما يظن أنني عرفت عن وفاة الأستاذ “جبرا ابراهيم جبرا” وكنت قبل أربعة أيام على مكالمة تليفونية معه لأذكره بالمادة التي وعدني في عمّـان بإرسالها، مكالمة استمرت وقتا طويلا وهو يرتشف قهوة الصباح، تلك القهوة التي أحبها طوال حياته المفعمة بالجمال والحب والشتات، وكأنها واحدة من أحاديث وداعه الأخير.
ما كنت أظن أن الرسالة ستصل، لكنها وصلت مع النصوص الشعرية التي قال عنها في المكالمة التليفونية انها آخر ما كتب، وكما توضح ذلك رسالته التي ننشرها مع نصوصه الأخيرة.
واذ أتشرف بالقيام بذلك وبما خدمتني به الصدفة والعلاقة فإن ذلك لا يقلل من حزنا على الراحل الكبير الذ ي غاب وسط صخب شخصياته وأصواته ومراياه حيث يبزغ صوت سراب عفان.
“من هنا الى أقاصي الصين، في كل واد وعلى كل جبل تتفجر عيون الظلام والبؤس والتوق ـ وكذلك الظلم، من ذوي القربى وذوي البعد على السواء… وربما الهوس، والعشق.
ونحر الذات”.
حول الجمعية الشعرية في المهجر
من الشروط القائمة للزمن والتاريخ الذي نعيش، عربيا وعالميا، يصبح الكلام حول اطار يلم الشمل المتشظي للثقافة العربية بأشكالها وتعبيراتها المختلفة، أمرا يحمل قدرا مأساويا من الجسارة والمخاوف. فالامر ليس رهين استسهال ومزاج عابر، بقدر ما يمتد في صلب وضع يعاني انكسارا وتمزقا في الداخل والخارج، لا مثيل لهما.
هذه الثقافة التي سنحت عبر زمن قصير من زمانها ومكانها، ليقذف بها في مجهول الاماكن والتاريخ، تحاول فيه لملمة شتاتها، وخلق المغاير والمختلف، المضاد لنتاج المؤسسات والكتبة رغم وعورة ارض المنفى وقمعها الخفي.
ولنخرج من التعميم، ونقول، إن الثقافة العربية من المنفى، لها على نحو ما، سيماء هذا المنفى وشروطه الابداعية المختلفة، من سمات المكان وعلاماته وطقسه، حتى انتفاء الرقابة والاستبداد… الخ، اي شروط حرية ممكنة، لكنا نجد في جانب آخر، وجود ذلك التداخل الصميمي، في طرائق التعبير والرؤى مع الثقافة، غير المؤسسية المنتجة في الداخل. بطبيعة الحال هذا التداخل الطبيعي، لا يلغي الفروقات، بقدر ما يحاول ان يستجليها في بعض جوانبها المطروحة لنقاش مجموع الآراء المعنية.
في غضون العشرين سنة الفائتة (بشكل خاص) اضطر الكثير من الشعراء والكتاب العرب، تحت عنف الاقتلاع المادي والمعنوي في بلادهم العربية، بعضهم تحت وطأة حروب لا دخل لهم فيها، والبعض الآخر عبر القمع المباشر والعاري، وغير المباشر، إن وجد، أن يهاجر معظمهم الى حواضر الغرب، وأمريكا، باحثين عن وضع بداهة، مختلف. وعبر التفاصيل المعروفة لهكذا مناف ومنفيين، في تأمين سبل العيش والحد الادنى من “الاستقرار” كان ألم البحث قائما ومدمرا للكثيرين.
كانت المؤسسة العربية، بعناصرها وأموالها، تنتشر في هذه الحواضر، مستقطبة، أقلاما كثيرة، مشكلة ملاذات معيشية في قسوة هذه المهاجر المعروفة.
طبعا ظل الابداع الحقيقي لهؤلاء الكتاب بمعزل عن هذه المؤسسات والمنابر، التي ليست إلا امتدادا لعائلتها الكبيرة في الداخل العربي، والتي جاء الكاتب العربي المنفى، هروبا من سطوتها وملاحقاتها وتهميشها.
لكنا لا نستطيع التجاوز، ان هذه المؤسسات والمنابر، أجلت البحث (بوعي أو غير وعي) عن بدائل حقيقية للمبدعين العرب،بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم، عن اطار يكون جامعا للاختلاف والاتفاق، فاعلا ومؤثرا. عدا بعض الأدباء الذين يجمعهم مزاج شعري وأدبي مشترك.
ولا اعتقد ان هذه المؤسسات، لم يكن في بالها تذويب الكتاب العرب في أطرها الخاصة لاعبة على بعض التناقضات الموجودة في الخارطة العربية.
من هنا، ربما يتضح بعض الفرق، بين المهجرين السابقين واللاحقين. إن أولئك الاوائل على قلتهم، كانوا فاعلين أكثر بمعنى من المعاني، مع غض النظر عن تطور الافكار وأشكال التعبير.
* * *
الآن في الظروف القائمة، ومع اشتداد قسوة التاريخ واتساع رقعة التهجير والتشريد والتنكيل، في هذا السياق، تأتي الدعوة الى تأسيس مثل هذا الاطار الجامع، او هذه الجمعية، أمرا طبيعيا، ولا يمكن الا الوقوف مع هذه الدعوة، فكريا وأخلاقيا ووجدانيا، من حيث المبدأ والمنطلق.
لكن اذا تجاوزنا، قليلا، غنائية هذه الفكرة وجمالها الأخاذ فالصعوبات الواقعية التي تكتنفها كثيرة ومتشعبة، نبدأ من الكتاب أنفسهم، فكم من الدعوات والجمعيات التأسيسية التي قامت في اكثر من بلد اوروبي (أتذكر باريس) تندرج في الخطوط الرئيسية لهذا السياق، لم تتجاوز اجتماعا او اجتماعين وينتهي أمرها، كم من الأشياء المماثلة.
هناك يأس عند الكثير من الكتاب حول أي تمحور جماعي، نتيجة تجارب مماثلة، نتيجة سياق من التدمير حول أي توجه جماعي، امتد من داخل الاوطان وتعمق خارجها، أي أن الحرية المتاحة هنا لم تثمر غالبا، مثل هذا التوجه بل نقيضه، تمركز فردي، وفي الكثير من الاحيان الغاء متبادل، مما دفع البعض الى العزلة الكاملة والكتابة عبرها، رأى فيها مرفأ اخيرا في الحد من تناسل العذابات.
هذا التمزق في الذات العربية المثقفة لن يلتئم بسهولة اذ ان هذه المسألة ليست أمنية في المتناول تجاوزها دفعة واحدة.
هذه الهواجس لا تقودنا الى التقليل من شأن الفكرة، بل الى تأكيدها، بنظر أعمق من السابق. فذاكرة الثقافة العربية مليئة بالصراعات والندوب الكثيرة مع نفسها ووسطها ومع مهامها التاريخية، التي اجبرت على الاقصاء عنها والسكنى في الهامش، بالمعنى الضيق، والخوف والشتات. فلم يكن تهميش الثقافة الحقيقية من قبل الأنظمة والحركات السياسية، الا تهميشا لمسار التاريخ الفعلي للوطن العربي، أتت ثماره، في موكب فجائع ونكبات.
الفردية الشعرية والأدبية بأقصى حالاتها ابهاما وعزلة، لا يمكن ان تستقيم على حال صحي، الا في ضوء التاريخ العام ومعضلاته، ولا أقصد هنا، وضوح التعبير وغموضه، تلك الثنائية الباطلة، وانما بمعنى الكينونة الثقافية الشاملة وموقعها في الصراع.
واذا كنا نتقدم نحو وعي هذا الموقع ونحو تلمس انجاز شروط وعي الحرية، فالدعوة التي اطلقها الشاعر نوري الجراح بجريدة القدس العربي، في تشكيل هذا الاطار الحر والبعيد عن استقطابات المؤسسة، أي مؤسسة، والذي دعاه “مهجرية شعرية في اوروبا” تندرج في هذا السياق من حيث المنطلق، وما زالت تشكل محور اسهامات ونقاشات من قبل الكتاب والمثقفين العرب في هدف المهاجر، باريس لندن، كمركزين والمنافي الاخرى.
وبما أني في بلد لا توزع فيه جريدة القدس (هولندا) فالمساهمات التي أرسلت عبر الجريدة تدعو الى تأمل هذه الدعوة ونقاشها من أكثر من جانب ثقافي وتنظيمي. وربما الجانب التنظيمي لن يشكل عقبة اساسية، لاحقا.. فاعتقد مع الكاتب العراقي فاضل العزاوي، حول هوية هذا التجمع وأفقه، بأن يكون مفتوحا ليس للشعراء فحسب لأسباب نوه اليها باقناع، بل للأدباء كافة وهذا ما تبينته من الملاحظات الآنفة.
وكذلك آراء الشاعر شاكر لعيبي الذي يعيش في جينيف بعد ان جمعتنا دمشق ذات زمن، والتي تأتي على استقصاء “مياسم” التجمعات الأدبية التي وسمت ثقافتنا في تاريخها الحديث.
لكن شروط الوضع القائم مختلفة في جوانب جوهرية، فردا وجماعة، لم يعد ذلك الروح الجماعي لولادة مثل هذه التجمعات، وأيضا لم تعد شروط نفيها بالمرة قائمة، انها محاولة اختبار وطرح اشكالية.
وربما في مستوى ما ذكر شاكر لعيبي أيضا من تحول المنافي والمهاجر، عنوانا لثقافتنا في الربع الاخير من هذا القرن وتعمقها كظاهرة “أصيلة” ما يدفع مثل هذا الاطار الثقافي الشامل الى قناعة بلورته عبر الترفع على الخلافات والانقسامات الحادة وتلمس الجامع والمشترك وهما الجوهريان في حالتنا.
* * *
ليس الخارج والداخل، المنفى أو المهجر، الوطن، موضوعين متقابلين أو متوازيين، انهما الجسد الواحد في تشظيه عبر الجهات. لكن مع تجاوز هذه الثنائية البديهية، تبقى هنالك أمور عملية خاصة في صدد انجاز هذا الاطار التجمعي للثقافة العربية، فلكل منهما شروط معيشة، شروط كتابته، ومناخه الاجتماعي… الخ.
ومجمل الآراء تنطلق من بداهة الاستفادة من مناخ الحرية المعاش في هذه المهاجر، كي يتسنى التعبير والدفاع، ضمن هذا الافق، عن حرية الكتابة العربية، وحق المبدعين في التعبير الحر في أي مكان عربي، بعيدا عن القسر المؤسسي والاضطهاد.
انه اعلان وجود عن ثقافة بلغ بها التهميش حدا أقصى.
اننا في البداية… ما زلنا..
هولندا ـ لاهاي ????.
حول الرموز الأدبية والربع الخالي
حبر كثير ذلك الذي سفح حول مسائل عدة، تتعلق بتحديدات وطبائع الرموز والدلالات والإشارات في الآداب والفنون، يتساوى- وإن بقدر أقل- مع ما سفح من حبر ومعارك.. لم تهدأ رحاها بعد، بين مصطلحات كثيرة.. كالأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث.. ويتداخل هذا الصراع أحيانا- في منطلقاته وسياقاته ونتائجه، التي غالبا ما يصر بعض الفرقاء على التوصل اليها.. لاقناع قرائهم بصحة هذا، وبطلان ذاك.
كل جدل- في أي حقل معرفي كان- له مستوياته المتعددة، التي تمضي صوب الثراء والعمق.. وصوب الابتذال والسطحية والاغراض الدنيئة، حين يدلو كل بدلوه.. من عالم القوم الى متطفلهم، ان لم اقل جاهلهم.
في هذا السياق، شغلت مسألة استخدام الرموز والأساطير، وما تقذفه المخيلة الشعبية- أحيانا- من أمثال وحكم وإشارات، وحكايات ومنطوقات شفوية، شغلت الأوساط المعنية بالكيفيات المتعددة لاستخدامها استخداما خلاقا، وتوظيفها في الحقل الابداعي بشتى مناحيه.
تاريخ الأدب العربي الحديث، قد استثمر هذه المسألة استثمارا جيدا ومختلفا.. من شاعر الى آخر، وشهد- أيضا- في رقعة واسعة منه.. تناولا سطحيا لهذه المسألة.. لكن الشعراء المؤسسين الكبار، مثل بدر شاكر السياب، وادونيس ومحمود درويش وخليل حاوي وأمل دنقل.. وغيرهم استطاعوا خلق مناخ إبداعي ثري في النص، عبر تناولهم لرموز التراث- البعيد والقريب- والمعطيات البيئية المختلفة، عبر الارتفاع بهذه العناصر الى مستوى إبداعي عال وعالمي.
فالعالمي يبدأ من هنا، من هذا الخاص.. وليس عبر توهم كونية زائفة، لا تنطلق من هذا المصهر الخاص في استلهام عناصر التراثي، والشخصي، المعيشي، المحدد لسمات الشاعر، وإطاره المكاني والزماني.
هذا – أيضا- في مواجهة محلية متزمتة، لا تستطيع ان ترى أبعد من عتبة دارها الضيقة، فتنكفىء في توهم هذه المحلية، فيما يشبه نزعة فلكلورية مغلقة.. من غير انفتاح على العالم وعناصره.
والشعراء الجدد الذين نعتد بنتاجهم، جاء استخدامهم لهذه المسألة مختلفا- الى حد معين- عن السابقين الرواد، لسنا بصدد ذلك الآن الا الاشارات فقط.
أشير – الآن- الى عنوان كتابي الصادر اخيرا “رجل من الربع الخالي”، فقد اثار هذا العنوان- رغم بساطته الظاهرية- أكثر من وقفة وسؤال.. بالنسبة لهذا العنوان أحسه بقدر ما ينزع نحو مكان محدد، ومعروف لدينا.. بقدر ما ينفلت من هذا التحديد، نحو أفق اشمل وأثرى بالدلالات.
فـ”الربع الخالي”- في حالة نصوص الكتاب وكتابات أخرى لاحقة- يتوحد بالعالم اجمع، وتنحشر في أعماقه المضطربة والمريعة والمدوخة.. بشرية العالم بكامله، اي ان “الربع الخالي” هو العالم.. ببدوه وحضره وتقدمه الهائل.
و”الربع الخالي” هو لا شعورنا الجمعي نحن كعرب.
كل عربي في أعماقه “الربع الخالي”.
أتكلم عن إحساسي تجاه هذا الاسم، المولع به منذ الطفولة.. وصدف- هذه المرة- أن يكون عنوانا لبعض نصوص لي.
في حب المرأة
في المساءات، وضمن تجوالي الاعتيادي على شاطىء البحر، هذا التجوال المليء بالهواجس.. ورسم الملامح المشوشة للرغبات المستحيلة.. ربما وللاسفار والذكريات.
في هذه المساءات، التي غالبا ما تكون في شاطىء “الحيل” الذي يمتد متراميا في مشهده الرملي والبحري، رابطا خيط الرؤية المضطرب.. بجبل “الفحل” الضارب بخيال من أشباحه، في طفولتنا البعيدة.
في هذه الاثناء، من الوحدة والبحر.. والشمس الغاربة. تتراءى الاشياء والافكار، فيما يشبه الولادات المتجددة.. أو التي يحاول الكائن ان يجددها في ذاكرته وخياله.. خوفا من النسيان الصاعق.
تنبثق المرأة من عمق هذا المساء، متقدمة هذا الموكب المثقل بألمه، كأنها السر الذي يرفض الابتعاد.. في مثل هذه المناخات، ويرفض الزوال.
استبدادها مطلق في الغياب، أكثر منه في الحضور.. فلا تحاول الكبرياء الرجولي الفارغ نكران ذلك.
نحن الاسرى الأبديين لشباكها العذبة.
في سياق حياتي المتواضعة، أدين بكل شيء للمرأة، ليس بمعنى انها انجبتني، فهذه مسألة يشترك فيها النوع البشري، وجميع الكائنات العظيمة والحقيرة، وانما بمعنى انها كانت دائما ملهمتي، ونجمة اتجاهاتي المدلهمة، في ليل المتاهة والرحيل، وكانت ساعد حياتي القوية ماديا ومعنويا.
يمكنني ان الملم شظايا حياتي.. وشتاتها في الاماكن المختلفة، بعلامات المرأة وحضورها وعشرتها.
المرأة كائن الشعر.. وكائن الحياة.
دين لا ينقضي، وماء لا ينضب. في الشعر والاساطير كانت إلهة الخصب، ونار الانبعاث، وثراء اللغة، وجمالها.
وفي الحياة ما لا يقل عن الشعر، من عطاء وحيوية روحية وجسدية.. وتجدد.
لا يتصور شخص ذو حساسية معينة، انه يستطيع النوم،ولم تخترق روحه نظرة لامرأة.. او قصفة غنج.
المرأة حضور شاعري وجسد.. حتى حين تكون غبية في اشياء كثيرة، اما الرجل.. فحين يكون بليدا وغبيا، فستميد الارض من ثقله وقرفه.
ورغم ما يقال عنها من مكر وحربائية، تظل رائعة.. حتى بهاتين الصفتين، لانهما من صفات القمر في الاساطير.
البارحة زارتني “ك” بعد غياب طويل، آخر مرة التقيت بها- مصادفة- في طائرة، اقلتنا للقاهرة، التي كانت متجهة اليها،. بينما كنت ذاهبا نحو هولندا.. كانت رحلة عميقة وعذبة.. لكنها سريعة وعابرة.
دائما هناك الزمن والمسافة.. والأحلام المحطمة، انني اتكلم عن نساء كثيرات، كتجل لامرأة واحدة.
شباب العاطفة الأولى
موضوع الزمن نفسه، الذي يخترق ويلف الاشياء والعواطف والامكنة، ويخترق مجمل حياتنا، خاصة عبر قنواتها الاعمق، قنوات الروح والوجدان، ومؤشرات الرغبة وجموحها، ومن ثم الضعف والذبول الذي يلحق بها بفعل عوامل الزمن ومعطياته الحتمية. هناك مناطق تظل عصية بنسبة ما على هجوم الزمن ومحقه لما كان متوهجا وصاخبا بالحياة فيما مضى، هي مناطق الطفولة الاولى، ومنطقة تلك العاطفة التي تتجدد دوما وكأنها جرح أمس الاول.. الذي لا ينمحي ولا يلتئم.
موضوع الزمن نفسه، لكن ليس عبر قراءتنا لمراجعة النظرية ذات الابعاد والتراكيب المعقدة، وان كانت هذه القراءة في حالة هضمها تثري ملاحظاتنا وتأملاتنا من غير شك.. وهي موضوعة أثيرة على قلوب الفلاسفة وأصحاب الرؤية الثقافية في شأن الوجود، وغموضه وقلقه.
موضوع الزمن نفسه، ذلك الذي يجعلنا نعود الى مكان او شخص فارقناه منذ سنين طويلة، شخص كان ذات يوم هو الاقرب الى القلب من نبضه، الشخص الاكثر قربا ومحبة من الجميع، لنتأمل من جديد فعل الزمن ومسيرته الكاسحة التي لا ترحم ولا تبالي.
هذا الزمن المنبث والمترامي في كل خطواتنا وحركاتنا وكلامنا.. ونحن في الغفلة والتناسي عبر الملهاة اليومية التي نغرق فيها حتى النهاية بوجودنا العابر على هذه الارض.
مضيت في هذه الهواجس حول الزمن، وكنت أريد أن اتحدث عن تلك المصادفة.. في أحد أماكن التقاءات العاصمة تلك المصادفة البهيجة المقلقة، التي احتلت كامل وجودي.. يقظة وأحلام يقظة ومنام.
بعد هذا الغياب ماذا علي أن أقول وأفكر؟ تبزغين هكذا فجأة.. وأنا الذي صرت بعدك في هذا الزوغان الذي لا ينتهي، دائما في ظلام العالم وقذارته دائما في قلب هذا المشهد الباهظ.
هل أتحدث عن (داليا) وأحلام القطارات.. والتشرد واجهاد البحث عن مأوى في لسعة البرد القارس؟
هل أتذكر المرة الاخيرة التي رأيتك فيها- في أي بلد كانت؟- ووجهك محتقن بمخاوفه ونظراته.. يقذف العبارة التالية:
“ تمل مني.. لا بعد لي.
يــوم أحـــد
اليوم يوم أحد، اجراس الكنائس تدق بشدة منذ الصباح، أحاول أن اصحو من نوم ليلة كأنما هي ازل مضطرم بلياليه وأحلامه.
وجع في مواضع الكليتين والرأس.. افتح الستائر: سماء زرقاء غالبا، عدا فيلق السحب الذي بدأ يتشكل من جهة بحر الشمال، وكان الهواء منعشا وهو يمر على أصص الازهار التي وضعها أصدقائي، ورحلوا الى بلاد اقامتهم، موصين شخصي برعايتها، بعد شرح واف لقيمتها الجمالية والصحية خاصة ونحن في بلد الازهار.
أعود الى فراشي متثاقلا.. الوحدة والمرض، وهذا الجو الآخذ في الاكفهرار، أبحث عن النوم، النوم، لو يأتي دفعة واحدة وإلى الأبد..!
أحاول ان اتذكر بعض أحلام البارحة التي تهرب دوما من القبض عليها في ذكرى او كلمات، وبصعوبة كان ذلك الحلم الذي رأيتني فيه بمقهى لا اعرف هوية مدينته، كان مقهى فخما ونصف معتم، وكان المحاسب يناولني “خردة” ويقول لي اصعد للطابق الثاني، فالتليفون هناك، وحين صعدت وجدت نفسي على سطح بيتنا القديم بسرور.
وفي حلم آخر كنت طفلا مع مجموعة أطفال- أعرف بعضهم الآن- في أزقة حارة متربة، موحلة ومليئة بالذباب، لكنها- على كل حال- ليست الحارة الواقعية تحديدا.
وكأنما الأحلام، بداهة بكسرها الزمان والمكان والواقع، تصنع عالما خاصا بقسمات مختلفة.
وفي حلم آخر، انتحب أمام جنازة أبي.. فركت وجهي ودلكت جمجمتي لأنتزع نفسي من أزقة هذه الأحلام واضغاثها، ذاهبا لإعداد الإفطار وأدوية الصباح.
على مقربة من مدينة
لكل مدينة طعمها الخاص ونكهتها المميزة عن غيرها من المدن، كالمرأة تماما في هذا المنحى الجمالي كما اعتاد الشعراء والصحفيون القول. وأنت على مشارف حدودها المدججة بالأسلحة والعساكر والكلاب، خوفا من تسرب المحظورات، وخوفا من الخوف وهواجسه وتاريخه، وخوفا من اللاخوف.
وأنت على مشارف حدودها. أعني المدينة، التي أنت ذاهب إليها في طريقك إلى مدينة أخرى، تشتم رائحتها وتسمع صخبها، عبر هذا المدى الزمني السحيق، يوم كانت لك فيها مرابع صداقة وحب ومقاه وأحلام وكوابيس وقهوة الصباح وموسيقى مختلطة بمطر التراب.
شتاءات وأصياف وبحار هاجر معظمها الآن من فرط الحصار، ومشاريع مع آخرين ذهب معظمها أدراج الرياح.
تفكر قبل ولوج بوابتها.. أي مدينة سأجد؟ مدينة الذكرى والأحلام، أم مدينة تختلف تماما.. مدينة الواقع المريع؟ الزمن ممحاة الاشياء والوجوه والعلاقات، الزمن الساحق الذي لا يبقى ولا يذر، خاصة في مجال ما هو بشري وعاطفي، الا ما ندر منه وفي هذا العصر الذي طوح بالانسان وقيمه ومجال إنسانيته إلى طرق مسدودة بشظف العيش القاسي وراء أوهام لا صلة لها بالحياة الحقيقية للانسان.
تدخل هذه المدينة المليئة بالتوقعات وفراغ الاسئلة من فرط زوغانها.. كان الوقت مساء، والليل القاتم يزحف في ظل ضعف الكهرباء وانقطاعها، بشدة.. تفكر في الاماكن المألوفة لديك، مركز المدينة، والمقاهي التي سفحت جزءا من حياتك في زواياها، كاتبا ومثرثرا وصانع أوهام سعيدة في ردهاتها اللزجة، أحلام وأوهام لا تلبث أن تنصرف عنها الى غيرها.
لا مواعيد مسبقة،.. قلت المفاجأة هذه الليلة والاقتحام سيوقظ الدهشة من عرينها وينعش الذاكرة.. تدخل المقهى الاول، تلقي نظرة ماسحة على تلك الوجوه الشمعية الباردة.. لا أحد، وفي الوقت نفسه لا تحس بأي شيء تجاه المكان. حياد مطلق وعاطفة مخمدة.
تقطع الطريق ماضيا نحو المقهى الآخر الذي كان بوسطه نافورة وبحيرة أسماك ونافذة كانت تتدلى منها مخلوقات جميلة. والتي كانت تجلس دوما على حافتها (م.و) ذات الطموحات الفنية الرفيعة والحادة التي أصبحت الآن نجمة سينما وتليفزيون في أعمال استهلاكية تافهة.. لقد تغير كل شيء، تنظر الى الوجوه التي يبدو كلامها في الضوء الميت مثل مسحوق الهمس حسب عبارة ليوسف إدريس. وجوه مذعورة ومتوحشة وبائسة، ووجوه لا ملامح لها بالمرة والحيطان كأنما طليت بالقطران.
لا أحد مرة اخرى
لا أحد مرة عاشرة..
وفي انتظار صباح الغد إذا كان هناك من صباح قادم في ظل هذا الخراب العربي الشامل.
اللقــــــاء الثــــاني
لم يكن موعد القاهرة ليستقيم له أود، إذا لم نلتق مع الاصدقاء في فندق شبرد حيث سنذهب الى رحاب المقابر المأهولة بالأحياء أو الازهر والحسين كما يفعل الخواجات.
مضى زمن على ذلك الموعد الذي لم يتحقق من الطرفين وتناسلت آفاق وكلمات. لكن القدر هذه المرة كان بالمرصاد، في بلاد التوراة والحروب القائمة والمؤجلة.
في فندق القدس، كانت حركة البشر الضاجة وحركة الاصدقاء منها أكثر صخبا وحدة، لا تعرف كيف تستل نفسك من هذه المجموعة او تلك. كان الجميع مأخوذا بلقاء الغرباء وهذياناتهم وحنينهم.. كانت هي بين الجمع ترقب عبر مسافة عينيها المشعتين بالزرقة، تلك الزرقة السماوية التي لا تشبه عيون الغربيات، ترقب وكأنما على طرف الهاوية، الرجل الهارب دوما من شباك المواعيد الملزمة ونتائجها.
كانا منذ اللقاء الاول في القاهرة وعبر النظرات السريعة يقرأ كل واحد عبر مراياها، أعواما من الترحال والتشرد وفقدان الامان.
بالحس المشترك للحيوان المحاصر كانا يسمعان هدير الصحراء وعواء الذئاب.
و كان الخوف والترقب والرصد المتبادل رغم ادعاء عدم المبالاة.
كانا يعرفان أن الخطوة الاولى، ستؤدي لا ريب الى المضيق وان المضيق سيؤدي الى البحر ومنه الى النهاية أو اللانهاية.
لن يكون لقاء عابرا كما يحصل في مثل هذه المناسبات، حتى ولو كان فيه ما كان فلن يفتح نافذة أو يخلق أثرا.
كانا يعرفان ذلك بحكم التجارب المحفورة في العيون.. لذلك كان انتظار الالم اكثر من انتظار الفرح.. لكن في الاخير لم تكن لهذه المخاوف المتعقلة اي أثر في ارتعاشة روح الاشباه وهيجان الاعماق الذي أدى الى التقارب والتوحد والرحيل.. أمام الرغبة العارمة يبطل فعل العقل ويلوذ بالفرار.. الرغبة التي ستسوق القطيع الى حتفه حيث مأوى اللذة المازوشية..
في الصباح انفصلنا عن الجماعة واتجهنا نحو البحيرة المسحورة بالنيازك والاساطير..
كانت تقود سيارتها على اكتاف منحدرات لا قرار لها وتغني..
وكانت تحدثني عن مواطن الاجداد وبأسهم بنبرة لا غبار على يأسها.
وعن تيسير سبول وكيف تنوي استيحاء عمل من نصه الرائع “أنت منذ اليوم” الذي انتحر بعد كتابته..
تلك المرأة العائدة من الحكايات والقدم والمعارك الخاسرة.
وبصوت كأنما يصحو للتو من نوم قديم ويتنزه على الرخام حاملا أريج الياسمين.. وتحتج على صمتي
ـ الا تنهي فعالية الصمت لديك؟
ـ إنني أصغي إليك وأحدق في البحيرة..
كان الغروب على البحيرة حين وصلنا باهضا وباسطا ذراعيه بحمرة داكنة..
وكنا على حافة البكاء، على حافة الألق الغامض للصدفة المذهلة..
وكان العالم يبتعد ويتلاشى في غسق المياه.. وكنا نبتعد موغلين
فيما يشبه لحظة في قلب الأبدية..
الشــيخ عبدالله الخــليلي
الشيخ عبدالله بن علي الخليلي هو من تلك السلالة الشعرية الكبيرة في عُمان والوطن العربي، التي حفظت للشعر مجده ورصانته وتاريخه، من أبي مسلم البهلاني الرواحي، عمانيا، وحتى بدوي الجبل والجواهري عربيا، بما يعني ذلك الحفظ من تواتر قيم ابداعية وإرث من الرؤى والتصورات أبدعها أسلاف الشعر العظام من مختلف العصور.. الشيخ الخليلي ينتمي الى شجرة الأنساب الشعرية هذه عبر مناخاته العمانية وخصائصها المكانية والروحية، هو ابن العائلة التي تمتد أرومتها عميقا في هذه التربة بشوامخ معرفية لا تبتديء ولا تنتهي بالعلامة الشهير سعيد بن خلفان الخليلي.. رغم وطأة الزمن والمرض ظل الشيخ الشاعر وفيا للمعرفة والكتابة كجزء من نسيجه الكياني والوجودي معتكفا في بيته غائبا عن كل ما يعكر عليه صفاء أعماقه ورؤيته للعالم والحياة في زمن قلّ، وربما قلّ حتى الاضمحلال رجال من هذا النوع حيث الأطماع الصغيرة وسطوة القيم الهابطة هما عنوان هذا السلوك المهيمن بتفريعاته وتنظيراته المختلفة.
ظل الشيخ الخليلي وفيا لشاعريته الفذة التي بدأت مبكرا منذ طفولته في واحة العلم والمعرفة التي جسدت سمائل مكان احتضانها وعرين مخيلتها المخترفة لفضاءات الشعر المختلفة، هذه المدينة التي لخصت شعريا، نوعا من سيرة ثقافية للمكان العماني.. وفي هذا السياق لا يمكنني أن أنسى رغم غبار السنين، تلك المطارحات الشعرية في حارة (الحباس) حيث يقطن الشاعر والقاريء المتميز علي بن منصور الشامسي، مع نخبة من شعراء البلاد في مقدمتهم الشيخ الخليلي أو في بيت الشيخ نفسه بحضور أخيه الشيخ سعود بن علي الخليلي أحيانا حيث يبدأ الانشاد الشعري الذي يقوم به علي بن منصور بنبرته السمائلية الخاصة التي تتوسل لديه عناصر لحنية ترتفع الى مقام الانشاد المموسق الذي ينهمر مطرا وعذوبة في تلك الأرجاء السمائلية الباذخة.. وأحيانا يقوم الشيخ الخليلي بإلقاء القصائد بأسلوب مختلف حيث يجري التركيز على منابع الكلمات وتشرب المعاني كأنما يقذف بها في كتابة ثانية هي بمثابة قراءات ابداعية للقصيدة .
لا أنسى ذلك وغيره الذي يندرج في التكوين الأول للذائقة والوعي الشعريين والذي أدين له بالكثير.. وكانت تلك القراءات المتنوعة يعقبها جدل ونقاشات حول المقروء والمستجد في الكتابة الشعرية مما يوحي بعناصر مناخ معرفي متكامل في ذلك الزمان.
لم يكن الشيخ الشاعر، رغم وفائه لتقنياته وقيمه الشعرية والفكرية المتوارثة، متعصبا ومتزمتا ضد آراء الآخرين وممارستهم في الكتابة بل ظل كمن ينطلق من أسس صلبة ومتينة يحاور ويجادل بروح خلاقة منفتحا على التجارب والمستجدات في أرض الشعر والأفكار في هذا العالم الذي يمور بالتيارات والمتغيرات آخذا ما يناسب سياق قناعاته وخصائص فكره التي بناها عبر السنين طارحا ما يناقض ذلك، لم يكن الشيخ الشاعر متعصبا ومنغلقا مثلما يفعل عجزة الفكر وعميان التاريخ الذين لا يؤمنون إلا بسحق الرأي الآخر وتحويل الحوار البناء الى ساحة بطش وعنف لا طائل من ورائهما، إلا مزيدا من التقهقر والاندحار.لقد كتب الشيخ مسرحا شعريا وكان رائدا في ذلك على الصعيد العماني وكتب نثرا شعريا وفي كل ما كتب نلمس بوضوح سمات الشاعر الكبير..
وظل وفيا لشجرة أنسابه الروحية والشعرية كما كان وفيا للايجابي في عصره.
هذه ليست إلا إشارة وفاء للشيخ الشاعر وما يستحقه مشروع كتابة أوسع وأعمق تقوم بها جهات مختلفة في السلطنة والوطن العربي.
نحو أدب طفل عُماني
في حدود علمي أنه ليس هناك من كتابات عمانية تشير إلى إنجاز ما، في أدب الطفل وشؤونه، وهو نقص جوهري يضاف الى غيره في الحقل الثقافي والابداعي.
الطفل أي طفل مستهدف في نشأته وتكوينه الحاسمين لمراحله الأولى، عبر سيل من المعلومات والمؤثرات الخاطئة، ومستهدف بوسائل مختلفة من سمعية وبصرية، إذا لم يجر التخطيط لها بشكل دقيق وصحيح في تنشئة وجدانية وذوقية ومعرفية بعيدا عن الاسفاف الحاصل تبلور لاحقا نظرته نحو العالم والحياة، فسيؤدي الى تكوين مشوه واستهلاكي وسقيم، كما نشاهد ذلك في مجتمعات كثيرة غير منتجة ومحكومة بآلية الاستهلاك وسطحية القيم وانحدارها.
وأدب الطفل بتقنياته المعروفة التي تكتسب من خلال الممارسة والجدل المستمرين، يشكل احدى الحصانات الممكنة لتربية مثمرة وبعيدا عن فخاخ التقليد التي ينجرف نحوها الأطفال في مشاهدتهم اليومية للتليفزيونات وأدب الطفل المتسم بالمغامرات العشوائية المقصودة والتي لا هم لها غير الاثارة ونشر قيم الآخر التي تمجد الهيمنة والاستغلال.
والأدباء العمانيون والمثقفون مدعوون قبل غيرهم الى الدخول في هذا الحقل، الذي مازال يشكل صفحة بيضاء، والكتابة فيه وحوله من غير أن نقع في خطأ الوهم السائد أحيانا في أن الكتابة في هذا الأدب الطفلي، أقل مستوى من الكتابات الأخرى، فهو جزء صميم من الكتابة الابداعية بمختلف مستوياتها وعناصرها.
وفي حالتنا العُمانية تكتسب هذه المسؤولية أهمية أكبر حتى يتأسس أدب طفل عماني له تقاليده ورموزه ومناخاته التي يستمدها من البيئة العمانية الزاخرة بكل ما هو غريب وسحري وخلاق، تلك العناصر الهامة في صياغة أدب الطفل وتثقيف مخيلته التي لم يخترقها الزمن بثقله ومآسيه بعد، والبيئة والتاريخ العمانيان يشكلان معينا لكل كاتب في هذا المجال خاصة وأنهما من أخصب المصادر العربية وأكثرها اكتنازا بموروث المخيلة الشعبية التي سيغرف الكاتب مادته الخام من بحيرة أساطيرها وبطولاتها ورؤاها، ناسجا منها بنية أدبية تلائم وعي طفل وهواجسه.
وهناك، على الصعيد العربي، انجازات كثيرة تحققت في هذا المجال وساهم في تحقيقها كتاب لهم سمعتهم الثقافية والابداعية، ملتقطين خصوصيات تاريخهم وسمات واقعهم في صىاغة هذا النوع الأدبي الهام.
فالتقاط الخصوصيات والجزئيات والسمات في الماضي والحاضر، أمر جوهري كيلا يتربى الطفل في ضوء خصوصيات الآخر وشروط عيشه المختلف.
ومن هنا تكون الأهمية المطروحة، أن لكل بلد عربي، أدب طفله الخاص الذي يتقاطع ويفترق ويتمازج أخيرا في حقل أدب الطفل العربي الشامل.
حول اللحظة الابداعية
بشكل عام اللحظة الشعرية أو اللحظة الابداعية بصفتها لحظة كثيفة من الزمن يولد من خلالها العمل الأدبي والفني، هي لحظة استثنائية في الصيرورة العادية للزمن.
وبصفتها هذه فإنها تجمع بين أزمنة متعددة .. وتوغل في هذه الأزمنة . . كما توغل في الذات والتاريخ.
في هذا السياق الذاتي للكتابة.. لا يمكن الحديث عن مقاييس عامة وشاملة لهذه اللحظة الغريبة.. فلكل كاتب ولكل شاعر طقسه الخاص.. وهواجسه الخاصة.. ومحفزاته أيضا .. فهي تختلف من كاتب لآخر.. كما أنها تشكل في نهاية المطاف جدلا محتدما بين الوعي واللاوعي.. وهي ملفوفة غالبا بحدوس غامضة في بداية انطلاقها للتحول فيما بعد الى نص ينزاح عن دلالات ومعان.
بالنسبة لي على سبيل المثال ليس هناك وقت محدد لكتابة الشعر.. وربما هذا الوقت يتحدد في كتابة المقال النظري ولكن ليس في الشعر. فالشعر الذي هو لحظة انخطاف كأنما قادمة من سديم العالم واللغة.. فليس هناك زمن محدد لها بصراحة مطلقة..
يمكن أن يكون صباحا ومساء أو في ذلك الليل الموغل في القدم .. وكذلك على صعيد المكان.. فالكتابة هنا نتاج شتات أمكنة متعددة.
بطبيعة الحال لا يمكنني أن أكتب وأنا في حالة غضب وفي حالة غياب تام.. بل يلزمني نوع من الصحو الخاص.. ونوع من الحدث المحفز.. وشيء قليل من الفرح الداخلي.. حتى ولو كان النص اللاحق الذي تولده هذه اللحظة مليئا بالخراب وعذابات الانسان وضياعه ومنفاه.
وهذه اللحظة الكتابية يمكن أن تتلمس بدايتها بشيء من الوضوح الملتبس والغائم لكن في نهاية المطاف لا تعرف لأي الدروب تأخذك عربة المخيلة.
فالكلمات تتراءى لك أحيانا مثل طيور.. وأحيانا أخرى مثل كائنات لا شكل محددا لها .. أقوم من نومي واكتب جملا متعددة.. وأحيانا وأنا أمشي في شارع ما تتشكل جمل شعرية ومقاطع شعرية. لكن هذا الشتات وهذه الكلمات وهذه الجمل لابد من الاشتغال عليها لاحقا.. وتنظيمها ضمن شكل ونص مستويين. ربما أنا من الذين يحترمون الدفقة التلقائية الأولى للنص.. ولكن هذا لا يقودني الى تبني كتابة آلية عمياء.. بل ألزم نفسي بالاشتغال على النص اللاحق بحيث لا أكسر أو أستنزف مياه بكارته الأولى.
إن هناك تحديا حقيقيا ومعادلة صعبة بين مستوى الاشتغال والتشذيب اللاحق.. و بين الدفق والاندفاع الأول للنص.. ومستوياته المتعددة.
ومثلما تكون بداية ولادة القصيدة بداية صعبة ومحتدمة بالهواجس والاحتقان.. فإنه بعد الفراغ منها ـ وهو فراغ مؤقت على كل حال ـ يحصل نوع من الراحة الداخلية أو الهدوء الداخلي، يقود الى نوع من السلام النسبي مع العالم.. ولا تكون الكتابة بينما لحظتها غير ناضجة، بمعنى ألا أولدها ولادة قيصرية .. وإنما أنتظر بنوع من الاحتراق تشكل واستواء هذه اللحظة لكي يولد النص ولادة رحمية.
وحين ينفصل النص يصبح كائنا آخر مختلفا … أي لا تعود ملكيته الشخصية للكاتب بقدر ما تكون للقاريء والناظر فيه ولا أستطيع أن أدعي ملكيته بعد انفصاله بقدر ما يكون مشتركا وقابلا للتقييم والنقد من الآخرين.
ومن جهة أخرى وفي السياق نفسه لا أعتقد بوجود مقياس أو تصورات ناجزة في هذا السياق الكتابي حول، متى أنشر هذه المجموعة أو هذه النصوص في ديوان أو كتاب يحمل هذه الصفة الجامعة. بمعنى آخر ليس هناك قرار مسبق أو خطة أمضي على هديها في إنجاز هذا الكتاب أو ذاك.. المسألة تأتي عبر كتابة مستمرة أحيانا.. ومنقطعة أحيانا أخرى.. وبعد فترة من تراكم النصوص الشعرية أمضي في فرزها والاشتغال عليها وفق مزاج ما أراه يشكل مناخا مشتركا بين هذه النصوص التي أعمد إلى إصدارها لاحقا.
لكن المسألة أيضا ليست بهذه الصدفة المطلقة في تشكيل الخيوط المشتركة بين النصوص.. وفي صياغة كتاب بعينه.. هناك بطبيعة الحال المخزون الشعوري والوجداني اللاقط للأشياء والناس والعلاقات والأمكنة، والذي يتبع فترة ويميزها عن غيرها مما يعطي هذه النصوص المكتوبة في فترة معينة وفي أمكنة معينة طابع الأحوال الكتابية المشتركة أكثر من غيرها كمناخ ولغة وربما رؤية.
أي لابد من توصل الاحساس والقراءة التي تعطي الانطباع بنوع من تكامل الكتاب ووشائجه كحالة متحققة وقائمة.
أقول نوعا من التكامل على نحو ما، لأنني أعتبر التكامل والكمال في الكتابة وهما.. وربما النقصان والقلة لهما ميزاتهما الابداعية الكثيرة في هذا العصر القلق الذي تغيب فيه البطولات والمواضيع الكبيرة.. التي أعتيد عليها سابقا كمثال يحتذى ويقلد.
الاستفادة من ألف ليلة وليلة
أصبح من باب الاقرار بواقع قائم منذ زمن بعيد، مسألة الاستفادة من الموروث الاسطوري والخرافي لدى كل شعب وأمة، وأصبح النقد الأدبي الآن يتساءل حول الكيفيات الابداعية والطرائق الاكثر نجاعة في النواحي الفنية والأسلوبية التي تتوسل الى الاساطير وتستخدمها في رفع عمارتها الابداعية..
لكن التساؤل يصح حول استفادة العرب إبداعيا من كتاب “ألف ليلة وليلة” هذا النبع الاسطوري الذي لا ينضب والذي صاغه خيال حر خيال حي ثر لا حدود لتخومه ورغباته وهواجسه واستيهاماته وكما أكد تاريخ الأدب العالمي وفي كل الحقول الفنية والمعرفية على أهمية، هذا الأثر الخالد في اللغة العربية.. فحين نتساءل مثلا عن الأدب والفن في امريكا اللاتينية واستخدام الاساطير في ذلك البلد في تشييد عمران الكتابة، يأتي الجواب سريعا من خلال التجسدات الإبداعية التي تحققت هناك، وخاصة على صعيد الرواية. أما عربيا فالتساؤل مازال يطرح إشكاليات أولية يجري النقاش حولها حتى أن رواية استفادت بشكل جلي وخلاق من “ألف ليلة وليلة” هي رواية “ألف عام وعام من الحنين” للكاتب الجزائري رشيد بو جدرة اتهمت بالتبعية لماركيز من دون البحث عن الجذور الاسطورية للامتدادات الاولى التي شكلت هذه الرواية بعيدا عن هذا الاتهام العشوائي، حيث إن أسطرة الواقع ليست حكرا على بلد أو كاتب دون آخر ومع غض النظر بدئيا عن مستوى التأثر والتأثير. هذه الواقعة تدلل على عدم مثول هذا الكتاب العظيم “ألف ليلة وليلة” عربيا كما هو ماثل وبتوغل كبير في كل آداب العالم وخاصة في الغرب الاوروبي حيث نشاهد تأثيره في أصعدة شتى: الرواية – الشعر – المسرح – السينما – الفن التشكيلي. فمنذ أن ترجم “ألف ليلة وليلة” الى اللغة الفرنسية في أوائل القرن الثامن عشر على يد كاتب من رجال السلك الدبلوماسي السياسي في العاصمة العثمانية هو “انطوان جالان” أشعل أوروبا بخيالها الجامح وسحرها الفريد، فكان وقع هذا الكتاب على الروح الاوروبية مدمرا وبهيجا في الوقت إياه، حتى إن بعض المؤرخين يتطرق الى أن أحد أسباب ظاهرة الاستشراق هو هذا الكتاب، كما يؤرخ ايضا انه كان عاملا من ناحية طبيعته الكتابية ومناخه الخاص، المتحرر، في زعزعة التقاليد الكلاسيكية الرهينة والمتزنة لحد القرف في تلك المرحلة من تاريخ أوروبا، فقد أثر في كتاب ومفكري الثورة الفرنسية أمثال “فولتير” و”ديدرو” و”روسو” وأضاف اليهم جديدا في تدمير طرائق الاستقرار الكتابي السائد، وفي القرن الثامن عشر أيضا طبع من “ألف ليلة وليلة” أكثر من ثلاثين مرة مختلفة في فرنسا وانجلترا وانها انتشرت ـ نحوا من ثلاثمائة مرة في لغات اوروبا الغربية منذ ذلك الحين.. أما في المسرح – على سبيل المثال، المسرح الانجليزي – فذكر “ترند” في “تراث الاسلام” ان العلاقة بين “صحوة النائم” ومسرحية “ترويض الشرسة” لوليم شكسبير هي أن أعظم المسرحيات الاسبانية “الحياة حلم” انما هي قصة “كريستوفر سلاي” في مسرحية “ترويض الوقاح” وهي ايضا قصة “النائم يصحو” في ألف ليلة وليلة. و”كريستوفر سلاي” هو عامل صفاح أفرط في الشراب حتى فقد الوعي وصادف أن مر عليه نبيل فوجده منطرحا على قارعة الطريق، فأمر خدمه أن يحملوه الى القصر ويضعوه في احدى الغرف الفخمة، وأحاطه بمظاهر الترف وأوصى أن يعامل معاملة رب القصر، حتى إذا شبع منه هزؤا نقله غائبا عن الوعي الى دكان حدادته.
هذا هو مدخل مسرحية “ترويض الشرسة” كما اعتمده شكسبير ليمهد به لاحداث المسرحية التي أجراها أمام شخصية “كريستوفر سلاي” ومن خلال التقابل بين هذا المدخل وحكاية “أبي الحسن” في ألف ليلة وليلة، يتبين لنا ان “كريستوفر سلاي” قد حل محل “أبي الحسن” وان النبيل قام بدور الخليفة الرشيد ثم تختلف تفاصيل الاحداث بعد ذلك. وهناك فضاء واسع لمن يريد ان يستمر في هذه المقارنات بين روايات شكسبير ومناخاتها وأبطالها وبين ألف ليلة وليلة فرواية “العاصفة” تكاد تكون قصة من قصص ألف ليلة وليلة، ومثيلها في جزيرة الكنوز هذه القصة الملأى بالسحرة والشياطين الذين يأتمرون بأمرة ملك الجزيرة. وهناك أوجه شبه بين مسرحية “عطيل” و”حكاية قمر الزمان” ومعشوقته، من اواخر ???ـ الليلة ???، وبالمناسبة فقد تم اخراج هذه الحكاية من قبل المخرج الايطالي “بازوليني” في فيلم من اضخم الافلام في تاريخ السينماـ فالحكاية و”عطيل” كلتاهما يصور الغيرة ودوافعها. ففي عطيل المنديل وفي قمر الزمان، السكين تارة وتارة الساعة وتنتهي قمر الزمان ان يخنق “الجوهري” زوجته كما يفعل عطيل مع “ديدمونا” بالضبط.
يقينا شكسبير هذه الحقائق التاريخية لا تقلل من عظمته كمبدع بالغ العمق، لكن أيضا من باب الاعتراف بحق الآخر في التعرف على ذاته المعفرة بالنسيان وهي متوهجة هكذا عبر العصور. ولا يمكننا في مقالة سريعة الاشارة فقط الى بعض من الاهمية الكبرى الى الكتاب الهام وانغراسه في أعظم الاعمال تأثيرا. وفي حقل السينما، مجموع الافلام التي استلهمت من ألف ليلة وليلة تسعة وخمسون فيلما ومنها كالتالي: فرنسا احد عشر فيلما والاثنا عشر بالاشتراك مع ايطاليا. امريكا أربعة وعشرون فيلما، ايطاليا خمسة، ألمانيا اثنان، تشيكوسلوفاكيا فيلم واحد، هنغاريا ايضا واحد وكذلك انجلترا والافلام العربية مجموعها تسعة افلام. ومعظمها سيىء الاخراج والتقنية والرؤية ان لم يكن كلها وهنا نطرح نفس التساؤل الآنف حول كل أفرع الأدب والفن، اي عدم وجود ذلك التخليد الراقي لأثرنا التاريخي الخالد “ألف ليلة وليلة” ومثوله على المستوى العالمي مخترقا حاجز الازمنة والجغرافيا. لاشك هناك أعمال عربية استطاعت ان تتواصل بصورة خلاقة مع ألف ليلة وليلة وغيره من تلك الاسفار المضيئة على الدوام، لكن هذه الاعمال لا ترتق الشرخ الحاصل في هذا المجال.
بهلوانيـــــــو اللغــــــة
لا أريد الدخول في الجدل التعريفي للشاعر الحديث، وهو جدل واسع تختلف معطياته وعناصره من رؤية الى اخرى ومنطلق تناول الى آخر. فاذا كان الشاعر الحديث هو ذاك الذي يمتلك رؤية للوجود والعالم، حسب بعض التعريفات، رؤية خاصة، فهذا الطرح يولد أسئلة من نوع أي رؤية وأي وجود وعالم، وكيف يمكن تشكيل هذا العالم عبر المخيلة؟ أي اننا نقع في مشكل الطرح العمومي.
كل شاعر ومنذ ازمنة سحيقة بالضرورة يمتلك عناصر ادوات ورؤية يبدع من خلالها عالمه الشعري، عناصر الموضوع، فطرة المخيلة وسحرها الغريب، نظرته الخاصة للاشياء.. كان الشاعر البدوي الذي يفترسه مشهد الصحراء بسرابها اللانهائي يسعى الى ترويضه عبر التحويل الشعري ليعيد شيئا من التوازن للخلل القائم. بهذا المعنى فالشعر حالة كيانية وليس حرفة، وأعمق من الهواية، ان هناك افتراسا متبادلا بين الشاعر والمشهد المحيط تلعب فيه المخيلة والوجدان الدور الحاسم. لكن الصحراء دلفت الى الاعماق ووجودها الخارجي اصبح مسكونا بالقنابل والنفايات النووية لتبدأ الحداثة فعلا تدميريا وافتراسيا من نوع آخر.
لنتقدم قليلا باتجاه الحداثة العربية في مرحلتها الاولى وبمستويات مختلفة. هذه الحداثة التي حطت ركابها في الغالب ضمن “مشروع” قائم بعناصره وطموحاته وآفاقه المستقبلية آنذاك، فكانت ذات طبيعة رمزية وتشكيلية موازية ومتداخلة في الوقت نفسه مع هذا المشروع. اي كان فيها شيء من “السوية” التاريخية هي “السوية” التي ستنكسر لاحقا امام الخضات والهزائم التي طوحت بالفرد والمجتمع نحو خبل مأساوي ليجد الشاعر نفسه في “القفر” والشعر هو المؤشر الاول لهذه المصائر.
هل يؤشر هذا الى الشرط الاجتماعي المتصدع للتحول اللاحق وهو تحول واضح المعالم حتى لو لم يصاحبه صخب تنظيري كالمرحلة الاولى من الحداثة والذي كان صخبا واعلاما كجزء من المشروع القائم بأبعاده المختلفة. وقليلة هي الدراسات التي تنطلق من القيمة الابداعية للنص. هذا لا يعني بالطبع ان النص مفصول عن التاريخ لكنه بداهة ليس وثيقة تاريخ.
لم تعد مثلا القصيدة “الجديدة” السبعينية والثمانينية تتمحور حول المواضيع “الكبيرة” والكلية، صارت تقيم في العارض والزائل ملتمسة جوهره البعيد الفالت على العين العادية وهي ايضا متحررة من “المحور” وانحراف عليه وكذلك “الفكرة” اي انها اقرب الى الحياة، قصيدة الشؤون العادية، لكن خلف المظهر وعاديته ثمة ما هو خفي.
? من هنا تلعب المخيلة دورا غير عادي في نثر الواقع وتحويله الى مخلوقات صور وحيوات لغة.. لا اميل الى الاعتقاد بـ”القطيعة” بين راهن القصيدة العربية وسابقها، هناك الجذور والقرابة الروحية بين هذه القصيدة وتلك وهناك ايضا تطور اشكال التعبير من فترة الى اخرى. للغة ذاكرتها الفريدة.
ومن هنا ايضا صعوبة التكيف مع مصطلحات مثل “الجيل الشعري” و”الرواد”…الخ، فالذين رادوا القصيدة العربية الحديثة ليسوا جميعهم هم الذين كتبوا في مرحلة واحدة، أو عمر واحد. ومن هذا التصور الخاطىء صارت “الريادة” مشاعة لكل من كتب في مرحلة زمنية معينة وصار التباري لمن كتب فعلا قصيدة لا تلتزم الوزن والقافية، وليس في قيمة النص الشعري ومدى صدق هذه الريادة وحقيقتها الابداعية.
ومن هنا ايضا غياب المعايير النقدية حول القيمة التي تؤدي في مراحل مختلفة الى هذا الخلط بين الحقيقي والزائف، بين المقلد والاصيل. وهذا يسحب نفسه على القصيدة التي ندعوها “جديدة” والتي نحن بصدد الحديث عنها. فاذا كان في السابق كل شاعر كبير يدور في فلكه كثير من الشعراء ويكونون صداه الشعري وخاصة الشعر الذي يتوسل “الايديولوجيا” والمعارف الجاهزة والذي مازال مستمرا، فالقصيدة الاخرى هي ايضا يتسلقها بهلوانيو اللغة لنقرأ ركام صور فارغة من الدلالة ونبض الحياة فكأننا أمام مونتاج مفتعل من العبارات والالفاظ.
لا اتكلم هنا بالطبع عن الغرابة الشعرية والروائية بين شاعر وآخر والتأثير المتبادل والمشع عبر التجارة المشتركة والهموم والقراءات التي تبقي لكل شاعر ملامحه الخاصة، فهذا أمر طبيعي.
لا اريد ان استطرد حول غياب النقد خاصة ما يمس القصيدة الجديدة. فمعظم هذا النقد يصيبه الذعر حين يتجاوز اسماء معينة تكرست منذ زمن بعيد. انه نقد مسكون بهاجس القداسة لذلك فهو معاد للنقد الحقيقي الذي يعمل عبر اسماء معينة بمعزل عن السائد.
لست جزءاً من جماعة شعرية بالمعنى المنضبط الموجود في التاريخ الأدبي ولا اسعى لذلك لأسباب مزاجية واعتقد ان الجماعات بهذا المعنى لم تعد قائمة، لدي صداقات وقرابات شعرية في اماكن كثيرة، وهذا يكفي. وحين يسقط صديق استبدله بآخر. فالصداقة مشروع حياة مثل الشعر، لكن هناك الجوهري الذي لا يعوض.
الرقابات العربية
في بحر الاسبوع الفائت حملت الينا الانباى فيما حملته خبرا مفاده ان الرقابة في بيروت صادرت كتاب الشاعر اللبناني عبده وازن ولمته من المكتبات والاسواق تحت مبررات صارت تتكرر كجزء من معزوفة ثابتة.. تلجأ اليها الرقابات العربية حين تقرر مصادرلاة هذا الكتاب في هذا البلد او ذاك.
“حديقة الحواس” هو اسم الكتاب المصادر والضحية الجديدة للفهم المخلوط الذي تمارسه الرقابة في الزنزانة العربية بعد القراءة المقلوبة من فرط العمى المعرفي تقرر فضائحية هذا الكتاب، وخطره على القراءة والاخلاق العامة، وكانما لا خوف على الاخلاق العامة الا من الكتاب.
هكذا ببساطة من يقتل باعصاب باردة، وهو هنا القتل المعرفي والثقافي الأخذ في التعميم والانتشار.
من قبيل الصدفة.. حين كنت في بيروت في مطلع هذا العام اطلعت على مخطوط كتاب عبده وازن لاننا نطبع في نفس الدار التي هي دار الجديد، وقرأت عدة فصول من الكتاب.. تكلمنا حولها انا وعبده وازن ولقمان سليم.
وذكرت ان هذه التجربة الكتابية مفتوحة على مدارات السرد والشعر، وفنون اخرى كان عبده وازن قد مارسها قبلا، وبشكل خاص في كتابه “العين والهواء” ذلك الكتاب الجنائزي، الذي يمتحور حول فاجعة الموت والغياب، والذي ينطلق فيه الكاتب من حدود واقعة موت اخته في غمرة الحرب اللبنانية ومآسيها ليخلق نصا جارحا.. ايقاعه الاساسي الموت والخراب.
في “حديقة الحواس” الكتاب الجديد لا يغيب الموت او يتوارى.. لكنه الغياب بكافة اشكاله يتداخل ويذوب في خضم تجربة فريدة للحب والجسد والانثى تصل مشارف صوفية.
كتاب مشغول بدقة، وخيال خصب في لغته وهواجسه ووسائل تعبيره.. تصل حدا طليعيا في الكتابات العربية الجديدة.
لا اعرف اي هذه المشاهد الفاضحة لكتاب بهذا المستوى من قوة التعبير وعمق الفكرة؟! لكن ذلك ليس غريبا على موظفي الرقابات العربية، فلها في هذا المجال صولات وجولات، كما لها من الطرائف والمضحكات لا اعتقد ان كاتبا حقيقيا في وطننا العربي بكامله أفلت منها.
واذا كان اولئك الثلاثة ذوو النظارات السميكة الجالسون امام تلال من المطبوعات والكتب صاروا يتبادلون النظر بريبة في احدى البلدان العربية التي اقمت فيها. حين طلبت منهم ترخيصا بتوزيع كتاب صدر في تلك الفترة هو “الجبل الاخضر” وقد قام احدهم بسحبه من احد الادراج الكثيرة الصدئة، فهم ليسوا بحاجة للنسخة التي اتيت بها فقد وصلتهم عن طريق البريد حيث كنت قد ارسلتها قبل مجيئي بعام لصديق في هذه البلاد.
المهم.. نهاية قصص الرقابة العربية كبدايتها لانها لا تنتهي عند حد، والضحية في النهاية هي الكتاب والثقافة، العصب الرئيسي في جسد اي تقدم حضاري.
وحتى حين تعتمد بعض البلدان على اناس من الوسط الثقافي على نحو ما تتخذ المصادرة شكل تصفية حساب مع زملاء المهنة.. او هكذا يستند الرقيب الذي لا يجد متنفسا لاحتقان حياته الا بممارسة القمع على اقرانه.
واذا كنا على هذه الصورة القائمة.. على صعيد الممارسة المعرفية والثقافية.. الا يحق للفرد العربي المثقل بعزلته والمه ان يتساءل:
بأي زاد ستدخل هذه الامة عتبة القرن الحادي والعشرين؟
صحراء الصحاري
قليل هم المستكشفون باحثين وكتابا من بلاد اوروبا المعاصرة والكلاسيكية من كتب بانصاف ومنطق عدل وحقيقة موضوعية عن العرب والمسلمين وبلاد الشرق التي ترتسم دائما في مخيلتهم عبر الخرافة والاستيهام. لكن هذه القلة من حشد المستشرقين الكثر ومتنوعي المذاهب والاتجاهات التي تصب اخيرا في مركزية ثقافية اوروبية. وفي نفي “الآخر” واقصائه عن اي اسـهام في الحضارة البشري ومسارها وعناصر تركيبها الكثيرة. كان هناك من هذه القلة الفرنسي لويس ماسنيون الذي انتهى الى تصوف اسلامي كتابة- وربما سلوكا- والانجليزي الشهير بـ”لورانس العرب”.
الاثنان ارتدا لاحقا عن منطلقاتهما الاولى في الهيمنة على الآخر والتحقير من شأنه الى تمجيد الحضارة العربية والاسلامية ومارسا منطق الانصاف والرؤية الثاقبة والامينة معرفيا وتاريخيا كما يليق بكبيرين مثلهما.
“ويلفريد ثيسجر” في كتابه الكبير “الرمال العربية” واحد من هؤلاء القلائل في هذا السياق الاستكشافي المغامر والمعرفي.
هذا المؤلف الذي قضى خمسة اعوام (????- ????) في صحراى الصحاري كما يسميها، او الربع الخالي بين قبائل وكائنات هذه المفازات الجرداء الموحشة.
خمسة اعوام من الحياة الشاقة التي تفوق الوصف كاعرابي مرتحل بين الاضلاع الرملية لهذا الخطر المحدق في هذه البقعة العنيفة والغامضة.. حتى بالنسبة لقاطنيها واهلها. ما يهمنا في هذه الاشارة هو هذا الكتاب الهام الذي جاء ثمرة لحياة استثنائية وما يحفل به من قيمة آراء وملاحظات لاقطة، بعمق متاهة الصحراء وتفاصيل حياتها اليومية.. وتقلبات طقسها وطبائع بشرها وحيواناتها ونمط الحياة القاسي في اسلوب ادبي شاعري رفيع.
لقد سبق ثيسجر الى الجزيرة العربية آخرون مثل داوتي ولورانس وبرترام توماس مؤلف كتاب “البلاد السعيدة”. وكذلك السير “جون فيلبي” حيث تركوا آثارا تتراوح في اهميتها ونوازعها، لكنها لا غنى للباحث عن مرجعيتها في شؤون المنطقة وتاريخها وتطورها حتى اللحظة الراهنة.
لكن كتاب “ثيسجر” مثله مثل كتاب لورانس “اعمدة الحكمة السبعة” يتميز بقوة الملاحظة وعمقها ودقتها ليصل الى استنتاجات هائلة حول الصحراء وحياتها واستمراريتها قيما وشعوبا عبر التاريخ.. ويصل الى استنتاجات ومقارنات بين الحضارات البشرية وديمومتها وتلاشيها.
فهو في انطلاقه من وصف حياة الصحراء ومظاهرها وسرابها واطلالها الخفية يصل الى آراء تتميز بطابع كلي حول الانسان والحياة والموت والحضارة بشكل عام داخلا في عمق التكوين البشري ومساره وتبدلاته ودوام قيمه.
انها الكتابة التي تتطلب هذا القدر من التجربة المأساوية لتكون ذاتها وحقيقتها الشاهدة على مر الزمن.
في الاشارات السابقة الى ان ويلفريد ثيسجر جاب صحراء الربع الخالي وهذه الاصقاع الرملية المتحولة باستمرار بفعل العواصف والرمال التي تبتلع قطعان الماشية والبدو في مناطق تظل تجسيدا لخطر دائم ومواجهة عنيفة.
لم يكن ثيسجر الذي جاب قبل ذلك صحارى الحبشة وتشاد ومراكش واهوار العراق. التي لم تكن الا تمارين اولية لرحلته الكبرى في جنوب الجزيرة العربية ومركز صحرائها وصحراء العالم.
لم تكن مغامرة هذا المستكشف الكاتب بمثل هذه الاهمية الا عبر ثمارها ونتائجها الكتابية والتأملية وقيمة الآراء والاستنتاجات التي طرحها حول الحضارة العربية التي انطلقت من الصحراء وقيمها الخالدة، نحو العالم وانسانه ووجدانه لتضيف وتؤسس ثراء وعمقا روحيين على المستوى البشري قاطبة.. اذ يقول:
“وافضل صفات العرب جاءت من الصحراء الا وهي ايمانهم الديني العميق الذي وجد تعبيره في الاسلام، واحساسهم بالانتماء الذي يربطهم فاشخاص يعتنقون نفس الدين واعتدادهم بجنسهم وكرمهم وحسن ضيافتهم وحرصهم على كرامة الآخرين كاخوانهم في الانسانية، وطيب معشرهم وشجاعتهم وصبرهم، واللغة التي يتكلمونها.. وحبهم الحماسي للشعر”.
ويتابع ويلفريد ثيسجر حديثه في هذا السياق الموضوعي: “تأملت في تأثير العرب على تاريخ العالم بدا لي انه شيء ذو مغزى ان عرب الصحراء هم الذين فرضوا خصائصهم على الجنس العربي والتي انتشرت مع الفتح العربي.. ومن ثم اسسوا امبراطورية تزيد مساحتها عن مساحة امبراطورية روما. وكانوا قد خرجوا من الصحراء متحدين بفضل دينهم الجديد”. ويصل ثيسجر في استنتاجاته وتأملاته في هذا الانسان القادم من الصحراء لغزو العالم لانه لم يخلف وراءه الدمار والخراب كما فعل الآخرون وانما انشأ حضارة جديدة واستوعب انجازات الحضارات التي سبقته ومن دونه لما تطورت العلوم والمعارف.. وما تم بناء الحمراء و”تاج محل” ويصل الكاتب والمستكشف البريطاني الى قوله: “لا استهجن الافتراض انه في حالة انقراض الحضارات اليوم كما حدث لبابل واشور فان كتب التاريخ المدرسية ستخصص بعد الفي سنة من الآن بعض الصفحات للعرب دون اشارة حتى الى الولايات المتحدة الامريكية”. قصدت من اجتزاء هذه الاشارات السريعة المنصفة حتى المبالغة ربما من كاتب ومجرب ينتمي الى الغرب في عمقه الانجلو سكسوني وفي عصر اصبح من مميزاته الهجوم الغوغاني على اي شيء عربي واسلامي وشرقي الذي لا يظهر عبر مرآة الوعي الغربي الا في صورة ارهابي وجاهل ومتخلف يثير القرف والاشمئزاز.. وروائح طبخه تدفع الاوروبيين الى التقيؤ كما عبر عمدة باريس ذات مرة.
فتح نوافذ باتجاه المكان الغائب
تعقيب على صلاح فضل حول مقالته عن “منازل الخطوة الأولى”
… في مقالته المنشورة بمجلة العربي، العدد ??? ديسمبر يطرح الدكتور صلاح فضل قراءته الخاصة لكتاب “منازل الخطوة الاولى” الذي صدر لي منذ بضعة أشهر. والدكتور الناقد بالنسبة لنا أحد النقاد القلائل الذين يلزمنا الاصغاء لهم ومتابعتهم من دون ذلك الضجر الذي ينتاب الكتاب عادة، من أولئك النقاد المتمحورين حول أسماء وكتابات بعينها، لا يحيدون عنها نحو متابعة جديدة لما يطرأ في الحياة الثقافية العربية. حيث النقد بهذا المعنى يظل معزولا عن نبع الحياة وانبثاق الابداع وتجدده على امتداد الوطن العربي، وحيث لم يعد هذا النقد يقدم شيئا يضيء مناطق الكتابات المختلفة ويواكب ويدل.
وبدورهم “الكتاب” لم يعودوا ينتظرون شيئا من هذا النقد. يأس متبادل يصل حد العدوانية أحيانا وفجوة كبيرة.
الدكتور صلاح فضل كونه ينتمي إلى عائلة النقد المختلف والمنفتح على اكثر من مدار جديد من غير عقدة أجيال أو قديم وحديث، خاصة في حقل النقد النظري، نسارع إلى قراءته ومناقشته بمعنى الاستفادة، حول بعض النقاط التي طرحها في مقالته والتي يبدأها بمقدمة تمسك بروح الكتاب وطموحه لكن لا تلبث- اي المقدمة- ان تنفصل لاحقا في محاور أساسية عبر بعض المقاييس الأدبية التي يستمدها من تقنيات السرد وعناصرها ومعطياتها، وهي محاور ذات منحى بروكستي حازم في تقطيع أوصال النص وتفكيك أعضائه، وهي مسألة لا تقتصر على صلاح فضل وإنما صارت أشبه بإرث حديث في الثقافة العربية بشتى مناهجها. وهو يمضي بهدي منها في مناقشة الكتاب في سلبه وإيجابه، إخفاقه وإنجازه. وهناك كما أشرت تلك الهوة بين المقدمة وعناصر أخرى من رؤيته للكتاب وبين هذا المنحى البروكستي القاطع في مناطق أخرى.
والدكتور صلاح فضل بمكانته المعرفية والنقدية، يدرك بداهة، مفارقة نص الكتاب عن مألوف السيرة أو غيرها التي تعتمد جنسا أدبيا بعينه لا تحيد عنه قيد أنملة، إذ يقول: “يقدم سيف الرحبي في منازل الخطوة الاولى، مقاطع من سيرة طفل عماني. تجربة فريدة للون من الكتابة (عبر نوعية) كما يتجلى ذلك في العنوان تمثل قطيعة واضحة مع السيرة الذاتية النثرية من جانب ونمط تاريخ التجربة الشعرية من جانب آخر لا تنتظم في نموذج مسبق”. فالكتاب كما تفصح المقدمة ليس سيرة بالمعنى الحصري ولا… الخ وإنما بالدرجة الاولى نص أدبي يتوسل السيرة نثرا وشعرا. كلاهما مجتمعان في بنية واحدة. وقد تجلى ذلك بالنسبة لي في بعض جوانبه في مجموعات شعرية سابقة حيث توسل السيرة هاجسا مركزيا في الكتاب.
لكن ما يميز هذا الكتاب هو المساحة السردية التي تفترش مقاطعها ومشاهدها بتوسع لا تحتمله اختزالات الشعر وكثافته وإبهامه أحيانا. أو هكذا ولد هذا الكتاب من هذا المزيج المركب، كما يشير الناقد في مقدمة دراسته.
تحتل أمكنة الطفولة الأولى متن الكتاب، مع شتات أمكنة أخرى لاحقة، مع صرف النظر عن مدى تحقق ذلك إبداعيا، لكنه على الاقل كوجهة وطموح. فالكتاب هاجسه الاساسي ليس كتابة سيرة وفق تلك المواصفات، وانما فتح نوافذ باتجاه المكان الغائب بتحولاته وتقلباته، هذا المكان المخترق بالزمن والبشر والروائح والأصوات، ومخترق براوي ثقله، وهو الذي يحاول أن يروي بعض جوانبه كما يريد أن يتخفف من بعض تبعات أعبائه، لذلك فليس هناك راو “متأله” يدرك الباطن والظاهر، وإنما الراوي نفسه ليس الا ذريعة يجري التخلي عنها لاحقا، ربما من فرط سطوة المكان بجباله وشعابه ومتاهاته، فالمكان هنا ليس مجرد ديكور لشخصية أو شخصيات وإنما روح النص ولحمته وسداه.
الدكتور صلاح يأخذ على هذا الكتاب أيضا على هذا النمط من الكتابة التي استشرت بين شباب مبدعين -حسب تعبيره -مآخذ منها: إخضاع بنية الايقاع السردي لمنطق الشعر.. وأيضا هذا اللون من الكتابة التي تسمى “عبر نوعية” لمزجها بين تقنيات الشعر والسرد، وهي في نظر الدكتور، بقدر ما تثري تجربة الشعر الغنائي بإدخال بعض العناصر الدرامية فيه، فإنها تسهم في تغييب الوعي بضرورة تجذير فنون السرد بجمالياتها الخاصة.
أعتقد أن مأخذ إخضاع بنية السرد لأفق الشعر وبنياته و”منطقه” يحمل الكثير من الالتباس، إذ أخذها كمثال تطبيقي على ذلك السرد العربي، قصة ورواية، فإذا كان جزء من هذا السرد يذهب بنا مذهب الاخضاع القسري فهناك آخر يعتمد على الدمج الحيوي الخلاق وهنا تكمن عناصر إبداعه وتميزه. ولاشك أن الدكتور صلاح يرى بشكل ضمني أن الاخضاع على نحو تعسفي كما عند الكثيرين لا يعطي نتائج طيبة سواء على صعيد الشعر، او السرد بتقنياته وجمالياته، إذ تكمن شعرية السرد في مكان آخر.
هذا صحيح والصحيح أيضا في الوجه الآخر لمرآة الكتابة المتعددة الوجوه، أن الدمج والتداخل بين المنطقين والبنيتين، يمكن أن يثري التجربة الابداعية ويعطيها زخما وأبعادا لا يمكن تحققهما في حصر التجربة في حدود تقنية بعينها . يرتفع الالتزام بها إلى هذا المستوى من الصرامة والعقائدية، وهذا يتوقف على مزاج الكاتب واستعداده وعلى مدى قدرته على خلق هذا التشكيل السردي? الشعري، ومدى هضمه في أتون التجربة، من غير قسر أو فذلكة وبهلوانية جُمل، ويمكن القول أن هذه التجارب تحققت في بعض الكتابات ولم تتحقق في بعضها الآخر.
الأسطر السالفة لا تدعي أن نص “منازل الخطوة الاولى” الذي نحن بصدد الحديث عنه، يندرج في سياق من هذه السياقات ولا أجزم بذلك على وجه الدقة، لكنه ربما يتقاطع مع تجارب متعددة في الكتابة العربية ببعض وجوهها، كما أشار الدكتور فضل. وهو نص ينبني بالدرجة الاولى على ضوء الايقاع الشعري ومبانيه وشطحه أكثر، وعلى محاولة الاستفادة من السرد في رواية أحوال المكان، مكان الطفولة خاصة، والتصدعات والزمن والناس كما لاحظ ذلك محمود الريماوي في مقال له حول الكتاب، إذ يقول: “قصيدة عنيفة حول الطبيعة والاماكن والجبال والناس والاشياء”.
وهو نص ينبني أيضا على زمنين متداخلين، زمن الطفولة الساردة لعفويتها وبراءتها وجنونها، وزمن التذكر الراشد المثقل بألمه، الدكتور فضل يرى في مقاله أن الزمن الاول هو الذي يجب أن يستمر ويأخذ مجراه الرئيسي الأوحد، من غير تدخل من الثاني الذي يعرقل “النمو الداخلي” لسير الشخصيات وتطور أوضاعها وشؤونها. وهو قول لا ريب في صحته، على صعيد بعض الاعمال الروائية والسيرية التي يبني عالمها وتقنياتها على هذه الاسس المدروسة والمحدودة، وحتى بعض هذه الاعمال لم تحافظ على هذا التوازن الصارم لمنطق الشخصيات ومصائرها. فكيف بهذا النص الذي يتأسس نسيج وجوده، من هذين الزمنين المتداخلين؟
هذه الرؤية التي تنظر عبر حدقة الفصل بين الشعر والسرد وتطبيق نقد تقنيات الاخير. لابد أن تصل كسياق طبيعي، في بعض نتائجها، إلى طرح ملاحظات استنكار حول: العمال الآسيويين الذين يهشون الذباب، في بواخرهم، بمراوح صنعت في تايلاند وحاجة ذلك الى خيال صاروخي، لتبرير مشاهداته والحديث عن هذه المشاهدة، وهذه الرؤية ايضا لابد أن تؤدي الى استنتاجها المحتوم حول استنطاق الراوي للشخصيات، خارج مسار تطورها الطبيعي الذي تحتمه مقتضيات حياتها وفرض صوته الخاص على مسارها ونموها أو فرض الوعي اللاحق على تدفق عفويتها.
هذه التصورات النقدية ان صحت على بعض الاعمال الروائية بدرجة أكبر والقصصية بشكل أقل، فلا يمكننا أن نقيس بها على نحو صارم، نصوصا مثل “منازل الخطوة الاولى” ونسلخها هكذا من بنية تكوينها. وعلى ضوء هذه المقاييس سنقذف قيمة أعمال أدبية أصبحت تشكل حيزا كبيرا من الأدب العربي الحديث. وهي نظرة على كل حال باتت تقليدية جدا في زمنها وأصولها النظرية السالفة. وعلى ضوء هذا سنقذف قيمة أعمال أدبية أصبحت تشكل أحد متون الأدب العربي الحديث مع احتراسنا، من بهلوانية الاشكال المبهرة ظاهريا وهي لا تحتوي في العمق، الا الخواء والسطحية.. وهي التي نجد بعض مظاهرها في خليط الأشكال والتقنيات، لكن من غير أن تأتي بثمار هذا الاخصاب المتبادل للفنون، عدا بريق سطحها الكاذب، وعلتها، ربما ليس في استخدامها الاشكال بعينها، وإنما في طريقة هذا الاستخدام وبالدرجة الاولى في ضعفها التكويني وخوائها الروحي الذي تحاول أن تستره بلعب شكلي ولفظي، يتوخى الادهاش العابر، وربما هذا ما يحاذر الدكتور صلاح، بحنكته النقدية، من الانزلاق الى تخومه الخلابة.
هناك ملاحظات أخرى يطرحها الناقد، وهي لا تشذ عن سياق هذه التصورات، مثلا ملاحظته عن الموت الفجائي الخاطف، للشايب “صبيح” في سياق الحديث عن “الزط” أو الغجر من غير تمهيد مقنع لهذا الموت أو حتى مجرد ذكر سابق للشايب صبيح.
وفي تصوري أن هذا الموت يشكل ومضة انطفاء مداهمة للذاكرة، لحظة استنطاقها عبر الدروب المزدوجة للوعي واللاوعي. إذ ليس هناك تسلسل زمني متعاقب، بل خليط لحظات وأزمان تطول وتقصر، متداخل مع خليط أماكن، تتوحد في المناخ النفسي للكتابة أكثر من توحدها في التسلسل التعاقبي. ومن هذا أعتقد أن موت الشايب صبيح يأتي في سياق كغيره من لقطات الكتاب وومضاته التي تقذفها الذاكرة.
لكن هذا الزمن المبعثر والمشتت يحاول ان ينتظم عبر مقاطعه، في خط يحاول أن يرصد، على نحو من الانحاء، بداية الصدمة الأولى لمساس الوعي البدئي على مستوى القرية ووعيها الثابت منذ عهود سحيقة، مما يشكل بداية التماس المرتاب مع التقنيات الحديثة وعناصر غموضها القادم من وراء البحار. أنها بهذا المعنى، مجاهدة الكتابة حول أطوار الوعي وعلاماته القليلة قبل قيام المؤسسة واستوائها.
هذه النظرة الراصدة ليست في حد ذاتها بغية، وإنما ضمن مناخ الكتاب الذي يشكل في مجموعه رؤية شعرية، مرتكبة- لا شك- ودائخة، في أحوال الطفولة والامكنة والحنين وبداية كتابة تستفيد من سابقها وتغتني بالاستمرار، وان كانت ستظل مفتوحة على النقصان واللااكتمال. بقي أن أشير الى ان الطبعة التي كانت بين يدي الناقد وبنى قراءته على ضوئها، صدرت بشكل محدود فيه شيء من النقص، حيث صدر الكتاب بشكل فيه زيادة نصوص يعطي صورة أفضل عن طموحه، في القاهرة عن دار سعاد الصباح.
طبعا هذا لا يغير شيئا من مقال الدكتور صلاح فضل ومنطلقاته ولا من هذه الاشارات التي لا تشكل إلا رغبة تواصل فقط.
هل هو زمن الرواية حقا؟
تعقيب على عدد فصول (*)
انطلاقا من قراءتي للعدد الأخير لمجلة “فصول” والذي يحمل غلافه هذا العنوان الرئيسي: “زمن الرواية” تشردت في ذهني اسئلة كثرة حول الرواية والشعر والاجناس الأدبية والفنية وتاريخها الطويل والقصير.
الاسئلة لا تنتهي عند حد، فهي- دائما- ترتطم بامكانية الاجوبة.. وعدمها في النص المتحقق، وليس ثمة اطروحة قاطعة نمضي على هديها في ايثار هذا الجنس الأدبي- ايثار هيمنة- على غيره، فهذه المسألة على نحو كثيف من الجدل والتشابك، منظور اليها من زوايا مختلفة، ومناطق جغرافية وروحية مختلفة.
عنوان مجلة – “فصول”- على قلم رئيس تحريرها الدكتور جابر عصفور الذي يشكل علامة من علامات في النقد المصري والعربي تتسم بعمق الرؤية والأدوات المعرفية عبر حقول متعددة المشارب والمصبات، والتي شهدت (أي فصول) انتعاشا واضحا في عهده- جاء بمثل هذا الحماس والانحياز المعرفي للرواية، التي يرى انها تحتل زماننا، وتطبعه بطابعها، اذ يقول “اكثر من علامة تحيط بنا، تجعلنا نزداد يقينا اننا نعيش زمن الرواية” وهو – ينظر الى هذا الزمان في قطريته المصرية، ومستواه العربي والعالمي. اذن فالرواية هي الشكل التعبيري الانسب، ان لم أقل المطلق، على حساب اشكال واجناس اخرى في مقدمتها الشعر.. اذ يواصل الناقد المعروف كلامه في هذا السياق.
“لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والاساطير، اما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق. فيحتاج- حتما- الى فن جديد.. يوفق- على قدر الطاقة بين شغف الانسان الحديث للحقائق، وحنينه القديم الى الخيال.. وقد وجد العصر بغيته في القصة”.
بطبيعة الحال، عوامل كثيرة تدفع الدكتور عصفور لهذا الانحياز، منها ان الفن الروائي اكثر استيعابا لمعطيات العصر وتشظيه وشتاته، او كما يقول الاستاذ محمد برادة.. في العدد نفسه من المجلة:
“وأفق الرواية المشدود الى القرن العشرين، وهبها افقا مفتوحا.. قادرا على امتصاص اجناس تعبيرية متعددة”.. لكن برادة – يواصل- في دراسته- ما اعتور طريق الرواية وصعودها، مما شكك في مكانتها في تبوء سدة الفنون الاخرى، وخاصة في الفترات الاخيرة.. مما طرح مسألة وجودها لغة موضع تساؤل، حين برزت وسائل تعبير اخرى، تقوم على التخييل والتشخيص- حسب تعبير برادة- مثل التلفزة والسينما والاشرطة المصورة والمسرح، وجميع انواع الفرجة.. ويستنتج “برادة” ان الرواية لا يمكن ان تكون بمنحى عن منافسة اجناس اخرى قديمة.. وحديثة.
* * *
في السياق نفسه، ومن جهة روائيين بحثوا- بعمق- مسألة تبوء الرواية هذه المكانة الكبيرة بين الفنون، كانت مخاوف تعثرها. . وحتى اختفائها من بين هواجسهم، فالروائي التشيكي (ميلان كونديرا)- الذي اخذ في الانتشار عربيا- ينظر الى الرواية في تاريخها من اكثر من زاوية ووجهة مسار، وهو وان كان يختلف مع المستقبليين والسرياليين وغيرهم، الذين يرون ان اختفاء الرواية لصالح مستقبل مختلف جذريا، حيث ستنبثق فنون ذات طبيعة مختلفة في نظر جميع الطليعيين، ويعول (كونديرا) على مقترحاته في تجديد الرواية، واستيعابها لقيم المدينة، وتعبيرها عن مسيرة تاريخ الفرد والمجتمع. لكنه (أي كونديرا) يعود الى مخاوف اختفاء الرواية- في ظل التوحيد العالمي للحياة والسلوك- فيما يشبه القطيع، ففي نظره ان هذه الروح المشتركة- التي يروج لها عصرنا- مضادة للرواية، التي تنشد التنوع والاختلاف في ارتياد المجهول.
ماذا نقول نحن العرب، في ظل آليتي القمع والقسر العربيين؟!
لكن هذه الرواية ابنة العصور الحديثة ومدنها وعلاقاتها وضجيجها وتعقدها، حقا والتي يدور حولها السجال في الثقافة العربية باشكال مختلفة ومستويات من التناول والتفصيل والادانة والانحياز، وفق الوجهات ومدى عمقها الذي يتخذها السجال.. فمن يذهب مذهب المقارنات السطحية.. عكس الدكتور عصفور الذي تذهب دراساته القيمة صوب كشف مواقع القوة والضعف في هذا الشكل التعبيري او ذاك، افضل المقارنات السطحية بين الرواية والشعر بمثنوية قطعية فيما يشبه صراع الاقصاء الكلي بين الجنسين، الشعر او الرواية جنس تعبيري ضارب في أعماق اللاشعور الجمعي بعراقته وهيمنته كإيقاع اساسي للثقافة العربية عبر قرون، وجنس آخر جديد بمواصفاته وسماته الحالية وان كانت منابع خياله والكثير من طرائق سرده وعلاماته موجودة ايضا في عمق التراث العربي.
هذه الوجهة لا يسعفها تصور التعايش كما هو موجود من ازمان، بوتيرته ومتطلباته المعاصرة.
فالانجازات النثرية الكلاسيكية لا تقل اهمية عن الشعر كما عرفه الاسلاف وسلكوا عليه.
ووضع الرواية في الفترة الحالية لا شك يشهد انتعاشا خاصا وانجازات تؤرخ لوضع ابداعي هام، ومن المفارقة.. ان الرواية التي انتعشت في امريكا اللاتينية وبعدها في الوطن العربي، تشهد انكفاء ابداعيا على الصعيد الاوروبي لكن الانتعاش الابداعي لا يؤرخ من الجهة الاخرى لضعف الوضع الشعري وانكفائه في التعبير عن صخب المدينة وعلاقاتها وتعقدها عربيا، فهو- الشعر- كمؤشر كبير للثقافة العربية اخذ يوسع رقعة انماطه التعبيرية ويستثمر انجازات السرد والفنون الاخرى كي يخرج من نمطية الشكل وتابواته، التي تحد من امكانياته التعبيرية عن الحياة والازمنة انطلاقا من زمنه الراهن والبالغ التشظي والبعثرة والتعقد. كما الرواية التي حدّدت مناطق سردها الجاف والعادي والمكرور بمعين الخيال الشعري وثرائه وغموضه واختزاله وفق بنياتها ومنطقها. فهما في موقع اثراء متبادل على صعيد ما تحقق وانجز لا على صعيد التنظير والرغبة فحسب والشعر لو لم يستثمر امكانيات القص والسرد في انفتاحهما. على الاشياء والحياة لوصل الى نمطية قاتلة.
الشعر في برهته الحالية يخترق جميع الفنون ولم تعد لغته تلك اللغة الطاهرة المعصومة من التعبير عن المعيش والمهمش والمقصي، بل لغة ملوثة وملتاثة بطين الواقع وتفاهة العالم وانكساره اي ان هذه الامور اصبحت مركز تعبيره، مما اتاح له استيعاب تطورات العصر والمدنية في تعقدهما عبر الانفتاح اللامحدد في تجاوز معايير سابقة عليه وجاهزة لمقاييس سابقة عليه وجاهزة.. الشعر مخترق “بفتح الراء” بالفنون الاخرى: انه التضافر الخلاق للروح والذهن البشريين في مواجهة انحطاط القيم وعقم الحياة.
اعتقد ان المشهد الثقافي العربي في شعره وسرده، يغري بأكثر من هذه العجالة كما تغري مجلة فصول بإثارة الاشكاليات المستجدة في الثقافة العربية على نحو عميق في برهتها الحالية.
الخطاب المتأخر ونقاش البديهيات
رد على مقال أبي همام
نشرت جريدة عُمان في ملحقها الثقافي مقالا بتوقيع أبوهمام عبداللطيف عبدالحليم وهو، على كل حال، مقال لا يلفت النظر من ناحية القيمة، سواء للمتفق معه او المختلف، وليس كونه هجوما على شعر سيف الرحبي او هجوما تتسع رقعته ليشمل الشعر المعاصر والحديث وأسماءه المختلفة، فذلك أمر طبيعي لا يستدعي رفة عين.
ليس لذلك كله، وانما لما يؤشر اليه من اتجاه يحمل خطورة ما على سلوك الاختلاف والرأي في عُمان وغيرها، ولما يؤشر اليه (المقال) من محاولة تجهيل سافر لبعض القراء كما ورد في حيثياته ونقاطه، التي تضرب دائما على وتر موروث ديني يتم استقطاب العداء عبره، وأيضا طبيعة النزعة المكتوب بها، حيث نجد صاحب المقال يتحدث مثل (بابا) يعمد بماء الطهارة الشعرية فلانا ويحجبها عن فلان بلغة تذكرنا بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، لولا ضعفها البين، وبوصاية كاملة من غير مراعاة لأبسط قواعد الحوار، وكأنما صاحب المقال على يقين كامل أن الجميع سيصفق له ما دام يعتقد ان هذا البلد ما زال من ناحية الوعي الثقافي والمعرفي صفحة بيضاء، وهذا اعتقاد الكثيرين ممن اغشاهم لمعان النفط من قوافل الارتزاق والتهريج..على هذا الاساس راح قلمه يخط ما يشاء من غير رقابة ذاتية وعلى الآخر الاصغاء فقط، لهذا التبشير وهذا التعميد. وعلى هذا الأساس راح قلمه يشرق ويغرب خبط عشواء، خالطا الحابل بالنابل جاهلا أبسط مقاييس النقد والثقافة الشائعين.
وقد وجدنا بالفعل صعوبة في قراءة مقاله، ليس صعوبة المعرفة العميقة (بالتأكيد) وانما كل سطر من سطوره مكتنز بالتهم والشتائم حتى التخمة، بحيث من الصعوبة فعلا استنباط فكرة ما للنقاش. جمل انشائية عائمة في فراغ التهم المقررة سلفا ومع سبق الاصرار. ومع الصعوبة التي ذكرنا وجدنا أشلاء أفكار متناثرة هنا وهناك يريد أن يطرحها صاحب المقال وهي ليست الأساس في مقاله بقدر ما هي تدعيم عابر للتهم الجاهزة. ووجدنا هذه الافكار أو اشلاء الأفكار من البداهة بمكان.. لكن حتى هذه البداهة او البديهيات أوقعت صاحبها في أخطاء يندى لها جبين المعرفة.. وتلك هي الاخطاء البديهية:
أولا: يتوسل صاحب المقال بأسماء كبيرة في تاريخ الابداع الأدبي والفني كالمسرحي الفرنسي (موليير). ولكن الواضح ان استعانته بهذا الاسم تشي بجهله بطبيعة فهم كلام الشخصيات المولييرية، الذي يأتي في سياق ثقافة وزمن مختلفين، فالشخصية المولييرية لا تنزع الى التفريق بين النثر الانشائي العادي والكلام المنظوم ضمن قواعد محددة في تلك الفترة البعيدة من التاريخ المعاصر، أي في عهد لويس الرابع عشر، وهذه مسألة لا علاقة لها بالايقاعات الشعرية ومستوياتها وتطوراتها اللاحقة، كالشعر الكلاسيكي، وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، مما يدل على خلط ساذج في فهم مسرح موليير بخصوصيته ومضامينه المتعددة، المرتبطة في كثير منها بتلك المرحلة.. ولقد توصل، أيضا، صاحب المقال من خلال كلامه الى ان النثر ليس بالكلام الفني أبدا ولا يمكن أن يكون كذلك، وانما الكلام الفني هو المنظوم فقط، ولسنا بحاجة، في هذه الحال، الى القول انه وقع في مغالطة هائلة لفهم ابجديات الأدب فنا وتاريخا، الا يعتبر الرواية والقصة والمسرح… الخ كلاما فنيا، دعك من تاريخ الأدب الزاخر بأمثلة لا تحصى.
ثانيا: يعزي صاحب المقال انتشار شعر سيف الرحبي ومثله في العالم العربي الى “جماعة سرية تعمل في الظلام تهديما لكل قاعدة للعروبة والاسلام”، حين أوصل صاحب المقال تصوراته الى هذا المستوى من الانحدار، نقول لا بأس، لكن عليه أن يعرف لنا هذه الجماعات وطبيعة عملها وفي أي مكان. كان عليه ذلك، أو أن الكلام عن هذه الجماعات يشبه الكلام عن الحيوانات الاسطورية لما قبل التاريخ… فنحن فعلا نجهل أي شيء عن هذه الجماعات الغريبة وعلاقتها بالشعر، والذي نعرفه أن هذا الشعر تتولى طباعته وتوزيعه دور نشر موجودة ومعروفة في مختلف البلدان العربية وتملك شرعية وجود علني من دولها ومؤسساتها، ولم نسمع أو يسمع آخرون أن هذه الدور لها علاقة بكارلوس او آل كابوني او ادعت انشاءها سلالة ريتشارد قلب الاسد قائد الحملات الصليبية على ديار العروبة والاسلام.
ثالثا: يقول صاحب المقال “ليس الحديث عن سيف الرحبي بذاته بل الحديث عن قضية عامة كان سيف الرحبي ممثلها في عُمان، وليته بشر بها في لبنان والعراق أو مصر مثلا، لكانت مسوغة رغم غرابتها في بلد كعُمان تبدأ فيه حركة الشعر في الانتعاش، فاذا بصاحبنا في الطرف المقابل أو كما يقول صاحبنا احمد درويش (الكوخ وحمام السباحة)”.
نستعجل القول ان الاقطار العربية، التي ذكرها، ليست بحاجة الى (مبشرين). فمنذ ثلاثينات هذا القرن وحركة التجديد الشعري والثقافي تحفر مجراها في تلك البلدان، وهو مجرى يرفضه بالأساس صاحب المقال باستثناء “العقاد” الرمز المطلق للخير الثقافي، يرفضه مع غض النظر عن المكان. ومن البديهي ان تلك الاقطار تملك موروثا ثقافيا وفنيا سابقا من الناحية الزمنية والكمية، وكاتب هذه الاسطر عاش جزءا أساسيا من حياته فيها، لكن هذا لا يعني ان التطور الابداعي حكر على هذه المناطق دون غيرها، او ما يسمونه بلغة الاقتصاد (المركز والهامش). فيمكن للافراد في المجتمعات، احيانا، وفي أي مكان وزمان، ان يختزلوا المسافات ويحققوا عطاء ابداعيا لا يمكن، بأي حال من الاحوال، ان يقاس بوتيرة الزمن العادي وبالمنطق الحسابي المحدود (الابداع خاصة). كما أن (الكوخ وحمام السباحة) موجود في الدول العربية قاطبة بعد أن فقدت هذه المجتمعات سير تطورها الطبيعي بفعل التدمير المستمر. لا يخفى من سياق الحديث ان صاحب المقال يضمر تقليلا من البلد الذي يعيش فيه الآن، ولكأن هذا البلد بثقافته وتاريخه قاصر عن الابداع، وعلى (أبوهمام) وأمثاله ان يعطوه الثقافة جرعة جرعة وبالاقساط كيلا يخر صريعا.
نسارع الى القول، ايضا، ان الارث الابداعي لاقطار الوطن العربي هو ارث مشترك لجميع أقطار هذا الوطن وفنانيه ومثقفيه، وهو معين التكوين المشترك لهؤلاء مع التأكيد على بعض الخصائص والتفاصيل.
رابعا: يقول صاحب المقال: “ان أدونيس وتلميذه الماغوط وغيرهما لا هم لهم الا الازدراء بكل الشعر العربي وهي زلة الغربيين… الخ”، لا نريد الدفاع عن ادونيس او الماغوط وغيرهما، فمثل هذا الدفاع هو تحصيل حاصل، لكننا نريد توضيح نقطة يعرفها كل قارىء ومطلع على الشعر والثقافة العربية القائمين وليس النقاد والمتخصصون فقط، وهي أن المناخ الشعري او القصيدة عند ادونيس تختلف كليا من حيث الاتجاه واللغة وتقنية الكتابة عنها عند الماغوط. فحيث تتبلور قصيدة ادونيس حول ما عرف بـ(القصيدة الكلية) ذات المحمول الفلسفي والحضاري، وحيث قصيدة الرؤى والاصوات المتعددة في معمارها الهندسي. فان الماغوط يتجه اتجاها آخر حيث تميل قصيدته نحو التفاصيل اليومية بصغائرها ومفارقها صاعدة الى أفق الشعر في بنية مقطعية تختلف عن قصيدة أدونيس او السياب او يوسف الخال.
إن ملاحظة صاحب المقال تتسم بجهل فاضح حول التقاط أبسط الاشياء في الاتجاهات الشعرية العربية المعاصرة وحشرها في مسار غيرها.
أما بالنسبة لازدراء الشعر العربي كما يعبر، فليس هناك ازدراء في نظرنا أكبر وأكثر بلادة من ازدراء ابناء لغة هذا الشعر في جهلهم بآفاق تطوره ومساره التاريخي وتجلياته المختلفة.. يقينا ان الغرب يزدري هذه الامة ليس في شعرها، وانما في كل جوانب حياتها وتاريخها وماضيها وحاضرها، وهذا أمر بات معروفا لدى الجميع. لكن أيضا هناك الجهات التي تتجاوز مركب هذه العنصرية وتختفي بالابداعات البشرية، التي تصلها ترجمة وتقديما، وبحثا، فلا يمكننا النظر الى الغرب كشخص مجرم تجاه ثقافتنا دفعة واحدة فهناك اكثر من (غرب) وأكثر من اتجاه وزاوية نظر.
خامسا: يقول صاحب المقال: ان هذا الشعر يهدف الى “تحطيم اللغة العربية” نحن نرى ان كل شاعر مبدع، ومنذ القدم، يحاول استخدام اللغة استخداما شخصيا وعلى نحو خاص، وان يخرج من استخدام السائد والقاموسي، الاستعمال الضيق، الى فضاء من الدلالات والايحاءات فيه الكثير من الابتكار، وإلا كيف ينفرد الشعر عن الكلام العادي. هكذا منذ امرىء القيس وحتى المتنبي وابي تمام حتى العصر الراهن.. في الشعر الجديد هناك طرق جديدة في استخدام اللغة والتركيب والرؤية، وهذا ما يمنح اللغة الشعرية حيويتها وشبابها المتجدد.. اما موتها وتحطيمها بالمعنى السلبي فيأتي عبر استخدام المكرر والجامد لها من قبل شعراء ليس لهم من الشعر الا التسمية الشائعة وهذه هي السمة الجوهرية للانحطاط الأدبي في كل العصور.
سادسا: أما قول صاحب المقال: “… الا بعض أناس يتناحرون على مثل هذا الكلام فيقرأونه في جلسات خاصة في أماكن مثل مقهى الريش وأتيليه القاهرة، ولهم نظائر بلا ريب في بلدان عربية أخرى”.
لا نعرف هل يقرأ شعرنا في مثل هذه الأماكن أم لا؟ لكننا نعرف ان هذه الأماكن كانت تجسد مجد الثقافة المصرية، وتجلياتها الابداعية الرفيعة والتي يبدو أن صاحب المقال لا مكان له فيها، لا مكان له بين أماكن وكتابات انتزعت شرعيتها الابداعية واحترامها، من نجيب محفوظ ورمسيس يونان حتى الجيل الجديد في الثقافة المصرية الراهنة، ونفس الكلام ينطبق على المنتديات والأماكن التي يتحرى صاحب المقال قراءة شعرنا فيها.
واستطرادا، نذكر اسم الكاتب الكبير لويس عوض وهو من أوائل الكتاب العرب، الذين خدشوا البنى الشعرية التقليدية ايذانا بشعر آخر وتصور آخر اكثر مواءمة لروح العصر. فقد ذكر صاحب المقال بأن لويس عوض، قد تنبأ بالتغيرات التي ستلحق بالشعر العربي الحر وأن صلاح عبدالصبور سيصبح تقليديا لأن موسيقى جديدة ستنشأ بدلا من موسيقى الشعر الحر. وبناء على ذلك اتهم صاحب المقال عوض بالخبث والنذالة وهو كلام لا يصح من أخلاق الحوار. ويبدو جليا أن صاحب المقال لم يفهم فحوى كلام لويس عوض، الذي لم يرم الى رمي شعر صلاح عبدالصبور وأمثاله الى سلة المهملات بقدر ما يهدف كباحث الى رصد دقيق فيما يطرأ من تغير وتطور في بنية الشعر العربي الحديث.
ورغم أننا لا نتفق مع لويس عوض في نقاط كثيرة، لكنه استطاع بالفعل ان يستشرف ما طرأ، لاحقا، من اتجاهات وايقاعات جديدة في مشهد شعري تتجاوز فيه أنماط تعبيرية مختلفة؛ فنجد الى جانب التفعيلة قصيدة النثر والنصوص المفتوحة… الخ.
ومن لويس عوض ينتقل صاحب المقال الى مجلة (شعر) اللبنانية فيقول: ان هذه المجلة “تبنت أخلاطا من الكلام نثرا وشعرا حرا وشيئا بين بين”. بهذه اللغة الركيكة أراد ان يعبر عما اصطلح عليه (بالنص المفتوح) وهي تسمية على ما يبدو غريبة عليه، والغريب عليه، أيضا، في السياق نفسه، انه منذ بداية القرن وخاصة في العقد الثالث منه حصل انعطاف أدبي تجسد في انفتاح الفنون على بعضها، فنجد عناصر مشتركة بين الشعر والسرد والسينما والمسرح من غير ان يفقد كل فن خصوصيته. وهذا ليس بغريب على الأدب العربي وهو ما نجده واضحا في شعر المتميزين في هذا الأدب، حيث تتقاطر الصور الشعرية في لقطات ومشاهد صاغتها عين حادة ومخيلة تجرف في طريقها مظاهر الوجود من النملة والكرسي حتى أنين القرية وصخبها مرورا بالنيازك وجبال الهملايا.
سابعا: من المفارقات المضحكة حقا، أن صاحب المقال الذي ينعي ستة عشر قرنا او يزيد من التراث، ويتهمنا بمجافاته والقطيعة معه، لا يعرف دلالة كلمة مثل (التضمين) فيقول: “من غرائب طباعة هذا الديوان أنه يكثر من التضمين وهو فصل جزءي الجملة في سطرين”.
أولا- إن (التضمين) ليس فصل جزءي الجملة كما يقول وانما هو الاتيان بقول شاعر آخر أو اي كاتب في سياق شعري خاص ليخدم مناخ القصيدة ودلالاتها العامة.
ثانيا- حين قصد من كلمة التضمين فصل أجزاء الجمل وتوزيعها على الصفحة البيضاء، وهو خطأ كما أسلفنا، ارتكب خطأ بديهيا آخر وهو ان توزيع الجمل او الصور الشعرية ليس خاضعا لقواعد محددة سلفا في الشعر الحديث، وإنما لسيكولوجية الشاعر ومزاجه في التقطيع والتوزيع ووضع تصميمها الكامل على الصفحات.
ثامنا: يقول صاحب المقال: “إن أصحاب الحداثة يرون في سابقيهم من أصحاب التفعيلة رجعية وتقليدية”.
نتساءل من باب تاريخ الأدب، من هم أصحاب الحداثة؟ ومن هم أصحاب التفعيلة؟ فبدر شاكر السياب وأدونيس ونازك الملائكة والحجازي ومعظم رموز ذلك الجيل من الرواد، الذين أسسوا لهذه الحداثة، هم الذين يكتبون قصيدة التفعيلة بشكل أساسي. وهنا يقع صاحب المقال في تناقض حد الأمية في فصله بين الحداثة وشعر التفعيلة، وكلمة (حداثة) في الشعر العربي تشمل كل الأنماط التعبيرية الراهنة عدا الشعر التقليدي. ولسنا هنا في مجال التقييم وإنما في مجال ضبط بعض المصطلحات البديهية، التي يخلط صاحب المقال عاليها سافلها، ليس بسبب عدم الأمانة المعرفية وإنما بسبب الجهل بها.
هذه النقاط – كما أسلفنا- تشكل غيضاً من فيض في خضم المغالطات والاستخدام السيىء لكل ما يمت بصلة الى مبدأ الاختلاف الذي يفترضه الدكتور أبوهمام والذي لم نعرف له مثيلا، ربما حتى في محاضر البوليس الألباني.. فالخلاف في حد ذاته لا يزعجنا، شرط ألا يسقط في هذا العماء الكامل عبر القراءة بالمقلوب.
كنا نتمنى أن يتخذ النقاش وجهة أخرى تتسم بشيء من المتعة المعرفية ويعفينا من الرجوع الى البديهيات، التي هي مضجرة حتى في صحتها، ان لم يضف إليها اجتهادا جديدا والتي لاكتها المجالس والألسن حتى أصبحت مثل خرقة بالية. لكن يبدو أن التمني شيء وواقع حال هذا “الكاتب” شيء آخر، كما نأمل مستقبلا أن يعرفنا بنتاجه الحقيقي، فنحن نجهل عنه ذلك، عدا ما نشر من مقالات على هذه الشاكلة وبعض القصائد في اطار الشعر العمودي الاخواني، الذي يقترب من الفكاهة، نقول ذلك لأن أبا همام يتكلم بلغة عارفة أو بالأحرى متشاطرة (من الشطارة) وهذا يفترض تاريخا كتابيا على الأقل، مهما كان نوعه.
رد على كتاب الشاروني
“في الأدب العُماني الحديث”
منذ خمس سنوات، حين كنت مقيما في دولة الامارات مشتغلا في بعض صحفها، كان ثمة جدل قائم حول بعض الأقلام التي تستسهل الكتابة ونقد النصوص خاصة، وكانت تأخذ مساحة من ذهن المشتغلين بالثقافة بشكل جدي، مما يجعلهم يتحدثون عن هذه الاقلام، المتوسلة مجدا وهميا عبر افتعال النقد وألا صلة لها به قبل حط الرحال في هذه المنطقة، وكنت بحكم صلتي ببعض الاجواء الثقافية في بلدان عربية أعرف ان تلك الاقلام، التي تقيم كل شيء، ليست مسألة الثقافة بالنسبة لها هي الهاجس، بل تسلق شهرة وعطالة وابتزاز أموال. لكني لم أشأ الدخول في مثل هذا الجدل، الذي بدا لي عقيما، وان الكتابة الحقيقية هي التي تنحت متنها أو هامشها، لا فرق، بعيدا عن مشهد الثرثرة القائم في بلدان عربية كثيرة والذي غالبا ما يكون السجال ليس بذي مردود على النص.. لكن في الفترة الاخيرة اتخذت هذه المسألة طابعا خطيرا مع بعض الاسماء.
فمثلا عبداللطيف عبدالحليم (أبوهمام)، كما يذيل اسمه، صدر له كتاب بعنوان “في الشعر العماني” عن الدار المصرية للنشر وسنتناوله على حدة ويوسف الشاروني، الذي صدر له، بعد الاول، كتاب بعنوان “في الأدب العماني الحديث” عن دار رياض نجيب الريس والذي نحن بصدده.
طبعا، الشاروني لا يندرج في سياق الاسطر السالفة، فهو من الذين كتبوا القصة منذ الاربعينات، أي ينتمي الى الجهاز الفلكلوري للقصة العربية بكل مواصفاته الريادية الواضحة والتي لا لبس فيها لديه.
في هذين الكتابين تبرز سمة التنوير حول الأدب في عمان وما يقتضيه التنوير من ريادة غير مسبوقة بل متبوعة بسمات أخرى من الرؤية الناقصة، على أحسن تعبير، حول الأدب في عُمان والعالم العربي، مستندة الى مقاييس عفا عليها الزمن ولم تعد تواكب نبض حياة قائمة ومتغيرة.
يوسف الشاروني الذي ما فتىء منذ استقراره في عُمان، ما فتىء قلمه، المسترسل حول كل شيء، من الفلكلور حتى القصة والشعر وعادات الزواج والتربية البدنية السليمة، يلقي الآراء في قالب من المواعظ للثقافة “الناشئة” في عُمان، محددا معالم ماضيها وحاضرها، مستشرفا حدود مستقبلها كما يراه بعين الناصح، الاب الذي استنفد مهمة الريادة في مصر فلابد أن يجوب آفاقا أخرى تعيش العطش المعرفي الحارق.. في كل ندوة او ملتقى أدبي بعُمان لا يمل الشاروني من سرد تاريخه ومآثره، التي قام بها مع طه حسين والعقاد وحسين فوزي وآخرين من الجيل الريادي، وكأنما نحن الحاضرين عميان التاريخ، نحن الذين لم نر أي أثر ابداعي هام، يمكن أن يربطه بتلك الاسماء، عدا المجايلة التي هي مع غياب الأثر المؤسس تبقى ذكرى عابرة ولطيفة، لكن هذا التاريخ المتوهم، الذي يتوسله الشاروني، لابد منه كي يعطي التنوير والريادة مبررات الانسجام والندرة وكي يستحوذ على عقول القراء والمستمعين.
الى جانب هذين الاسمين هناك اسم ثالث كتب كتابا عن الشعر في عُمان وهو علي عبدالخالق، لكن هذا الأخير لم يحمل ادعاء مثل زميليه، بل اقتصر دوره في حدود مادة ارشيفية لشعر تقليدي ولم يطلق الاحكام التي تحيي وتميت.
لكن مأساة هؤلاء انهم يتوهمون شروط واقع غير الواقع الحقيقي في برهته الحالية. فلسنا عميان تاريخ وأدب، والوعي الأدبي والثقافي لم يعد حكرا على بلدان معينة، مركزية، لتشع نورها الفريد على مناطق الهامش، بل اصبحت حدود الثقافات والآداب مفتوحة عربيا وعالميا، وأصبح الأدباء، من عمان وحتى أقصى قرية في الأطلس الكبير، يتابعون ويتفاعلون مع مستجدات هذه الثقافات بتجلياتها المختلفة، مما يجعل اتجاه التنوير على هذا النحو مثيرا للسخرية، ومما يجعل مفاهيم ضيقة سادت منذ نصف قرن، ومحاولة التنكيل بالحياة الأدبية الراهنة عبرها ضربا من الوهم والخرف.
نسوق هذه المقدمة، رغم بداهتها، لان الرجوع الى البداهة في سجال من هذا النوع أمر ضروري. وهو ضروري، أيضا، لان هؤلاء لم يقتصروا على كتابة مقالات حول الأدب في عُمان، رغم خطورتها، بل تجاوزوا الأمر إلى اصدار كتب، الواحد تلو الآخر، عبر دور نشر وتوزيع وهم أحرار في ذلك، لكن أيضا، من مسؤوليتنا ككتاب ننتمي الى هذا البلد، الذين يكتبون عن ثقافته عبر قنوات رؤيتهم الاستيهامية، أمر ضروري لا مناص منه، حتى لو كان مثل هذا السجال لا يعنينا في مستواه المعرفي المحض.
نلاحظ أن كلا الكتابين يبدآن بحرف الـ”في”: “في الشعر العُماني”، “في الأدب العماني” كأنما هذه الـ”في” التي اتفق المؤلفان عليها، لاعفائهما من مسؤولية الكتابة الشاملة او التعرض لهذا الموضوع او ذاك، وهي نية سليمة على كل حال. لكن بدل ان تتحقق هذه النية في واقع الكتابة تحولت الى فخ، فهي اذ تعفي من الشمول تؤشر أكثر في الدخول الى صميم الشيء أو الموضوع المتناول عكس ما فعل المؤلفان.
بدءا من عنوان كتاب الشاروني “في الأدب العُماني الحديث” وبعد اطلاعنا على محتواه تنطرح الأسئلة حول مفهوم المؤلف لكلمة “حديث”. فكثير من مواد المحتوى تتناقض مع هذا المفهوم بأي مقياس كان. فاذا كان المؤلف استعار هذا المفهوم من النقد العربي الكلاسيكي في العهود العباسية، مثلا، فهذه النقلة الزمنية، التي تقتلع المفاهيم من أرضيتها التاريخية والثقافية وتقسر استخدامها على أرضيات وأزمنة ثقافية أخرى بحذافيرها، لاشك تلغي فاعليتها النقدية والمعرفية.
وحتى بافتراض صحة نقل تلك المفاهيم النقدية لنقاد مثل الجرجاني فقد وقع الشاروني في خطأ التطبيق، فقد كان النقد الكلاسيكي يرصد “المحدث” المستجد في بنيات الثقافة والشعر العربيين، آنذاك، مما جعل هذا المفهوم منسجما بعمق مع سياق تاريخهم وثقافتهم، أما الشاروني فقد جاء في الكتاب بمواد شديدة التقليد والتكلس، ومن زاوية أخرى، اذا كان المؤلف يقصد بالحديث كل من كتب في هذا العصر الحديث بعُمان، من غير تقنين يضبط به مفهومه، فحتى هذا يوقعه في تناقض، اذ ما دخل قصة “فتاة نزوى” التي كتبت خلال قرون خلت؟ ومن خلال قراءة مواد محتواه يتضح جليا ان الكتاب عملية خلط وتجميع لمتفرقات لا يجمع بينها جامع، كما يوحي العنوان، الا كونها مكتوبة من قبل أقلام عُمانية، وكان الاحرى بالمؤلف ان يسم كتابه بعنوان آخر.
يبدأ المؤلف الناقد خطاب مقدمته للكتاب بهذه النزعة التربوية:
“وقد وجدتني أتابع نمو هذه البراعم الأدبية وأسارع الى تسجيل متابعاتي حتى لا تندثر من ذاكرة التاريخ”.
علينا اذن كقراء أن نتابع وجلين خطى براعمه الى أين وصل بها حظ الكتابة والمتابعة؟
يبدأ الشاروني بالتوثيق والتعريف و”النقد” بداية بالقصة ثم الرواية، وحسب المؤلف، ان القصة، بالمعنى الحديث، بدأت بمجموعة “المغلغل” للاستاذ عبدالله الطائي، ومن ثم حين بدأ سعود المظفر نشر قصصه القصيرة. وبالنسبة للرواية، فلم تظهر رواية عُمانية إلا في أواخر الثمانينات، حين نشر سيف السعدي، المولود سنة ????، روايته الاولى “جراح السنين” هذا اذا استثنينا روايتي عبدالله الطائي “ملائكة الجبل الاخضر” و”الشراع الكبير”، اذن، المولد الحقيقي للرواية العمانية على يد السعدي. ولا نعرف لماذا يأتي عبدالله الطائي استثناء في هذا السياق التأسيسي؟ بأي مقياس ابداعي يميز الشاروني رواية السعدي عن روايتي عبدالله الطائي؟ نطالبه بذلك لأن المسألة خرجت لديه من اطار التوثيق الى اطار النقد والتقييم، فالتسلسل التاريخي يفترض عبدالله الطائي من غير تحفظ او استثناء.. وبأي مقياس يقيم المؤلف روايات الطائي ويكتشف شوائبها كالشخصيات المسطحة والحوار الذهني، وهو ما ينطبق، أيضا، على قصص أخرى يكيل لها المديح الكامل؟!
كان الاحرى، بداهة، بالاستاذ الشاروني ان يحدد في كتابه، ولو بشكل أولي، سياق تاريخ هذا الأدب وتطوره الابداعي ولا يترك الكلام على غاربه فيما يشبه الخلطة الأدبية. فعبدالله الطائي وعبدالله الخليلي، حلقة وسيطة ومهمة تفصل بين كلاسيكية جدية وأفق حداثة محتمل بدأت تسمع أصواته منذ السبعينات وبدأت تتضح معالمه أكثر في الفترة الاخيرة.
الخليلي كان وجوده في كتاب الشاروني باهتا وسريعا، عبر ذكره في باب “القصة في الشعر العُماني” وهو باب مفتعل مثله مثل باب “النثر الغنائي” ، حيث إن الشاعر الخليلي يتمثل انجازه الشعري الحقيقي في حقل شعره الشاسع والسابق على هذه “القصص الشعرية”، التي بدأ يكتبها في الفترة الاخيرة مثل “على ركاب الجمهور” والتي يضعها الشاروني بجانب “سلوها” قصة أبي سرور الجامعي والتي تحكي عبر القافية والوزن حكاية زوج وزوجته أمام القاضي. وحتى أبوسرور موجود شعريا في مكان آخر وليس عبرهذه القصص التي تحتوي، أيضا قصة الكلياني “شريعة الزواج”، والقصتان تحاولان سرد موضوعة اجتماعية باسلوب كوميدي خفيف.
في هذا الاطار كان وجود اسم شاعر كبير مثل الخليلي غير مجز لتراثه الشعري، الذي ينبغي دراسته على حدة ووفق مقاييس وأدوات مختلفة؛ ونلاحظ أن ابا همام أفرد مقالا حول الخليلي، لكنه كان مجحفا وغير موضوعي كما أشار الى ذلك أحمد الفلاحي. الخليلي هو امتداد لذلك الرعيل الشعري، الذي يمثله عمانيا أبومسلم الرواحي وابن شيخان وعربيا البارودي والجواهري وبدوي الجبل.
الشاروني، الذي لاحظ وجود “القصة الشعرية” في الأدب العماني، بدأ من “فتاة نزوى” حتى أبي سرور، لم يلاحظ مسألة جوهرية، هي أن هذا الشعر مضى طويلا في شعرنة المسائل الدينية في أراجيز ومطولات تنحو، أحيانا، الى ما يشبه الافق الشعري الصوفي في شبكة رموزه وتعدد مستويات هذه الرموز وفق مناخ عُماني.
في مقالاته عن القصة، وهي الأوفر حظا من صفحات الكتاب، يتبع الشاروني نهجا عموميا في الكتابة، فهو لا ينظر للقصة في حد ذاتها ووفق موقعها ومستواها، بقدر ما ينشد الى قسر ذلك النهج على القصة او العكس بحيث يغرقنا في عمومية لا مبرر لها كقوله بصدد قصص حمد رشيد:
“والحاضر في قصص حمد رشيد يحتضن الماضي، والأسلوب الوصفي او المكاني الاستاتيكي يتبادل المواقع مع الأسلوب الدرامي او الزماني الديناميكي، والعالم الخارجي- عالم المرئيات يتجاور مع عالم الذكريات، والجدل بينهما أساس البناء الفني”.
هذا الوصف العام ينطبق تماما على نجيب محفوظ وعلى الكثيرين.. اذن ماذا قدم الشاروني من اضاءة خاصة حول قصص حمد رشيد الذي أصدر أولى مجموعاته القصصية؟
هذا الطرح العام، الذي لا يتقدم خطوة واحدة نحو التحديد والتخصيص ولا يلاحظ عدا نموذجه الذهني المطلق، لابد أن يوقع صاحبه في مجانية فظة، وهي المهيمنة في هذا الكتاب، حيث يمضي المؤلف في تقسيم القصة العُمانية وفق المدارس المعروفة في تاريخ الأدب: واقعية- اجتماعية- سحرية-رمزية- سوريالية، ولا ينسى الانطباعية والملحمية في هذا الكاتالوج العجيب.
وفي هذا السياق التشبيحي نفسه يمضي المؤلف في عقد المقارنات الفخمة بين هذا وذاك مكتشفا بقدرة قادر، نقطة التقاء الابداعات الكبيرة عبر الازمنة، مثل اكتشافه التقاء “عوالم” رواية سعود مظفر بأوديسة الشاعر الاغريقي هوميروس، أو قصة صادق عبدواني “الدجالة” برواية “قنديل أم هاشم” ليحيى حقي، لكن الشاروني يلاحظ ان عبدواني أكثر منطقية من يحيى حقي الذي لم يجعل من مرض فاطمة النبوية نفسيا مثلما فعل صاحب الدجالة!
ومع روايتي سعود مظفر يصل المؤلف الى توسيع رقعة التشبيح الفخمة. فرواية “رمال وجليد”، كمحور لتنازع الحضارات، تأتي استمرارا متفوقا لاعمال كثيرة سبقتها مثل “تخليص الابريز في تلخيص باريز” للطهطاوي. وطه حسين وسهيل ادريس، و”موسم الهجرة الى الشمال” للطيب صالح.. كما يذكر المؤلف “مذكرات أميرة” للسيدة سالمة والتي لاشك تعتبر علامة مضيئة في أدب السيرة تجمع بين الثقافة والمعايشة ومرارة الحنين الذي لاشك في أصالته.. لكن الشاروني يستخلص من كل هذا التراث الواسع الذي يشكل خلفية النص التصادمي والمعرفي مع الغرب، يستخلص تميز رواية “رمال وجليد” بالعنصر الآسيوي وغيره اذ يقول:
“وهذا ما يميز رواية رمال وجليد عما سبقها من روايات في أدبنا العربي الحديث. كان موضوع اللقاء والصراع بين الشرق والغرب محورها.. تتميز كذلك بأن العلاقة بين الشرق والغرب مقدمة في صورة مقلوبة للصورة المألوفة في معظم الأدب العربي الحديث بوجه عام والأدب العماني بوجه خاص”.
في جو هذه المبالغات والعبارات الكبيرة التي لا يمكن إلا أن نشير الى بعضها فهي قوام هذا الكتاب ولحمته، كان الاجدر بالشاروني ان يقدم عدم استواء الشكل وثغراته الكثيرة في هذه النصوص أو عند هؤلاء “البراعم” كما يصفهم، بدل أن ينهال عليهم بالمديح والاسقاطات والمقارنات الفخمة.
في الكتاب أيضا، هناك فصل لا يقل غرابة عن اخوانه ان لم يتفوق، بعنوان “النثر الغنائي” ويفرده المؤلف لرابحة بنت محمود؛ وهو ليس الا عملية توريط الرسامة العمانية. ولم نعرف عن رابحة كونها كاتبة ومن هذا الطراز الذي يصفه، حيث تتعانق الخطوط والكلمات، أشبه بجبران خليل جبران. ويمضي في تكريسها ككاتبة من نوع خاص “كلماتها مفاتيح عالمها الشعري” ونتعرف على عالمها الشعري من خلال قولها التالي:
“ الشعر ثورة
برج في الداخل
يهز الأعماق
بركان… انفجار”.
وأيضا:
“لأجل الحياة
لأجل الجمال
لأجل أن ننبذ القبح
أن ننسى الحقد
أن ننبذ الشر”.
أي مجانية أن نصف هذا الرثاث، ان نصفه بالعالم الشعري وبجبران، ونصفها بأن لها “مفهوما” حسبما يستنتج الشاروني من شعرها، مفهوم خاص في الشعر والفن والحياة والفلسفة والطبيعة والمدنية والحضارة.. الخ وهو كلام نقرأ أفضل منه في بريد القراء.
ويختتم الشاروني فصل رابحة بنت محمود بالعبارات التالية:
“ان عطاء رابحة السخي يجعلنا نحتار ماذا نختار فلم نعرض الا القليل منه”.
ثم يضيف المؤلف، بلهجة اعترافية تنم عن قرابة روحية بينهما في الكتابة، بأنه أول ما قرأ لرابحة بنت محمود ووقعت عيناه على ذاتياتها كما يعبر:
“ذكرتيني بأيام شبابي الباكر، حيث ألفت في اسلوب مشابه مجموعتين من النثر الغنائي، “المساء الاخير”“.
بقي أن نكرر الاشارة الى ان هذه الـ”في”، التي تتصدر العنوان “في الأدب العُماني الحديث”، لم تستطع دخولا حقيقيا فيما اختارته من نماذج ولا حتى تعريفيا او توثيقيا للأدب العُماني قديمه وحديثه، بل عملية توريط لأقلام بحاجة الى تقييم حقيقي بما يعني من ايجاب وسلب وبقيت أسماء لم يشر اليها الكتاب وهي تمثل الجانب الاساسي للأدب العُماني بمختلف تجلياته واتجاهاته.
اذ كيف تستقيم أجزاء المشهد الأدبي في غياب أسمائه الكثيرة؟
* “كتاب نزوى”: طبع بمطابع مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والاعلان