سيف الرحبي
قال عبدالله بن عامر:
«رأيت عمر بن الخطاب أخذ نبتةً من الأرض فقال: ليتني كنت نبتة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أكن شيئاً، ليتني كنت نسياً منسياً….»
كل تلك الإنجازات الهائلة، كل تلك الفتوحات العظيمة، كل ذلك التاريخ الحافل بالأحداث الكبار والرجال الكبار، ويتمنى عمر لو كان نبتة، لو أنه لم يخلق؟
أي حسٍ مأساوي مذهل من رجل أدرك من العظمة شأواً لم تبلغه إلا حفنة من الرجال في تاريخ البشرية كلها… لقد ذكرني قوله بأبيات الشاعر الاغريقي سوفوكليس الذي قال على لسان أوديب:
أفضل ما كان لو أن المرء لم يولد،
وإذا وُلد فأفضل ما يكون
أن يسرع الخطى نحو الموت…
ولكن أوديب يقول ذلك بعد أن خسر كل شيء في الحياة، وهذا عمر يقول ما قاله وقد كسب التاريخ بأجمعه، أي نكران عجيب للذات من رجل حطّم كبرياء اثنتين من أعظم امبراطوريات الدنيا، الساسانية والبيزنطية، ولم يصبه زهو أو غرور ولو للحظة واحدة!
(جبرا ابراهيم جبرا: أقنعة الحقيقة وأقنعة الخيال)
***
(…) أنا الآن على مشارف الجبال الغابيّة التي تحيط بجزيرة (ساموي) التايلاندية، في الطريق الذي ينتهي الى ذُراها وأعماقها الوحشيّة المستأنسة جزئياً بقرى وبشر وفيلة يمتطيها سياح فضوليون… في تلاطم هذا الكون الغابي الشديد الخضرة والينابيع والشلالات ، أجدني مَغزواً ومأسوراً في قبضة (الربع الخالي) بسمائه الرملية، إذ لا أرض في تلك الصحراء، بل محض سماء ومجرّات من الرمل والعزيمة والأشباح، حيث كانت الجِمال ترعى بسعادةٍ وطفولة في عزّ القائلة التي يتساقط في سعيرها اليمام والعصافير نثاراً من الفحم والسخام… أمشي في الغابة المحتشدة بالكثافة والمياه والحيوات، ولا أرى في مرآتها إلا قبائل الربع الخالي تمخر السماء الموحشة، بفيالقه وبدوه الرحل… وثمة ومضات تنبلج من بين ظلال الغابة المشتبكة بالجذور العملاقة الهرِمة ، تأخذني الى وادي النيل المتحدر من بحيرات افريقيا النائية وصدوعها… ذلك النهر الذي كان ملاذ طفولتنا التي لم تكن لأحد كأنما العَدَم أخذ في طيّها لحظة بزوغها، أو أنها كانت واحدة من أضحيات النهر التليدة… أمضي في الغابة من غير علامةٍ مبتكراً ضياعي الخاص، عدا بروق الذاكرة التي تتشظى بالنأي والعتاب: مفكراً في وحدة الطبيعة الخالقة، مفكراً في (ناصر وعزان) في أن يمشيا معي في المرة القادمة، إذا أرادت المشيئة، ويلعبا مع القرود (أسلافنا المباشرون، الأورنجوتان على الخصوص الذي لا يُوجد إلا في غابات بورنيو المطيرة) مع السناجب والفيلة الصغيرة واليعاسيب وسائر مخلوقات الغابة. بفيض وتلقائية يلعبان في مطر الدهشة من غير أن يتذكرا صحراء الربع الخالي ولا انحدارات نهر النيل، وتلك المذابح والإبادات التي ينفجر صراخُ ضحاياها في القلب والذاكرة…
***
«لا دهشة ولا أسرار في الغابة، أو في البحر، في الحب في الحياة، … إذن ألق بنفسك في هاوية الأزل السحيقة غرقاً أو شنقاً، أو بطلقة مسدس رخيص الثمن، على طريقة المبارزات الارستقراطية، الآفلة تلك التي قضى (بوشكين) بسببها… أو على طريقة (الهيراكيري) اليابانية التي لا بد تحتاج الى تدريب شاق وطويل كي تستطيع الإلمام بطقسها وتقنيتها المعقدة، حتى ان أحد رموز الأدب الياباني (كوباتا) عدل عنها وفضل الاختناق بالغاز، وحده (ميشيما) المتمسك حدّ التطرف بتقاليد العهود اليابانية المزهرة في خياله ، توحد مع طرائق موتها وخلاصها… أو اقذفْ عن روحك المعذبة أي هاجس يشرف على هذا (السخف) في البحث ولو كهاجس عابر، عن ماهيّة السر، الدهشة والعدالة السبب والنتيجة، في نظام الكون، وانعمْ بهذه الثانية التي يحملها نسيم البحر الآسيوي.
***
أكباد نساء تتطاير وراء الراحلين الى المغيب..
***
أشرب قهوتي الشديدة المرارة، لا ألوي على شيء كما تقول الروايات الرومانسية حين يضيع بطلها في الحيرة والزحام… وبما يشبه اليقين سأذهب الى البحر مضمد الجروح بملحه الشافي، أو الى الغابة القريبة لمسامرة الظلال والأشباح..
***
بين الغابة والبحر يمتد أرخبيل من أنهار صغيرة عذْبة لا ملوحة بحرٍ فيها: بذخ الطبيعة وكرمها، خاصة لأولئك الذين سحقتهم الآلام والفقر وانعدام الحد الأدنى من الشروط الانسانية للحياة، نوع من ملاذ يفيئون الى أفقه الرحيم، في الفترات التي لا ينفجر فيها غضب الطبيعة الخبيء ويزيدهم معاناة وانسحاقا… لكن في برهات سلامها وهدوئها، ينعمون بشيء من إنصاف وضيافة كريمة.. عكس شعوب تعيش على مدار الأعوام في قلب إعصار الألم والمأساة. طبيعة غير ودودة وعدوانية مع سلوك بشري بالغ الظلم والفضاضة.. ذكرتُ كلمة (ضيافة) وهي مفارقة بالنسبة لبشر يقيمون في «أوطانهم» إذ أن الفقراء المكلومين، منفيون حتى داخل بلدانهم، وطنهم الحقيقي هو العذاب في البحث عن سدّ رمق العيش واستمراره… وطنهم الألم والمعاناة والخوف الذين ينفجر في فترات جيّشان الأعماق الجريحة وانسداد الأفق بالكامل..
الفقراء في صميم الحال، منفيون وغرباء وليس فقط المتصوفة والمثقفون، هؤلاء وعيهم العميق المفارق لقيم القطيع، هو الذي نفاهم وغرّبهم… أما الفقراء فليسوا موجودين إلا لتغذية الطبقة المحظوظة صاحبة الامتياز والنفوذ، وفي خطابات الزعماء التبشيريّة العالية النبرة في الوعْد والوعيد.
***
من فرط ذعره من الموت، الذي يطرق بابه كل لحظة وثانية ليحل بغلظة أكثر فداحة من ضيف ثقيل «كزائر الفجر» مثلاً، وهناك من هو أكثر ثقلاً من هذا …
من فرط ذعره وحيرته تذكر أن الحياة مريرة تافهة ولا قيمة لها، ليخفف من عبء هذا الهاجس الباهظ… وعلى رغم نطقه بالحقيقة الفاجعة، لم يستطع أن يخفف من إلحاح الحضور لهذا الوحش الغامض الشفاف والبديهي الذي يطبق على روحه والذي لا يقبل المساومة معه والتكيّف والأنسنة… هذا الكائن المرتبك المذعور يختلف بالطبع عن تلك الشاعرة التي تقول بفرح «آه هو يوم موتي، أم عيد ميلادي»، ربما هي الأخرى تتبع نوعاً آخر من العزاء… أليس الأجدر التفكير في الحياة الماثلة بدل التفكير السرابي العابث في الموت؟
***
تقطع هذه الاستمرارية لهذه الشذرات التي لا تهدف إلا الى تبديد الوقت «الكتابة تسلية نبيلة» يقول بعضهم، الشطرنج أيضا لكنني نسيت تلك اللعبة الملوكية (موديانو) الفائز بجائزة نوبل لهذا العام يقول «إن الكتابة شأن مقرف» لكن ربما هو القرف الأجمل في منعطفات هذا القرف والسأم والانهيار…
تقطعها مكالمة، حيث يبدأ سرد أخبار البلاد، وعلى نحو حصري أخبار العائلة الصغيرة المصابة بالزكام الحاد، وما يتبعه من التهاب الأذنين والحمى…. الخ منذ فترة والجميع يرزح تحت وطأة هذه الفيروسات والميكروبات وعلى مدار العام، التي تتخلق وتتطور سلالاتها باستمرار، مبتكرة كل مرة أساليب فتْك جديدة، بتقوية جهازها المناعي ضد الأدوية التي تتحول الى غذاءٍ يسمّن ويقوّي، مقابل تصاعد ضعف مقاومة الجسد البشري..
أنا نفسي حملت هذا الفيروس الى هذه البلاد الآسيويّة مما أقعدني أربعة أيام عن الحركة.. بديهي أن مثل هذه الأمراض التي تعتبر خفيفة في ظل منجزات الطب الحديث والتي كانت تبيد أمما في العصور الخوالي، تكون أكثر إيذاء في السفر والترحال..
تتمنى لو أنك لم تغادر وتقطع كل هذه المسافات والحدود.. والمطارات الضاجة بالملامح والجغرافيات البشرية المختلفة، والضاجة بالشرطة ورجال الأمن المستنفرين دائما، خاصة هذه الأيام جرّاء شبح الإرهاب الذي تضخمه وسائل الإعلام الأمريكية الغربية، وتوابعها في كل أنحاء العالم جوا وبراً وبحراً.. يصل التضخيم والتهويل حدّ الخرافة ، كون تلك الدول الممسكة بمسار التاريخ وأرض البشر وغير البشر، على جبروت قوتها شبه المطلقة، انها مهددة كيانيا ووجودياً من أولئك المراهقين الفقراء بخيالهم الدموي، الجهلة المنبوذين، مهددة بالمحو والمحاق..
ومن فرط هذا التهويل الذي يتخذ أحياناً طابعا قياميا، يكاد أن يتلاشى الجزء الواقعي في الإرهاب والذين أملته ظروف موضوعية جاثمة وبديهية، ويكاد (الجزء الواقعي) أن يتحول الى ظل باهت لا قيمة له، أمام هذه الفيضانات الإعلامية الكبرى وتوابعها الصغرى التي تتبع المصدر ولا تشك في كونه نبع الحقيقة واليقين.. واقع الحال أن الغرب الامريكي، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي كندّ حقيقي مقلق لمصالح الغرب ووجوده، وجد نفسه في فراغ من الأعداء الجديين، فطفق يبتكرهم مرة في الجماعات الإرهابية، التي كان له اليد الطولى في تكوينهم ووجودهم، قبل ان ينقلب السحر على الساحر… وهو ما ينطبق أكثر على أنظمة عربيّة بعينها أبدعت البيئة الخصبة الموّلدة للعنف بكل أنواعه والإرهاب، وهو في كل الأحوال انجازها الوحيد، لتغرق لاحقاً في وحوله ورماله التي من غير سقف ولا قرار، وتُغرق المجتمع المكبّل عبر عمرها المديد، في أتون الكارثة:- ومرة في تضخيم دول وتصويرها على انها العدو والخصم، شأن الامبراطوريات الكبرى في التاريخ واكثر خطورة ، التي من أجل استمرار حيويتها وقوتها المتصاعدة لابد لها من أعداء، لابد من التحدي الذي يرفع وتيرة إجماع الأمة والحضارة المهيمنة.. وان لم يوجد في الواقع والتاريخ ، فلابد من اختراعه وتهويله حتى تأتي لحظة نَحره أو استمراره الهزيل حسب اقتضاء المصالح والوقائع والمتطلبات.
أعود الى الفيروسات والميكروبات التي أشرت إليها، وليس خروجاً على النسق، إذ أنها تتآخى وتتواشج بعروة روابط وثقى مع أوبئة البشر وسلوكهم العدواني تجاه بعضهم البعض وجشعهم الإجرامي الذي يخلف بؤس الاغلبية وخرابها، أو سلوكهم نحو الطبيعة.
في عُمان، كنت أسأل أحد الأطباء الأصدقاء عن مسيرة التقدم والانتشار عاماً بعد آخر، للفيروسات وكل أنواع البكتيريا الممرضة، رغم ان بلدنا ينعم بمساحة جغرافية شاسعة في ضوء قلة السكان ، وصحيّة.. هذا الفضاء المترامي من البحار (تُحاط عُمان بثلاثة آلاف كيلومتر من مياه البحر) والصحاري وتلك المجرات من الجبال الاسطورية، بالإضافة الى تنوع الطقس الحار على الأغلب مما يساعد على قتل الجراثيم المسببة وهو «الطقس» في حرارته الصيفية يقتل حتى الفيلة والثعابين. (حين كنت صغيراً كنت أرى الغيلان مع أطفالها تلجأ في القيلولة الى شقوق الجدران بين النخيل).. هنا تكمن المفارقة كونها تزداد وتتكاثر بآلية تطوير مستمرة.. قبل شهرين غزا البلاد فيروس يضرب العيون حتى يصل الى القرنيّة ويكاد أن يدمّرها لولا العلاج الذي يستمر شهوراً..
أجابني الدكتور الذي كان زميلاً وصديقا في عهد الصبا القاهري، بأن هذا أصبح حقيقة واقعية وعلمية، وأخذ في عدّ بعض الأسباب الأساسية التي عبرها تتخلّق وتتطور هذه الوحوش الصغيرة اللامرئية.. أخذ في سردها مستعينا بجانب تخصصه الطبي العالي، بخلفية قراءته الأدبية.. وحين غلبنا الضجر والحزن افترقنا على أمل لقاءات قادمة، على الأرجح لا تتحقق فالأصدقاء في عُمان لا يلتقون أو هذه حال كاتب هذه الأسطر، إلا عبر فواصل زمنية متباعدة حتى لو كان المشْتَرك بينهم كبيراً وثرياً!!!
الصديق الدكتور بروحه المرحة المعهودة والتي بدأت في التقلص والنفاد (فيروس آخر) أردف قبل مفارقتنا المكان، أن لا شيء على ما يبدو يكبر ويتعاظم، إلا الشرور والأحقاد والأمراض..
ما لفت نظري، أن الدكتور صاحب المنطق العلمي الصارم بدا لي أكثر «تشاؤما» بنبرته المأساوية التي لم يستطع ما تبقى من مرح أن يخفيها، مما جعلني أفكر على ذلك النحو من السخرية، بنوع الحل الانتحاري على الطريقة اليابانية ، لكن بسبب تعقيدها التقني والطقوسي، عدلتُ الى «نظرية» الانتحار الضاحك، حيث يسكب الحالم بالنهاية كميّة من الزئبق في أذنيه، وتتقاذفه أمواج هستيرية من الضحك حتى الموت…
وتذكرتُ البير كامو… لا شيء جدير بالجدل أو الاهتمام في الفلسفة عدا فكرة الانتحار، أو ما يشبه ذلك..
***
«لا تكتمل الرحلة، أي رحلة، في الأصقاع والأماكن بمختلف أصنافها وتسمياتها إلا بفعل جوهري، كي ينعتق الفرد من أسْر المكان الواحد الضيق مهما كان اتساعه، وإكراهاته الكبيرة؛ إلا بالكتب والقراءة، والكتابة ليست إلا مكملة لفعل القراءة الرئيس. انها رحلة داخل الرحلة تضفي عليها أبعاد الجمال والبهاء والحريّة، وفي ضوئها، تتجلى الكلمات، والعبارات والأفكار أكثر صفاء ورهافة واستيعاباً..
القراءة وإعادة القراءة في السفر، فعل نشوة وإشراق… تحت تلك الشجيرة على شاطئ البحر الممتد في الفضاء والأفق، أو فوق ذروة جبل غابيّ حيث هواء القمم الصافي بعيداً عن لزوجة هواء المستنقعات ومخلوقاتها القذرة.. هنا تبدو متوحداً مع ذاتك المبعثرة، في الكتب والعزلة التي لا تبدو ثقيلة ومحبطة في هذا المناخ الإشراقي.. بل تبدو محلّقة في ملكوتها مع النجوم، حيث المساء ينزل خفيفاً على الروح وقد تخلص من غلظته المعهودة مثل ذلك المساء الذي تصرخ فيه الحياةُ (النجدة النجدة) وكأنها على وشك أن تُقذف في أقصى بؤرة من هاويات جهنم..
جرت العادة حين اتجه الى آسيا القصوى، أن اصطحب كتباً تتعلق فلسفةً وأدباً، بتلك البلاد الغنيّة بالروح، أو كانت كذلك: في هذه الرحلة الخاطفة كانت الكتب بمحض الصدفة من جغرافيات أخرى.
***
صباحاً، أنتظر (الاسانسير) وهذه الكلمة ذات الأصل الفرنسي تعلمتها في القاهرة، هناك على الأغلب لا يقولون (لفت) الانجليزية ولا ترجمتها العربية (مصعد).. ففي القاهرة لأول مرة أرى فيها هذه الآلة الصاعدة ، النازلة، حين نزلنا مطلع السبعينيات في فندق (في العتبة)..
انتظر الاسانسير للنزول الى الطابق الأرضي حيث المقاهي والمطاعم والطريق المؤدي الى الشاطئ والبحر.. داخل المصعد رجل مسن وامرأة يبدو بوضوح انها تصغره زمنا ومعهما ولد يبدو في سن المراهقة بالمعيار الأوروبي.. للمرأة ان تكون زوجته او ابنته والولد ابنه أو حفيده.. ولداي ناصر وعزان، يُعتقد أحيانا انهما حفيداي، وكذلك أخبرني بعض أصدقائي من الأدباء العرب. لكني لم اسأل رجل الاسانسير بل تذكرت حين ذهبت الى تركيا ذات مرة لحضور مهرجان شعري وجاء رئيس المهرجان للتعارف، ومعه طفلان على انهما ولداه، اطمأننت على حالي مع أصدقائي العرب الذين تأخروا في خيار الإنجاب مثلي، فالشاعر التركي الذي قضى سنوات طويلة في سجون الدكتاتورية التركية البائدة، يبدو أكبر سناً، لكنه مبتهج وسعيد وهو يقطن مدينة مدهشة مثل اسطنبول..
واذ كنت قد طرقت هذا الباب، فمن باب أولى، أتذكر والدي رحمه الله، وإن بشكل مختلف، حين أنجب لنا اخوة وكان في عقده السابع (أنا كنت في مطلع الخمسينيات)، وكان عدد الذين أتى بهم الى هذا العالم قد بلغ الأربعين، أُبيد معظمهم بسبب الأوبئة في تلك الفترة (قبل السبعينيات) وغياب الأدوية، عدا الأدوية الشعبية المتوارثة والسائدة..
والدي الذي كان أيضا قد بلغ مجموع من تزوجهنّ تسع نساء، قد انسحب الى الحياة الأخرى وهو في أواخر عقده التاسع من غير أن يشكو من أي مرض مزمن.. والأرجح انه رحل بسبب الضجر والاغتراب حين رحل معظم أصحاب جيله بسلوكهم وقيمهم التي لا يرتضي سواها بديلاً، وقد تصدّعت ورحلت معهم..
المهم رجل الصدفة والأسانسير يكبر الجميع، فهو يبدو من الحقبة السوفييتية، ربما الخروتشوفيّة، أو الستالينية، لا يكاد يلفظ كلمة انجليزية واحدة حيث اللغة الثانية او ربما الأولى بعد وقبل اللغة الأم هي الروسيّة، الرجل المسن من (تشيكيا) فوراً ومن غير قصد نطقت اسم (ميلان كونديرا) ، لم يعرفه ، لكن المرأة عرفته وكررت اسمه أكثر من مرة..
المصعد أو الاسانسير، لا تربطني به أي علاقة ودية إن لم أقل الكراهية، هذا القبر الحديدي المحلّق في فضاء خراساني قاسٍ وجاف، كأدوات كثيرة من أدوات المدن الحديثة، أو تلك الحالمة والمقلدة للحداثة الأصلية.. سفن الفضاء مصاعد مختلفة تدور في السديم اللانهائي للكون ، لكنها مجهزة بانجازات المعرفة العلمية البالغة الدقة والمتانة التي لم تمنعها أحياناً كثيرة من العَطب والانفجار..
الطائرة مركوبتنا الأساسية أجدها أكثر أمانا من المصاعد التي عشت في قبرها المحكم الإغلاق وقد توقفت في منتصف الطريق، أكثر من تجربة مريرة ، كدت أن اختنق حتى يأتي عامل الإنقاذ حسب بطئه وسرعته..
آخر هذه التجارب غير الممتعة، كانت في مدينة (دبي) نموذج العولمة الراهن.. ظل هكذا في دائرة مغلقة صاعدا هابطا، من غير أن ينفتح الباب.. ورجال الطوارئ يلاحقونه كالوحش المنفلت من عقاله أو نظامه في مثل هذه الحالة، وحش التكنولوجيا، حين يفلت من التحكم البشري ربما يأتي على المدينة أو على العالم الحديث بكامله، كما لو انطلقت الأسلحة والصواريخ المابعد نووية وحداثية، وتمردت على أنظمتها… أو أتى على السيطرة عليها مختل أو إرهابي انتحاري.. مثل حادثة الأمس للطائرة الألمانية، التي أودى بها «مختل» حسب التحقيقات اللاحقة، نموذج مصغر لهذا المصير الكارثي.. حتى البلدان التي لم تساهم في إنجازات العقل البشري الحديث وجرفها النوم والاستبداد في عسل التخلف المسموم، لن تنجو من هذا المصير الذي صنعته يدُ التقدم والحداثة والديمقراطية، ستجرفها عدالة الخراب العميم..
أشرتُ الى سجن المصعد، وهو يلخص حياتنا كلها، هذه الشبكة من السجون والاقفاص التي لو أُطلقت بشراً طيوراً وحيوانات، فلن تفرّ وتغادر: لقد أدمنت الأقفاص والقيود..
***
(كونديرا) في هذه الرحلة التي لا تختلف عن مثيلاتها في الهواجس والأوهام، في البحث عن الجمالي المختلف، من ضمن ما اصطحبت من الكتب ، روايته الأخيرة (حفلة التفاهة) ولأني قرأت معظم نتاجه الروائي والتنظيري.. وقد صادف مثل كثيرين، هوى في نفسي وميولي القرائية، بحيث أعدت قراءة كتبه أكثر من مرة (حفلة التفاهة) هي الأصغر حجما بين رواياته، ولا أجزم القول انها اكثر كثافة، اذ أن جلّ أعماله كثيفة محتشدة، لا تعْربها الثرثرة والتفاصيل، اذا لم تخدم بما يشبه الدقة الهندسية التي لا تجافي الهلوسة والهذيان، سياق السرد والتأمل والفكرة، تكسير الحبكة والتسلسل يعوضه ذلك التأمل العميق في الوجود والعالم ضمن مناخ في صميم بنيته المتعة الجمالية للقراءة..
حتى في أكثر المشاهد خرابا ونزوعاً انتحارياً قل مثيله في تاريخ الأدب برؤيته القاتمة المدلهمة..
(حفلة التفاهة) التي استغرقت قراءتها رحلة الطائرة التي لا تتجاوز السبع ساعات، لا تقول جديدا ربما، والروائي لم يدَّع يوما ما ذلك، تعاطيه مع العملية الإبداعية أكثر تعقيداً وغموضاً وتواضعاً، الرواية هذه امتداد لأعماله ورؤيته التي تسطع في ثناياها فكرة العَدم واللاجدوى، والحضور الباهظ لهواجس الموت والفناء، التي تخفف من هيمنة ثقلها الحزين، تلك النبرة الساخرة الدعابة السوداء الشفيفة: مثل «ستالين» ومزحة صيد الحجل أمام رفاق القيادة والمكتب السياسي: وإخضاعهم لامتحانات معرفية فلسفية. سؤاله كالنين الأكثر تواضعاً معرفيا بينهم، الذي سُميت مدينة ألمانية باسمه (كالنينجراد) وهي المدينة التي عاش فيها الفيلسوف الشهير (كانت) الذي لا تجود الأزمان بمثله إلا نادراً.. يسأل ستالين، كالنين- ماذا تعرف عن (كانت) طبعا تلعثم وارتبك فهو حتى لم يسمع به، هنا تصدى الزعيم للاجابة… (أيها الرفاق) (كانت) كان يعتقد (بالشيء في ذاته) ويعتقد ان وراء تصوراتنا (شيء موضوعي) لا يمكن معرفته لكنه موجود.. (لا اعرفه لكني أحس به) حسب مقولة أخرى لكانت.. يخّطئ ستالين الفيلسوف الألماني، بأن لا شيء خارج تصوراتنا، في الوقت الذي يُخضع فيه (شوبنهاور) لحضور إرادته الواحدية القاهرة. كونديرا صاحب (المزحة) يعتبر ان من مفردات الاستبداد الأساسية مصادرة المرح في تفاصيل سلوك البشر وحياتهم مثل مصادرة المعرفة التي لا تتفق مع النموذج السلطوي الأحادي.. لكن ستالين المثقف الطاغية لا يخلو من مرح الرؤية العبثيّة للعالم حين يريد… حين كنا تلاميذ في القاهرة، كنا نتداول كتابه (الأدب والصراع الطبقي) كأيقونة، مع تقادم السنين تحطمت جميع الايقونات والقناعات السهلة الجاهزة..
(كونديرا) كعادته يقلب شروط الكائن والكينونة حافراً في التاريخ ورموزه الثقيلة، الى الراهن والمدن الحديثة..
اضمحلال نضارة الروح والعاطفة، زمن الأقنعة والتسطيح، فيما يشبه المرثية، لزمن فقد الأمل، انهيار القيم الانسانية والجمالية..
لكن خطاب الروائي العَدمي فاقد الأمل والرجاء، لا يوصي بشيء ولا يتعزى، حتى محاولة البعض (إضفاء المعنى على حياة لا معنى لها)، أو البطل الذي يمزقه الضياع واللاجدوى ينصب خيمته أخيراً على أرض الأدب والإبداع (سارتر).. لا يبدو أن الروائي ذا الأصل التشيكي له كبير عناية بها. في الضفة المقابلة حتى طُرُق الانتحار الحلمية التي تستحوذ بجمال أدبي، على مخيلة بعض شخوصه، تنتهي بالفشل، ليس في انتصار الأمل بالطبع، لكن ربما على طريقة (شوبنهاور) في انتصار وجه من أوجه الارادة، وتناسل نزوع الرغبة بمعناه المأساوي لدى الفيلسوف الألماني وكذلك لدى الروائي الذي لا يجد معنى للوجود والحياة، إلا أخذها على محمل الهزل والتفاهة (لكن كيف يتعامل بغير جديّة من هم تحت القصف ليل نهار، بالمدافع والقنابل وكل أنواع الأسلحة؟؟) ربما على طريقة بعض كهنة الفراعنة كون العالم خلقته ضحكة..
لكن هذا النوع من الضحك والهزل، لا يأتي إلا كومضة عابرة تجتاز أرخبيلات خرافية من الموتى والمعذبين، المحكومين بأشراك مصائرهم المغلقة..
***
تكتب (اناييس نن) عن (هنري ميلر) وكانت الحروب التي تلف العالم بأهوالها والأخبار الكارثية التي تتوافد من كل أنحاء أوروبا والعالم، تكتب بأن هنري ميلر، من بين أصدقائها ، الوحيد الذي لا يهمه العالم والآخرين، ما دام الجيب عامراً والبطن ممتلئاً والنبيذ فاخراً، انه يترك السفينة تغرق بمن فيها ما دام خارجها؟؟!!
لو كان كاتب هذا الكلام، غير أناييس نن، لكان الجزم يساوره نوع من الشك، لكن وهي الكاتبة فالشك بعيد والجزم أكيد.. شيء محير حقاً، أن يكون كاتب بحجم ميلر، على هذا النحو من السلوك اللاانساني واللاأخلاقي، في انعدام المشاعر تجاه الضحايا والمنكوبين، جراء عدوان الحروب والجشع والاستغلال، هو الذي أدان النموذج الأمريكي أقسى الإدانات وأفضعها.. من أي الينابيع يستمد نسغ كتابته وما مصدر مادته الإبداعية التي شكلت علامة في تاريخ الرواية؟ خاصة اذا استُبعد ما يسميه (أندريه بريتون) الثرثرة اللامتناهية لدى هنري ميلر، يبقى ذلك المتن المتألق بخلفية عالم المنبوذين والحياة المحطمة للقاع الأمريكي والغربي. كيف يكتب عن ذلك العالم المدمّر إذا لم يمتلك احساساً وعاطفة تجاههم، وجُل عمله وحياته ذات صلة عضوية بأولئك الضحايا الذين حطمهم السلوك الرأسمالي في طور وحشيته حتى وصل الى البرهة الراهنة، حيث يقود العالم بخطى سريعة الى الهاوية والكارثة..
هل يمكن للكتابة أن تكون (مهنية) محايدة، وفي حالة ميلر أكثر إشكالية، لا علاقة لها بأعماق كاتبها عدا استغلاله لأوساط البؤس والخراب، أمن أجل الشهرة والمال؟ اسئلة كثيرة ربما بديهية، لكنها مقلقة، حتى أولئك الكتاب الكبار الذين ناصروا النازية، والفاشية (ازراباوند) ، (سيلين) وحتى (إليوت) في نزعته الكاثوليكية، كانوا أصحاب رؤية ومشروع حتى لو كان على خطأ.. لكن مسألة وقوفهم الحتمي الى جانب الألم البشري وعاطفتهم المتقدة لا يرقى إليها شك أو مساومة حتى من قبل أعدائهم.
ميلر يختلف عنهم فهو عاش التشرد والجوع، وعجنته حياة الهامش أيما عجن وعذاب؟!!
إنني الآن في أرض البوذا الذي يجله ميلر في الكثير من كتاباته، وهو الذي حين نزل من علياء قصوره وترفه الملكي، الى الحياة العادية، وشاهد لأول مرة الفاقة والشر والمرض والموت، صرخ: كيف للانسان أن يستطيع النوم والعالم على هذه الحال؟!
***
في هذا المساء الآسيوي وفي لون مغيبه، حيث السفُن في عرض البحر، تبرق مهرجانَ ضوءٍ وحنين..
أفتقدكم، الضحكة الهادئة في صخبها، ثقل أيام المدرسة، وفرح العطلة كما كنا في الزمن السحيق، أفلام الكرتون التي لم نشاهدها في مثل عمركم الغض، لأن الحقول والمقابر وتسلق الجبال العالية، كانت ملاعبنا وهوانا.. أحببتُ معكم أفلام الكرتون بشخصياتها الحركيّة التي لا تقيم على حال والعابرة دائما.. ليت الكتابة تستطيع أن تتمثل تلك الشخصيات التي تحوي من البراءة والسذاجة، قدر ما تشعّ من رمزية غير متكلفة ، في ترحلها الدائم ومحوها للحدود المصطنعة والفروق..
ربما هذه النظرة تفسدها، في مرآة رؤيتكم التي لم تتلوث بعد بادعاء المعرفة والتقييم، رؤيتكم البيضاء الصافية مثل (الصباح الأول في ذلك الفردوس الموعود) والنعيم..
أتذكركم في حفيف الشجر الغابي، في هبوب العاصفة، في المطر المساقط، على الحيوانات الراكضة في حدائقها حيث كنتم تطعمون العشب للزرافات والموز للفيلة واللحم للنمر القرفان من وجوده في السلاسل والرقيب وأولئك المتفرجين السياح. النمر الكبير الجثة والمخالب والأنياب، لكن المتدهور الرغبة والعزيمة والروح، أكثر من نعجة موبوءة وخروف.. ربما يشبه الشعوب العظيمة في التاريخ، لكنها المقهورة والمصادرة والمذلة حتى السحق والامحاء..
ها أنا أدخلكم في دائرة لا علاقة لكم بعدُ بها، لكن صدقوني من غير قصد، لقد جنحت سفينة الهذيان قسراً.. على أن أعود الى مطر الطفولة وشجرها اليانع مثل زهرة لم ترها عين حسود ولم تلمسها يدُ بخيل. زهرة الله قبل أن يأتي البشر المتناحرون والعاصفة لتحني عنقها الغض للجزار…
ذلك النشاط والحيوية للعب والحركة التي لا تهدف الى شيء خارج ذاتها الجماليّة، خارج اللعب واكتشافاته البريئة المجردة من الغاية والمصلحة التي تشبه أو تتماهى مع جوهر الشعر والفن والأحلام المحلّقة في ملكوتها الخاص..
المهم انني اشتقت إليكم يا ضعفي البالغ وقوتي.. حتى «الحُطيئة» الذي عرفته العرب بسلوكه السيئ، بهجائه المقذع ولسانه السليط ، اذا صحت الرواية- انقلب الى تلك العاطفة المحضة الرهيفة الحانية وهو يشكو حال أطفاله حين سجنه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وجاء يتوسّله:
«ماذا أقول لأفراخٍ بذي مرخٍ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
ألقيت عائلهم في قعْر مظلمةٍ
فاغفر عليك سلام الله يا عمرُ»
طبعا لديكم ماء وشجر وخير وفير، وتهربون جزءاً من الصيف الحارق، الى البلاد المخضرة الراقية، ولكن ما يلفت أكثر في موقف «الحطيئة» بجانب شعريته أو مقام الخليفة، هو ذلك الحب الحارق البالغ الصدق والشفافية تجاه أطفاله وهو غائب قسراً في (قعر مظلمة) على عكس سلوكه العام ، وموقف عمر الذي لا تلين عريكته ولا يعرف شفقة في تطبيق العدالة والحق، انه لان تجاه عاطفة، «الحطيئة» وأطفاله، نوع من استيعاب نبيل جعل قلب الخليفة يرق ويشف معطوفاً على براعة الشاعر في التوسل والاستعطاف.
***
أعود الى نبع شلال صغير على ضفاف الغابة.. كان الأطفال المذبوحون في عزّ الظهيرة والجرحى والمقتلعون من ديارهم، يتساقطون مع دفق المياه، كان الشلال حزيناً ينزف دم الضحايا، لا بركات البوذا تنقذه ولا حنان الغابة..
***
للغياب منافعه الجمّة، منها اجتثاث غلاظ القلوب والثقلاء من المشهد. لكن فداحته التي تكاد تَمحو الأولى، فراق من تحب، حتى لتكاد أحيانا، ترضى بوجود الجلف القبيح إياه على مضض واستسلام رفيع..
***
كان ينظر الى الساعة في معصمه، كل دقيقة ، كل نصف ساعة وساعة، ما الذي يقلقه، ما الذي كان ينتظره من شخص أو مكان؟! هل جيَشان الأشواق الى من يحب؟ لكنه حين يكون بين ظهرانيهم يفعل السلوك نفسه وان بأقل حدةٍ وإلحاح. ما الذي يعتمل في أعماقه من زمن ميتافيزيقي مجسد في ساعة يده، ولكن لا ساعة في يده كما في الماضي حين كان يلبسها في اليد اليسرى، ويظل يحدّق في الساعة والمرآة.
***
نظر الى الكأس الذي كان في خياله مفعماً حتى الغبطة والنشوة، فوجده فارغاً إلا من ثمالة زهيدة، ظل ينظر فيها طويلاً، حتى أنزلت السماء دموعها ففاض الكأس حتى أغرق العالم بالدموع.
***
موسيقى هذه البلاد رنين آلات لا نندمج في طقسها على حافة البحر.. ليست الموسيقى دائما لغة مشتركة، لكن ما هو أكثر وضوحاً وجراحا ذلك التكسر العذب للمياه والأمواج.
***
يلتقي نداء القارات جميعها، في هذا المنعطف من الكون اللامرئي: عظام آلهة دينية آفلة، حضارات مزهرة في أزمنة الطوفان، والماموث يتنزه بوداعة بين الأشجار.. اطلنطا الغارقة تحلم بالانبعاث من جديد.
***
منذ أيام أحاول الكتابة كي أُفرغ حمولةً أضحت تثقل كاهلي وروحي، ولا أستطيع، رغم أن الكلمات والعبارات تتطاير في ليلي كأشباح تضيع في السديم.. وحين أخطط عنوةً وقصداً، تأتي الأسطر والصفحات من غير حرارة جثةً باردة، رغم محاولات ردم الهوة بالبلاغة والبيان، تأتي هكذا من غير لسعة الحريق والجراح..
اتصلتُ بزوجتي الرسّامة، حول عجزي عن التعبير ذاك الذي يتسم بنوع من الرضا النسبي، وإنني أحس بلحظة جفاف قاتلة، ذكرتني بفيلم (ثمانية ونصف) لفلليني، الذي دفعتها الى مشاهدته قبل زمن قصير، إذ أنني شاهدته أكثر من مرة وفي أزمنة متفاوتة، الأفلام العظيمة مثل الكتب لا تمل ولا تكل من القراءة والمشاهدة، دائما ثمة اكتشاف جديد، ثمة صباح جميل.. الفنان مارتشيلو ماستورياني، الذي يعاني في الفيلم من جفاف الإبداع، يدخل في هذيان يحطّم في الفيلم، كل الحدود بين الواقع والحلم، الحقيقة والوهم الماضي والحاضر بطريقة مبتكرة وغير مسبوقة ربما.. ومن خلال الرحلة التي يحركها غياب هبة الإبداع ودفْق الينبوع الخفي للمخيلة ، تتدفق مخيلة الساحر الايطالي، كما كان يُدعى، في صنع فيلم من أجمل الأفلام في تاريخ السينما.. شكرت زوجتي على تذكيري بالفيلم، وان كنت أبعد مسافات عن ذلك الطراز من الفنانين والأدباء، فضلاً عن أني لا أكتب إلا لردم هوة الغياب كي التقيكم مرة أخرى، وذكرى رائعة لمشاهدتنا الفيلم معاً.. بالمناسبة وعدمها، في هذه اللحظة بهذا البلد البعيد، أشاهد فتاة ايطالية لا تنقصها الفتنة الحسّية تتحدث عبر التلفون، ولمعرفتي الفقيرة التي تتلخص في مفردات وأسماء معينة، شدني الجرس الموسيقي لتلك اللغة الثريّة التي تنتمي الى عائلة اللغات اللاتينية، تجعل الاستماع إليها عذباً وغير مضجر.. البعض يشبهها عربيا باللهجة اللبنانية وإيقاعها ونَغمها… وأيضا هي لغة الأفلام التي تشكل علامات لها أثرها الجمالي الذي لا يبْلى..